الفصل الأخير

205 21 1
                                    

فرغتٌ من كتابة الفصل الأول من هذه الرواية في آخر يوم لي
في الكويت. سلمته إلى إبراهيم» ورقيًّا في اليوم الذي أقلني فيه بابا
غسان؛ عبر محبوبته؛ إلى المطار» واتفقنا على أن أرسل له كل فصل
ما إن أفرغ من كتابته» عبر البريد الإلكتروني» من الفلبين.

كان المطار حزيناء وإن كان لا يشبه الحزن الذي شاهدته يوم وصولي.
ليست الأعلام منكسة وليست كراسي المقاهي مقلوبة على طاولاتهاء ولكن»
وجه خولة.. وجوه أصدقائي المجانين.. كل الوجوه تشبه غسان.

عند بوابة المغادرة» حاملا جوازي الأزرق» يلتف حولي المجانين
من بينهم بابا غسان وإبراهيم سلام. هذا يعانقني» وذاك يصافحني
بحرارة» والآخر يدّس في يدي مظروفا من المال. "النداء الأخير.. على
المسافرين على الخطوط الجوية الكويتية؛ رحلة رقم 411 المتجهة إلى
مانيلا التوجه إلى البوابة فورًا". فض أصدقائي الحلقة يفسحون مجالا
لمرور خولة. تقدّمت أختى ببطء. عانقتنى بشدّة. طال عناقها كثيرا. نبهها
بابا غسان: "هذا يكفي يا خولة.. سيوف تقلع الطائرة”. أجابته في حين
كان وجهها يغوص بين وجهي ورقبتي: "أحسن". تباعد الأصدقاء من
حولي. اتسعت الحلقة أكثر لمرور عمتي هند التي فاجأتني بحضورها.
انسحب بابا غسان تاركا المكان في حين تراجع الأصدقاء. أمسكت
عمتي هند بأختي من كتفيها تشدّها بلطف. ضمّتني خولة بشدّة مصرّة
على عدم تركي. عصرتني بين ذراعيها. دست عمتي ذراعها بيني وبين
أختي تضمها إليها. عانقتها الأخيرة. ربّتت عمتي على ظهرها في حين
كانت تبكي لا تزال. نظرت عمتي إليّ بوجه يشبه بقية الوجوه: "سامحنا
يا عيسى.. سامحنا". بابتسامة واسعة؛ ودموع غزيرة هززّت رأسي من
دون أن أنطق. أدرثٌ ظهري للجميع متجاوزا بوابة المغادرة» ومن هناك
التفتٌ ورائي أنظر عبر الزجاج. الكل يودعني بنظراته إلا خولة التي كانت

تركتُ الكويت في أغسطس 2008 أي قبل حوالي ثلاث سنوات
من اليوم» تاركا فيها كل شيء ماعدا قنينة زجاجية تحمل تراب أبي؛
وعلما كويتيا صغيرا كنت قد ثبّته إلى مؤخرة دراجتي الهوائية ذات
يوم» ونسخة من القرآن باللغة الإنكليزية وسجادة صلاة لا أدري متى
سأستخدمها بانتظام وصَدّفة إينانغ تشولينغ المشروخة الخالية من جسدها.

اليوم هو الخميس» الثامن والعشرون من يوليو 2011» الساعة تشير
إلى الثامنة والنصف مساء. بعد نصف ساعة من الآن سوف تنطلق مباراة
منتخب الفلبين ومنتخب الكويت ضمن تصفيات كأس العالم 2014 البرازيل.

قبل أيام قليلة وصل لاعبو المنتخب الكويتي يجرون تدريباتهم في
ملعب جامعة ماكاتي استعدادا لمبارات اليوم» بعد وصولهم بوقت قصير
تعرضت مانيلا لزلزال بلغت قوته 6 درجات بمقياس ريختر. ربطت بين
وصول الكويتيين إلى مانيلا ووقوع الزلزال في الوقت ذاته. من يُشكل
لعنة للآخر؟ طردتٌ الفكرة من رأسي.

مجانين بوراكاي ليسوا بعيدين عن هنا. يجلسون الآن في مدرجات
ستاد ريزال ميموريال يساندون منتخبهم. أنا من استقبلهم في مطار نينوي
من زيارة بوراكاي ثانية!

سأسلم هذا الفصل من الرواية إلى إبراهيم سلام ورقياء كما فعلت
في الفصل الأول. سيحمل المجانين أوراقي هذه إليه؛ ليسلمها بدور»
بعد ترجمتهاء إلى خولة؛ علها بعد مشاهدة الجزء الأخير مكتوبا بخط
يدي» وإن بلغة تجهلهاء تتشجع على إتمام رواية أبي.

* * *
أجلس الآن في غرفة الجلوس أمام التلفاز في بيتنا في أرض
ميندوزا. ورقتي الأخيرة بين يديٍّ. الجميع من حولنا يتابعون خروج
اللاعبين إلى أرض الملعب بحماس» ما عدا أدريان الغارق في غيابه..
أمي وألبيرتو وماما آيدا.. خالي بيدرو وزوجته وأبناؤهما.. وعلى السجادة
وسط غرفة الجلوس يحبو ولدي الصغير غير آبهٍ بما يجري حوله.

اقشعر بدني. رعشة تسللت من أعماقي إلى أطرافي ما إن شرع
لاعبو المنتخب الكويتي بترديد النشيد الوطني: "وطني الكويت سلمت
للمجد.. وعلى جبينك طالع السعدٍ..". وجدتني أترنم بلحن النشيد في
حين كانت الكاميرا تنتقل بين وجوه اللاعبين. فرغ اللاعبون من ترديد
نشيدهم» وفرغت أنا من ترديد لحنه؛ ثم انطلقت أصواتٌ مَن حولي
ما إن انتقلت الكاميرا إلى لاعبي المنتخب الفلبيني يرددون: "وطني
الحبيب.. لؤلؤة الشرق.. توهّج الفؤاد.. مهد الشجاعة..".

شعور لا يمكنني وصفه ذلك الذي ينتابني. أحاول قدر استطاعتي
أن أصب تركيزي في هذه الورقة التي بين يدي من دون جدوى. أنقل
نظري بين ولدي وشاشة التلفاز. ولدي الذي توقعت أن يأتي بعينين
زرقاوان وبشرة بيضاء جاء بملامح مغايرة.. بشُمرة عربية؛ وعينين
واسعتين تشبهان عينيٍّ عمته.. خولة.

أرادت ميرلا أن تسميه 3088» كنت قد أوشكت على الموافقة لولا
أنني تذكرت أننا نتطقه في الفلبينية كما في الإنكليزية هوان» وفي البرتغالية
جوانء وفي العربية يصبح كما الإسبانية خوان. اعتذرت ل ميرلا أن أطلق
على ولدنا كل هذه الأسماء» لأن اسمهء من قبل مولده.. راشد.

انفجر راشد الصغير باكيا مذعورا بسبب الصراخ الذي انطلق فجأة
في غرفة الجلوس لركلة سددها اللاعب الفلبيني ستيفان شروك استقرت
في مرمى المنتخب الكويتي في الوقت الإضافي نهاية الشوط الأول..
هتافات وصفير في شاشة التلفاز وغرفة الجلوس.. الابتسامات على الوجوه من حولي.. الجميع يصفق بفرح إلا أنا الذي كنت أشعر بأنني
ركلتٌ الكرة في مرماي.

بدأ الشوط الثاني من المباراة. راشد يغط في النوم بين ذراعيٌ
ميرلا. أحبط الجميع في الدقيقة ال 61 عندما سجّل يوسف ناصر هدفا

ها أنا أسجل هدفا جديدا في مرماي الآخر..

النتيجة حتى الآن مُرضية بالنسبة لي. المتبقي من زمن المباراة
يزيد عن نصف الساعة لست أرغب بمتابعتها. لا أريد أن أفقد توازني.
لا أريد أن أخسرني أو أكسبني. بهذه النتيجة أنا.. متعادل.

سأترك ورقتي الأخيرة هذه لأتفرغ لمشاهدة وجه صغيري المطمئن
في نومه بين ذراعيّ أمه.. أو في الغوص في عينيٌّ أدريان الغارقتين
في.. الفراغ.

يوليو 2011
مانيلا

__________________
(*) انتهت المبارات لصالح منتخب الكويت الوطني بهدف ثان سجله اللاعب وليد علي في الدقيقة ال 84.

ساق البامبوWhere stories live. Discover now