.......

236 30 0
                                    

تلجلج منطق يونس وأحتار هل يخبر الجد بالحقيقة، ام يعرض عنها اشفاقًا به، وأخيرًا استقر على ان يخبره بها، ففعل في عجالة، بداية من الكهف، مرورًا بالصحراء، وحتى نقطة تفتيش حرس الحدود والمرور بتصريحات مزورة، هتف الجد بجزع:
- هل تخبرني بذلك الآن بعد ان زورت التصاريح وبطاقات الهوية، اين كان عقلك يا يونس.. انتما في خطر شديد.. اخبرني اين انتما الآن وسأرسل من يعاونكما على الاختباء حتى ابحث لتلك المشكلة عن حل مع احد المحامين الكبار.. اياك ان تعود الى كفر الشيخ انتَ وحواء والا القت الشرطة القبض عليكما في الحال.. ولا تستخدم الهاتف، لعلهم يستغلونه في التنصت على المحادثات.. يونس هل تسمعني؟
اطلق زفرة حارة قبل ان يقول:
- نعم يا جدي اسمعك.. لا تقلق علينا.. انا وحواء بخير.. سأفعل ما قلت وسأنتظر مساعدتك.
أخبرهما انهما سينزلان في جزيرة هيسا عند الشيخ انسان، وانهى الاتصال بأسرع مما توقعت حواء، حتى انه لم يسمح لها بمخاطبة الجد، أو الأتصال بأمها.
جذبها الى حيث الطاولة التي غادرها الشيخ إنسان ليتبادل حديثًا بدا وديًا على بُعد خطوات قليلة مع احد معارفه.
تعرف حواء معنى تلك التقطيبة التي نبتت فوق جبين يونس، وزم شفتيه بقوة وحك ذقنه بأنامل مضطربة، وكلها علامات لا تبشر بخير، حثته حواء ليفصح عما حوته تلك المكالمة القصيرة، فقال يونس دون ان يخفي قلقه:
- قال لي جدي اياك ان ترجع، ابق انتَ وحواء بعيدًا عن كفر الشيخ، واحذر من استخدام الهاتف.
سألته بوجه حمل الدهشة كلها:
- لماذا؟
- لان الشرطة تبحث عنا.
غاص قلبها في صدرها، هل اكتشفت الشرطة أمر التصريحات المزورة، بالطبع، كيف كانا من الغباء ان ظنا انها ستمر عليهم مرور الكرام! تملك الخوف من عقلها حتى اعجزه عن التفكير، سألته بلهفة:
- وأمي كيف هي؟
- لا تقلقي، بخير.
- ماذا سنفعل يا يونس؟
- لا اعرف لا حل امامنا سوى انتظار مساعدة جدي.
كان غاضبًا، غاضبًا جدًا، المرة الأولى التي تلتجئ اليه حواء باحثة في جعبته عن حل لورطتها، يكتشف ان جرعته خاليه من وسائل الأنقاذ، حتى هذه المرة لم يستطع ان يكون فارسها.
عاد الشيخ انسان وتلقى الأخبار من يونس الذي اختتم حديثه قائلًا بتوتر بالغ:
- من السهل ان تصل الينا الشرطة عن طريقك يا شيخ.
- لا، لن يحدث ذلك، فعنواني المدون في البطاقة هو عنوان قديم خارج اسوان بأسرها.
ثم اردف:
- إذن فلنستكمل طريقنا الى الجزيرة على بركة الله.
عادوا الى السيارة لكن هذهِ المرة أفسحوا لليأس مكانًا بينهم؛ فحضوا برفقته طوال الطريق.
توقفت السيارة بالقرب من ضفة النيل، المكان تحدوه الصخور وقليل من النباتات التي تنمو بين الشقوق، أجاب الشيخ انسان عن سؤال لم يسأله أحد:
- سننتظر هنا المركب التي ستوصلنا الى هيسا، كما اخبرتكما الجزيرة في وسط النيل، وهذهِ هي الطريقة الوحيدة لبلوغها.
لم يسمعه يونس، إذ تعلقت عيناه وقلبه بالمياه، ترجل من السيارة وأقترب منها وكأنها تناديه: يونس.. يونس.
سمع قلب الحوت نداء المياه فرّق لحاله، وفتح فمه على أتساعه؛ فأبصر يونس عبره اللون الازرق، اشتاق للأقتراب أكثر، وكأن عليا كبرى أجبرت الحوت في هذهِ اللحظة بالذات على ان يلفظ يونس على اعتاب المياه الرقراقة، هناك عند ضفة النيل، دنا منها رويدًا رويدًا، وكأنه يلاقي حبيبًا بعد فراق، هل كان هذا شعور نبي الله عندما لفظه الحوت من قلب الظلمات؟ كمن يولد من جديد، من قلب الظلمات نأتي واليها ننتهي، وما بينها نتقلب بين نور وظلام، فكأن يونس الآن يرى النور الذي حُرم منه لثماني سنوات، منذ ان مات أبوه، وفارق البحيرة.. حتى اوشك عل الظن أنه لن يذوق للحياة طعمًا من جديد.
بلهفة المشتاق اطال اللقاء مع النيل، حتى نسي حواء والشيخ إنسان، والجد، وشرطة تسعى خلفه لتقيده بجرم هو منه براء.. عندما لفظ الحوت نبي الله كان قد ادرك ومنذ وقت طويل انه اخطأ حين يئس من قومه ان يؤمنوا بالله، ورحل عنهم مغاضبًا قبل ان يأذن الله له، ركهم وراءه لا يؤمن فيهم أحد، وركب السفينة مبتعدًا، لكن الله امر حوت البحر بأبتلاعه في بطنه، وعندما لفظه الحوت بأمر الله وعاد الى قومه وجدهم وقد آمنوا جميعًا بالله الواحد القهار، فأدرك ان الغضب يورد المهالك..
لكن يونس اليوم لا يزال يجهل خطأه المميت الذي جعل حوت الدنيا يبتلعه في بطنه لسنوات!
دنت منه حواء بقلق، ترددت مخافة ان تثير بسؤالها بركانًا غير خامل، ثم قالت أخيرًا:
- هل أنتَ بخير؟
لو تعرف كم هو بخير الآن لتمنت أن يصيبها ما أصابه، نظر اليها يزيح أستار القلق عن وجهها ببسمة رائقة سرقت من النيل بهائه، هز رأسه قائلًا:
- لا تقلقي، لم أجن بعد.
طبعت ابتسامه فوق شفتيها وقالت:
- يجب ان اقلق، لن يكون لطيفًا ان عدت بك الى الجد سلطان بنصف عقل، سيتهمني بأنني من سرق سرق النصف الآخر.
على ذكِر الجد، والعودة التي صارت حُلمًا تجعد جبينه، لكنه حاول ان ينسج فوق وجهه قناعًا غير محكم، لكنه يكفي ليطمئنها، ثم قال:
- لا تقلقي، سنعود قريبًا.
فاومأت برأسها تُصدق على كذبته، وتنسج فوق وجهها قناعًا مماثلًا لتطمئنه.
امتدت يد يونس عابثة بمياه النيل المتطايرة حول المركب، يبحر به شاب نوبي اسمه تمّام، يحمل الود فوق أحد كتفيه، والثرثرة فوق الآخر، بالود والثرثرة وموتور صغير استطاع المركب ان يفرق بين ذرات المياه حتى وصل الى مرساته عند مقدمة هيسا.
اول ما وقعت عليه انظار حواء قطة تموء، احتجزت بين صخور متراكمة على حافة الجزيرة، تواصلت معها حواء بعينيها لبعض الوقت، لم يقطع مجال ابصارها سوى يد يونس الممتدة ليعاونها على مغادرة المركب، ما ان وقفت فوق ارض الجزيرة حتى اجتاحها دوار بسيط اثر رلتها الاولى عبر النيل، احس بها يونس فترك كفها بين راحتيه لبعض الوقت، حتى اومأت برأسها تقول:
- أنا بخير.
كان الشيخ انسان يسير بخطوات متعجلة، بدا كأنه استعاد نشاطه بالكامل، يحق له ذلك فبعد قليل سيكون في بيته، محاطًا بكل شيء يألفه، أما هما فلا يزالان غريبين فوق أرض غريبة، ولا يعرفان متى ستنتهي اللعنة ويتمكنان من العودة الى بيتهما ثانية.
عند المرسى مروا ببيت نوبي أخضر اللون، الا ان بوابته غير عادية! تزينت من الجانبين بأربع جماجم كبيرة، لم تستطع حواء بدقة تحديد هوية الكائن الذي حمل فوق جسده هذه الجمجمة يومًا، لكنها استطاعت ان تشعر بالنفور من شكلها.
بيت الشيخ انسان يقع فوق ربوة عالية، أخبرهما انه اعلى بيت في الجزيرة، من بعيد طافت عيناهما فوق جدران البيت المطلية بالازرق الزاهي، والأبيض الناصع، بوابته برتقالية اللون ترسل بأشارات البهجة في الهواء؛ فتلتقطها قلوب الزائرين في الحال، صعدا منحدرًا طويلًا حتى وصلا الى البوابة البرتقالية يلهثان تعبًا.
ترك الشيخ على الارض متاعًا قليلًا احضره معه من المنجم، وظل يحمل بين يديه مغلفًا كان قد توقف بالسيارة ليحضره من احد معارفه الذين مر بهم في الطريق، همّ بالتقاط المفتاح من جيبه، في اللحظة نفسها انفتحت البوابة البرتقالية ليظهر من خلفها امرأة ترتدي جلبابًا داكنًا لم تميز حواء لونه في ضوء الشمس الساطع الذي كاد يغشي عينيها، تعلقت المرأة بعنق الشيخ وهي تبكي برقة، تقول كلمات نوبية، لم تميز منها حواء سوى كلمة واحدة كررتها المرأة مرتين متتابعتين ( ايكا مُشكري ).... ( اوحشتني ).
كانت المرأة تتحدث بلغة تطرق مسامع حواء للرة الاولى، الا ان الكلمات الحميمية يفضحها الصوت الذي يغلفها.. كلمات الحب لا تستقر دافئة في قلب الحبيب الا اذا استمدت من صوت المحب حرارته.
احتوى الشيخ اندفاع المرأة وهمس لها بكلمات كانت بعيدة عن مرمى آذان المتطفلين، ثم انحنى ليمسك المغلف ويتركه بين يديها، قائلًا:
- احضرت لكِ ما طلبته مني قبل الرحيل.
فضّت المرأة الستينية بأبتهاج الاطفال، تابعتها حواء في فضول، رفع يونس حاجبيه في دهشة عندما قالت المرأة كلمات سريعة باللغة النوبية، ثم تضيف والسعادة تشع من وجهها:
- أوراق شجر الموز، وقطع صغيرة من جلود الجمال.. هذهِ أجمل هدية حصلت عليها!
ثم انحنت لتقبل كف الشيخ، وبالكف الآخر مسح الشيخ فوق رأسها بحنان كبير، تنحنح يونس وقد ظن ان الشيخ نسيهما تمامًا في حضرة المرأة التي صب عليها وافر اهتمامه.
رفعت المرأة اليهما وجهًا يحمل رائحة بكاء طازجة، واتسعت ابتسامتها الدافئة وهي تنقل أنظارها بين يونس وحواء.. رحبت بهما بحفاوة أذهبت الكثير مما علق بصدريهما من غبار السفر.
فتحت البوابة البرتقالية على مصراعيها فولجوا الى مندرة البيت المزدانة بلوحات جدارية للنيل والمراكب الشراعية وللرمال والجبال والكهوف الصخرية..
اصفر وازرق وابيض واسود ولون الشمس الأحمر الهارب من فتحات النوافذ، ملأت الألوان البيت بالبهجة شاركهم فيها الاصفر والاخضر المطلية بهما الارض الاسمنتية، تشكل مربعات شطرنجية.. وكأن قوس قزح زار البيت مرة وترك هداياه قبل الرحيل.
المرأة الستينية زوجت الشيخ انسان، كانت مفاجأة كبيرة لكليهما، وقد ظنا ان الشيخ لا زوجة له ولا اولاد، كانا محقين بخصوص الاولاد، اما زواجه فلا يزال أساسه متينًا عكس الروابط المهترئة التي تسود اغلب العلاقات الشبابية اليوم! زوجته طويلة سمراء، متوسطة القوام، خفيفة القوام، لينة الملامح، تتسع ابتسامتها لتشمل عينيها، وكأنها النسخة الانثوية عن الشيخ إنسان!
سمعت حواء في مكان ما، ان المتحابين يتشبّه أحدهما بالآخر بمرور الوقت، حتى يصيران كيانًا واحدًة بجنسين مختلفين.
وعندما تطلعت الى وجه يونس رأت فيه اختلافًا كبيرًا عنها.. فأمتلأ جوفها بمرارة لم يفلح البلح النوبي الذي قدمته لهم السيدة ( ملوك ) في تبديدها.
البلح كان فاتحًا للشهية، اما الغداء فكان محمولًا فوق طبلية كبيرة توسطت الممر الموازي للبوابة البرتقالية، والذي يستر عنه الشمس سقف من الخوص، سقف نوبي اخبرتهم السيدة ملوك انها صنعته خصيصًا من اجلهم، دجاج مقلي و (اناجر) فتة يتصاعد منها البخار، وطبق كبير يحوي الإتر الحريفة بالشطة الحمراء، ظنته حواء في بادئ الأمر صحنًا من الملوخية، وكان المشروب البارد الذي خفف من آثار حرارة الشمس دلوًا كبيرًا من الأبريه، عندما استفسرت حواء عن مكونات الشراب اللاذع، أخبرتها السيدة ملوك وهي تفترش وسادات الأرض بجوارها في الممر:
- (الأبريه) يا ابنتي شراب نوبي، كسرات من دقيق الذرة المخمر، منقوعة في ماء بارد كسكر وعصير الليمون.
- اطفأ الشراب البارد ظمأ حواء حتى انساها عطش ليالي ونهارات الصحراء، تذكرت وقتها ما اخبر به رب العزة عن الجنة ونعيمها، من يغمس فيها غمسة واحدة ينسى كل شقاء الدنيا وعذاباتها والآمها وكأنه لم يعشها قط.. فكانت حواء كمن غُمس في جنة النوبة مرة، فنسي ما سبقها من عذاب الف مرة.
تبدل ايضًا مزاج يونس وهو يتطلع الى النيل المار بجوار بيت الشيخ، يفكر انه في المكان الذي يجب ان يكون فيه، تلاقت عيناه بنظرات حواء، فأبتسم لها، وبادلته البسمة بأجمل منها.. دنا منها في معزل عن مراقبة الآخرين، سألها:
- هل انتِ بخير؟
خفق قلب حواء بنبضات متضاربة؛ فأندفعت الدماء في عروقها كموج البحر، تتخبط بين مد وجزر، وكأنه همس في أذنها بألف كلمة حب، بل وكأنه سرق من دفاتر الأشعار وقلوب العشاق كلمات سرية، واهداها لها وحدها! تعجبت من نفسها كيف لسؤال بسيط كهذا ان يمس قلبها بهذهِ النسمات المنعشة، ثم فطنت الى ان الكلمة لا تأتي بأثرها الا لو اتحد المكان مع الزمان والحال، وصنعوا منها نسيجًا فريدًا، كما كانت الشمس تنسج خيوطها الذهبية في خيوطها الذهبية في حكاية الشيخ انسان.
المكان ربوة عالية تطل على مجرى للنيل الرائق، والزمان فوق الجزيرة يسير بقوانين مختلفة عن العالم بأسره، والحال بين خوف ورجاء، رغبة ورهبة، والكثير من النبضات غير المفهومة.. انقطع سحر الكلمات سريعًا، ولم يبق من آثارها سوى ذكرى وامنية، ان يعود السحر ثانية، وان ينعمان معه بحياة ابدية.

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now