.......

560 56 9
                                    

تركت القلم ولم يتركني، اعرف ان هناك عند السطر الأخير يكتب المزيد، ولن يتوقف ابدًا عن الكتابة.

خرجت من الغرفة الكبيرة التي احتظنت آخر انفاس امي حواء، عام مر ولا تزال الجدران تتذكر لحظاتها الآخيرة وكانها بالأمس، يومها كنتُ استند اليها وأنا اقف في نهاية الغرفة، اتطلع من بين الرؤوس المنحنية الباكية الى جسدها الساكن للمرة الاخيرة، سقطت عند قدميها لأعانقها، قبلتُ جبينها، أخذت بكفها ومسحت به على وجهي كما فعل أخي الأكبر.. توقف الدمع في مسراه وكأنه لا يعرف وجهته، ترك العين وهطل على القلب يحرقه، ضاق البيت الصغير بأخويّ وزوجتيهما واولادهما فأرتحلا الى كفر الشيخ للمبيت استعدادًا للدفن، قضى ابي الليلة في غرفة امي يرفض ترك جسدها للرحيل، وكنت انا وحدي في الغرفة المجاورة، والتي كانت لأبي وهو بعدُ طفل صغير.

وجدت نفسي امسك بقلم كان لها، وبأوراق خالية، وادون فيها الحكاية كما روتها علينا مرارًا وتكرارًا، حكاية تبدأ ولا تنتهي.

لكنني عجزتُ عن كتابة الفصل الآخير، لم اكن اعرف كيف انهيها.
قلبي يصرخ الآن ينشد السلوى، ذهبت ابحث عنها في احضان ابي، حتمًا انه يجلس الآن قرب البحيرة، فوق صخرة كانت اريكتهما المفضلة لسنين طويلة، كانا يهربان كل حين من اعباء الحياة ويلتجئان اليها، دومًا كانت الصخرة عليهما رحيمة، تستقبلهما كل مرة بالترحاب، وتشدوا لهما طيور النورس الحان الحنين.

لثماني وثلاثين عامًا كانا ينسجان فصول قصتهما، كما قالت لي أمي يومًا، لكل حبيبين اسطورة خاصة، فريدة كبصمات الاصابع، يكتبانها سطرًا بسطر.. بينما البعض يختار التقليد، يعيش على اطلال أساطير غيره يتلبسها قسرًا، فيمضي عمره ولم يذق للحب الحقيقي طعمًا.

لم تخل حكايتهما من شتاءات، لكنهما كانا يتسلحان في مواجهتها برصيد كبير من فصول الصيف، كانت امي تقول ان الزواج الناجح لا يبدأ بالحب، بل ينتهي به.

اشتقتُ الى ابي بعد اسبوع غياب امضيته في زيارة المكان الذي بدأ عنده كل شيء.. ذهبتُ الى هناك برفقة اسرتي الصغيرة عشرات المرات، امضينا فوق جزيرة هيسا وقتًا خارج الزمن، أعاد فيه أبي على مسامعي القصة من جديد، لعشرات المرات اشار الى شجرة الصفصاف الكبيرة الراكعة صوب النيل ببهجة من لاقى صديقًا عزيزًا بعد غياب.. التقيت بصديق ابي العم عبدون، يومها ادركت ان ليس كل اسمر نوبي! قال لي العم عبدون انني اخذتُ من جدي الكبير جرأته، ومن ابي قوته، ومن امي عنادها.. أخبرني ان سُفرة اسم نوبي، وقد كنت اعرف ذلك من امي وابي، لكنه قال ان اصله زُهرة، ثم حرفته اللغة النوبية الى سُفرة.. اما زوجته داريا فدائمًا تُشيعني ببشاشة قائلة:
- إر دولجي.
وعندما سألتها عن معناها قالت:
- انتِ الحب.. فالحُب لا يُنبت الا حبًا.
فأحببتُ وقع كلماتها.

رأيت أبي جالسًا هناك فوق الصخرة، لا يتحرك وكأنه يخشى ان يزعج بحيرته المقدسة الناعسة في وقت القيلولة، منذ خطف الموت أمي اطال المكوث امام البحيرة وفي يديه مصحفه الصغير، لم يعد يذهب الى كفر الشيخ لمتابعة اعماله، تركها كاملة تحت تصرف أخويّ، كثيرًا ما كنت أظن انه يبحث في البحيرة عن طيف امي، لعله يمر من امامه ذات صباح.

أقتربت من الصخرة، كان منحنيًا وكأنه يبحث عن شيء مفقود.. اقتربت منه اكثر، وأكثر فأكثر.. نظرت الى الرمال اولًا، الى موضع نظراته، لم اجد شيئًا، رفعت عيني ببطء الى وجهه، عيناه مفتوحتان لكنهما لا تريان عالمنا هذا، هززته بفزع فمال الى احد جانبيه لا حول له ولا قوة، وبسمة رائقة مثبته فوق ثغره، وكأنه عثر أخيرًا على هذا الشيء المفقود، خرج من حوت الدنيا وظلماتها الى حياة ابدية غُزِلت بخيوط من نور، شددت على كفه، واطلق قلبي صيحة الم شديدة.. ركعت عند قدميه هناك عند شاطئ البحيرة، اتذكر كلماته التي سمعته يهمس بها لأمي عندما قالت له انها تشعر بقرب النهاية:
- الاجساد تبلى والحب لا يموت، بل يُورث من جينات الآباء الى الابناء مثل طول القامة ولون الشعر..
الحب حكاية لا نهاية لها.....

تمت بحمد الله

شكر خاص الى ابن النوبة

الاستاذ/ امين سُليمان كَبَّارة

لأمدادي ببعض الكلمات النوبية التي اضفت على الرواية عبقًا خاصًا.



للكاتبة / منى سلامة.

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now