.......

405 35 0
                                    

دس يونس المفتاح في باب بيته الفارغ إلا من ظلام يربض متربصًا به، أغلق الباب من خلفه دون أن يهتم بأضاءة المصباح، بحُكم العادة، وعلى ضوء القمر المتسلل من نافذة لم تهتم حواء بأغلاقها؛ كان يعرف طريقه إلى مقعد وثير يستدبر وجه القمر.
أصطدم بكومة من الأغراض في منتصف الردهة، توقف عندها يغالب غضبًا متصاعدًا، لم ينحنِ ليلتقط أشلاء هداياه، قذفها بقدمه اليمنى مرتين بكل قوته، فتناثرت لتصتدم بالأرض والسقف والجدران..
أراح جسده فوق المقعد الوثير، غالب خوفه من الظلام بأن تسلى بلعبة عقلية، ألقى بسنارة وهمسة في قلب الظلام وأنتظر بصبر صياد ماهر، ساعة إلا بعض منها حتى علق الصيد في الخطّاف، نظر إلى نهاية الخيط، فأذ به قد أصطاد (الخوف)، خوف من الوحدة لطاما أنقض على روحه يسحقها، أتى بخوفه وشقه بسيف الغضب نصفين، ثم شق كل نصف إلى نصفين، وظل يجهز بسيفه فوق كل قطعة من الخوف حتى تفتت وصار كالعجين، رسم فوق وجهه أبتسامة الظافر، إذ تاهت معالم صيده، وأصبح قلب الظلام فارغًا.
دنا من حوض مائي في أحد الأركان يحتضن سمكاته الأثنتى عشرة، بعدد أشهر زواجه المنحور، أضاء مصباحًا صغيرًا بقرب الحوض المائي، فقط ليكتشف أن سمكاته نقصت أثنتين، وليس أي أثنتين، محبوبتاه (شغف) و (شجاعة) تطفوان ساكنتين عند السطح، تضعان البطن حيث يجب أن يكون الظهر؛ قفز تساؤل إلى رأسه، هل أختلف وضعهما في الحوض بسبب الموت، أم أن الموت كان عقابهما لأنهما غيرتا من وضعهما؟
هل ينتظره مصير مماثل لأنه غير من وضعه؟!
حمل (شغف) و (شجاعة) في باطن كفه، ملّس فوق قشورهما بأصابعه، أخذهما إلى الحديقة الخلقية للبناية، حفر لهما مكانًا بجوار شجرة ضخمة اعتادت على أن تكون شاهدًا لقبور سمكاته، ثم تركهما هناك وحال التراب بينه وبينهما، عاد إلى بيته في الطابق العاشر بعدد سمكاته المتبقيات في الحوض.
اقترب من سمكاته ثانية، فتوهجت كشعلة نار تسبح في الحوض الزجاجي، (سمك النار)، وهل يرضى يونس بسواه سمكًا للزينة؟

تذكر شجاره مع حواء التي لم تكن تحب سمكاته، وهل أحبته لتحب سمكاته؟ تسائل في نفسه ساخرًا وهو خير من يعلم الجواب.
لم تكن تحب الأعتناء بأسماكه ولم تكن تحب أسمائها التي أختارها بنفسه، كانت تترك له مهمة أطعامها وتنضيف فضلاتها، حتى عاد من عمله ذات مساء بارد ليجدها جميعًا وقد نفقت داخل الحوض، متخذات نفس وضعية شغف وشَجاعة فأغتاظ وتشاجر مع حواء يتهمها بقتل سمكاته؛ فثارت ثائرتها تتهمه بأنه يهتم بأسماكه أكثر منها، وفي اليوم التالي أحضر سمكات نار جديدة، لماذا هذا النوع بالذات؟ ربما لأن حواء أخبرته عشرات المرات أنها لا تحبه، يخيفها التوهج الناري لجسده.
احتشدت الذكريات من كل الأركان وأنهالت عليه بثقلها، ضاق بها يونس وتقطعت أنفاسه؛ فخرج إلى الشرفة وطاف بها من غير هدى، ودَّ لو ترك كل شيء خلفه وغادر كفر الشيخ إلى بلطيم حيث بحيرة البُرُلُّس،إلى المكان الوحيد الذي لا تتوحش فيه الوحدة، ولا تستأسد عليه في الظلام.
هناك حيث بحيرة البُرُلُّس حيث مرت به كل ذكرى سعيدة أمضاها برفقة أبيه شيخ الصيادين (صابر)،
الرجل الذي كانت تمتلئ شباكه بالصيد الوفير حتى يتعجب الناس ويضربون كفًا بكف من أين يأتيه هذا الخير، تمامًا كما كان نبي الله زكريا يتعجب كلما دخل على العذراء محرابها؛ فيجد عندها من الخير ما لا يجد عند غيرها.

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now