[الجزء الخامس] البارت الثالث (3)

104 6 0
                                    

توطدت علاقتي بغسان خلال الشهر الذي قضيته في شقته
الصغيرة. تلك الشقة التي كنت أشعر بالاختناق بداخلها. لم أعتد على
هذا النوع من السكن. في غرفة تشانغ» كنت أستعين بالنافذة المطلة على
معبد سينغ-غوان على ضيق المكان وصمته. أما نوافذ شقة غسان» على
كثرتهاء فلم أجد من بينها نافذة أشاهد من خلالها ما يثير الاهتمام سوى
ذلك الشعور المرير بالغربة تجاه الأرض والناس.

يخرج غسان كل صباح إلى العمل» في حين أبقى أنا في الشقة
باحثا عن شيء أقتل بواسطته الوقت. كل الكتب على أرفف الجدران
باللغة العربية. الصحف والمجلات التي يحتفظ بها غسان باللغة ذاتها.
أخذت أتصفحها ذات صباح أشاهد الصور. وفي كل مجلة؛ وكل
صحيفة. كان لابد أن تكون هناك صورة أو أكثر لغسان. لهذا السبب
كان يحتفظ بهذه المطبوعات. كلام كثير أسفل صوره. تُرى ماذا كان
يقول» أو ماذا كب عنه؟ كنت أتساءل. أخبرني في ما بعد ان تلك
الصحف والمجلات بمثابة ارشيفه الخاص» يضم بعضا من قصائده
وقراءات النقاد لهاء أو لقاءات صحفية؛ أو تغطيات لندوات وأمسيات
كان هو أحد المشاركين فيها.

طلبت منه ذات مساء أن يقرأ لي شيئا مما كتب. نظر إلى وجهي
باهتمام: "أقرأ إحدى قصائدي؟ بالإنكليزية؟!.. لم أفكر بهذا من
قبل..". طرت فرحا حين استل ورقة من مكتبه وقام بتثبيت نظارته
الطبية على طرف أنفه. "تبدو فكرة جميلة.. أمهلني قليلا من الوقت
عيسى.. سأقوم بترجمة فقرة صغيرة..”» قال ثم أخذ يكتب على الورقة
بالقلم الرصاص. لم يلبث طويلا. أشعل سيجارة: "لا يمكنني الحديث

من دون أن يصاحب الدخان كلماتي” قال مازحا. تتحنح ثم شرع في
القراءة بالإنكليزية. بصوت جميل» ينخفض تارة ويعلو تارة أخرى. كان
يحرك ذراعه بطريقة تمثيلية مدهشة؛ وعلى وجهه إيماءات تعبيرية مؤثرة.

تأثرت كثيرا لأداء غسان التعبيري» حتى أوشكت الدموع أن تفرّ
من عينيّ. فرغ من قراءته. نظر إليّ قائلا:

- ما رأيك؟

تملكني الخجل» فقد كانت كلمات غسان إنكليزية بالفعل» ولكنها
لم تشكل جملة واحدة مفيدة.

- بصراحة..

قلت مترددا. أتممت جملتي:

- لم أفهم شيئا!

هزّ غسان رأسه قائلا:

- لو كانت إجابتك غير تلك لعرفت انك كاذب..

صمت قليلا قبل أن يردف:

- لأنني لم أفهم شيئا مما كنت أقول!

أخذ يقهقه نافثا دخان سيجارته من فمه ومنخريه. وضحكت أنا
بالمثل» متأملا وجهه.

تمنيت لو انني استطيع قراءة كلمات غسان. أو فهمها استماعاء
بالسهولة التي قرأت بها وجهه.

** *

"في هذا الذُرج الكثير من الصور لأبيك”» قال غسان ذات صباح؛
وهو يشير إلى درج المكتب» قبل أن يخرج للعمل» ثم أخرج من جيبه
عشرة دنانير أعطاني إياها: "على سطح المكتب» هناك أرقام بعض
المطاعم.. إن كان ما في مطبخي لا يعجبك". لم أفكر يوما بطعام
يعجبني أو لاء وظيفة الطعام» بالنسبة لي» هي سدّ الجوع وحسب. الرز
الأبيض وصلصة الصويا يفيان بالغرض. كانت مشكلتي في ذلك الوقت
مع الماء وحسب. كان ذا طعم مغاير لذلك الذي اعتدت شربه في
الفلبين. ضحك غسان ذات يوم حين أخبرته أن: "الماء هناك أحلى".
اشترى لي قناني مياه معدنية. ولكن. ماء الشرب الذي اعتدته كان لا
يزال.. أحلى.

خرج غسان» في حين أخذت أراقب درج مكتبه حيث أشار إلى
صور أبي.

قبل سنوات» حين كنت أشاهد الصور» كانت أمي تحاول أن
تعرفني إلى ذلك الرجل الذي سألتقيه يوماء أما والرجل قد فارق الحياة؛
فقد تملكني شعور غريب تجاه مشاهدة صوره. ترددت كثيرا قبل فتح
الدُرج» خصوصا بعد أن أخبرني غسان أن أبي كان دائم الحديث عني؛
ما خلق بداخلي شيئا من الحنين. لا أريد أن أحب هذا الرجل بعد أن
أصبح لقاؤه أمرا مستحيلا. ولكن» هل تمكنت بالفعل من الانصراف
عن ذلك الدُرج؟

على زحام الأشياء في غرفة الجلوس كان ذلك الذُّرج يلفت
انتباهي. يستفزني. الصور التي أحملها لأبي في حقيبة أوراقي الثبوتية
لم تكن كافية على ما يبدو. كنت أشغل نفسي بمتابعة التلفاز. القنوات
الناطقة بالإنكليزية» ولا شيء في شقة غسان يمكنني قتل الوقت بواسطته
سوى التلفاز. أطل من النافذة بين حين وآخر» ولا أجد وراء النافذة ما
يحفزني على الخروج. وعلى ذلك خرجت ذات صباح باكر» بتحفيز من
الداخل» بعد أن تملكني الملل في شقة غسان.

«+ ٍ

لا يمكنني السير في شوارع الكويت من دون أن ألاحظ السيارات.

أرخصها وأبسطها يُعد حلما لا يتحقق للمواطن العادي في الفلبين.
البيوت كذلك» أصغرها يُعد قصرا في تلك المناطق التي جئت منها.

كان الطقس باردا إلى درجة اننىء ولأول مرة فى حياتى» أشاهد
الهواء الخارج من رثتيّ يتكثف أمام وجهي. أخذت أسير في الطرقات
مرتعش الأطراف» فاغرا فمي على اتساعه أراقب زفيري أثناء تحوله
ضبابا أمام وجهي» مأخوذا بذلك الشعور الغريب» الشعور بطقس جديدء
شتاء لا يشبه الشتاء الذي عرفته من قبل.

بمحاذاة الرصيف في شارع داخلي» حيث كنت أمشي؛ توقفت
سيارة. ترجل منها رجل يرتدي الثوب التقليدي مع غطاء الرأس» مذّ
كفه أمام وجهي يريني هويته. تشبه الهوية التي أحملها. قال:

- شرطة..

ارتبكت. عقدت الدهشة لساني. واصل الرجل بنبرة غاضبة:

ب أرني بطاقة الهوية..

دسست كفي في جيب البنطلون الخلفي. أخرجت المحفظة.
سحبها من يدي قبل أن أخرج له البطاقة. وقفت من دون حراك
أراقبه. أخذ يفتش فيها. سحب الدنانير العشرة؛ ووضعها في جيبه.
رمى المحفظة في وجهي من دون أن يرى بطاقة الهوية. ركب سيارته
وانطلق بسرعة. وقفت في حيرة من أمري» والمحفظة بين قدميّ. "إن
كان الشرطي سارقا.. ماذا يفعل اللصوص إذن؟!".

شرطي؟! بدون سيارة الشرطة.. أو حتى زيّهم؟!

أنا لا أفهم شيئا!

* * *

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن