.......

307 31 0
                                    

أخبره أبوه ان المرأة كالرياح، رقيقة ناعمة، بالطيب تفوح، وبالهمس تبوح، وفي همسها الف حكاية، علّمه ان الرياح تسوق السفن، وتنثر البذور، وتدفع الطواحين، ومطالبتها بأكثر من ذلك جنون؛ فالرياح لا تحرك الجبال، ولا تدك الحصون، ولا تغزو الأراضين.. لكن المرأة الوحيدة التي فتح لها النوافذ والأبواب كانت أعصارًا يصفع، ولا تحمل في جعبتها سوى الهلاك.

لم يعرف من النساء سوى أمه، رأى رسمها في عيني أبيه، ووصفها فوق أجنحة كلماته، ظن أن كل النساء هن أمه، فأشتهى وصلهن، والدنو من مجالسهن، لكنه لم يجرؤ على أن يكون صاحب الخطوة الأولى، وعندما دخل في كنف جده، أصر عليه أن يدخل الجامعة، كلية التجارة، كرهها يونس كما لم يكره شيئًا من قبل، كانت دراسته وقودًا لوساوسه التي بدأت مع الأرقام.
رأى النساء كحديقة غنّاء بأمتداد البصر، أمامه الآف الأحتمالات، ويجب ان يقف على اختيار وحيد، تلبسته الحيرة، أي الزهور يقطف، لم تنته أفكاره الساذجة ان النساء ظل لأمه إلا بعد ان عاونه جده على اختيار قطفته الأولى.

وقف أمامها، بينما تجلس على أرض الكهف وتتخذ من الكشاف مصباحًا معلقًا فوق نتوء بارز بالصخرة الكبيرة، تهدمت قوانين المكان والزمان، فكلاهما مجهول، غير منطقي، قررا معاندة الطبيعة والسير في طريقهما بشكل عشوائي..
وعندما يتشتت المكان والزمان، تصبح المشاعر هي الشيء الوحيد الذي يمكن اتخاذه كدليل.
قال لها يونس :
- أنتِ هكذا دائمًا، الحياة بالنسبة لكِ لعبة حرب، يجب ان تخرجي منها حاملة راية النصر مهما خلفت ورائك من ضحايا، وهذا بالتحديد سبب فشل زواجنا.
انتفضت واقفة تصيح :
- من الضحايا؟ أنت؟ ان كنت اتخذ من الحياة لعبة حرب كما تقول فكيف تراها أنت؟ أنت كالمسافر الذي أجبره التدافع على ان يصعد القطار الخطأ في الوقت الخطأ.
انا وانت لم نعش قط في نفس المكان والزمان، ولا نفعل الآن، ولن نفعل أبدًا.

سمع يونس ذات مرة من أحد الصيادين ان المجرمين في الماضي كانوا يستخدمون حيلة القاء سمكة رنجة حمراء في طريق الكلاب التي تطاردهم، حتى تُشتت رائحة الرنجة غريزة الكلاب عن مهمتهم في المطاردة، يحلو لحواء دائمًا أن تستخدم هذه الحيلة كسلاح انثوي أصيل؛ فتتحايل وتُداهن وتتلاعب بألقاء موضوع جديد في خُضم ساحات الجدال؛ لتُشتت الرؤوس عن المسألة الرئيسية.
بلغ غضبه ذروته وهو يصيح بها مشيرًا نحوها بسبابته:
- لم نعش في نفس الزمان والمكان لأنكِ لم تسمحي بذلك، كنتِ تلعبين معي لعبة الغميضة، أبحث عنك فلا أجدكِ، واذا وجدتكِ تعاملينني كعدو.. لم تكوني معي كأمرأة، بل كرجل ينازلني في حلبة مصارعة.. اعترفي بذلك، اعترفي بأخطائكِ ولو لمرة واحدة فحسب.
وما ذنبها ان تربت على ان تُخبئ أنوثتها كالخطيئة في قلبها؟ منعتها أبلة عفت من أن تتبع فطرتها، وان تُنشأ في الحلية، حرصت على ان تقص لها الشعر كالأولاد، وتلفها بالخشن والقاتم من الثياب.. خافت ان تُضيف أبنتها إلى فضيحة طلاقها عارًا جديدًا، تتغذى عليه الأفواه في مجالس النميمة؛ فوضعت لها قواعد صارمة للعِفّة.
مازالت تذكر يوم ان أمتلكها الفضول لتزيين وجهها  بالألوان بين جدران غرفتها الأربعة، اسوة بزميلاتها في المدرسة اللائي يعشن في عالم مخملي لم تعرفه، لم تجد عصا سحرية تبعث في وجهها الألوان؛ فسرقت من أقلامها أحبارها، وتخيلت أنها تُماثل الوان زميلاتها في عالمهن المخملي.. شفاهها المخضبة بالحبر الأحمر ازدادت قتامة عندما انهالت أمها فوق وجهها ضربًا.. وفي الصباح عندما نظرت الى المرآة قبل الذهاب الى المدرسة كان وجهها يحمل الألوان التي أرادتها.. لكنها كانت مؤلمة، مؤلمة كثيرًا.
نفضت عن عقلها تلك الذكرى، وصاحت بحدة تلقي بكرة النار في منتصف أرضه:
- وماذا عن اخطائك، أم انك منزه عنها، انت لم تحاول ان تكون معي، لم تسعَ لذلك، ولم ترغب في ذلك، قلت بنفسك انني الخطيئة الوحيدة التي ندمت على اقترافها.
ثم استطردت بصوت مرتعش:
- لا شيء في هذهِ الحياة يمكنه محو هذهِ الكلمات.
فضح ضوء الكشاف دمعة تترقرق، وألم يتفرّق، يرتحل من القلب ليجد في كل جارحة مأوى، أردفت بكلمات أهالت التراب فوق بكاء موءود:
- إن كُنتُ خطيئتكَ، فأنتَ عقابي!
الفضول لم يقتل القط، بل العناد، إصراره على السير في طريق يورده المهالك هو سبب ما حل برأسه من بلاء، الفضول شيطان مريد، يغوي فحسب، ثم يترك العمل كله على عاتق أتباعه من أبالسة العناد.
هو يتمسك بالنصف الذي يمثل له قوامة ورجولة لا يجب أن تتقهقر أمام إمرأة، وهي تتمسك بالنصف الذي يمثل لها ذاتها وكرامتها التي لا يجب أن تنهزم في حضرة رجل.. كل منهما يتمسك بنصف حرية، ونصف أسر!
قوتان كل منهما تجذب حبل النجاة في جهة مُضادة، وإن لم يتوقف أحدهما عن الجذب؛ سيتمزق الحبل!
ليلة أخرى كان للأرق فيها اليد العليا، غزلت السماء خيوط النور الأولى بخيوط الظلام الأخيرة، ثم ألقت على الكون برداء الصباح، فوجئت به يدخل الكهف، أعتدلت في نومتها، ثم شعرت بضيق كافٍ جعلها تعتدل جالسة، ان كان سيصر عليها لتعطيه نصف المفتاح؛ فسيجدها جدارًا صلبًا لا يصلح الا ليضرب به رأسه.
مال يونس نحو الصخرة وأتخذ منها مُتكأ ليده، كان حازمًا حين قال:
- لن ينجح الأمر بهذه الطريقة، يجب ان نصل سويًا إلى اتفاق.
أراحت حواء كفيها فوق خصرها، غير مستعدة لتقديم أي تنازل، أستطرد:
- فلنعقد هدنة.
رمقته حواء بدهشة لم تخلُ من سخرية التقطتها عيناه، وترجمها عقله؛ فأردف لسانه:
- فلنتصور اننا اثنان لا يعرف أحدنا الأخر، جمع بينهما القدر في مكان مجهول، عليهما ان يتعاونا معًا من اجل النجاة بحياتهما.
أعجبها مقاله، لكنها كرهت أن تشعره بذلك، فأضافت إليه:
- اثنان لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات، أي انك لست قائدًا لتأمر، وأنا لست تابعًا لأنفذ، اتفقنا؟
قالتها ومدت له كفها الأيمن لا تدع له فرصة للأعتراض، فعاجلها بيمناه مُصافحًا، دون ان يخفي ما تبدّى فوق وجهه من امارات ضيق، وقال مُصدقًا:
- اتفقنا.
مد يده بنصف المفتاح، دون ان ينطق بشيء، لم تفهم ما الذي عكف سواد الليل على تغييره في عقل يونس.. لكنه تغيير للافضل.
أتت بنصف المفتاح الذي تملكه، وبأستخدام المادة اللاصقة التي وجدها يونس في الحقيبة أصبح النصفان واحدًا صحيحًا، احتاج الأمر لبعض الوقت حتى تجف المادة اللاصقة تمامًا، اذا انكسر المفتاح في القفل فستنكسر معه كل امالهما في النجاة.
أصابعها ترتعش مخافة ان تخطئ في دفعه فينكسر، وفي الأحوال العادية ما كانت لتطلب من يونس المساعدة، ولا ان تسمح له بذلك، ولكن مبادرته في منحها نصف المفتاح دفعتها لأن توفق على الفور عندما قال:
- اعطيني اياه، سأفتحه.
تعلقت عيناها بأصابع كفه، المفتاح يسكن بيته في القفل، وببطء لا يخلو من الحزم يدور في موضعه، ثم صوت تكة شعرت انها اجمل من تغريد البلابل وزقزقة العصافير.. أخيرًا انفتح باب القفص، وفرد العصفور جناحيه ليحلق في السماء، اعادها يونس الى الارض اذ قال:
- ليس الآن، سنتحرك بعد الشروق، حتى تكون الرؤية واضحة.
بدا لها تفكيره صائبًا، اومأت براسها ثم جلست تستند الى الصخرة بظهرها.
رأته يهم بالخروج من الكهف، فقالت:
- إن اردت.. يمكنك البقاء هنا.
لم يرد، ولم يلتفت، ولم يبق.
حدث ذلك في عقلها فحسب، مشهد مستقبلي قتلته في مهده، ولم تجرؤ على ان تجره الى ارض الواقع.
هدنة اذن! ان كانت تعرف شيئًا واحدًا عن يونس، فهو عشقه للسير في حذاء قبطان السفينة، لن تدع له بابًا مفتوحًا لذلك أبدًا، فالصحراء لا تحتاج الى ربّان.
لا تحتاج الصحراء الى ربّان لكنها تحتاج الى دليل!
هذا ما فطنت اليه حواء وهي تسير برفقة يونس لساعات طويلة، لا يصحبهما فيها سوى الجوع والعطش، وشمس تودعهما عند ابعد نقطة يختلط فيها الازرق بالأصفر، يحملان الحقيبتين فوق ظهريهما.
تكاسلت عيناها عند تفاصيل صبارة يافعة، بجوار اخرى تكبرها حجمًا، الصبارة الصغيرة على حداثة عمرها الا انها تملك اشواكًا كأي صبارة ناضجة، تذكرت يوم ان قال لها يونس متممًا احد شجاراتهما- اذ انه مغرم بأن يكون له داىمًا الكلمة الاخيرة - :
-ان كان العالم حديقة ازهار شديدة التنوع، فأنتِ فيه مثل صبارة.
وقتها تملكها الغضب، واستقبحت إهانته، لكنها الان ترى الامر بعيون جديدة لم تملكها من قبل، رغم ان يونس اراد بكلماته ذمًا لا مدحًا، فإن الصبار يخزن الماء في عروقه الثخينة، ويملك أشواكًا بدل الأوراق التي تستهلك الماء، اي ان امتلاكه للأشواك ليس رفاهية، ولا قبحًا، بل تلبية لحاجات الطبيعة، تمامًا كوسائلها الدفاعية التي تحمي بها نفسها من طبيعة الحياة القاسية.
هذا ما دفع امها لتزرع في جسدها الأشواك، أرادتها ان تكون صبارة في مواجهة تقلبات الطبيعة، أرادتها ان تصمد في وجه الصعاب.. آلمتها الأشواك نعم، قتلت أنوثتها نعم، لكنها عززت من قدرتها على الصمود في مواجهة الحياة.. لذلك لم تستطع ان تحقد على امها مثلما حقدت على أبيها.
صدق يونس؛ فما أشبهها بالصبارة.
أسقطها التعب ارضًا، تذمرت:
- هل سنسير الى الأبد؟
-توقفي إذن.
قالها يونس ببساطة، اكمل المسير دون ان ينظر خلفه، صاحت به مبهوتة:
- أتتركني هنا وحدي؟
التفت يمنحها نظرة من فوق كتفه، قائلًا بمكر:
- الم تقولي انكِ لستِ بحاجة الى قائد؟ لماذا علي ان اعتني بكِ؟
وقفت بصعوبة، رفعت رأسًا شامخًا وقالت:
- صدقت، أنا لست في حاجة اليك، ولن أكون ابدًا.
أستيقظ بداخله وسواس العد، كان من الصعوبة ان يمارس حاجته القسرية مع الرمال، لذلك بدأ في عد الكثبان الرملية، والجبال، والحجارة، عند الرقم خمسة وستين صاحت حواء بصوت جهوري أفزع أرقامه فهربت من رأسه؛ سألها بغيظ:
- ماذا هناك؟
أشارت الى احدى الصخور وقالت:
- رأيتُ رجلًا يتحرك خلف هذا التل الرملي.
ما كان باعثًا على فزعها حرك في نفس يونس الامل في الخروج من هذه الصحراء، لعل الرجل يساعدهما على ايجاد طريق يركبان منه سيارة الى اقرب مكان مأهول بالأحياء.
أقترب بحذر من التل الرملي الذي أشارت إليه؛ فرأى الفراغ ينتظره هناك ضاحكًا، عاد الى حواء واشار اليها ليستكملا سيرهما مرة اخرى.
أصرت لتبدد حرجًا شعرت به:
- لقد رايتُ رجلًا بالفعل، لم يكن سرابًا او توهمًا.
لم ينطق يونس بشيء، وماذا يقول لأمراة اعتادت ان توقظه ليلًا لأنها ظنت رؤية فأر يمرح بداخل بيتهما، وبعد بحث وتفتيش يستغرق ما يقرب من ساعة لا يجد سوى فراغ يسخر منه، تمامًا كما سخر منذ قليل.
كانت حواء تجزم انه يفكر الان في اليوم الذي أيقظته وقد توهمت رؤية فار، تكاد تقسم انه يضحك منها سرًا، ويتهمها بخفة العقل، كما فعل يومها.
جف حلقها، وقرص الجوع معدتها، تحملها ساقاها بشق الانفس، لكنها تُفضل الموت على ان تطلب منه فسحة من الراحة.
سراب! لماذا لم تفكر في ذلك من قبل؟ لا تملك معلومات علمية كثيرة حول السراب وطبيعته، هل هو مجرد صورة وهمية تتبدى للأنسان، أم قد تتجاوز الصورة حاسة النظر الى باقي الحواس الأخرى؟ هل من الممكن إن ما تعيشه الآن هو مجرد سراب أوهمها بهِ عقلها؟!
من بعيد، لاح لهما رجل يقود سيارة عفية تصلح لهذهِ الأجواء، مُقبلًا نحوهما بتمهل؛ يجهلان هل يحمل في جعبته وعدًا بالفرج، أم وعيدًا بالخطر!

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now