البارت الثامن (٨)

333 19 0
                                    

في شقّة صغيرة سكن الاثنان. شقة بمستوى راتب والدي المتواضع آنذاك. لا يتردد عليهما في سكنهما سوى غسان ووليد، اللذين شهدا على زواجهما الرسمي بعد انتقالهما إلى سكنهما الجديد.

     ذات يوم، في إحدى جلساتنا، أمي وآيدا وأنا، من حقيبة أوراقها الخاصة - التي هي بحوزتي الآن- ومن بين رسائل والدي، سحبت والدتي صورة عن عقد زواجهما الرسمي، واذي حصلا عليه بعد الإنتقال إلى شقة. أشارت بسبّابتها أسفل الورقة التي لم تكن، ولا انا، تفهم كلماتها:

     - هذا إمضاء غسان..

     نقلت اصبعها إلى الإمضاء الثاني. صمتت قليلا، ثم بحزن.. قالت:

     - امضاؤه مجنون.. كم يشبهه..

    حدّقتُ في الإمضاء الثاني.. المجنون كصاحبه. سألتها:

     - إمضاء من.. ماما؟

     ابتسمت وهي تطوي الورقة:

     - وليد..
     ثم أخرجت من الحقيبة صورتين، الأولى لوالدي، يبدو مضحكا فيها، نحيفا جدا، شاربه كث، تطل عيناه الصغيرتان من خلف نظارة طبية، يلبس ثوبا أبيض فضفاضا، وعلى رأسه طاقية بيضاء كتلك التي يعتمرون المسلمون في كويابو⁵ والحيّ الصيني. لا أدري كيف كان

[(⁵) اQuiapo :وسط المدينة. إحدى مناطق مانيلا التي تشتهر بمحال السلع زهيدة الثمن. غالبية سكانها من المسلمين، حيث يوجد المسجد الذهبي والمسجد الأخضر ]
أبي وسيما في عينيّ أمي! أما الصورة الثانية فكانت لشابين على ظهر مركب، أشارت والدتي إلى أحدهما، لم يكن ينظر إلى الكاميرا، فقد كان منهمكا في عمل شيء ما. "هذا غسان، يقوم بتثبيت الطُعم في خطّاف الصيد السمك"، تقول والدتي. ثم تشير إلى الآخر، كان ينظر إلى الكاميرا مباشرة: "هذا هو وليد". لفتتني صورته، وجهه طفولي، يبدو صغيرا بالنسبة إلى والدي وغسّان، تبدو شخصيته مرحة.
     - كان مجنونا.. بعكس راشد وغسان.. مغرما بسباقات السيارات والدراجات النارية..

     قالت أمي.. ثم واصلت:

     - جريء.. مندفع.. مشاكس.. يعشق السفر بالرغم من فوبيا الطيران التي يعانيها.

     تضحك أمي:

     - ينام كالقتيل، إثر حبوب منومة يتعاطاها قبل إقلاع الطائرة، ولا يصحو إلا بعد أن تلامس عجلات الطائرة أرض المطار.
     أحببت شخصيته، من خلال حديث أمي وصورته. حدقت في الصورة. كان يمسك بكيس بلاستيكي في إحدى يديه، تقول والدتي انه يحتوي على أمعاء الدجاج التي يفضلها والدي كطعم للسمك. تحجب عينيه نظارة شمسية، وبإصبعيه كان يضغط على أنفه دلالة على الرائحة الكريهة المنبعثة من الكيس.

     - تبدو الرائحة كريهة.. ماما..

     قلت لها وعلامات الشعور بالقرف تعلو وجهي. أجابت:

ساق البامبوWhere stories live. Discover now