.......

306 32 0
                                    

ذات رحلة صيد سأل والده:
- لماذا أسميتني يونس؟
فأجابه:
- يوم ولادتك كنت في صلاة الجمعة بالمسجد، أستمع إلى الخطبة، أسهب الشيخ في الحديث عن قصة نبي الله يونس عليه السلام، عقلي كان عند حواف فراش أمك وهي تتقلب في ألم المخاض، لم أسمع كلمة واحدة من خطبة الشيخ، شعرت بالخجل الشديد وأنا في بيت من بيوت الله وشارد عن حكمته التي أنزلها علينا في قصة نبيه يونس، طال مخاض أمك حتى هجم علينا الليل، جلست عند حافة البحيرة، يختلط بين أصابعي الماء بالتراب، أبكي وأتضرع إلى الله ان يحفظك وأياها..
فكان اول ما قلته عندما عدت الى البيت وحملت جسدك الصغير بين ذراعي:
(سأسميه يونس).
وعندما أسلمت أمك روحها إلى بارئها ظننتُ ان قدر صاحب الحوت يلحق بك يا بني، غابت الألوان واتشحت حياتك بالسواد منذ اللحظة الأولى من عمرك، كنت تبكي كثيرًا حتى ظننتُ أنكَ تعي فقدانك لأمك، كان صاحب الحوت حبيس ظُلمات ثلاث، ظُلمة الليل، وظُلمة البحر، وظُلمة بطن الحوت.. وأتيت انتَ للدنيا في ظُلمة الليل، وكنت رفيق أيامي في ظُلمة البحيرة.. وخشيت دومًا من الظُلمة الثالثة، أن تلحق بك، خشيت أن يبتلعك الحوت يا يونس، وأصبحت حمايتك هي غايتي.
آمن يونس ان اللعنة التي حاول والده حمايته منها قد لحقت به، منذ فارق بحيرة البُرُلُّس شعر وكأن حوت يونس أبتلعه في بطنه، يُضيق عليه، يسحق عظامه، كقبر يعذب ساكنه.
ثماني سنوات وظُلمة الحوت لم تلفظه بعد!

مرر أصابعه بين خصلاته البيضاء حديثة الولادة، متذكرًا قصة حقيقية حدثت في احدى المدن التركية، دونها الباحث التركي (أشرف اونن)، عن (حكمت) العامل المجتهد في مخبز البلدية، آخر من يغادر المخبز دومًا..
في احدى المرات ذهب لينظف الفرن الرئيسي، لم يره زميله ( راغب ) فأغلق عليه باب الفرن وأطفأ الأنوار، كان هناك فاصل خمس ساعات على مجيء العمال وأيقاد الموقد..
اخذ حكمت يتذكر هول الألم عندما مست يده طرف حديد محمر كالجمر، وأخذ يتخيل ما سيحدث له عندما تزداد حرارة الفرن حول جسده، ويتلظى بين النيران.. عندئذ تذكر انه لم يصلِ لله ركعة واحدة، وكان يتجاهل كل يوم خمسة نداءات لمؤذن المسجد القريب، فما كان منه الا ان بكى أسفًا وندمًا، وتيمم برماد الفرن، ثم صلى لله لأول مرة، ودعا ربه بالفرج..
في الوقت نفسه راود (راغب) رؤية في المنام، عن صديقه (حكمت) وهو يحترق في فرن المخبز، فهب مُستيقظًا قرب الفجر، ذهب الى المخبز وأنقذ صديقه من مصير بائس.. لكن (راغب) وقف ذاهلًا أمام صديقه ولم يتعرفه.. فقد هبطت الشيخوخة على رأس حكمت في ليلة واحدة!
فراود يونس أمنية، اتبعها بدعوة، ان يكون الشعر الأبيض قد نبت برأسه بسبب هول أستيقاظه في أرض غريبة متسلسلًا بالأصفاد.
جبال تنهار، وبراكين تتفجر، ورمل يبتلعها في أحشائه.. رجل يقصف أرضها، وأخر يقطع الطريق على كل من يمد لها يد المساعدة، بضعة كوابيس امتزجت وصنعت مرآة لحياتها، تعكس كل ما تكره، حتى اختلط عليها الحقيقة بالخيال، وعندما استيقظت وصافح وجهها صخر ورمال، عرفت انها انتقلت من كابوس ينتهي إلى آخر لا ينتهي.
عليها ان تجد سبيلًا للنجاة، يجب ان تتحرر من الأسر، ومن الرجل الموجود بالخارج، لم تخرج من الكهف، ولم يدخل يونس اليه، حركة السلسلة كشفت لها انه لا يزال اسيرًا مثلها.
فتحت الحقيبة لتحضر ضمادة اخرى، فوجئت بضمادة جديدة حول قدمها، ومحكمة بشكل جيد، أحكم الغضب قبضته عليها، توجهت الى حيث يونس، يجلس فوق احدى الصخور وقد ضمّد يده يفترش فوق الأرض محتويات الحقيبة التي عثر عليها، يمسك بيده الخاتم يديره بين أصابعه، يبدو لها كما لو انه يناجي امرأة تحمل بدورها خاتمه في أصبعها.. يشتاق اليها حتى ان كان لا يتذكرها.. ضاق صدرها، صاحت بغضب:
- لماذا غيرت ضمادة قدمي، ما شأنك بي؟
لم يرد، ولم يلتفت، كما لو كانت زمجرة ريح مرت بجوار اذنيه، فقالت بحزم:
- أياك ان تلمسني ثانية.
وعندما همت بالمغادرة تبدّى لها بوضوح غرضًا اخرجه من الحقيبة وأفترش به الأرض أسفل قدميه.. مفتاح، أو تحديدًا نصف مفتاح!
ما ان عادت الى الكهف حتى انقضّت على الحقيبة تخرج كل ما بها بالقرب من فتحة الكهف، تستأنس بضوء الشمس، فتشت ما بها بدقة شديدة، كانت تأمل في العثور على النصف الآخر من المفتاح الذي عثر عليه يونس، ثم لاحت على وجهها بسمة ساخرة، الآن علمت لماذا اهتم يونس بتضميد جرحها، تفتيشه في حقيبتها عن نصف المفتاح هو الذي دفعه ليضمد جرحها حتى اذا ما لاحظت ان الحقيبة تم العبث في محتوياتها يكون تبريره لذلك جاهزًا.. ما اخبثه!
يخفي عنها نصف المفتاح الذي عثر عليه لسبب وحيد واضح كشمس الظهيرة، يونس اراد التحرر من قيده، وتركها وحدها في الصحراء.
يونس أرادها أن تموت!
طير ما يغرد بالخارج، يحق له ان يفعل طالما يتمتع بحرية سُلبت منها، فشلت في ان تكون حُرة مثل هذا الطير.. تعرف ان الاصفاد ليست القيد الوحيد الذي يُكبل قدمها، حتى ان تحررت منها فستظل رهينة الأسر، فعل هذا الطائر ما لم تجرؤ يومًا على فعله، فرد جناحيه في وجه السماء وصاح قائلًا (انا لست نجمًا ولا قمرًا، لا شمسًا ولا سحابًا، انا مجرد طائر صغير، لكن يحق لي ان اسكنكِ ايتها السماء مثلهم).
القيد الوحيد الذي يُكبل روحها هو انها لا تستطيع ان تكون حواء؛ لأنها تخشى الا يحبها احد.
كان عليها ان تجيد تقمص شخصية رسمها ابوها، لا تعارضه، لا ترد له طلبًا، لا تشرح له دواخلها طالما تتعارض مع اوامره ونواهيه، ورغم ذلك هجرها، ثم كان عليها ان تتقمص شخصية جديدة تُرضي بها الام المطعونة في كرامتها، كان عليها ان تصبح كيس رمل تفرغ فيه امها كل احباطاتها ويأسها وغضبها، تحت ستار حمايتها من الشامتين والحاقدين، والمتربصين بها وبأبنتها الضياع، ورغم ذلك لم تجد منها يدًا حانية قط.
ثم كان عليها ان تتقمص شخصية عروس تقف على اهبة الأستعداد من تكوين بيت واسرة مثل سائر البنات، وان تخفي كل التشوهات التي تعاني منها روحها، هوفًا من شبح العنوسة، ورغم ذلك كرهها يونس.
لو أتاها الآن احدهم متسائلًا (من تكونين؟).. فستجيب (انا حواء، التي لم يراها احد، ولا يريد ان يراها احد).
قتل ابوها عمدًا جزئًا من نفسها عندما علمها معنى الهجر في عمر مبكر.. ثم قتلت منها امها جزءًا آخر عندما صنعت من كلام الناس صنمًا وارغمتها على ان تتعبد له، وتدين له بالولاء والبراء.. ثم قتل منها يونس جزءًا آخر عندما ارغمها على ان تتخلى عن ذاتها لتتلبس قالبًا صنعته رغباته.
تضع التعدي على النفس في مكانة لا تقل قبحًا عن التعدي على الجسد، لذلك لا تستبعد ان رغب يونس في هلاكها، كما دمر اشياء كثيرة بداخلها.

عثرت اخيرًا على النصف الآخر للمفتاح، في جيب صغير مدسوس بأحدى زوايا الحقيبة، كان ذلك مساءً مستعينة بضوء الكشاف، بعدما ادّت فريضة العشاء، منذ الظهيرة لم تتبادل حرفًا واحدًا معَ يونس، خاصَم الكهف لمجرد انه المكان الذي يأويها، يكرهها إذن الى الحد الذي تعاف انفاسه من ان تجتمع بأنفاسها في مكان واحد.
ماذا تفعل بنصف مفتاح؟
لن يجدي النصف نفعًا بغير النصف المنقوص، لماذا لا يمكن للأنصاف ان تعيش وحدها، لماذا تضطر الى ان تعثر الى آخر لتكتمل؟ القمر يستطيع العيش نفصًا فحسب، لكن ليس إلى وقت طويل، وتعجز الشمس ان تفعل مثل شقيقها، لماذا يكون الكمال في التمام وليس في النصف؟
لم يكن يونس عند الصخرة التي أصبحت محرابه الخاص، تسلق من الجبل الملاصق للكهف ما سمح به طول السلسلة الحديدية، لا تعرف ماذا يفعل، ولا ترغب في أن تعرف.
تسلقت المسافة القليلة بدورها، وعندما شعر بحركة من خلفه التفت يلقي عليها نظرة، ثم يستدير إلى سيرته الأولى، مُستطلعًا للمكان من حوله.
لم تنطق بكلمة، لوحت بغنيمتها امام وجههِ، برقت عيناه شغفًا، قال:
- اين وجدته؟ بحثت كثيرًا في الكهف وفي الحقيبتين ولم أعثر عليه.
هَمَّ بأخذهِ منها، فأبعدت يدها بسرعة واخفتها خلف ظهرها، قالت بصوت أكثر برود من الأجواء المحيطة بهما:
- لماذا علي ان اعطيك المصف الذي معي، لماذا لا تعطيني انت النصف الذي معك؟
قال بجدية بالغة وهو يبسط كفه امامها:
- هذا ليس الوقت المناسب لألعاب الأطفال، أعطيني نصف المفتاح.
كان يتحدث بثقة وتحدٍ، واكثر ما تكرهه حواء، ان يكون واثقًا بنفسه، ومتحديًا لها:
- لن أعطيك شيئًا، استمر في عنادك إذ يبدو ان حياة الأسر قد أعجبتك، عندما تشتاق الى حُريتك فأنت تعرف مكاني.
قالتها ثم اعتصمت بالكهف، وتركته بالخارج أسير القيد والبرد والغضب.

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now