[الجزء الثالث] البارت الحادي عشر (١١)

132 12 0
                                    


بعد حوالي ستة شهور من الترتيبات، بعد مكالمة غسان الأولى،
استلمت جواز السفر من سفارة الكويت في مانيلا. ومن السفارة إلى
كاتدرائية مانيلا توجهت على الفور. الارتباك، بعد أن أصبح سفري أمرا
محترما، تملكني، متحالفا مع الخوف من المجهول.
في الكاتدرائية. جلس في الصف الأمامي. وضعت كفي فوق
صدري، على الصليب المتدلي من رقبتي، ذلك الذي أهدتني إياه ماما
آیدا بعد إجراء طقس التثبيت قبل سنوات. شرعت في الصلاة: أبانا الذي
في السماء.. ليتقدس اسمك.. ليأت ملكوتك.. لتكن مشيتك.. كما في
السماء كذلك على الأرض.. وخبزنا کفافنا أعطنا في أيامنا.. وأغفر لنا
ذنوبنا كما نحن لغيرنا.. لا تدخلنا في تجربة بل نجنا من الشرير.. لأن
لك الملك والقوة والمجد.. من الأزل إلى الأبد.. آمین.
أبانا.. اني عائد إلى حيث ولدت.. إلى بلاد أبي الذي لم أره..
إلى مصير أجهله ولا غيرك بعلمه.. تقول أمي أن حياة جميلة تنتظرني
هناك.. ولكن، لا أحد يعرف ماذا ينتظرني سواك. أبانا الذي في السماء..
في يدي جوازي الأزرق.. وفي قلبي شيء من إيمان أخشى ألا أحافظ
عليه.. أعني على الإيمان بك.. وابن معي في سفري.. وأرشدني إلى
ما فيه الخير وبدد شكوكي. أبانا الذي في السماء.. هل أنت حقا في
السماء ؟ أجبني.. بحق ملائكتك.. بحق ابنك المسيح والعذراء.
من الكاتدرائية، راجلا، ذهبت ناحية مانيلا تشاينا تاون، متجاوزا
إياه إلى معبد سينغ-غوان. وصلت بعد ساعتين تفيت معظمهما في
المشي، ليس لشيء سوى رغبتي في السير بين الناس هناك لمرة أخيرة،
مستنشقة عوادم السيارات الكثيفة، محاولا التحديق في الشمس التي لا
تشبه الشمس في المكان الآخر، ناظرا إلى الأشجار على الأرصفة،
تتدلى أغصانها مثقلة بالثمار، أحصيها. أنظر في وجوه البشر من حولي
أشتاقهم قبل تركهم. بودي أن أعتذر لهم جميعا: برغم السنوات التي
قضينها بینکم.. أنا لا أنتمي لكم.
توقفت بعد أن تجاوزت ثلاثة أرباع المسافة
بين الكاتدرائية
والمعبد. شعرت بالتعب. أوقفت سيارة أجرة: "إلى معبد سينغ-غوان
فضلك". استغرب السائق. أشار بيده إلى مكان قريب: "انه فریب
هنا!"، قال. أجبته: "أعرف ذلك.. هل لك أن توصلني؟".
كان الزحام شديدا، وكنت سأصل في وقت أسرع لو مضيت في
الذهاب راجلا إلى المعبد. کنت أدير رأسي بين النافذة عن يساري
وزجاج سيارة الأجرة الأمامي. أنظر إلى الأشياء وكأني أراها لأول مرة.
اشعر بالاختناق.. أبسبب الازدحام من حولي.. أم بسبب الإزدحام في
نفسي؟ البؤس بشتى صوره يعرض أمامي على زجاج السيارة. الحزن
على وجوه الباعة، الثياب المتسخة، المتسولون من الأطفال يتبعون أي
إنسان يبدو نظيفا في مظهره. الصبية المسلمون، بطاقیات، كانت في
يوم ما بيضاء، تعلو رؤوسهم، يعرضون أقراص ال DVD المقرصنة
الأشهر أفلام هوليوود وأفلام الجنس. باعة الموز ينتشرون بعرباتهم فوق
الأرصفة. تشانغ أحدهم. يبدو سعيدا. يزدحم الناس حول عربته.
كأنه
في مهرجان اللونان، الأصفر والأزرق، ينتشران من حوله. لون الموز،
والأكياس البلاستيكية الزرقاء.
على المرأة المعلقة في الزجاج الأمامي لسيارة الأجرة، تتدلى
سلسلة بها صليب خشبي بحمل مجسما للمسيح مصلوبا عليه. وخلف
المقود مجسم صغير ل بوذا مقرفصا يمسك مسبحته في يده. سألت
سائق سيارة الأجرة:
لماذا الصليب؟
التفت إلى الرجل والريبة في عينيه. أجاب:
- لأنني مسيحي
أشرت بنظري إلى مجسم بوذا. سألته.
ولماذا الآخر؟
ابتسم، وقد فهم مغزی السؤال. أجاب:
جلبا للرزق..
خالتي
أمام معبد سينغ-غوان توقفت سيارة الأجرة. هممت بالنزول. قال
السائق:
- أراك تحمل حول رقبتك صليبا.. لماذا؟
فتحت باب السيارة. ترجلت. أجبته باسما:
هذا ما اختارته لي
أشار بسبابته نحو بوابة المعبد. بابتسامة عريضة سألني:
- سنغ-غوان.. لماذا؟
بينما كان ينتظر إجابتي، أطبقت باب السيارة. أدرت له ظهري،
ولكن صوته جاءني من نافذة سيارته:
هيي!.. أجبتك حين سألتني..
مضيت في السير باتجاه بوابة المعبد. صاح الرجل:
- هيا گن عادلا.. لماذا؟
توقفت عند البوابة. استدرت مواجها سيارة الأجرة. كان لا يزال
الرجل ينتظر إجابتي. نظرت إلى الأعلى. فركت رأسي بأصابعي في
إشارة إلى انني أفكر في إجابة. قلت:
جلبا ل.. لشيء لست أدريه..

أمام الغرفة الزجاجية الوسطى توقفت، حيث تمثال بوذا الذهبي
ينتصب واقفا. على أحد المقاعد الأرضية بجلس رجل يحمل مسبحة،
وأمام الغرفة الزجاجية الوسطى تقف امرأة عجوز تصلي بخشوع، وقفت
إلى جانبها، أمام تمثال
ابن الرب.. لست أدري كيف أصلي لك.. ولكن، آن کنت ابن
الرب ومخلص البشرية من مآسيها وآلامها، ومن يتحمل عن البشر جميع
خطاياهم، كما يقولون.. ستسمعني وتقبل صلاتي
هي.. لا أعرف
كيف أصلي حاملا المسبحة بين يدي كما يفعل الرجل الذي يجلس
هناك.. ولا أفهم ما الداعي لأن أضم كفي أهزهما أمام تمثالك كما
تفعل هذه العجوز إلى جانبي.. ولكنني أعرف كيف أشعل عود البخور
وأغرسه في آنية الرمال الناعمة.. وان كنت أجهل لماذا أفعل ذلك.. ابن
الرب.. ساعدني على الإيمان بك ان كنت حقا كذلك.. بحق رسالتك..
بحق تلاميذك.. بحق أمك العذراء مايا، التي حملتك في أعماقها يوم
شع رحمها نورا، وأصبحت ثرى فيه قبل مولدك.. إن كنت إلها.. نبيا
أو قديسا.. أرشدني.. وكن لي معينا.. أبصر بواسطتك النور.

                                ***

ساق البامبوWhere stories live. Discover now