[الجزء الخامس] البارت الثاني عشر(١٢)

84 10 0
                                    

أسندت جهاز اللابتوب إلى ساقيّ. تظهر على الشاشة الصفحة
الرئيسية لليريد الإلكتروني. إلى متى هذا الجين؟ إلى متى التشبث بأمل
يخالطه الشك؟ وجدتني أقوم بإدخال رقمي السري كاملا في المكان
المخصص. بقيت خطوة أخيرة.. الضغط على مفتاح "تسجيل الدخول".

تركت الصفحة كما هي تحمل بياناتي من دون أن أنتقل إلى
الخطوة التالية. أزحت اللابتوب عن ساقي جانبا. وقفت في منتصف
غرفة الجلوس في شقتي أدير وجهي إلى الجدران متسائلا: "في أي
اتجاه تكون؟". فرشت سجادة الصلاة؛ هدية عمتي عواطف. تلك التي
لم أستخدمها من قبل. الاتجاهات كثيرة. اخترت جهة جذبتني إليها. كم
مرة يجب أن أنحني بجذعي للأمام؟ كم مرة يستوجب الأمر ملامسة
جبيني للأرض؟ هل أضم كفيّ إلى صدري أم أترك ذراعيْ ممدودتين
إلى جانبي؟ لست أدري ولكنني.. صليت.

انتصبت واقفا على سجادتي: "الله الأكبر.. الله الأعظم.. كنت
كريما معي.. أرحلتقك لي مجانين كنت أحلم بلقائهم.. ممتن أنا لك يا
إلهي..". انحنيت بحذعي إلى الأمام مثّتا كفيّ على ركبتيّ: "الله الأكبر..
الله الأعظم.. أنتظر رسالة منذ مدة.. أما آن وصولها؟". انتصبت واققفا:
"حقق لي أملي ولا تفجعني بموت من أحب". ارتميت على الأرض
ألامسها بجبيني: "لدي مال كثير.. لدي أصدقاء رائعون..". اعتدلت
بجلستي: "الله الأكبر.. الله الأعظم.. أصلي لك صلاة مؤمن راجيا أن
تقبل صلاتي.. آمين”. أدرثٌ وجهي يمينا.. يسارا.. خاتما صلاتي.

دق أحدهم جرس الباب. كان جاري الفلبيني يدعوني إلى حفلة
عيد ميلاد أحدهم. عند الباب كنت أقف أمامه. التفت نحو شاشة

اللابتوب ثم إلى الجار. وعلى طريقة ماما غنيمة أخذت أفسر الأمور.
لعل القدر أرسله كي لا أفجع بعدم ؤصول الرسالة بعد. هززت رأسي
ملبيا دعوته وكلي إيمان بما توصلت إليه.
* **

الفلبينيون.. هنا أو هناك؛ كما هم دائماء يولون اهتماما يشبه
التقديس لبعض المناسبات. أعياد الميلاد مهمة جداء يحتفون بها كل
سنة بالفرح ذاته وكأنها المرة الأولى. يتبادلون الهداياء على بساطتهاء
ويسعدون بها مهما بدت زهيدة الثمن. يبدو الفرح على وجه المحتفى
بعيد ميلاده قبل أن يعرف ما هي الهدية المقدمة إليه. الهدية مهمة
أحياناء ولكن الأهم هو أن صاحبها لم ينس المناسبة؛ وتجشم عناء
البحث عنها من أجل إسعادك. ليس مهما أن تكون زوج جوارب أو
علاقة مفاتيح أو إطارات صور أو محفظة نقود جلدية مقّلدة لماركة
شهيرة؛ المهم انها هدية وحسب. ليس اهتمام الفلبينيين حكرا على أعياد
الميلاد. فالمناسبات العامة أيضا لها خصوصية لديهم.. لماذا لمديهم بدلا
من لدينا؟ هل أنا أنتقي المفردات بشكل صحيح؟ أي تيه هذا الذي أنا
فيه؟!

في الاحتفال بمناسبة عيد الميلاد المجيد؛ في مانيلاء يمكنك أن
تشعر بهذه المناسبة كما لو أنك في الفاتيكان. هل أنا أبالغ؟ لم أزر
الفاتيكان لأعرف» ولكن» على أية حال» ليس الأمر كما هو عليه في
الكويت. للمناسبة هناك خصوصية حميمة تكاد ترى تأثيرها على وجوه
الناس من حولك. الأجواء المفعمة بالإيمان. الصلاة. تزايد أعداد زوار
الكنائس والكاتدرائيات. قد يكون ذلك مبررا إذا علمنا إن تسعين بالمثة
من السكان يدينون بالمسيحية؛ ثمانون بالمئة منهم ينتمون إلى الكنيسة
الرومانية الكاثوليكية» والعشرة في المئة المتبقية تنتمي إلى الطوائف
المسيحية الأخرى. ولكن» ما هو غريب هو اهتمامنا بمناسبات أخرى»

كاحتفالنا في الفلبين بمناسبة السنة الصينية. يخرج الناس إلى الشوارع
يحتفون بالمناسبة. تزين بعض الشوارع بالمصابيح الصينية والأوراق
والخيوط الملونة؛ تُقرع الطبول» يرتدي البعض الزي الصيني التقليدي
يراقصون التنين ذا الألوان الزاهية. نحن شعب يحب الفرح كما لا يحبه
أحد. لا نفوّت مناسبة للاحتفال على الإطلاق.

كعادة جيراني» يزينون غرفة الجلوس في شقتهم بالزينة الورقية
اللامعة» على أحد الجدران ألصقت عبارة HAPPY BIRTHDAY TO YOU . يضج المكان بالأغنيات والرقص وأنواع الطعام والشراب بما فيه
الكحول المصنوع محلياء أكثر ما يحرص على وجوده المدعوون وأكثر
ما يمقتون. شربت كثيرا في ذلك اليوم. توقف الجميع عن الرقص.
أطفئت الأنوار تاركين الشموع تضيء المكان في جو شاعري. حانت
ساعة ال فيديوكي» أو الكاريوكي كما يُطلقَ عليه بالإنكليزية. المايكرفون
جاهزء وشاشة التلفاز تعرض موسيقى أشهر الأغنيات مصحوبة بكلماتها.
وجودي في الكويت جعلني اتعرف على الفلبينيين بشكل اوضح نحن شعب يحب الغناء

نحن؟

نعم.. نحن!

ينتقل المايكرفون بين الأيدي. يغنون فرادى وجماعات. يستعينون
بالكلمات المعروضة على الشاشة» يجارون موسيقاها بأصواتهم أغنية
تلو الأخرى. وجدتني بينهم ما إن شرعت موسيقى أغنية "زمن الفراق"
للفلبيني إيريك سانتوس. أمسكت بالمايكرفون من دون أن أستعين
بالكلمات على الشاشة. أستمع إلى نغمات البيانو منتظرا لحظة البدء.
أغمضت عينيّ أغني ولا شيء سوى ذكرياتي مع ميرلا يسكن مخيلتي.

الجميع يستمع إلى غناثي بصمت. ارتفع صوتي مع اقتراب نهاية
الأغنية واشتداد إيقاعها.. انحنيت مع المايكرفون.. ومع خفوت صوت

البيانو معلنا نهاية الأغنية همست خاتما: "أتذكر الأيام.. عندما كنا
سويا”.

دوت غرفة الجلوس بالصفير والتصفيق. ارتفعت الكؤوس تحييني.
انحنيت لهم بحركة تمثيلية أوزع قبلاتي في الهواء. انطلقت الموسيقى
من جديد. اجتمعوا حول المايكرفون في غناء جماعي. انسحبت إلى
شقتي بهدوء.

أسندت جهاز اللابتوب إلى ساقيّ. شاشته مفتوحة على صفحة
البريد الإلكتروني لا تزال. تأرجحي بين الوعي واللاوعي ساعدني على
استسهال مهمة الضغط على مفتاح "تسجيل الدخول". صندوق الوارد
يحوي رسائل كثيرة. إعلانات.. رسائل من أمي.. صور لها مع لبيرتو
وأدريان. تترنح الصور أمامي ثملة. ابتسمت لابتسامة أخي الواسعة في
الصورة» وخيط اللعاب يسيل من فمه. كم أشتاقه هذا السمين. صور
لمنزل أمي ومنزلنا. أشياء كثيرة غيّرها المال الذي أرسله إليهم. شعوري
بالسعادة للرسائل والصور لم يدم طويلا.

لماذا يا ميرلا؟

***

ساق البامبوWhere stories live. Discover now