[الجزء الثاني] البارت التاسع عشر (١٩)

190 16 0
                                    

"هوزيه.. هوزيه.. هوزيه.."
ضقت ذرعا بنداءاتك يا جدّي!
هذا حديث يعتمل في صدريء قد يرتفع قليلا. ولكنه لا يتجاوز
ما شعرت بمعاناة أمي» النفسية على الأقل؛ أثناء حديثها عن عملها
في منزل السيدة الكبيرة في بلاد أبي؛ إلا بعد ما عانيته من أعمال شاقة
مع ميندوزا.
أترك نافذتي مفتوحة طوال الليل» بعد يوم طويل وشاق؛ مفسحا
المجال لأصوات صرار الليل تتسلل إلى الداخل. ولكنها نادرا ما كانت
تتسلل بمفردها..
- تا لكم.. أوغاد!
صوت ميندوزا المخمور يصاحب أصوات صرار الليل..
- ميسيرلا..
يلفظ اسم ميرلا بصوت خفيض.. ثم يصرخ باسمي:
- هوزييييه!
لا أرد..
- لا آباء لكم..
أفتح عينيّ.. ظلال سيقان البامبو تتراقص على جدران غرفتي..
تحاكي نور الشمعة المتسلل من نافذة جدّي.
- هوزيييه!
أدسّ إصبعي في أذنيّ.. يقتلني الصمت.. أخرج إصبعيّ.. أرهف
السمع.. صرار الليل يعود.. و:
- هوزيييه!
أتظاهر بالنوم..
- أعرف أنك تسمعني..
قرع الخشب على الخشب.. كوب ال توبا على الطاولة:
- أكره مجهولي الآباء!
يقول ميندوزا. أقفز إلى النافذة. أدسٌ ذراعي بين القضبان الحديدية
- لست مجهول الأب!
يصمت ميندوزا.. أتراه سيدخل من باب الغرفة ورائي؟.. صمته
لا يطول:
- هل لك أن تثبت ذلك؟
يقذف سؤاله. ينفجر ضاحكا.. يقهقه.. يسعل..
اللعنة على صرار الليل لماذا لا يسكن غرفتي؟!
أختم حوارنا المبتور بصوت ارتطام النافذة في إطارها..
م
- هوزيييه!
يأتبني صوته في صبيحة اليوم التالي..
- أحضر لي موزة..
يردف بعد لحظات صمت..
- موزة صفراء.
من الطبيعي أن تكون صفراء؛ لماذا يصر جدّي على تحديد
اللون؟! آ! هو يعلم ان أشجار الموز حول بيوتنا تحمل أعذاق موز
صغيرة خضراء» ليست جاهزة للقطف بعد. أكرهك يا ميندوزا!
- لا يزال الموز أخضر.. جدّي!
يتظاهر بالغضب. يجيب بصوته المزعج:
- لا بد أن تعثر على موزة صفراء!
بنفاد صبر أجيبه:
- كلاء لا يوجد.
- أأنت متأكد؟
يسألني. ومع معرفتي بما ينوي قوله. أرد:
- نعم.. متأكد.
يرفع صوته أكثر مما ينبغي:
- حسنا.. أتمنى أن تنبت لك ألف عين كي تتمكن من رؤية
الأشياء بوضوح!
بهدوء أجيبه:
- سأصلي للرب كي يلبي لك أمنيتك.. جدّي.
يصمت. وأنا على يقين بأنه يكاد ينفجر من الغضب.
كنت قد بلغت الرابعة عشرة؛ ولم تعد تلك الأمنية تثير الرعب في
نفسي كما في السابق.
***
في ما مضىء كنت أستيقظ صباح كل يوم على جرس المنبه
العجوز: "هوزيييه!". وما إن أفتح عينيّ حتى أمرر كنَّي على وجهي
أتحسسه. وأشكر الرب ما إن أطمئن إلى ان الجلد لا يزال يكسوني.
لثيم كان جدّي. يعرف ذلك الأثر الذي تركته الأسطورة القديمة
في نفسي منذ كنت طفلا. أسطورة بينيا.
كان يتسلى بخوفي من مصير يشابه مصير بطلة الأسطورة. وكان
إذا لم يجد شيئا يكلفني بالقيام به يطلب مني احضار شيء ماء أي شيء
من أي مكان. ولعلمه المسبق بعدم وجود حاجته تلك في المكان الذي
أرسلني إليه؛ فهو ينتظر عودتي خائبا بفارغ الصبر ليقذف بوجهي عبارته
الخبيثة: "أتمنى لو تنبت لك ألف عين حتى ترى الأشياء بوضوح".
لم أكن قد بلغت السابعة بعد» عندما بدأ ميندوزا يتسلى بخوفي من
هذه الأمنية. ما إن يقذف بأمنيته تلك حتى أجدني. كالمجنون. أجري»
يتملكني الخوف, باحثا عن حاجته في المكان الذي أرشدني إليه» وفي
أماكن أخرى» في حين ينفجر هو ضاحكا.
من أين له ذلك القلب.. ميندوزا؟
*.*.*
قصة من القصص الكثيرة التي كانت تحكي لي إياها أمي أو ماما
آيدا قبل النوم. كنت أطلب منهما إعادة الحكايات؛ وكنت أستمتع بها
في كل مرة وكأني أسمعها للمرة الأولى» ما عدا أسطورة بينيا. كرهتها
منذ المرة الأولى» وطلبت من ماما آيدا ألا تعيد قضّها علي. ورغم ذلك»
لم أتمكن من نسيانها.
*.*.*
في قرية ماء قبل زمن» كانت هناك امرأة لديها ابنة جميلة؛ وحيدة»
ولأنها كذلك. كانت مدللة. لا تحسن التصرف أبدا. اتكالية كسولة. ومع
ذلك» كانت جميع طلباتها مستجابة من قبل أمها التي ما أحبت شيئا في
العالم كحبها ل.. بينيا.
كانت بينيا معروفة في كل القرية؛ يحسدها الأطفال على ما تتمتع
به من مزايا لا تتوفر لهم. ذات يوم؛ مرضت والدة بينياء وكانت تأمل
بالشفاء بسرعة كي ترعى بينيا. ولكنها في ذلك الوقتء كانت» هي؛ من
يحتاج إلى الرعاية.
نادت الأم ابنتها بضعف؛ غير قادرة على النهوض من السريرء
- تعالي يا ابنتي.. أحتاجك في أمر ماء
قالت الأم مخاطبة ابنتها المشغولة في اللعب في فناء البيت
الخلفي.
- حسنا ماما.. ماذا هناك؟
أمام سرير أمها وقفت بينيا تسأل. قالت الأم:
- اني منهكة.. غير قادرة على النهوض.. أشعر بالجوع ولا
أستطيع أن آكل شيئا صلباء
واصلت الأم طلبها برجاء:
- أريدك أن تحضّري طبق لوغاو.
استغربت بينيا. أكملت الأم:
- الأمر بسيط يا بينياء ضعي قليلا من الرز في وعاء؛ أضيفي له
ماء» وقليلا من السكر» ثم اتركيه يغلي لفترة من الوقت.
- ما أصعب هذا العمل يا أمي!
قالت بينيا بنفاد صبر. أجابت الأم بوهن:
- عليك عمل ذلك بينيا.. ماذا ستأكل أمك المسكينة ان لم
تفعلي؟
جرّت بينيا قدميها على السلم متشثاقلة متجهة إلى المطبخ في
الأسفل.
جهزت بينيا الوعاء والرز والماء والسكر» ولكنها لم تعثر على
المغرفة. "كيف لي أن أحرّك الخليط من غير المغرفة؟!" تساءلت بينيا.
رفعت صوتها تسأل والدتها:
- ماما! أين يمكنني العثور على المغرفة؟
سألت بنيا. أجابت الأم بصوت ضعيف:
- انها مع أدوات المطبخ.. أنت تعرفين أين أضعها.. بينيا!
ولكن بينيا لم تعثر على المغرفة مع أدوات المطبخ» كما انها لم
تكلف نفسها عناء البحث عنها في مكان آخر.
- لم أتمكن من العشور عليها ماما! لن أصنع لكٍ ال لوغاو من
دونها.
صرخت بنيا. أجابتها الأم هامسة بيأس يخالطه غضب:
- أوه! طفلة كسولة!
ثم رفعت صوتها قائلة:
- أنتٍ لم تنظري. حتىء إلى مكان آخر!
أتمت الأم كلامها غاضبة:
- أتمنى أن تنبت لكٍ ألف عين كي تتمكني من مشاهدة الأشياء!
ما إن لفظت الأم أمنيتها تلك حتى خيم السكون على البيت.
توقف ضجيج الأطباق في الأسفل. "لعلها شرعت في الطبخ" قالت
الأم تطمئن نفسها.
مر وقت طويل» والصمت في المنزل لا يزال. لا صوت يصدر
عن الأواني في المطبخ, ولا رائحة طهي تنبعث من الأسفل. باغتها
قلق شديد على بينيا. وبكل ما تبقى لديها من قوة صرخت تنادي:
" بينيالاا.. بينياااا". ولكن بينيا لم ترد. انتبه الجيران إلى نداءات الأم
وبكاثها. "أوه! أنت خير من يعلم بتصرفات بينيا!.. لا تقلقي.. لابد
انها تلهو مع صديقاتها في مكان ما"» قال أحد الجيران مطمثنا. ختم:
"لعلها غاضبة من تكليفك إياها عمل ال لوغاو.. ستعود إليك قريا".
اطمأنت الأم لقول الجارء ولكن اطمثنانها هذا لم يدم طويلا. نهضت
من فراشها بصعوبة تبحث عنها في القرية وتسأل الناس» ولكنء لا أثر
ل بينيا. تعبت الأم.. بكت.. انتحبت.. ولكن» طال غياب بينيا.
في نهار مشمس؛ وبينما كانت أم بينيا تقوم بتنظيف ساحة المنزل
الخلفية؛ وقع نظرها على ثمرة غريبة الشكل, لم تألفها من قبل؛ كانت
بحجم رأس طفل صغير. لها أوراق خضراء سميكة نبتت أعلاها.
اقتربت الأم من الثمرة والدهشة تبدو على ملامحها. مررت أصابعها
على قشرة الثمرة. "تبدو غربية.. لها ألف عين” قالت الأم؛ ثم كررت
جملتها الأخيرة وقد تكشف لها شيء ما: "لها ألف عين!". تذكرت
أمنيتها لأبنتها! ‎١‏
أيقنت الأم ان ابنتها استحالت إلى هذه الثمرة؛ وأصبح لهاء كما
تمنت»ء ألف عينء ولكن أيا منها لم تكن قادرة على الإبصار أو حتى
ذرف الدموع.
ولما كانت أم بينيا لا تزال تحب ابنتها كما لا تحب شيئا آخر
في هذا العالم» فقد اعتنت الأم بالثمرة»؛ وعاهدت نفسهاء وفاء لذكرى
بينياء أن تجمع بذور الثمرة الغريبة لتعيد زراعتها. تكاثرت الثمرات في
الفناء الخلفي لبيت الأم. أصبحت تعطي الجيران وأهل القرية من تلك
الثمار التي أصبحت تعرف باسم 8:ا010/ بينياء أو 16/م21068.. أناناس.
ما عادت تلك الأسطورة تثير الرعب في نفسي؛ وإن كرر جدّي
ميندوزا أمنيته على مسمعي كل يوم: "أتمنى لو تنبت لك ألف عين
لتتمكن من رؤية الأشياء بوضوح". ولكن» رغم ذلك» ما زلت غير قادر»
منذ معرفتي بتلك الأسطورة؛ أن آكل الأناناس.
شيء بداخلي يقول بأنها كانت بشرا.. بينيا.. الفتاة الفلبينية
الصغيرة.
***

ساق البامبوWhere stories live. Discover now