[الجزء الرابع] البارت الأول (١)

148 13 0
                                    

مطار كئيب ذلك الذي حطت به الطائرة يوم الأحد، الخامس عشر
من يناير 2006. الوجوه تشبه مطارها، كئيبة، بشكل لم أجد له تبريرا.
انتشر الناس في طوابير، أمام موظفي المطار، يختمون جوازاتهم. وفي
مقدمة كل طابور، في الأعلى، لافتات، كتب على بعضها: "G.C.C
CITIZENS(19)، وكتب على بعضها الآخر: "مواطنو الدول الأخرى".
وقفت في حيرة أمام هذه الطوابير. هل أتوجه للطوابير التي يقف فيها
الفلبينيون الذين كانوا معي في الرحلة؟ أم تلك الطوابير التي يقف فيها
أناس لا يشبهونني؟
أسفل لافتة تحمل علامة ممنوع التدخين، مثبتة إلى أحد الأعمدة
في المطار، يقف رجل في زيه العسكري مستندا إلى العمود. توجهت
إليه. "سيدي!"، سألته لأعرف موقعي في هذه الطوابير: "هل الكويت
ضمن دول ال G.C.C؟". ألقي سيجارته على الأرض. سحقها بقدمه.
باعد بين ذراعيه، ثم هز رأسه قائلا: "No English!". استدرت منجها
إلى حيث تختم الجوازات، حاملا حقيبة وجودي، تلك التي تضم صور
أبي القديمة وأوراقي الثبوتية. وقفت في أحد طوابير ال G.C.C، خلف
رجال برندون تلك الثياب الفضفاضة مع أغطية الرأس العربية.. لابد
انهم، مثلي، كويتيون.
واحد تلو الآخر، يختم الموظف على جوازات سفرهم، إلى أن جاء
كفي في جيب البنطلون، وقبل أن أخرج منه الجواز صرخ
بي الرجل بطريقة فظة صعفتني. أشار بيديه نحو الطابور الآخر، حيث
يقف الفلبينيون ومواطنو الدول الأخرى. قال كلاما لم أفهمه. ذهبت
(19) مواطنو دول مجلس التعاول الخليجي (المترجم).

مسرعا إلى الطابور الآخر، في حين كان الموظف لا يزال يتحدث بصوت
عال، ويوجه سبابته إلى اللافتة في الأعلى، ثم ينقل سبابته باتجاهي. يتفوه
بكلمات غاضبة. ثم يحرك أصابعه بالقرب من رأسه ليفهمني ما عجز
عن ترجمنه "أنت مجنون!"
. كنت أرتعش، والناس تنظر إلي. هل هو
محظور الوقوف في ذلك الطابور؟ أهي منطقة عسكرية؟
في الطابور الآخر، قال لي شاب فلبيني: "كنت تقف فيا
المكان
الخطا.. ذلك الطابور خاص بالكويتيين ومواطني دول الخليج". هززت
رأسي شاكرا وأنا أتمتم في نفسي: "رفض وجهي قبل أن يرى جواز
سفري!".
تجاوزت الخط الأصفر المرسوم على الأرض، قدمت جوازي
الأزرق إلى الموظف أمامي. أمسك به يقلب أوراقه ويتفحص وجهي.
قال لي باسما: "أعتذر عما بدر من زميلي.. يمكنني أن أختم لك الجواز
هنا، ولكن.. هل لك أن تعود إلى زميلي ثانية؟". نظرت إلى الموظف
الأول ذي الوجه العبوس. هززت رأسي رافضا. قال: "أرجوك.. هذا
حقك.. وان كان ذلك سيكلفك مزيدا من الوقت". مذ إلي يده بالجواز
بغیر ختم الدخول. قال بابتسامة كبيرة: "أهلا وسهلا بك في بلدك،
ولكن ليس عبر مدخل الأجانب".
تجاوزت الخط الأصفر مرة ثالثة. قدمت جوازي للموظف
الغاضب. زرقة جوازي أحالت لون وجهه إلى الأحمر. من دون أن
يتفحص وجهي، ومن دون أن يعلق، ختم على الجواز. التف إلى
زميله الباسم ما إن تجاوزت المدخل. كان ينظر إلي والإبتسامة على
وجهه لا تزال. غمز بعينه، مشيرا بقبضته رافعا إبهامه، ثم.. عاد لعمله
يختم جوازات السفر الأجنبية، يدخل أصحابها إلى البلاد من المدخل
المخصص لهم.
كانت المحال التجارية والمطاعم والمقاهي في المطار مغلفة.
مطفئة أنوارها. كراسيها مقلوبة مثبتة إلى الطاولات. بالهذه الكآبة. أدر
رأسي باحثا بين وجوه الناس التي جاءت تستقبل العائدين من أسفارهم.
ان لم تكن الوجوه حزينة، فهي صامتة، بلا تعابير. "ما الذي يدعوهم
لاستقبال العائدين من السفر ما لم يكونوا بمزاج جيد؟!"، سألت نفسي.
في الزحام، كان يقف. لم أكن أعرفه لولا الورقة التي كان يحملها
بين يديه تحمل اسمي العربي، أو، رقمي الفلبيني" Isa
كا يرتدي الثوب العربي بلون داكن، حاسر الرأس. شاربه، كما رأسه، فضي
مزيج من الشعرات البيض والسود، صعب على من يشاهده تخمين عدد
سنوات عمره. عيناه حزینتان بشكل لم أر له مثيلا. لو شئلت يوما، کیف
يبدو الحزن؟ سأجيب: "وجه غسان".
. كان يرتدي
كان الطقس باردا في الخارج، ليس كما صورته لي أمي في
أحاديثها عن الكويت. كنت أراقب الشوارع بعد خروجنا من المطار.
كانت مزروعة بشكل جميل، وأن تناقص اللون الأخضر شيئا فشيئا كلما
ابتعدنا عن المطار، ليحل مكانه اللون الأصفر. بعد خروجنا من مطار
الكويت الدولي، وقبل أن نجتاز دوارا مزروعا بشكل جميل، تنتشر فوقه
الأزهار بعناية. سألت غسان في حين كنت أنظر إلى الشوارع وراء زجاج
النافذة:
- طريفتنا مختلفة في رفع الأعلام عن طريقتكم.
أشرت باتجاه الأعلام المثبتة إلى منتصف الساريات. واصلت:
- في الفلبين، يكون العلم في أعلى السارية.
هر غسان رأسه، وبإنكليزية غريبة اللهجة قال:
وفي الكويت كذلك، وفي كل مكان، ولكن الدولة في حالة
حداد.
- حداد؟!
سألته منتظرا منه أن يوضح. قال:
الأعلام منكسة.. مات أمير البلاد فجر اليوم.

***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن