[الجزء الثاني] البارت الرابع (٤)

265 19 0
                                    

     أهملت والدتي تربيتي دينيا، على يقين بأن الإسلام ينتظرني مستقبلا في بلاد أبي. ورغم أن أبي همس بنداء صلاة المسلمين في أذني اليمنى فور ما حملني بين يديه، في المستشفى، بعد مولدي، فإن ذلك لم يمنع والدتي، فور وصولنا، من أن تحملني في كنيسة الحيّ الصغيرة ليتم تغطيسي في الماء المقدّس في طقوس تعميدي مسيحيا كانوليكيا. لم يكن يقينا بعودتي قد ترسخ في ذاتها بعد.

     لو أنهما اتفقا على شيء واحد.. شيء واحد فقط.. بدلا من أن يتركاني وحيدا أتخبط في طريق طويلة باحثا عن هوية واضحة الملامح.. اسم واحد التفت لمن يناديني به.. وطن واحد أولد به، أحفظ نشيده، وأرسم على أشجاره وشوارعه ذكريات قبل أن أرقد مطمئنا في ترابه.. دين واحد أؤمن به بدلا من تنصيب نفسي نبيّا لدين لا يخص أحدا سواي.

     أفكر أحيانا في تلك الدقائق التي استغرقها الإثنان معا، راشد وجوزافين، على ذلك المركب، قبل أن يصبحى أبي وأمي. أي جنون هذا الذي يخلق من دقائق متعتهما بؤس حياتي بأكملها؟!

     لو وُلدتُ لأب وأم كويتين، مسلما، أسكن في بيت كبير تحتل غرفتي فيه مساحة لا بأس بها في الدور العلوي غرفة فيها تلفاز ٤٦ بوصة وغرفة ملابس وحمّام. أستيقظ صباح كل يوم لأذهب إلى عملي الذي إخترته بنفسي، مرتديا تلك الثياب البيضاء الفضفاضة مع غطاء الرأس التقليدي، أشكل جزءا من الكل، من دون أن أظهر بصورة كومبارس الذين يقومون بأدوار العرب في أفلام هوليوود. أنظر إلى الناس من حولي ولا أحتاج لأن أرفع رأسي إلى السماء كي أخاطبهم، ومن دون أن ينظروا إلى الأرض لينتبهوا إلى وجودي بينهم. أجلس في مقاهي ومطاعم الفخمة من دون أن يتهامس البعض مستنكرا  وجود أمثالي في مثل هذه الأماكن الراقية. أرتاد مجالس الشباب ليلا، ويكون لدي الكثير من الأصدقاء لكويتين، أصدقاء مثل غسان ووليد، اجتمع بهم في الديوانية، وأخرج معهم إلى البحر. أذهب إلى المسجد يوم الجمعة وأستمع إلى الرجل الواقف خلف المنصّة وأفهم ما يقول، بدلا من أن أرفع كفيّ، مقّلدا الرجال حولي، مرددا كالببغاء: آمين.. آمين.. آمين.

     أو

     لو وُلدتُ لأب وأم فلبينين، من طينة واحدة. أعيش مسيحيا، ميسور الحال، مع عائلتي في مانيلا، أغوص كل يوم في زحمة البشر، وأفتح رئتيّ ومسامات جلدي لأمتص عوادم السيارات. أو مسلما فقيرا أعيش بطمأنينة بين جماعتي جنوبا، في مندناو، لا أخشى الجوع وضغوطات الحكومة. أو ثريا أسكن بيتا فخما في أحد أحياء فوربس بارك الراقية في ماكاتي، أذهب صباحا كل يوم إلى مدرستي التي لا يحتمل تكاليفها إلا الأثرياء. أو بوذيا من أصول صينية، أعمل مع والدي في أحد متاجر الحيّ الصيني في مانيلا، أحرق البخور كل صباح أمام تمثال بوذا جلبا للرزق. أو.. لو وُلدتُ لأبوين من قبائل ال إيفوغاو⁹ في الشمال، نقضي النهار عراة إلا من قطع صغيرة في الوسط، نعمل في مدرجات الأرز الخضراء في الجبال، وننام ليلا في بيوت القش المعلقة،

[(⁹) إيفوغاو: منطقة جبلية في الشمال، تسكنها قبائل بدائية لها ديانتها وثقافتها الخاصة التي تربط بزراعة الأرز والذي يعتبر مصدر هيبتها وبقائها. نُحتت مدرّجات الأرز في جبال ال إيفوغاو قبل حوالي ٢٠٠٠ سنة.]

تحرسنا تماثيل ال أنيتو¹⁰ من الأرواح الشريرة. لو وُلدتُ ميستيزو¹¹ لا أملك غير هيأتي ميزة إستثمارها، لأصبح نجما سينيمائيا.. فتى إعلانات.. أو مغني مشهورا.

     أو..

     لو فقست من بيضة ذبابة منزلية.. أعيث في البيت فسادا.. أشيخ بعد عشر أيام.. ثم أستسلم للموت بعد أسبوعين كحد أقصى.

     لو كنت شيئا.. أي شيء.. واضح المعالم.. لو.. لو.. لو.. أي تيه هذا الذي أنا فيه؟
     هل يجعل مني تعميدا مسيحيا، وهل قبلتُ بالمسيحية دينا في طقس حضرته في حين كانت ذاكرتي لا تتسع لشيء بعد؟

     لكل منا دينه الخاص، نأخذ من الأديان ما نؤمن به، ونتجاهل ما لا تدركه عقولنا، أو، نتظاهر بالإيمان، ونمارس طقوسا لا نفهمها، خوفا من خسارة شيء نحاول أن نؤمن به.

     رغم كل الظلم الذي أعانيه، اعتدت أن أقابل الإساءة بالغفران، وأن أدير خدّي الأيسر لمن يصفع الأيمن، أحببت المسيح حتى أصبحت أراه في أحلامي مبتسما يربت على رأسي بكف لا تزال بها أثر المسمار الكبير الذي اخترقها يوم تثبيته في الصليب. فهل أكون مسيحيا؟ ولكن، ماذا عن خلواتي التي أجد بها ذاتي، ورغبتي الدائمة في التوحد مع الطبيعة من حولي، والتصاقي بالأشجار في أرض جدّي ميندوزا حتى أوشك أن أفقد حواسي التي هي مصدر المعاناة كما يقول بوذا في تعاليمه، تلك التعاليم التي أدمنت قراءتها حتى خلتني أناندا،

[(¹⁰) أنيتو: اسم آلهة إيفوغاو، يصوّرها الناس بتماثيل خشبية داكنة اللون]

[(¹¹) ميستيزو: الذكر ميستيزو، الأنثى ميستيزا. تطلق هذه التسمية على من تختلط أصوله فلبينية بالأوروبية، وعادة ما ترجع هذه الأمور إلى إسبانيا، فقد عرفت فلبين هذا النوع في فترة الإحتلال الإسباني حين اختلط العرق الآسيوي بالعرق الأبيض. ويشتهر الميستيزو/الميستيزا عادة بالجمال الفائق وطول القامة.]

أحّب تلاميذ بوذا وأقربهم إليه. أتراني بوذيا من دون أن أعلم؟ وماذا عن إيماني بوجود إله واحد لا يشاركه أحد.. صمد.. لم يلد ولم يولد؟ أمسلم أنا من دون اختيار؟

     ماذا أكون؟

     إنه قدري. أن أقضي عمري باحثا عن إسم ودين ووطن. رغم ذلك. لن أنكر لوالديّ فضلهما في مساعدتي، من دون نية منهما، في تعرفي على خالقي.. بطريقتي.

  
                                ***

ساق البامبوWhere stories live. Discover now