البارت الثاني (٢)

1.1K 44 6
                                    

جاءت والدتي للعمل هنا، في منزل مَن أصبحت بعد زمن جدتي، في منتصف الثمانينات في القرن الماضي، تاركة ورائها دراستها، وعائتها... والدها، واختها التي أصبحت أمّا لتوّها آنذاك، واخاها وزوجته وأبنائه الثلاث، يعقدون أموالهم على جوازفين، والدتي، لتضمن لهم حياة ليس بالضرورة ان تكون كريمة.. بل حياة وحسب، بعد أن ضاقتبهم السبل.

        تقول والدتي: " لم أتخيل قط بأنني سأعمل خادمة في يوم ما". كانت فتاة حالمة تطمح لأن تنهي دراستها لتعمل في وضيفة محترمة.  لم تكن تشبه أفراد عائلتها في شيء. في حين كانت اختها تحلم لشراء حذاء او فستان جديد، كانت أمي لا تحلم بأكثر من أن تقتني كتابا بين وقت وآخر، تشتريه او تستعيره من إحدى زميلاتها في الفصل. تقول:" قرأتُ الكثير من الروايات، الخيالية منها والواقعية. أحببت سندريلا و كوزيت بطلة البؤساء، حتى أصبحت مثلهما، خادمة، إلا انني لم احظ بنهاية سعيدة كما حدث معها"  

       ساقت ضروف والدتي لترك بلادها وأهلها واصدقائها للعمل في الخارج، وعلى صعوبة هذا، بالنسبة لفتاة في العشرين من عمرها، فإن مصيرها كان أفضل بكثير من ذلك الذي سيقت اليه اخته، آيدا، التي تكبرها بثلاث أعوام. فحين تحالف الجوع مع مرض والدتها والديون التي اثقلت كاهل والدها المقامر الذي افنى ماله في تربية ديوك المصارعة، لم يجد الأبوان بدا من تقديم ابنتها البكر، ذات السابعة عشر آنذاك، مجبرة، إلى سمسار يوفر لها فرصة عمل في مراقص وحانات المنطقة، والنزول عند الشرطة بأن يأخذ حصته، جسدا ونقدا، من الفتاة في نهاية كل يوم عمل.

     كل شيء يحدث بسبب... ولسبب"، هذا ما تردده أمي دائما، وإذا ما بحثت عن سبب لكل ما يحدث لا أجد شوى الفقر منتصبا أمامي.

     تدرجت آيدا صعودا في عملها الى القمة، نزولا في ذاتها الى القاع. بدأت نادلة في حانة تفترسها أعين السكارى وألسنتهم القذرة، ثم نادلة في ملهى ليلي تزاحمها الأجساد المتعرقة وتلامسها الكفوف الوقحة، ثم راقصة في ناد للعراة تلتهمها الأعين الجائعة، وهكذا، إلى أن نالت أعلى المراتب وأدناها في عالم الليل.

     "هل يذهبن إلى الجحيم؟" سألتُ والدتي ذات يوم عن مصير الفتيات الليل اللاتي يتسللن إلى أرصفة الشوارع نا إن تغيب الشمس، كسرطانات البحر التي تعربد في رمال الشاطئ ما إن تغيب المياه في الجزر. تعود الشمس من غيابها تغسل أشعتها خطايا الليل، ويعود المد مبتلعا سرطانات البحر، رادما جحور حفرتها في الرمال أثناء غيابه. "لست أدري، ولكنهن، حتما يقدن الرجال إليه تجيب والدتي من دون يقين.

     قدمت آيدا الصغيرة، آنذاك، جسدها لكل من يسالها ذلك مقابل أن يدفع مبلغا يحدده سمسارها. هناك ثمن خاص للرجال الأجنبي يفوق الثمن المخفض الذي يتمتع به الرجال المحلي الفقير. كمان أن الثمن يتفاوت نضرا للوقت والمكان. للساعة الواحدة ثمنها..ولليلة الكاملة ثمنها..وللخدمة في غرفة النادي الخلفية الثمن، ولخدمة الفنادق ثمن آخر.

     أصبحت آيدا شيئا، مثل أي شيء يباع ويشترى بثمن.. ثمن بخس في الغالب والباهظ في ما ندر، يتفاوت ثمنها نظرا لنوع الخدمة التي تقدمها. عملت صامتة حزينة، كارهة للمال والرجال. ليس المؤلم أن يكون الإنسان ثمن بخس، بل الألم، كل الألم، أن يكون ثمن.

     صارت آيدا مصدر دخل للعائلة، تعود مع ساعات الفجر الأولى حاملة حقيبتها الصغيرة في يدها، تحتوي على ما تنتظره أمها المريضة وأبوها المقامر بفارغ الصبر. تتأخر أحيانا عن موعد وصولها، تقلق والدتي على أختها الكبرى، في حين يتفائل الأبوان لهذا التأخير، لأنه يشي بقضائها ليلة كاملة مع أحدهم في فندق ما، وهذا له ثمن مجز، ومن البديهي أن الساكن الفندق رجل أجنبي، وهذا له ثمن أيضا، يضاعف من محتوى حقيبتها الصغيرة. لا ينظر الأبوان إلى وجه ابنتهما، فنظرهما لا يتجاوز خاصرتها حيث حقيبتها. تعود أحيانا بشفة متورمة أو أنف دامٍ أو بكدمة زرقاء داكنة في فكّها،كان كل ذلك غير مرئي بالنسبة لهما، لا يعنيهما من أمر الشاذ الذي ألحق تلك الأضرار بابنتهما سوى أمواله التي أغدقها عليها بعد إشباع شهوته.

     انغمست آيدا في هذا العالم. أدمنت على الشرب وتدخين الماريجوانا. أصبح كل شيء بالنسبة لها مقبولا، وليس ثمة شيء في حياتها له قيمة. حملت أكثر من مرة، ولكن حملها لا يستمر، فقط كانت تسقطه فور علمها به، كرها في الجنين وضغطا من والديها حفاظاعلى عملها التعس، إلى أن جاء اليوم الذي حملت فيه بابنتها ميرلا، وكانت في الثالثة والعشرين من عمرها، أخفت أمر حملها عن الجميع ألا أختها الصغرى، أمي، بعد أن أدركت بأنه خلاصها الوحيد من عملها الذي وافقت عليه مجبرة.

أشاعت آيدا خبر حملها لوالديها في وقت متأخر، بعد أن طُردت من عملها وبعدما أصبح اسقاط الجنين أمرا مستحيلا، وأخبرتهما بأنه لن تعود للعمل. انقطع العلاج عن جدتي.. ساءت حالتها..تدهورت..وبقي جدّي منصرفا إلى مصارعة ديوكه.

     فقدت العائلة أحد أعضائها، في الوقت الذي أنضم لها عضو جديد. ففي الوقت الذي تنفست فيه ميرلا أول أنفاسها، لفظت جدتي نفسها الأخير.

     جائت ميرلا بشكل جديد. كانت فلبينية الملامح لولا بشرتها البيضاء المائلة للحمرة، وشعرها البني، وعيناها الزرقاوتان، وأنفها البارز.

      كانت والدتي في ذلك الوقت قد بلغت عامها العشرين. وبلا شك، في نظر جدّي، كانت الإستثمار الأمثل للعائلة، وضمان استمرارها في الوقت الذيأصبحت فيه آيدا عاطلة عن العمل، منصرفة إلى تربية ابنتها. وفي ضل انصراف الابن الوحيد، بيدرو، عن شؤون أبيه وأختيه وانشغاله الدائم في البحث عن عمل، كان الوقت قد حان لاستثمار جوزافين.

ساق البامبوWhere stories live. Discover now