[الجزء الرابع] البارت الرابع (٤)

160 13 1
                                    

ذات مساء؛ بعد وجبة العشاء» قلت لغسان: "لم أرك تعزف على
الآلة كما أخبرتني أمي". نظر إلى وجهي والدهشة على وجهه. "هل
تعني العود؟"» سألني. أجبته: "نعم" صمت قليلاء وكأنه يفكر في شيء
ما. غاب عن غرفة الجلوس دقائق ثم عاد حاملا آلة العود داخل حقيبة
جلدية سوداء لها شكل الآلة نفسه. وفي يده الأخرى قطعة قماش مبلولة
بالماء.

قرفص غسان على الأرض» مسندا ظهره إلى الأريكة خلفه. وجدت
نفسي بتصرف تلقائي أترك الأريكة لأجلس كما يجلس؛ على الأرض.
أخذ يزيل الغبار المتراكم فوق الحقيبة الجلدية بقطعة القماش المبلولة.
وفي حين كان مشغولا بعمله؛ قال:

- يبدو ان جوزافين أخبرتك بكل شيء..

أسند غسان الآلة إلى ساقيه من دون أن يخرجها من الحقيبة
السوداء.

- هل تعرف يا عيسى..

الحزن.. مع الدماء تصاعد إلى وجهه.

- عزفت على هذه الآلة آخر مرة في نشاطنا أثناء الإحتلال..

- كنت أحسبكم تقاومون الجيش المحتل بالسلاح!

قلت له مستنكرا. أجاب:

- كنا نقاوم.. كل بطريقته.. ولكل سلاحه..

***

في الوقت الذي انضم فيه أبي إلى مجموعة "أبي الفهود"؛ بصحبة

إسماعيل الكويتي وآخرون» قاوم غسان المحتل في مكان آخر.. بطريقة
أخرى. كان يقوم بكتابة القصائد الوطنية وتلحينها أثناء الاحتلال» وقد
قام بتسجيل تلك الأغنيات لتوزيعها على الناس» تبث فيهم الحماس
للمقاومة. لم يلبث غسان طويلا في هذا النشاط» حتى توقف عن الكتابة
والتلحين» لينضم فيما بعد للعمل مع أبي فارس© الذي كان يكتب
أوبريتا وطنيا أثناء الاحتلال اشتهر باسم الصمودلا. شارك فيه غسان
بصوته ك كورال مع شباب المقاومة. كما شارك في توزيع ونشر هذا
العمل بين الناس في أشرطة كاسيت اشتهرت أيام الاحتلال.
يقول غسان أنه بعد تلك الاجتماعات السرية في التحضير للعمل
الغنائي الوطنيء بعيدا عن أعين المحتل» لم يعد يملك أي رغبة للعزرف
على آلة العود. خصوصا بعد وقوع أبي فارس وملحن الأوبريت9 في

أسر قوات الاحتلال.

* ؟**
أخرج غسان آلة العود من الحقيبة الجلدية. لون الخشب ولمعانه
وكأن الآلة جديدة لم تمس. أمسك بالشريحة البلاستيكية الصغيرة
يمررها على الأوتار. نظر إليّ باسما. تحفزتُ لسماع عزفه. مذّ كفه
إلى مفاتيح الأوتار يعالجها. أدار أحد المفاتيح شادًا على الوتر مختبرا

نغمته بواسطة الشريحة البلاستيكية.. لم يلبث طويلا.. انقطع الوتر.

(20) الشاعر الكويتي فايق عبدالجليل» مواليد 1948. تم أسره في الثالث من يناير 1991»
وفي عام 2006 تم العثور على رفاته في إحدى المقابر الجماعية بالقرب من مدينة
كربلاء في العراق. تم دفن رفاته في الكويت في العشرين من يونيو 2006.

(21) أوبريت (الصمود)؛ قام بكتابته الشاعر فايق عبدالجليل أثناء الغزو» وقام بتلحينه
رفييق دربه عبدالله الراشد» وقام بغنائه مجموعة من شباب المقاومة الكويتية
بالإضافة إلى الطفلة مي العيدان.

(٢٢) الملحن عبد الله الراشد، ملحن كويتي تم اعتقاله اثناء الغزو، وتم التعرف على وفاته في الخامس والعشرين من يوليو 2007.

أرأيت.. حتى الأوتار ترفض..
قال غسان وهو بعيد آلته إلى داخل الحقيبة.
من
ذهب غسان إلى غرفة نومه، في حين بقيت أنا في غرفة الجلوس.
التفت نحو الدرج الذي يضم صور أبي مترددا في فتحه. لم يطل ترددي.
جلست إلى المقعد أمام المكتب.. سحبت الدرج برفق..
عشرات الصور لمراحل مختلفة من عمره. صور بشارب خفيف،
وأخرى بشارب کث. صور بنظارة طبية وأخرى من دونها. صور في
الكويت.. لندن.. تايلاند ودول أخرى. لو كان يبدو حزبنا في الصور
الكان أمر موته أخف وطأة، ولكنه في الصور، كل الصور، كان يبدو
سعيدا بحيث جعلني أشعر بالغصة لموته في هذه السن الصغيرة.
مات عن تسعة وعشرين عاما. كل صورة تقول بأن أبي كان مليئا
بالحياة. صورة في الشاليه، على الشاطئ، رافعا ذراعه للأعلى يحمل
سمكة كبيرة، يطوي ذراعه الأخرى يبرز عضلته وكأنه يقول: "أنا
اصطادها!"، وإلى جانبه يقف وليد رافعا ذراعه هو الآخر، يحمل سمكة
بحجم الإصبع، يطوي ذراعه الأخرى كما يفعل أبي.. صورة أخرى
في لندن، يقف فيها أبي تحت ساعة بغين ببذلة رمادية أنيقة وربطة
عنق حمراء قانية، وإلى جانبه فتاة تبدو كويتية، ترتدي معطفا طويلا بني
اللون، وتنورة قصيرة بخطوط متداخلة، تنتعل حذاء ذا عنق يصل إلى
ركبتيها، تعلو رأسها قبعة أنيقة جعلت لها مظهر الأميرات الإنكليزيات..
صورة أخرى له ولوليد في تايلاند، يرتديان قميصين بلا أكمام، ينحني
فيها أبي مقوسا ظهره، كما تفعل فتاة كانت تقف إلى جانبه في الصورة
ضاما كفيه أسفل ذقنه حيي على الطريقة التايلاندية، ووليد يظهر خلفهما
في الصورة، ماذا لسانه كما دائما، بشير بإصبعين في كل كف خلف
رأسيهما، علامة السلام، ولكن وليد لم يكن يعني السلام حتما.. صورة

الأبي غسان، يرتدي فيها الأخير زي حارس مرمي، في حين ينتصب
أبي واقفا والكرة بين قدميه، شعره طويل، يبدو کشجرة، يرتدي شورت
أسود وتيشيرت أصفر يتوسطه رقم تسعة، يقول غسان أنه رقم لاعب
أبي المفضل (23).. صورة أخرى يظهر فيها أبي حليق الرأس، يلف حول
جسده تماشا أبيض، كاشفا عن كتفه الأيمن وجزء من صدره، وفي
زاوية الصورة يظهر وليد بالقماش الأبيض ذاته، مستسلما لرجل يزيل
شعره بموس الحلاقة.. وفي صورة أخرى لم أتعرف على أبي فيها
بسهولة.. له لحية طويلة، يرتدي ثوبا أبيض، واضعا على رأسه غطاء
الرأس التقليدي كيفما اتفق، من دون الحلقة السوداء. عرفت فيما بعد
انها آخر صورة التقطت له في زمن الحرب.
هل أقول بأنني أحببته، من خلال صوره فقط؟ لا، فقد تجاوز
شعوري ذلك، لم أشعر بمحبة تجاهه وحسب، بل أحببته واشتفته
وافتقدته وأنا الذي ما رأيته قط. شعرت برغبة شديدة في معانقته وسماع
صوته. بكيت كثيرا من دون صوت، وانتبهت لأول مرة بأني لم أقل في
حياتي كلمة: "بابا".
فهمت لماذا كان ميندوزا، تحت تأثير الى توبا، يردد: "أنا
وحيد..
أنا ضعيف!". مثلك أنا یا میندوزا، ومن دون توبا، أعترف.. أنا وحيد..
..
أنا ضعيف..
(23) جاسم يعقوب، لاعب نادي القادسية ومنتخب الكويت الوطني، لقب بالمرعب،
أحد أبرز اللاعبين في الحقبة الذهبية للكرة الكويتية في فترة السبعينات من القرن العشرين.

ساق البامبوWhere stories live. Discover now