الفصل 69 (ما بين بداية ونهاية)

189 3 2
                                    

لا تنسوا التصويت 🙏❤️
......................
استيقظت بتثاقل وعدم رغبة بالنهوض بعد إلحاح والدتها عليها كي لا تتأخر على عملها أكثر من ذلك. ما زالت لا تستوعب بأنها ستذهب إلى عملها اليوم وترى وجهه المقيت الذي بات يشعرها بالغثيان خاصة أنها بالكاد بدأت تبعد ذلك المشهد من أمام عينيها.
......................................
أتى مبكرًا للغاية فقط كي يراها؛ فرغبته وحماسه الغريب لرؤيتها اليوم لا يفهمه حتى هو. يقول لنفسه بأنه يريد التحدث معها، ولكن بشأن ماذا لا يدري. هو لن يعتذر بما أنه لا يرى نفسه مخطئًا وإن اعترف فسيكون سوء اختياره للمكان وحسب لأنه مكان عمل في النهاية وليس مكانًا لممارسة نزواته مع الموظفات.
جلس خلف مكتبه في تلك الغرفة -أو لنقل القفص الزجاجي- يراقب دخول الموظفين فقد حضر الجميع حتى الآن سواها هي. ينظر لشاشة حاسوبه بين الحين والآخر متظاهرًا بالعمل، ولكنه لا يدري ما الذي تعرضه الشاشة حتى. يحرك القلم بين أصابعه بحركة سريعة متواترة تنم عن توتره، ويهز ساقه بسرعة وهو يرقب المدخل ويقول في نفسه: لقد انتهت إجازتها ... يجب أن تأتي ... ماذا لو استقالت؟! ... لن تفعلها ... هل يعقل؟!
خرجت مرام من المصعد وما أن رأتها ليان هرعت نحوها ووضعت يدها على ذراعها تسألها عن حالها، فابتسمت مرام بصعوبة من خلف نقابها قائلة: الحمد لله ... أفضل.
أدركت ليان من نظراتها المتوترة وصوتها أنها ما زالت ليست بخير، فابتسمت وقالت مطمئنة: انسي ما حدث ... الجميع وبخه صدقيني ولن يجرؤ على تكرار فعلته ... لقد بات كالعصفور في القفص كما يقولون ... أوس بمثابة أخي وأعرفه منذ طفولتي، لكنني صدمت به ... أعلم بأنه لعوب ويغوي الفتيات منذ نعومة أظفاره، ولكن على ما يبدو بأنه انحرف بعد سفره ... لم يكن كذلك ... على أي حال عودي لعملك وقريبًا لن تكوني مضطرة للتواصل معه بشأن العمل لأن حور ستعود عما قريب ... لكن الأهم من كل هذا أن تكوني قوية مهما كانت الظروف.
اكتفت مرام بابتسامة وإيماءة بالموافقة من رأسها ومضت في طريقها نحو قسم البرمجة وفور رؤيته لها تدخل اعتدل بجلسته وشعر بمزيج من الراحة والسعادة والحماس. ترك القلم من يده وهم بالنهوض، ثم قال لنفسه: لأنتظر قليلًا ... لقد وصلت لتوها.
فور دخولها مكتبها نهضت وتين وسلمى وعانقتاها بحب يسألنها عن حالها الآن، لتجيب باقتضاب كما فعلت مع ليان. شعرت كلتاهما بسوء حالتها ومزاجها، فتساءلت وتين بمرح: هل شربتِ قهوتكِ؟
أومأت مرام برأسها نافية وقالت: لقد تأخرت ولم يكن لدي وقت للفطور والقهوة.
ابتسمت وتين بمرح قائلة: جيد ... هناك العديد من مشروبات حور المميزة التي تركتها لي ... دعينا نختار شيئًا من النكهات الفاخرة خاصتها.
ضحكت الفتيات وهمت وتين ومرام بالخروج للتوجه إلى المطبخ الصغير الموجود في القسم إلا أن دخول أوس أوقفهما وجعل مرام تعود خطوة للخلف فور رؤيتها له. هتف أوس بجمود وهو يضع يديه في جيبيه: آنسة مرام ... أريدك في مكتبي لنتحدث.
هم ليستدير بعد أن ألقى ما بجعبته وإذا بها تهتف بصوت تحاول إظهار قوتها فيه رغم اهتزازه: يمكنك الحديث هنا.
التفت أوس لها ورمقها بحدة، ليقول من بين أسنانه: لديك دقيقة واحدة لتكوني في مكتبي.
ضمت مرام شفتيها بغيظ من هذا المتعجرف القذر وودت لو تضربه بكل قوتها، ولكنه سرعان ما غادر عائدًا إلى مكتبه في حين ربتت وتين على كتفها قائلة: اذهبي إليه ... ربما يريد الاعتذار ومن الطبيعي أن يشعر بالحرج لفعل ذلك أمامنا ... كوني قوية ولا تخافي من شيء ... مكتبه الجديد هنا وليس بوسعه فعل شيء لأن الجميع يراه ... اهدئي.
هزت مرام رأسها بالموافقة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وخرجت بخطوات مترددة، فتساءلت سلمى بصوت منخفض: لمَ تقولين ذلك لها كأنكِ تطمئنينها؟! لا يعقل أن يؤذيها يا وتين.
نظرت لها وتين وقالت بتعب: ألا ترين حالتها؟! يجب أن تشعر ببعض الطمأنينة ... ما رأته لم يكن سهلًا ولا تعلمين ما الذي قد يخطر في ذهنها أو حتى في ذهنه هو بعد أن وبخه الجميع ونقلوه من مكتبه إلى مكتب بهذا الشكل ... ربما نظن بأننا سنكون قويات إن واجهنا موقفًا مماثلًا، لكن للحظات وضعت نفسي مكانها ووجدت بأن الأمر صعب ... ومن الطبيعي أن أخاف من رجل ليس له أي حدود.
قوست سلمى شفتيها قائلة: أنتِ محقة.
دفعت مرام الباب الزجاجي ودخلت المكتب لتجلس على الكرسي المقابل لمكتبه وهي تشيح بنظرها عنه وتنظر لأي بقعة بعيدًا عنه مما جعله يشعر بالغيظ أكثر؛ فقد اشتاق لرؤية هاتين العينين الجميلتين وما زال يتخيل ملامحها التي أسرته منذ الوهلة الأولى. نفض تفكيره ذاك الذي يقوده لأفكار أسوأ ستجعله يفقد سيطرته على نفسه كعادته في الأيام الماضية؛ فقد تخيل نفسه يتذوق شفتيها مرارًا وتكرارًا، وعقله يجعله يتخيل الأبعد من ذلك بكثير وها هي الآن تجلس أمامه، لذا يجب أن يتمالك نفسه.
حمحم وحاول إجلاء صوته قائلًا: آنسة مرام! أعلم بأننا مررنا بموقف لا نحسد عليه وكان محرجًا لكلينا ... لا أنكر بأنني ضعفت ولم أستطع السيطرة على نفسي، وارتكبت خطأ كهذا في مكان العمل ... غفلت عن إغلاق الباب ونظرًا لقلة استعمال المكان لم يخطر في ذهني ...
قاطعته مرام بنبرة حادة دون النظر إليه: لم آتِ إلى هنا لسماع مبرراتك، ولا أريد تذكر المشهد القذر الذي رأيته.
ابتسم بغيظ وتهكم قائلًا: قذر! أهذه هي الكلمة التي تصفين بها ما رأيته؟!
التفتت له ترمقه بنظرات حادة، فاتسعت ابتسامته وهو يرى بأنه نجح باستفزازها لتنظر إليه، فأكمل بعبث وخبث: ما حدث لم يكن مشهدًا قذرًا ... ماذا؟! ألم تري مشاهد الحب في الأفلام من قبل؟! ... لستِ صغيرة كي تدعي البراءة يا آنسة مرام ... حتى الدين لا يمنعكِ من هذه المتعة و ...
قاطعته مرام بحدة: عندما تكون في الحلال ... بين الزوجين ... ليس في غرفة مغلقة في مكان العمل وبين شخصين لا رابط شرعي بينهما ... هذا يسمى رذيلة ... زنا ... عقابه إما الموت رجمًا أو مئة جلدة.
شعر أوس بالغيظ، ولكنه أخفى ذلك بابتسامة باردة وقال باستهزاء: هذا الكلام بات قديمًا للغاية ... لا أصدق بأن هناك من يتحدثون بهذه الطريقة في القرن الواحد والعشرين ... طالما أن الشخصين على توافق ولديهما رغبة مشتركة فلمَ كل هذا التعقيد؟! ... نحن نعيش الحياة مرة واحدة لنستمتع بها لا لنخنق أنفسنا بقوانين وأفكار بالية.
ابتسمت مرام بتهكم قائلة: فكر كما شئت ... ليست مهمتي تصحيح أفكارك المنحرفة ... لكن هذه الحياة القصيرة هي التي ستحدد ما ستؤول إليه حياتنا الخالدة ... إما جنة أو نار ... ويبدو بأنك حجزت مكانك في الجحيم وسيروقك للغاية.
أنهت كلامها ونهضت لتخرج عائدة إلى مكتبها، لتتركه يشتعل غيظًا من ردودها الجافة القاسية وربما المعقدة بالنسبة له، ولكنها الحقيقة مهما حاول التغافل عنها.
....................................
استدعى زينة إلى مكتبه وقد قرر مواجهتها أخيرًا بكل الحقائق كي يتخلص من كل الضغط الذي تشكله عليه أخيرًا؛ فالسبب لكل هذا التعقيد الذي حدث حتى الآن هو مشاعرها تجاهه.
طلب منها الجلوس على المقعد المقابل لمكتبه، لينهض بدوره ويجلس مقابلها. سألته عما يريده بابتسامتها المعهودة ونظراتها التي تعبر عن حبها وإعجابها الشديد به والتي لا يسعها السيطرة عليها مهما حاولت.
أمسك زين بالجهاز اللوحي وأعطاه لها قائلًا: تفقدي محتويات هذا الملف.
شرعت زينة تقلب محتوياته التي كانت تسجيل فيديو يظهرها وهي تسرق ملف المناقصة، وصور جمعتها بخالد وندى وانتهاء بالصور التي أرسلها خالد لهم عند خروجها من بيته. كانت تبكي مذعورة وقلبها يدق بعنف وحركت رأسها برفض شديد، ثم قالت متلعثمة: أنا ... كنت ... سأوضح لك الأمر ... أنا...
قاطعها بإشارة من يده قائلًا: أعلم كل شيء يا زينة ... وأعرف بأنكِ تعاونتِ معهما لمرة واحدة وندمتِ ورغم ذلك تكررت لقاءاتك بخالد وهو من أرسل هذه الصور لنا فقط لكي نطردكِ ... لقد تركتكِ حتى الآن لكي أتأكد إن كنتِ لا تزالين معه خاصة بعد حريق المخزن ...
همت بالتحدث من جديد لتنفي التهمة عنها، ليقاطعها مجددًا: أعلم بأنه ليس أنتِ ... عرفت من فعلها وخالد كان وراء الأمر ... أراد أن نشك بكِ عندما لم تفلح حيلة الصور لكي نطردكِ.
رأى الحيرة في عينيها ولسانها المعقود عن الحديث، فبدأ يشرح لها طبيعة خالد وما كان ينوي فعله بها لأنه سبق وفعل ذلك بغيرها من الفتيات، وبأن تمنعها هو سر هوسه بها.
صدمات متتالية تنهال عليها ولا تفعل شيئًا سوى سكب الدموع وهي تشعر بالندم والخجل أمام الرجل الذي تعشقه، ليختم كلامه قائلًا وهو يضع ناقلة بيانات أمامها: هو الآن في السجن ولن يتمكن من إيذائك ... وجدنا هذه بين التسجيلات التي يمتلكها ... لم يشاهدها أحد فاطمئني ... إن أردتِ تقديم بلاغ ضده لاحقًا فيمكنكِ إخبار جواد وهو سيتولى الأمر.
بدأت شهقاتها تتعالى وقد أدركت بأنه فعل شيئًا ما بها في تلك الليلة المشؤومة التي ثملت فيها ونامتها في بيته.
ارتبك زين ولم يعد يدري هل عليه أن يصارحها بمعرفته بشأن مشاعرها تجاهه أم لا، وبعد لحظات من الحيرة هتف قائلًا: أعلم بأنكِ ندمتِ على ما اقترفته بحقنا يا زينة لذلك لن أقوم بطردك، ولكن في الوقت ذاته لا يسعني تركك في منصبك الحالي ... سأقوم بنقلك لأحد الأقسام بوظيفة مناسبة وراتبك سيبقى كما هو و ...
قاطعته زينة برفض وهي تخفض رأسها بخجل: لا ...أشكر لك موقفك هذا بعد كل ما عرفته ... لكنني أشعر بخجل شديد لا يمكنني من قبول كرمك هذا ... أعترف بأنني أخطأت، ولكنني ندمت بشدة صدقني ... أنا لا أحتمل فكرة إيذائك و...
توقفت ولم تكمل جملتها كي لا تحرج نفسها أكثر إن اكتشف مشاعرها تجاهه، وقد أدرك هو بدوره ذلك وحمد الله بأنه لم يتحدث عن الأمر، ثم قال: زينة! لندع الماضي ونبدأ صفحة جديدة ... أنت موظفة ماهرة ولا أريد خسارتكِ وواثق من أنكِ تعلمتِ من أخطائكِ ... سأمنحك إجازة لمدة أسبوع كي ترتاحي وتراجعي حساباتك ومن ثم ستعودين لوظيفتك الجديدة.
نهضت زينة من مكانها تمسح دموعها واستأذنته لتغادر عملها الآن، فوافق على ذلك وخرجت دون أن ترفع نظرها نحوه. تنهد بتعب ومسح وجهه فقد ارتاح الآن من أحد الهموم التي تثقل كاهليه. اكتفى بنقلها كما كان يخطط من البداية رغم أن زيد ويزيد أشاروا عليه بطردها وحسب، ولكنه يعلم بأنها ليست بالفتاة التي تخون أو تغدر، ولم تُقدِم على ذلك الخطأ إلا بسبب مشاعر الحب والألم بعد معرفتها بزواجه، والأهم من كل هذا بأنها ندمت ولم تستمر، لذا لا يجب أن يدمر مستقبلها لمجرد خطأ واحد خاصة أنها هي من تعول عائلتها.
تذكر حديثه مع حور ليلة أمس وقد قرر أن يستشيرها بالأمر بطريقة غير مباشرة حيث غير مسار القصة وشخصياتها فقط ليسألها ماذا على صديقه هذا أن يفعل مع تلك الموظفة، لتهمهم حور قائلة: طالما أنها ندمت وتوقفت من تلقاء ذاتها فهذا شيء يحسب لصالحها ... المرأة عندما تشعر بأن مشاعرها مجروحة تتصرف على غير سجيتها ... هو ليس له ذنب، ولكن هي أيضًا لا يسعها التحكم بمشاعرها تجاهه ... أرى بأن العفو عند المقدرة هو الأفضل ... يكتفي بنقلها لوظيفة لا يكون فيها أي احتكاك بينهما ... من ناحية لن يقطع رزقها هي وعائلتها ومن ناحية أخرى يعينها على نسيان مشاعرها لأنها ستعيد التفكير بحياتها آنذاك.
ضمها لأحضانه سعيدًا بما قالته وقبل رأسها قائلًا: حبيبتي الذكية العاقلة ... يا ترى هل عليه أن يخبر زوجته بشيء من هذا القبيل أم من الأفضل ألا يفعل كي يتجنب غيرتها وما شابه؟!
ضيقت حور عينيها وقالت: والله لو كانت زوجته تغار بشدة وتشك فيه كثيرًا فلا داعي ليخبرها كي لا يجن جنونها وتطلب منه طردها، ولكن إن كانت عاقلة ورزينة مثلي فلا بأس بمصارحتها لأنها إن عرفت من غيره لاحقًا لن يكون الأمر لطيفًا.
همهم زين يفكر بكلامها، فابتسمت بمكر قائلة: يبدو بأن صديقك هذا اسمه زين، فمن تكون هذه الموظفة يا ترى؟
التفت لها زين بعينين متسعتين، لتضحك قائلة: هل أبدو لك حمقاء يا زين؟! قم برواية القصة بتفاصيلها الحقيقة من جديد ولا تقلق ... لا زلت عند رأيي ... لكن لا أريدك أن تراها بعد ذلك من فضلك ... وأنا لا أريد معرفة هويتها يكفي ألا تكون من الموظفات اللواتي سأتعامل معهن.
عانقها زين بقوة وقد أدرك بأنها تشعر بالضيق من فكرة أن هناك امرأة تحب زوجها لهذه الدرجة وهذا من حقها، ومن الطبيعي أن تشعر بالغيرة عليه منها، لذا لا تريد معرفتها ولا حتى أن تكون بمكان قريب منها. طمأنها زين بأنها لن تقابلها بتاتًا وشرع يروي لها ما حدث من البداية.
قطع شروده وابتسامته تلك دخول يزيد الذي سأله عما جرى بينه وبين زينة، فأخبره بالأمر، ليقول يزيد بيأس من عناد أخيه: افعل ما شئت، ولكن لا تعد وتسألنا عما يجب عليك فعله لاحقًا إن عادت لتحاول التقرب منك وأحدثت مشكلة بينك وبين حور.
ابتسم زين بفخر وثقة قائلًا: حور هي التي أشارت عليَّ بهذا الحل.
ضيق يزيد ما بين حاجبيه متسائلًا بعدم تصديق: ماذا؟ حور؟ علمت بكل شيء وأيدت قرارك هذا؟!
ابتسم زين وأومأ برأسه إيجابًا، فابتسم يزيد بعدم تصديق، ليردف زين قائلًا: لكنها طلبت بألا تسمح وظيفتها الجديدة بأي تواصل بيننا؛ فهي امرأة ومن حقها أن تشعر بالغيرة بالطبع كما أنها لا تريد معرفة هويتها. هي الآن لا تتذكرها، ولكن عندما تعود ذاكرتها وتعلم بأنه تم نقل زينة ستفهم بأنها هي بالتأكيد.
ابتسم يزيد وربت على ساق أخيه قائلًا: زوجتك جوهرة ثمينة ... لا تخاطر بعلاقتك بها مهما كان السبب ... إن كان همك مصدر رزق زينة وعائلتها فيمكننا أن نوصي بها للعمل في شركة أحد الأصدقاء ... وإن كنت قلقًا بشأن الراتب الأقل الذي ستأخذه يسعنا دفع الفرق لتلك الشركة دون معرفتها ... صدقني هذا الحل أفضل يا زين ... لا تدخل القلق والتوتر لقلب زوجتك ... نعم هي رزينة ولطيفة ومراعية لكل من حولها، لكن لا تضغط عليها ... إنها أنثى في النهاية تحب وتغار وتغضب من أجل الرجل الذي تحبه وتريده أن يكون لها وحدها.
أومأ له زين بالإيجاب قائلًا: أنت محق ... حتى أن زينة رفضت العودة بعد كل هذا لكونها تشعر بالخجل ... إن لم تعد وقررت الاستقالة سأنفذ اقتراحك هذا ... في النهاية لا شيء أهم من حور بالنسبة لي.
ابتسم يزيد برضى وخرج ليتابع عمله في حين نهض زين يجمع متعلقاته كي يغادر فقد اشتاق إليها رغم أنه لم يغب عنها سوى ساعات معدودة. بينما كان في سيارته متجهًا للمنزل رن هاتفه باسم صديقه "معاذ"، ليجيبه مرحبًا به ويسأله ليتأكد إن كان حقًا قد عاد لمصر، فأجابه قائلًا:
- أجل، عدت منذ أيام مع زوجتي وأطفالي.
- حقًا؟ كم يومًا ستبقى هنا؟
- أسبوعين ربما.
- دعنا نلتقي الليلة فقد طرأ جديد على الخطة وكنت أنوي محادثتك.
- حسنًا، أين تريد أن نلتقي؟
- في منزلي ... أحضر زوجتك وأطفالك أيضًا لنتناول العشاء معًا.
- اتفقنا.
- سأرسل لك العنوان ... لا تتأخروا.
- لا تقلق، لن أتأخر. اشتقت لطعام خالتي أم يزيد.
ضحك زين وتبادلا المزاح قليلًا، ثم أنهى المكالمة وهو يفكر بالخطوة التالية من الخطة المتفق عليها فقد آن الأوان ليعود عادل الزيناتي.
وصل زين إلى المنزل وسلم على أمه وفاطمة وعينيه تبحث عنها في الأرجاء وقبل أن يسأل عنها ابتسمت أمه قائلة: التي تبحث عنها تجلس في الحديقة الخلفية عند المسبح.
ابتسم وقبل وجنة أمه ليسرع إلى محبوبته. خرج إلى الحديقة، فوجدها تجلس على العشب بالقرب من حوض الزهور وتضع نظارتها الطبية وتقرأ شيئًا على الجهاز اللوحي. تسلل خلسة من خلفها، ولكن رائحة عطره سبقته، فالتفتت نحوه مبتسمة، ليهتف بإحباط: كيف تعلمين بوجودي دون أن أصدر أي صوت؟
ضحكت حور قائلة: عندما تضح نصف زجاجة العطر على ملابسك سيكون من السهل أن أعلم بقدومك.
جلس بجانبها وقبل وجنتها قائلًا:
- اشتقت إليك كثيرًا.
- وأنا كذلك ... الوقت يمر من دونك بطيئًا ومملًا للغاية.
- الأمر سيان بالنسبة لي يا حبيبتي ... لذا أتوق لعودتك إلى الشركة كي نبقى معًا.
- آه ... ربما الأسبوع القادم ... ما رأيك؟
- حقًا؟! سيكون رائعًا يا روح قلبي.
- لكنني لا أريد الدخول من الباب الرئيسي ... لا أريدهم أن يروني وأنا أمشي بصعوبة.
- لا بأس، كما تشائين. سندخل من المرآب كما كنا نفعل من قبل.
- حسنًا، اتفقنا.
ترددت قليلًا وصمتت، ثم تساءلت قائلة: ماذا فعلت بشأن ما أخبرتني به؟
قص عليها زين ما حدث وبشأن رفض زينة وخجلها ومن ثم اقتراح يزيد، لتعقب حور: لا شك بأنه حل جيد، ولكنك سبق وأخبرتها بقرارك، لذا عليك الانتظار حتى تقرر هي. إن عادت للعمل ولم تصطنع أي حيلة لتقابلك أو تتقرب منك فدعها تعمل، أما إن حدث أي خطأ منها فأنا التي سأقف لها حينها، لكن إن استقالت نفذ اقتراح يزيد.
كان يستمع لها مبتسمًا وعيناه تحلق في قسمات وجهها بحب وإعجاب حتى تساءلت بسبب صمته قائلة: ماذا؟ ألا يحق لي أن أغار عليك؟
اقترب منها يمرر أنامله على وجنتها قائلًا بحب: يحق لكِ أن تغاري ... يحق لكِ فعل أي شيء تريدينه ... أيًا كان الحل الذي يرضيكِ يا حوري سأفعله ... أيَا كان القرار الذي يريحكِ سأنفذه.
ابتسمت هي الأخرى بحب وأمالت برأسها نحوه لتضعه على صدره، فقبل أعلى رأسها، ثم قال: حوري! لدينا ضيوف الليلة.
رفعت رأسها عن صدره تنظر له باستفهام، فأردف قائلًا: صديق لي يعيش في الولايات المتحدة وأتى إلى هنا في زيارة، ودعوته هو وزوجته وأطفاله لتناول العشاء معنا، ليس لديكِ مانع صحيح؟
ابتسمت حور وأومأت برأسها نافية. يعلم بأنها لا تحب أمر الدعوات والضيوف ولا حتى الحفلات والمناسبات، ولكنه لا يريدها أن تبقى منغلقة على نفسها. كان بوسعه لقاء صديقه وحسب في مكان ما في الخارج أو حتى في المنزل، ولكنه أرادها أن تقابل وجوهًا جديدة.
اقترب منها ليقبلها وكلاهما مطمئن بأن لا أحد يأتي لهذه الحديقة، فقاطعهما صوت فاطمة التي أتت تهتف بصوت مرتفع قائلة: يا زين! يا بني ... لم تقل إن كان صديقك هذا يحب أطباقًا معينة كي نجهزها.
صمت زين للحظات ليكتم غيظه، ثم التفت لها قائلًا: أعدي الأطباق المصرية المميزة يا دادة ... إنهم يعيشون بالغربة ويحنون لطعام البلد.
نظرت فاطمة لحور بغيظ لكونها تستولي على اهتمام زين بالكامل وكأنها استحوذت على عقله، فعادت أدراجها وهي تقول بصوت منخفض: لقد سحرته ... أقسم بأنها سحرته.
التفت زين لحور مبتسمًا وهو يتساءل بمكر: ماذا كنا نقول قبل أن تقاطعنا؟
ضحكت حور، ثم أجابته: كنت أتساءل إن كان بوسعي طهي المقلوبة لهم؟
ضم زين شفتيه، ثم قال: لا أريد كبت حماسك هذا والاعتراض ... إن كنتِ ترغبين بذلك فافعلي، ولكن لا تتعبي نفسك ... أخبري الخدم بما عليهم فعله وحسب.
أومأت له موافقة وهي تبتسم بحماس، ثم باغتته بطبع قبلة سريعة على شفتيه وحاولت النهوض عن الأرض، ليتبسم ويساعدها على النهوض متسائلًا: لهذه الدرجة تشعرين بالحماس؟
أجابت بنفس الحماس قائلة: أجل، بات لدي تصريح منك بدخول المطبخ، لذا ليس بوسع أحد منعي الآن.
عقد حاجبيه وتساءل باستغراب قائلًا: منعكِ؟! من الذي كان يمنعكِ؟
ضمت شفتيها بحيرة وارتباك، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة وأجابت قائلة: دادة فاطمة لا تريدني أن أتعب نفسي فقط ... كلما شعرت بالملل وقررت الدخول للمطبخ كي أعد شيئًا ما ترفض ... لأنها قلقة بشأني بالطبع ... ومطبخنا في الجناح لا يحوي على كل المواد التي أحتاجها لصنع الكعك أو الطهي مثلًا وحتى إن توفرت أخشى أن أتعب إن قمت بكل شيء لوحدي ... لذا ...
لم تكمل كلامها عندما رأت نظرات الغضب في عينيه وحارت للحظات بشأن سبب غضبه، فهل فهم بأنها تشكو فاطمة بشكل غير مباشر؟! أم لأنها كانت تود الطهي وما إلى ذلك وهي تعلم بأنه لا يحب أن تتعب نفسها في أعمال المنزل؟!
تفاجأت به يعانقها، ثم أبعدها قليلًا واضعًا يديه على وجنتيها قائلًا: هذا بيتكِ أنتِ يا حور ... أنتِ إحدى سيدات القصر هنا ... مهما كانت معزة الدادة فاطمة لدينا، لكنها تبقى موظفة هنا ... ليس من حقها أن تملي عليكِ ما تفعلينه أو ما لا تفعلينه ... افعلي ما شئتِ واطلبي من العاملات ما شئتِ حتى وإن اعترضت ... اتفقنا يا حبيبتي؟
ابتسمت حور وهي ترمقه بحب وامتنان، ثم أومأت له بالموافقة. أسندها حتى دخلا وتوجها إلى المطبخ، ليقول زين أمام جميع العاملات بعد أن طلب منهم الانتباه لما سيقوله: السيدة حور لديها هواية الطهي وعندما تشعر بالملل تحب أن تقوم بطهي شيء ما أو صنع شيء من الحلويات ... أنا لا أحب أن تتعب نفسها، ولكن هذا لا يعني أن بوسع أحد منعها من فعل ما تريد ... لذا عندما تأتي إلى هنا وتطلب منكم شيئًا ما أود منكم أن تقدموا لها المساعدة اللازمة.
هتفت فاطمة بغيظ: لا أظن بأن لدى العاملات الوقت لمساعدتها وتنظيف الفوضى التي تخلفها لمجرد أنها تشعر بالملل.
رد زين باستنكار وهو يضم حور بذراعه: ولمَ قد لا يكون لديهن وقت؟! لا أظن بأننا نقيم الولائم كل يوم ... كما أن هذا بيتها ومن حقها أن تفعل فيه ما تشاء، وأيًا كان الفوضى التي تتحدثين عنها فهذا أمر طبيعي يحدث في أي مطبخ، وأظن بأن هذا هو الهدف من توظيف العاملات هنا، أليس كذلك؟
رمقت فاطمة حور بغيظ وقد ظنت بأنها شكت عنها لزين، لتقول من بين أسنانها: نحن نسير على نظام معين ولا يمكن السماح بالفوضى هنا ... أم يزيد منحتني المسؤولية كاملة لأدير شؤون المنزل و ...
قاطعها زين قائلًا: وهذا لا يتعارض مع دخول زوجتي للمطبخ ومساعدتها في إعداد ما تريده.
لوت فاطمة شفتيها وقالت بتهكم: إن تركنا الأمر لزوجتك فلا أحد سيتذوق طعامًا حقيقًا في هذا البيت ... لن تتذوقوا طعم الدجاج ولا اللحم ولا السمك ... هناك أطفال يحتاجون للتغذية ... هل ترغب بأن يمرض الجميع مثلها و ...
صرخ زين بوجهها بغضب عندما أتت على ذكر مرضها، ويعلم بأنه إن صمت ستذكر أمر حملها أيضًا، لذا سارع بإيقافها، ليقول محذرًا: كفى ... لن أسمح بكلمة أخرى ... هي سيدة المنزل ويجب أن تطاع ... إن حدث وأجبرت أهل المنزل على تناول طعامها حينها يحق لهم الاعتراض ... لكن ليس من حقك أنتِ الاعتراض أو منعها من دخول مطبخها.
ازداد غيظ فاطمة، لتقول: أم يزيد هي سيدة هذا البيت وليس هي ... من تكون هذه لتقول عنها سيدة المنزل ووالدتك حية ترزق؟!
أتت أم يزيد عندما سمعت صوت صراخ زين، لتستغل فاطمة الأمر وتردف بحزن مصطنع قائلة: لم أتوقع منك هذا يا زين ... تهينني وتصرخ بوجهي من أجل زوجتك؟! ... تقول بأنها هي سيدة المنزل وليس والدتك؟! ... ما الذي فعلته لك هذه الفتاة؟! ... لقد سحرتك وأعمت عينيك وجعلتك تصرخ بوجه المرأة التي ربتك منذ أن كنت طفلًا.
بدأت تتباكى وغطت عينيها بطرف حجابها، لتتقدم أم يزيد متسائلة باستغراب: ما الذي يحدث يا زين؟ ما كل هذا؟
التفت زين نحو أمه وفهم لم قالت فاطمة تلك الكلمات، ليعود بنظره لفاطمة ويبتسم بعدم تصديق، ثم عاد بنظره لأمه وقال: كل ما في الأمر بأن هناك من يعامل زوجتي كضيفة في بيتها، ولا يسمح لها بدخول المطبخ كي تعد ما ترغب به خشية أن تعيث الفوضى بالمطبخ بحجة أن العاملات هنا ليس لديهن وقت لمساعدتها. أخبريني يا أمي إن كن حقًا لا يملكن الوقت للقيام بواجبهن فربما علينا إحضار المزيد؛ فعلى ما يبدو أننا نقيم ولائم ألف ليلة وليلة في المنزل، لذا لا وقت لهم في مساعدة زوجتي بإعداد شيء.
رمقته أم يزيد باستغراب من حديثه، ثم نظرت لحور وجدتها تبكي بصمت وتحاول الخروج من المطبخ، فسارع زين للإمساك بها قائلًا: مهلًا يا حور ... لم نقم بتسوية الأمر بعد.
نظر لأمه وقال بجدية: حنان وليان لا تدخلان المطبخ، ولا يوجد سواكِ أنت وحور لديهما هذا الاهتمام يا أمي ... أنت أمنا جميعًا وتاج رؤوسنا، ولكن هل يعقل أن تمنع زوجة ابنكِ من دخول مطبخ بيتها؟ ... هل يعقل أن ترغب بطهي شيء ما بنفسها ويتم منعها؟!
ردت أم يزيد: كيف هذا؟ إنه بيتها ويحق لها فعل ما تريد يا بني.
احتدت نظرات فاطمة للحظات، ثم اقتربت من أم يزيد تتباكى قائلة: لم يعجبهما كلامي عندما قلت بأنك سيدة المنزل، وبأنكِ وكلتني بإدارة شؤونه ... ليقول بأن زوجته هي سيدة المنزل ... تحرضه علينا وجعلته يصرخ بوجه المرأة التي ربته وهو الذي لم يفعلها أبدًا طوال حياته ...
همست حور باكية لزين: دعني أعود لغرفتي ... أرجوك يا زين.
نظرت لها فاطمة بغيظ وصرخت بها قائلة: تبكين؟! بعد أن أشعلت النار بين الابن وأمه ومربيته تبكين؟! دموع التماسيح هذه لن تنطلي علينا.
صرخ زين بوجهها مجددًا: كفى ... كيف تتحدثين مع زوجتي بهذه الطريقة؟ ... إن كنتِ تفعلين ذلك أمامي، فما الذي تقولينه لها في غيابي؟! ... هل تحسبينني غبيًا أم ماذا؟! أعلم بأنكِ لا تحبينها ولا تتقبلينها منذ البداية، ولكن ليس من حقكِ أن تسيئي لها ولو بحرف واحد ... أوقفي هذه التمثيلية على الفور وإلا أخرجتك من هذا البيت دون عودة.
أغمضت أم يزيد عينيها فقد كانت تعلم بأن هذا اليوم سيأتي لا محالة بسبب مواقف فاطمة التي لا تنتهي وهذه المرة كانت الأسوأ على الإطلاق.
صرخت فاطمة بغضب: ستطردني؟! تطردني أنا من أجلها يا زين؟ لقد أكلت عقلك بالكامل ... لقد سحرتك وأفقدتك صوابك ..
ثم نظرت لأم يزيد وأردفت قائلة: هل تسمعين ابنكِ؟ يريد طردي من أجل زوجته التي ...
نظرت لها أم يزيد بنظرات مشتعلة وصرخت عليها بغضب: كفى ... توقفي ... لقد سئمت من أفعالك وكذبك وحيلك ... دعي زوجة ابني وشأنها ... قلت لكِ ألف مرة لستِ مجبرة أن تحبينها، ولكنكِ مجبرة على احترامها.
هتفت فاطمة بغضب: أنا أمه ومن حقي ...
قاطعتها أم يزيد باستنكار قائلة: أمه؟! كونكِ ساعدتني بتربية أبنائي لسنوات لا يعني بأنكِ أمهم ... ولا يعني بأن لديكِ الحق بالتدخل في حياتهم ... كوني علمتهم بأن يحترموكِ فهذا لا يعني بأن تضعي نفسكِ في مقارنة معي ... أنا أمهم ... أنا التي حملت وأرضعت وربيت وسهرت ... لا تنسي نفسكِ يا فاطمة ... لا تتوهمي حقوقًا لا تملكينها ... أنا أمهم وسيدة المنزل وحور زوجة ابني سيدة المنزل وكذلك هما حنان وليان ... نحن الأربع سيدات هذا المنزل ولا أحد آخر ... هل كلامي واضح؟
ردت فاطمة بغيظ وعيناها تشع حقدًا: واضح ... واضح يا ... سيدتي.
أسند زين حور لتخرج من المطبخ ومعه أمه وما هي إلا خطوات حتى ارتخى جسد حور بين يديه، ليسارع بالتمسك بها جيدًا وحملها بين ذراعيه وهو يطلب من أمه مهاتفة طبيب العائلة. سارعت أم يزيد بطلب الطبيب ولحقت بابنها وزوجته إلى جناحهما، لتجده يجلس على السرير بجانبها مذعورًا قلقًا عليها وهو يمسك بيدها. جلست أمه على مقعد قريب قائلة: سيصل الطبيب بعد قليل.
دمعت عينا زين قائلًا: استأذنتني لتدخل المطبخ كي تطهو المقلوبة للضيوف ... كانت متحمسة كطفلة صغيرة فقط لأنها بات معها إذن مني بالدخول كي تخبر به دادة فاطمة ... لم تخبرني بشيء مما يحدث بينهما، ولكنني استنتجت الأمر وحدي ... كيف لها أن تعامل زوجتي كضيفة في بيتها يا أمي؟! ... وحور لا تريد أن تشكو كي لا تتسبب بمشكلة لظنها بأن حبي لدادة فاطمة يضاهي حبي لأمي ...
هزت أم يزيد رأسها بحزن قائلة: ليست أول مرة تضايق فاطمة حور وتصمت ... أعلم بأنها لم تكن تخبرك من قبل ولن تفعل ذلك الآن رغم أنها فقدت ذاكرتها إلا أن أخلاقها كما هي ... حذرت فاطمة مرارًا وتكرارًا دون جدوى ... قلت لها احترميها وحسب ... لكن صدقني لم أكن أعلم بما يحدث هنا يا بني ... يبدو بأنها كانت توجه لها الكلام في عدم وجودي.
رد زين بهدوء وهو ينثر العطر على يده ويمررها بالقرب من أنف حور: أعلم يا أمي بأنكِ لا تقبلين الظلم ... لكن يبدو بأن حسن الخلق والتواضع يجعل البعض يتطاولون علينا ... فلتكن فرصتها الأخيرة ... أي خطأ بعد الآن مهما كان صغيرًا فأنا لن أسامح ولن أعفو.
بدأت حور تخرج من الظلام وهي تشعر بالدوار وألم في رأسها محاولة استيعاب ما حدث، ليسارع زين يقول مبتسمًا: لا تتحركي حبيبتي ... ارتاحي ... سيصل الطبيب بعد قليل.
استسلمت له وأغمضت عينيها دون اعتراض. بعد انتهاء الطبيب من فحصها قال بأن ضغطها مرتفع ويجب أن ترتاح ولا تتعرض لضغوط نفسية، وإن تكرر الأمر فيجب مراجعة طبيب مختص.
شعر زين بالقلق من ارتفاع ضغط دمها المفاجئ في حين ربتت أمه على كتفه قائلة: الحمد لله أنها بخير ... حور حساسة فقط ... لا شيء يدعو للقلق يا بني.
ابتسم لها ابتسامة باهتة موافقًا وبعد خروجها ونوم حور خرج إلى الشرفة ليتحدث مع طبيب حور يخبره بما حدث، ليقول: سيد زين! تعرضها للتوتر وارتفاع ضغط الدم قد يشكل خطرًا على صحتها ... مشاكلها الصحية كثيرة في الوقت الحالي نظرًا لآثار السم ... لا يجب أن تتعرض لأي توتر فمن المحتمل أن تصاب بجلطة مفاجئة نظرًا لارتفاع ضغط الدم.
مرر زين يده في شعره بغضب وتوتر من كلام الطبيب الذي أكمل حديثه بشأن حالة حور وفي داخله يلعن فاطمة التي جرحتها وأوصلتها لهذا الحال.
...........................................
دخلت ليان مكتب زيد تحمل بعض الملفات التي بحاجة للمراجعة والتوقيع حيث وضعتها بين يديه على المكتب لينظر لها محبطًا وهو يتساءل بضيق: مجددًا؟ هل غادر زين؟
ابتسمت ليان وأومأت له بالإيجاب، فتأفف بغيظ قائلًا: أرجو أن تعود حور بسرعة كي يتوقف عن الهرب.
ضحكت ليان ووضعت يدها على شعرها لتداعبه بلطف قائلة: تحمل قليلًا بعد ... قدر موقفه فزوجته مريضة وبالكاد بدأت تستطيع قضاء حوائجها بنفسها ... لو كنتُ مكانها ماذا كنت ستفعل؟
جذبها زيد بسرعة لتجلس على ساقيه وهو يهتف قائلًا: لا سمح الله ... لا تقولي ذلك ... صدقيني لن أحتمل أن تصابي بالأذى يا حبيبتي.
عانقته ليان بحب ليبادلها هذا العناق بآخر أقوى وبعد لحظات فرق ذلك العناق وابتسم قائلًا: ما رأيك بأن نمضي عطلة نهاية الأسبوع في المزرعة؟ ليس بوسعنا السفر نظرًا لضيق الوقت، ولكنني سأحرص بأن نمضي العطلة كل مرة في مكان مختلف، ما رأيكِ؟
أومأت له ليان موافقة وابتسمت قائلة: كما تشاء ... المهم أن نبقى معًا ... سأدعك تكمل عملك.
همت بالنهوض عن ساقيه، فمنعها قائلًا باستنكار: إلى أين؟ وحقي؟ هل سأعمل دون ثمن؟!
ضحكت ليان قائلة: ألن تنتهي هذه اللعبة؟!
ابتسم زيد بمكر قائلًا: لا .. تعجبني .. أحب أخذ حقي بالكامل أولًا بأول.
استسلمت له واستكانت بين يديه، ليفتح الملف الأول وهي ترمقه بحب وتتذكر جرأته التي تضاعفت كثيرًا منذ أن قاما بإتمام زواجهما خاصة أنه لم يتح لهما الذهاب لشهر عسل أو ما شابه، ولا يعلمان متى سيتمكنان من فعل ذلك حتى بسبب ضغط العمل والظروف الراهنة.
ابتسمت وهي تتذكر  إحضارها لبعض الملفات له في اليوم التالي لإتمام زواجهما حيث كانت تشعر بالخجل الشديد منه، وتريد تركها والهرب منه، ليباغتها بالإمساك بها وممازحتها محاولًا تخفيف خجلها وفي الوقت ذاته أراد استغلال وجودها، ليبتدع هذه الطريقة بأنه سيحصل على قبلة منها لقاء كل ملف، وطول القبلة سيتناسب طرديًا مع طول الملف وصعوبته وها هي تجلس بين يديه بوجنتيها المتوردتين بانتظار انتهائه من الملف الأول.
......................................
حلَّ المساء وكان الجميع مستعدًا لتناول العشاء مع الضيوف الذين على وشك الوصول، ورغم شعور حور بالتعب وعدم رغبتها برؤية أحد إلا أنها نهضت وبدلت ملابسها كي لا تحرج زوجها أمام ضيوفه وهي تدعو الله في نفسها بألا يطيلوا البقاء.
اقترب منها زين ووضع يديه على وجنتيها قائلًا: أعلم بأنكِ متعبة وصدقيني أقدر لكِ موقفكِ هذا كي لا تحرجيني مع صديقي .. لا تحزني يا حوري .. جميعنا معكِ وندعمكِ وفاطمة لا تستحق أن تتعبي أو تمرضي بسببها ... أريدكِ قوية ... لا تصمتي ولا تخجلي ووبخيها إن لزم الأمر ... لن يعترض أحد صدقيني.
قرب وجهه منها ليبتسم قائلًا بعبث: أين تلك القطة الشرسة العنيدة؟ أين تختبئ؟ ألم يكن ما فعلته فاطمة محفزًا لها على الخروج؟
ابتسمت حور قائلة بتعب: إنها امرأة كبيرة يا زين، كيف سأهينها؟
تنهد زين وضمها لصدره قائلًا: الأدب والاحترام لا ينفع مع الجميع يا حوري .. ها قد رأيتِ ما تجرأت على فعله وقوله بسبب تواضعنا واحترامنا لها لسنوات .. تضع نفسها بمكانة أمي وتمارس عليك دور حماتكِ .. أحمدُ الله أن أمي طيبة ولا تلعب دور الحماة هذا.
أمسك بيدها يسندها ويده الأخرى تطوق خصرها متوجهين نحو المصعد وهو ينظر لها بإعجاب قائلًا بحيرة مصطنعة: تبدين جميلة بأي شيء ترتدينه ... إنه فستان عادي، فلمَ تبدين بهذا الجمال؟!
ضحكت حور رغمًا عنها، ثم قالت: سيعلقون علينا لأننا نرتدي ألوانًا متشابهة .. هل كان عليكَ تنسيق ألوان ملابسنا بهذا الشكل؟
رد زين بغرور محبب مؤكدًا: بالطبع .. يجب أن نكون مميزين.
ضحكت حور قائلة: سيقولون بأنني مسيطرة ولا يدرون بأنك أنت من تختار لي ما أرتديه.
رد زين بحب: فليقولوا ما يريدونه .. المهم أننا سعداء.
............................................
- لماذا لم تخبرني بأن صديقك هذا هو زين الدين المصري؟
- وما المشكلة في ذلك يا جنى؟
- المشكلة بأنه زوج كارمن السابق وهي الآن زوجة أخي.
- كنت أعلم بأنكِ ستقولين هذا، لذا لم أخبركِ من يكون صاحب الدعوة من البداية.
- يا معاذ أخشى أن يغضب جاسر ...
- إنه صديقي يا جنى من قبل أن يتزوج أخيك بكارمن .. هل أقاطع صديقي من أجله؟
- أنا لا أقول ذلك، ولكن حضوري ليس لائقًا ... حتى بالنسبة لزين ... لا أدري ... الأمر برمته ليس مريحًا.
- زين لا يكترث للأمر كما أنه يعلم من تكونين ورغم هذا قام بدعوتكِ.
- أدعو الله أن يمر الأمر على خير.
..........................................
تناولوا العشاء معًا في جو لا يخلو من الضحك والمزاح حتى أن حور نسيت تعبها واندمجت بالحديث معهم. استغل زين انشغال الجميع، ثم استأذن هو ومعاذ ليتحدثا حيث أخذه لغرفة المكتب وجلسا متقابلين، ليقول زين: لنبدأ بخطة إعادة عادل إلى هنا.
قطب معاذ حاجبيه متسائلًا: ألم تكن تود الإمساك برجاله الذين هنا اولًا؟
ضم زين شفتيه بغيظ وقال: الشرطة هنا تدخلت بالأمر وبت جزءًا من خطتهم للإيقاع بعادل والمافيا التي يعمل لحسابها رغمًا عني.
وضع معاذ يده على فمه، ثم قال بقلق: ولكن يا زين ...
قاطعه زين قائلًا: أعلم ... وأخبرتهم بمخاوفي، ولكنني سأكون في الظل ... المافيا لن تعلم بأنني جزء من هذه العملية.
هز معاذ رأسه بعدم اقتناع، ليسارع زين قائلًا: لقد رتبنا كل شيء وعدلنا الخطة لا تقلق ... لن يحدث شيء ... كل ما علينا هو تنفيذ الخطة دون أخطاء كي ننتهي من الجميع دفعة واحدة.
أخذ معاذ نفسًا عميقًا وقال: حسنًا، أخبرني ماذا تريدني أن أفعل.
.........................................
مضى الوقت وودعوا معاذ وجنى وأطفالهم الثلاثة الذين ناموا بعد أن نال منهم التعب من لعبهم مع ولدي يزيد. ذهبت أم يزيد إلى غرفتها، وحمل يزيد طفله الثاني الذي نام منذ قليل بعد أن سبقه الأول منذ وقت لا بأس به وبات في غرفته، ثم وجدت حنان الفرصة سانحة لتتحدث مع حور حيث سارعت الخطى نحوها هي وزين وهما متوجهين نحو المصعد، لتقول: حور! مهلًا ... أود الحديث معكِ.
تعابير وجه حنان كانت كافية لجعل زين يخمن بأنها تود الاعتذار عما حدث، لذا نظر لحور متسائلًا: هل تودين مني انتظارك حبيبتي؟
ابتسمت حور قائلة: لا ... اذهب وسأتبعك بعد قليل ... يمكنني تدبر أمري بمفردي.
سارعت حنان موجهة الحديث لزين: لا تقلق عليها ... سأوصلها بنفسي.
ابتسم زين وأومأ لها بالموافقة، ثم صعد الدرج. أجلست حنان حور على أقرب مقعد واعتذرت منها عما بدر منها، لتسارع حور قائلة بأنها لم تخطئ لكي تعتذر، وبأنها محقة فيما قالته فهي ليست طفلة وحنان ليست جليسة لها، ومن واجبها متابعة طفليها الذين يريدان اللهو واللعب لا أن تتقيد بها هي.
ابتسمت حنان بامتنان وأمسكت بيد حور تشكرها على تفهمها، لتقول بمرح: صدقيني أحيانًا أقول بعض الأمور باندفاع ودون تفكير، ولكن ليس بسوء نية.
ابتسمت حور وربتت على يدها قائلة: لا عليكِ فأنا أيضًا عندما أغضب أقول كلامًا بغيضًا وأنساه.
همت حنان بالنهوض لتوصلها، فقالت حور بتردد: كنت أود سؤالك عن شيء.
نظرت لها حنان باهتمام وأشارت لها كي تتحدث، لتردف حور بحرج: أنا ... أقصد منذ الحادث ومرضي ذاك ... عندما عدت لوعيي كان هناك نزيف بسيط ... ومنذ ذلك الوقت حتى الآن لم أحض ... لا يعقل بأنني حامل ... ولكنني لا أفهم ما السبب.
أمسكت حنان بيد حور بكلتا يديها قائلة: أنتما تستعملان مانعًا للحمل وهذا التأخير قد يكون بسبب الأدوية ... لا شيء يدعو للقلق ... اطمئني ... بالنسبة لمانع الحمل أفضل أن تستعملي وسيلة مضمونة أكثر كالحبوب أو ...
هتفت حور مقاطعة: لا أريد حبوبًا ... يكفيني ما لدي من فضلك.
ابتسمت حنان قائلة: حسنًا، أنا سأحل الأمر. لا تقلقي.
أوصلتها حنان حتى باب الجناح وطرقت الباب ففتحه زين، لتقول حنان بمرح: ها قد أتيت لأسلم الأمانة ... تصبحان على خير.
حمل زين حور وأدخلها للجناح قائلًا بتذمر مصطنع: كل هذا حديث مع حنان؟! عمَّ كنتما تتحدثان كل هذا الوقت؟
ضحكت حور قائلة: حديث نساء.
رفع زين حاجبه قائلًا: هكذا إذًا .. حسنًا.
ساعدها بتبديل ملابسها وحملها حتى وضعها على الفراش، لتقول: زين! حنان قالت بأن علينا استعمال وسيلة منع حمل أكثر فعالية ... أخبرتني بأنها ستحل الأمر غدًا، ولكنها لم تخبرني بالتفاصيل ... قلت لها لا أريد حبوبًا ولا أعلم ماذا ستفعل بي.
ضحك زين عندما رآها تقوس شفتيها بإحباط وحيرة، ثم قال: حبيبتي ... إنها طبيبة نسائية ماهرة ... ثقي بها ودعيها تفعل ما يلزم.
................................................
يجلس في أحد الملاهي الليلية يتجرع كأس الخمر خاصته وهو يحاول نسيانها ونسيان كل ما قالته له اليوم، ولكن دون جدوى. يشعر بالغضب منها وفي الوقت ذاته يريد النيل منها؛ فهو لم يحدث وأن انجذب لفتاة بهذه الطريقة ورغب بها لهذه الدرجة. لا يسعه نسيان ملامحها الجميلة البريئة رغم أنه لم يرها سوى لدقائق معدودة.
أتت إحداهن تضع يدها على كتفه وتحدثه بدلال وهي ترتدي ملابس لا تكاد تستر مفاتنها إلا أنه رمقها بانزعاج وازدراء ونهض مغادرًا المكان. قاد سيارته عائدًا لبيته وهو يتساءل بحنق: "ما الذي يحدث لي؟ ما الذي أصابني؟".

عمرُ روحيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن