.......

289 30 0
                                    

كاد ان يستغرق يونس في نوم عميق فوق فراش صغير في حجرة الشيخ، أخبرهم ان اسمه العنجريب، سرير نوبي قديم يصنع من جذوع الشجر لكنه انتبه الى تفصيلة صغيرة طفقت تلح على رأسه كذبابة لزجة، الحجرة تحتوي ثلاثة أسِرّة، لا سريرًا واحدًا!
الم يقل الشيخ انسان انه يحرس المنجم وحده، لمن الفراشان الآخران إذن؟
سحق بكفة ذبابة الافكار التي تحول بينه وبين عالم الأحلام، ووعد نفسه ان يبحث في هذا الأمر في الصباح.
وضعت حواء ستارًا حائلًا بين فراشها وفراش الرجلين، بعدما أفصحا للشيخ عن طبيعة علاقة تجمعهما، لا يزال صوت الشيخ حاضرًا في رأسها وهو يقول:
- الحب يبدأ دومًا بفصل الربيع، ربيع البدايات، وإذا مات بمباركة الطرفين يبدأ عندها ربيع النهايات!
وبهجة الربيع زائفة كلؤلؤة لم تخرج من رحم محارة.
أخذت تستعيد تفاصيل كلماته واحدة تلو الأخرى، وحكايته مرة تلو الأخرى، حتى نجح النوم في الضغط على زِر أيقاف الشريط السينمائي.
ساقت رياح الصباح وعودًا كثيرة صدقتها حواء، وَقرّت بعا عينًا، قدم لها الشيخ انسان رقائق الخبز البلدي، وأخبرها ان اسمه باللغة النوبية المصرية الشدّة ثم تبع ذلك بقوله:
- أما باللغة النوبية السودانية فيسمى الكِسرة.
سألت الشيخ بفضول عن الفرق بين اللغة النوبية المصرية، وأختها السودانية، قال الشيخ:
- النوبيون في جنوب مصر ينقسمون الى ثلاثة أصول؛ كنوز، وفاديجة، وعرب.. اما في شمال السودان فهم دناقلة، ومحس، وسكوت، وحلفاويين.. ومن الأخطاء الشائعة يا بُنيتي تقسيم اللغة النوبية الى ماتوكي وفاديجة.. والصحيح ان تُقسم الى نوبيين وأوشكر.. لأن الماتوكي والفاديجة أسماء لبعض فئات المجتمع النوبي، وليست أسماء للغة نفسها.. أما نوبين فهي اللغة التي يتحدث بها الفاديجة والحلفاويون والسكوت والمحس.. وأوشكر هي اللغة التي يتحدث بها الماتوكية والدناقلة.
أقترب النهار من الظهيرة ولم يستيقظ يونس بعد، قدّم العنجريب لجسده راحة أربكت ساعته البيولوجية.
اتاح ذلك لحواء فرصة ملازمة الشيخ اثناء تفقده للمنجم، زادت رقعة الحديث بينهما لتشمل حياتها الخاصة، سألتها بأسلوب مباشر عن سبب أنفصالهما، رغم المرارة التي صعدت من أحشائها الى جوفها، فانها وجدت في نفسها المقدرة على الحديث، قالت وهي تمرر اصابع كفها الأيمن على الجدار الصخري أثناء سيرها بجوار الشيخ، كما كانت تفعل في المرات القليلة التي سارت فيها بجوار ابيها في الطرقات:
- كان قرارًا مشتركًا.
- عام واحد لا يبدو لي وقتًا كافيًا لقرار كهذا، إلا ان كان في الرجل صفات الدياثة، او في المرأة صفات الخسة، ورغم معرفتي بكما التي لا تتعدى بضع ساعات، فأنني لم أرَ في أيكما ملمحًا من هذهِ الرذائل.
- هو رجل غامض يعيش في ظُلمات كهف مهجور، ويراني إمرأة تحتاج الى دليل إرشادي للتعامل معها.. هذا سبب كافٍ لأستحالة العشرة بيننا، اليس كذلك؟
- دعك من كلام الأدباء، وتنظير الشعراء، هذهِ مفردات يتعاطاها ارباب القلم لمداعبة الوجدان، وإثارة العواطف والخيالات.. لكن الحقيقة ان لا الرجل غامض، ولا المرأة صندوق مُغلق من الأسرار، كل ما هنالك ان أحدهما يتكاسل عن بذل الجهد في فهم الآخر، وتلبية احتياجاته النفسية، هذا كل شيء!
اُعجبت حواء بتلقائية الشيخ في الحديث، تتضافر كلماتهِ بالثقة والإخلاص، وكأنه خبر الحياة بكل ما فيها من تجارب، ولمس مافيها من خبايا.
- قلت لنا أمس في السيارة ان علاقتنا في فصل الشتاء، ثم حكيت قصة الحُب الذي خرج من باطن الأرض وحُكم عليه بالمرور عبر فصول اربعة، هلا تشرح لي المزيد؟
اتسعت ابتسامة الشيخ وهو يلقي نحوها بنظراتهِ قائلًا:
- أتعلمين، لو عندي بنت لتمنيتُ ان تملك فضولك.
بادلته البسمة بمثلها وقالت:
- يقولون ان الفضول صفة ذميمة لو تحلّت بها إمرأة.
اتسمت قسمات الشيخ بالجدية ثم قال:
- هؤلاء الذين يقولون هذا الهراء اجهل من قملة.
أطلقت ضحكة صغيرة، تضاعف صداها في الممر الطويل، ثم أردف:
- الحب يا ابنتي في زماننا هذا اصبح سلعة، شانه شأن الهواتف النقالة، والعطور، والعاب الأطفال!
سألته مستنكرة:
- كيف ذلك؟
- بعض الهواتف النقالة باهظة الاثمان رغم انها رديئة الخامات، متوسطة الأمكانيات، ورغم ذلك يتهافت الناس على شرائها، لماذا؟ لأن صانعيها نجحوا في ان يصنعوا لها علامة تجارية، أسمًا يتسرب الى احلام الجميع، صنمًا يتعبدون له بالأموال.. وكذلك الحب، حولوه الى صنم مزخرف يخضع لأوهام البشر، جسدوه بحروف وكلمات، وحصروه في أفعال وردود افعال، ثم صدروه للناس من خلال الشاشات؛ فأصبح الناس أسرى لوثنية الحب الرومانسي بكل طقوسه التي علمتهم إياها الأفلام، وعندما يعودون الى حياتهم الواقعية بعد انتهاء الفلم، ويجدون ان شريك الحياة لا يأتي بطقوس الحب الرومانسي كما تلقنوها، يفتعلون الخلافات، ويصابون بإحباط عظيم، من شانه ان يحيل الحياة كلها الى شتاء لا ينتهي.
ثم اردف:
- جودة العلاقات لا تحدد ببضعة افعال يراها الناس فيؤمنون بقوتها، الحب لا يجب ان يكون كتابًا يتهافت القراء على شرائه فقط لأنهم يرون اسم كاتبهم المفضل يزين غلافه، اسم الكاتب عندهم دليل جودة، ويتعاملون بالحب بالطريقة نفسها؛ فتكون بضعة أفعال مدروسة، او كلمات مدروسة، او كلمات محفوظة هي دليل جودة علاقة ما تجمع بين رجل وإمرأة!
الناس يصيبهم الهوس امام صنم الحب المزخرف، يرغبون فيه اكثر من أي شيء آخر في الحياة، لكنهم عاجزون عن فعل الحب نفسه.
سالته بلهفة تنتظر الجواب:
- لماذا هم عاجزون؟
لانهم لم يعد بأستطاعتهم بذل الجهد في سبيل الحب، فالحب يقدم لهم من خلال الشاشات كالوجبات الجاهزة، قليلة الفائدة، كثيرة الضرر.. يتمنون لو يحصلون عليه بضغطة زر كسهولة حصولهم على وجبتهم المفضلة!
يريدون تقليد صنم الحب الجاهز، لا التنقيب عن الحب الحقيقي المدفون في الأعماق.. لا يفهمون ان بين كل رجل وإمرأة رابطًا شديد الخصوصية لا يشبه اي روابط أخرى، انه كبصمة الأصبع، مميزة، فريدة، ولا تشبه غيرها.. والمظاهر التي تعلن وجود  الحب بين غيرهما لا تتوافق مع طبيعتهما.. النصائح المعلبة لتحسين العلاقات بين المحبين يجب أن تؤخذ بشكل استرشادي فحسب، ولا تطبق حرفيًا مثل كتالوج غسالة اطباق! الحب ليس دستورًا لا تجوز مخالفته، الحب حرية.. ومتى تقيدت هذهِ العلاقة المقدسة بدساتير كتبها غريب لا ينتمي الى احد طرفي العلاقة؛ حلّ شتاء طويل لا نهاية له.
كانا في طريق العودة الى غرفة الشيخ بعد انتهاء الجولة التفقدية حين قال:
- أتحبين الشتاء؟
- بل أعشقه، انه فصلي المفضل.
- شتاء الحب عاصف، يوقظ الجنون بهزيم رعده، ويخدر العقل بصقيعه.. الشتاء في الحب حاسم، طريق شاق، في نهايته اما الحياة او الموت.. الشتاء في الحب صادم، تتخبط فيه السُحب بعضها ببعض؛ فتهتز السماء.. لكن هكذا يُخلق المطر.
ثم اردف:
- الحب يبدأ عادة بالربيع، فصل الأنبهار، كل شيء فيه جميل، كل شيء فيه مبهج تكسوه الالون، يعزف لحن الأنسجام، ويطرح خلفه كل نغمة شاذة منفردة، لكنه مهما طال فإنه لا يدوم، لابد ان يأتي الشتاء، ويصطدم طرفا الحب بما غفل عن اعينهما من تناقض وأختلافات، فصل شاق طويل، اذا نجح الطرفان في تجاوزه فعندئذ سيجدان الخريف في انتظارهما.. وفي الخريف تفلت أشجار العلاقات الأوراق اليابسة الجافة، وتستعد لأستقبال الطرح الجديد.
وقعت كلماته على قلبها فأحدثت بداخلها صدى رهيبًا، ظلت ذبذباته تتردد بداخلها حتى اردف باسمًا:
- انا أحب الخريف.
انتزعت نفسها من افكارها المتشعبة؛ سألته:
- لماذا الخريف؟
- لأنه فصل التكيُّف الذي يهيئ الدرب لمجيء الصيف، آخر فصول الحب.
قالت حواء بدهشة وقد تذكرت شيئًا:
- لكن الصيف بعده خريف ثم شتاء فربيع.. لا العكس! كانا قد وصلا الى اعتاب غرفته بالمنجم، توقف الشيخ ومنحتها قسماته الودود مسحة من السكينة، طافت بعقلها، ثم استقرت بقلبها، قال:
- الحب يا ابنتي طفل مشاغب، احتال على الفصول الأربعة وقلبها رأسًا على عقب، يبدأ بالربيع وينتهي بالصيف!
كان يونس في أنتظارهما، ينقل بصره من احدهما الى الأخر، كلمات الشيخ تدور في عقل حواء تكشف لها سماوات جديدة لم تعرفها من قبل، وتشعل شغفها لمعرفة المزيد عن خبايا الحب كما يعرفه الشيخ إنسان.
ركب الشيخ سيارته برفقة يونس، يتخذان من قرية وادي العلّاقي وجهة لهما، بغية أحضار المزيد من المؤن، بالأضافة الى اقتناص الحل الوحيد لمشكلتهما كما اخبرهما الشيخ انسان:
- لا يمكنكما مغادرة وادي العلّاقي بغير تصريح يثبت أنكما دخلتما بطريقة مشروعة، لن تفلتا من نقاط التفتيش على الطريق إلا بتصريحات مزورة، لا ارى حلًا سواه.
بقلق كبير سأله يونس:
- وكيف سنحصل على تلك التصريحات المزورة؟
- سأخبرك، لكن يجب ان نتحرك الآن.
رافقه يونس والقلق ينهش صدره، فظّلت حواء البقاء في المنجم، وانتهاز فرصة غياب الرجلين للأغتسال، بعدما كادت رائحتها تقطع الحدود المصرية الى بقية البلدان!
بعد سير طويل، توقفت السيارة أخيرًا في قرية وادي العلّاقي، فقيرة الخدمات، تعجّب يونس، كيف يتمكن أهلها من العيش وسط هذهِ الطبيعة القاسية، تبدو له كفر الشيخ بجوارها قطعة من الجنة.
انعش روحه رؤية بشر آخرين، بعدما كاد يظن ان العالم الذي يعرفه انهار ولم يبق منه سواه، وحواء، والشيخ إنسان، وغريب الصحراء.
كان في حاجة شديدة ليشعر بالماء فوق جسده لذلك عندما اتاح له الشيخ هذهِ الفرصة شعر نحوه بالأمتنان، حيث دعاه الى بيت شاب نوبي تربطه به علاقة متينة، عانقه الشيخ ما إن رآه وقال له:
- إر مَسكاجمِي؟.. ( أنت بخير؟ ).
فاجاب الشاب النوبي بوجه طليق:
- الحمدلله.
قدّمه الشيخ بفخر أبوي إلى يونس بقوله:
- عبدون، خيرة شباب قبيلة العَبابدة.
صاح الشاب بترحاب يمد الى يونس كفه مصافحًا:
- كيف الحال؟
- الحمدلله.
بدا لعيني يونس شابًا ثلاثينيًا، يُعامل الشيخ إنسان معاملة الأب، ويعامله الشيخ بدوره كإبن له.. لبّى يونس فورًا الدعوة الى الأغتسال، أنتعش جسده كما لو كان سمكة أفلتت نفسها من شباك صيّاد عنيد، عائدة مرة أخرى الى المياه.
اشد ما أثار دهشة يونس في حديث طويل تبادله مع عبدون، معرفته بأن الوادي نشأ كنهر جاف ينبع من تلال البحر الأحمر، ومنذ ان أمتلأت بحيرة ناصر بالمياه بعد بناء السد العالي دخلت المياه الى الوادي، وأصبح جزءًا من البحيرة، ثم بعد ذلك انحسرت المياه عن جزء كبير من الوادي مخلفة وراءها أحجار الزينة، ومواد البناء، والمعادن، والصخور النارية والبركانية والمتحولة والرسوبية.
قدّم لهما عبدون سطلًا من اللبن فوق أبراش خوصيّة ملّونة تفترش الأرض، في فناء بيته الحجري المكون من غرفة واحدة، ودورة مياه صغيرة.
كان فناءً صغيرًا، نصب فيه عبدون خيمة مُرفقة ببيته لأستخدامها في أستقبال زواره، وأتراب أسماره.
عبّر يونس بوضوح صريح عن صدمته لفقر خدمات القرية، لاح حزن جلي في عيني عبدون، ثم قال موجهًا حديثه الى يونس:
- أتعرف يا يونس، منذ عام الف وتسعمائة وتسعة وثمانين صدر قرار بأعتبار وادي العلّاقي ثالث أكبر محمية طبيعية في مصر، فالمحمية تضم خمسة عشر نوعًا من الثديات، وثلاثمائة فصيلة من الطيور المقيمة والمهاجرة، وينمو فيها أثنان وتسعون من النباتات الطبيعية دائمة الخُضرة.. تنقسم المحمية الى ثلاثة أقسام، منطقة القلب للبحوث العلمية، ومنطقة إدارة بيئية، ومنطقة أنتقال وهي التي نعيش فيها الآن نحن قبيلة العَبابدة مع أبناء قبيلة البشارية جنبًا الى جنب.
بدا حديث عبدون أكاديميًا، كما لو كان مُحاضرًا بالجامعة يوجه حديثه الى طلابه، ورغم ذلك أثارت هذهِ المعلومات في نفس يونس العَجب! كيف يحوي الوادي هذهِ الكنوز من التنوع البيولوجي، والذهب، والمعادن، بينما يعيش أهله بهذهِ الخدمات البدائية؟ كيف لم يتم حتى الآن أستغلال هذهِ الموارد، والأستفادة مما تجود به هذهِ الأرض من خيرات، بتنظيم أستخراج ما بها من معادن نفيسة، والأهتمام بسياحة السفاري، وأستغلال إمكانيات الوادي لجذب السياح؟!
شرب يونس من سطل اللبن وهو يتفحص عبدون بدقة كما اعتاد على ان يفعل مع سمكة جديدة يراها للمرة الأولى، خَلُص الى انه شاب سَمِح الوجه، فيه لون طمي النيل يوم فيضانه، وجه لامع مثل الأبنوس، يطل منه صفان من الأسنان اللؤلؤية، يرتدي أسمالًا تميز النوبي عن غيره، جلباب أبيض، صديري مزركش، وشملة بيضاء واسعة تطوق رأسه، ينسدل طرفها على كتفهِ الأيمن.
ظنه يونس في بادئ الأمر غير متعلم، لكنه تبادل بسمة مع الشيخ إنسان تشي بأنه أعتاد على ظن الآخرين فيه على هذا النحو، كونه ينتمي الى هذهِ المنطقة منعدمة الخدمات، وجه حديثه الى يونس قائلًا:
- أرتحلت الى الشمال من أجل الدراسة، ومنذ عدة سنوات أعمل في وحدة الدراسات البيئية بجامعة جنوب الوادي، ندرس المياه الجوفية في وادي العلّاقي ونحاول وضع خطط لمشروعات تنموية.
ثم أردف بحماس شغف به يونس:
- المحمية من أفضل الأماكن التي يمكن أستغلالها لتحتل مكانة بارزة على خريطة السياحة العالمية، وتدر للدولة دخلًا كبيرًا.. فقط تحتاج الأهتمام والدعم، وجهود مخلصة تعمل من اجل مصالح بلادنا.
بدا له ان عبدون من المتحمسين القادرين على أصابة محدثيهم بعدوى الحماسة، يعرفهم جيدًا لأنه أعتاد على ان يكون واحدًا منهم، عند حديثه عن بحيرته المقدسة.. خلال وقت قصير شعر يونس وكأن قضية المحمية هي قضيته الشخصية، سلّم اذان قلبه الى عبدون وهو يتحدث عن مناجم الذهب قائلًا:
- إذا سألتني الآن عن ما قدمته التكنولوجيا الحديثة في مجال أستخلاص الذهب، فأصدمك بالجواب، لا شيء، فأغلب المناجم الشهيرة بالعالم لا تزال تؤثِر العمل بطرق تقليدية بائدة، أما عندنا، فهل تتصور أن أقدم خريطة جيولوجية لمنجم الذهب عرفها التاريخ كانت من وحي الهام المصري القديم؟ رسمها على ورق البردي، ومحفوظة الآن في متحف تورين بإيطاليا، وجميع هذهِ المواقع التي تتمركز في وادي العلّاقي متوقفة عن العمل تقريبًا! الشيء المحزن ان جميع مناجم الذهب التي  أكتشفت في العصر الفرعوني لم يتزايد عددها بمنجم واحد حتى الآن..
إذا سألتني هل كان فراعين مصر اكثر منا علمًا؟ فسأجيبك أسفًا، نعم!
مر بيونس خاطر توقف عنده طويلًا، لعل هذهِ المنطقة معروفة بأنها بلاد الذهب، لكن الذهب لا يتمركز في المناجم، وتحت الأرض، بل في قلوب أبنائها كذلك.. وقع في نفسه انه اذا شق صدر عبدون الآن لأخرج منه قلبًا ذهبيًا نابضًا.
- وماذا تفعل هنا الآن؟ لماذا لا تمارس عملك في المحمية؟
- كل فترة أمر على ناسي هنا في القرية، فالفرع الأصيل لا ينسى يومًا فضل جذع الشجرة الذي يحمله، ولا الأرض التي تضرب فيها بجذورها..
ثم انني أعد الترتيبات من اجل عُرسي.
- مُبارك.
- عُقبالك.
قبل ان يجيب قاطعهما الشيخ إنسان قائلًا وهو يلمز كتف يونس:
- سبقك بها عُكاشة.
ضاق صدر يونس بكلمات الشيخ، كم مرة عليه ان يذكره انه وحواء مُطلقان.. بدا له ان الشيخ يتناسى هذا متعمدًا.
قال الشيخ إنسان متفكهًا:
- وادي العلّاقي كوادي الزواج، كلاهما يحوي الكثير من الكنوز التي تحتاج الى بذل جهد حقيقي للأنتفاع بها!
ابتسم يونس ساخرًا، او لعلمه متألمً.. أثناء حديثه الطويل مع عبدون لا حظ ان الشيخ تركهما للتحدث مع أحد الرجال، وبعد ان انتهى الحديث عاد الرجل يحمل بيديه غرضًا ملفوفًا في قطعة قماش، دسه في يد الشيخ انسان بعناية شديدة كما لو كان يمنحه خريطة لأكتشاف كنز فرعوني بتول لم يُكتشف من قبل..
ما ان اعلن الشيخ موعد الرحيل حتى مال يونس نحوه يهمس له:
- والتصاريح؟
هز رأسه قائلًا وهو يربت على جيب جلبابه:
- حصلت عليها، اطمئن.
سكن قلب يونس قليلًا، كان وداعه لعبدون حميميًا، وعندما شيعه عبدون بتحيته النوبية قائلًا:
- أفيولوجو.
عرف منه انها تعني مع السلامة وان الرد يكون ب هيرلوجو، اي في الخير، فصافحه يونس هاتفًا بها، إذ يعلم ان الأنسان مهما تعلم من لغات تظل اللغة الأقرب الى قلبه هي لغته الأم.

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now