.......

255 25 0
                                    

بعدما ابتعدا بالقارب عن المرسى بمسافة قليلة، فطن يونس بحدسه الى شخص يرشق عينيه في ضهره، التفت ليجد من يتلصص عليهما مستترًا بشجرة الصفصاف الكبيرة، لم يتبين من هذا البعد وجهًا لكن الرداء الاسود المنسدل فوق جسد طويل نحيف انبأه بهوية ذلك المتلصص الخبيث!
للمرة الثانية تخوض حواء مغامرة ركوب النيل، خلعا مشاكلهما على الشاطئ ، ونزعا عن كاهلهما الألغاز والغرائبيات، طاف يونس بالقارب في النيل الرحيم كطفل عاد الى رحم امه يستكين، يسلم نفسه الى أمواج الحياة بداخلها، تحركه كيفما شائت استيقظ الصياد من رقاده الطويل، وتمرد على وضعه الاسير، رفع وجهًا صبغته شمس اسوان الى السماء، يناشد ربها ان تتنزل عليه امطار الرحمات، رنت اليه حواء بأهتمام، ترقب كيف انعشت  النزهة النيلية روحه مثل ارض جدباء تاقت طويلًا الى سقياها.
في الليلة الماضية سمع أحدهم في مسجد الجزيرة يقول ان النيل يقتفي اثر كل نوبي فقده اثناء التهجير، يناديه، ويدعوه للعودة اليه، ولا يسمع حديث النيل سوى أبناء هذهِ الأرض، صدقه يونس، وأمّن على دعاء النيل، لم يتهمه بالجنون، لأنه ظل لسنوات طوال يسمع تسابيح بحيرة البُرُلُّس.
كانا في تلك اللحظة محاطين بالطبيعة فحسب، لا صوت لآلات صماء، ولا رائحة لعطور مصطنعة، لا هواتف نقالة، ولا مواقع افتراضية، فقط حياة بصورتها البدائية، بدستورها البكر.. شعرا ان الزمان في مدينتهما كان كمن اتفق مع الكون سرًا بأن يسير بسرعة قصوى، لا تترك لهما فسحة للشعور او التفكير بروية.. اما في هذا المكان فلا شيء يعلو فوق صوت العقل والقلب.. لا شيء يشوش الرؤية ويصيب الروح بالتخمة.. الزمان هنا يسير ببطء.. يترك الفرصة للعواطف كي تنضج، وللأفكار كي تترقى، وللكلمات كي تتقاطر كشلال عذب.. صدق آينشتاين إذن عندما وضع قانون النسبية.. يتمدد ويتقلص من مكان لآخر.
تبدل مكان يونس بالكامل، شاكسها ضحكها، لاعبها، ووسط رذاذ المياه وضجيج الكلمات كان للصمت دور الغواية، سمعت منه ما لم ينطق به من قبل، عن بحيرة واسماك وحوت ابتلعه بداخله لثماني سنوات! عن امه وأبيه، عن صحبه وجده الذي يأويه، قرب النهاية نبوح بكل شيء واريناه، ونتذكر كل شيء نسيناه، كان يتحدث مثل مودع يملي وصيته الأخيرة.. وكانت هي جوعى لصنوف حكاياته؛ فأشبعها من الوان الكلمات ما لم تذقه من قبل.. كلمات ولدت في ماضي يونس، تنكّر من أبوتها، ولم يعترف بها لأحد حتى اليوم.
- كان يومًا ماطرًا، ورغم ذلك قررنا الخروج للصيد، كنت قد بلغت للتو عامي الثامن عشر، احضر لي ابي قاربًا كهدية يوم مولدي، ابحر به وحدي، واصير خليفة لشيخ الصيادين صابر..
كان الجو غائمًا، وملبدًا بالشؤم، دومًا كنا نتشارك أنا وابي كل شيء، كنت سعيدًا بالقارب لانها المرة الاولى التي امتلك فيها شيئًا يخصني وحدي.
كان الجو خانقًا، ومنذرًا بالخطر، لكنني لم أهتم، وأصررت على ابي للخروج في رحلة صيد بالقارب الجديد.
مرت ساعتان او يزيد، يتدلى جذعانا خارج القارب، تتعاون سواعدنا في جر الشباك وهي محملة بالصيد الوفير.. وفجأة انشقت البحيرة عن تمساح ضخم لم أرَ في حياتي مثله، انقض على رأس أبي المتدلي على جانب القارب وجذبه نحوه في حركه خاطفة، ثم غاص التمساح الملعون بجسد أبي الى قاع البحيرة، صرخت حتى شرخ الصراخ صوتي، لم املك ما افعل سوى انتظار ان اصحو فينتهي هذا الكابوس اللعين.
الانتظار نفسه كان عذابًا فوق عذاب؛ فتمسكت بحافة القارب وأشغلت عقلي بالعد، من واحد وحتى عشرة الآف وستمائة وسبعين، عند كل رقم كنت انتظر بزوغ رأس أبي فوق السطح، ينظر لي ويبتسم بسمته الرائقة، لم يفعل، تعبت من العد، وأهلكني البكاء، وسقطت في القارب فاقدًا للوعي.. لا اعلم كم مر من الوقت حتى وجدني بعض الصيادين واعادوني الى البر.
كانت الحادثة الاولى من نوعها في بحيرتنا، فالبحيرة بلا تماسيح، لكن في نفس التوقيت عثر الناس في عدة محافظات على تماسيح في مياه الصرف و الترع، وفي النيل.. وبعدها اشتعلت الاخبار ترصد سوقًا بالقاهرة يبيعون فيه التماسيح الصغيرة بمبالغ زهيدة، يشتريها الناس جهلًا، تكبر، تحتاج مكانًا اوسع وطعامًا أكثر، يحتارون فيما يفعلون بها، فيلقون بها في اول مكان يصادفهم.
منذ تلك الحادثة تملكني شعور عميق بالذنب، ولا يزال، لو لم اجبن وقتها، لو امتلكت الشجاعة وقفزت في الماء، ربما كنت قد تمكنت من انتشاله من بين فكي التمساح، لم اسامح نفسي قط؛ وعاقبتها بحرمانها من الشيء الوحيد الذي تحبه.. منذ ذلك الوقت لم أقرب من البحيرة.
تلاقت العيون، باحت بكل ما يُعجِز اللسان، وكشفت عما يرسله القلب دون تورية.
أطل الأسى من عيني حواء، وكتمت بيديها شهقة الم كادت تتفلت منها، استجمعت من صوتها ما بقي صالحًا للأستخدام، ثم قالت:
- لماذا لم تشاركني في ذلك.. لماذا ابقيت عليه محبوسًا بداخلك؟
لاحت فوق ثغره بسمة بطعم الحنظل، قال:
- لأنكِ لم تكوني موجودة معي قبل اليوم.
تحت ظروف أخرى، ووفق شروط أخرى كانت لتصيبها حمى الغضب من كلماته، وترد عليها بمثلها، وتزيد.. لكن أيًا من هذا لم يحدث، كانت فقط بحاجة لأن تعرف ما هو الوجود الذي يقصده.. سألته مباشرة دون مناورة، فأجاب بعد لحظات، وقد اوقف موتور القارب، وسكب كل اهتمامه على المرأة التي أمامه:
- انتِ تحاولين دومًا تغييري، وأنا أكره ذلك.
ثم أردف:
- اليوم انتِ مختلفة، تستمعين لي دون احكام، دون محاولة لفرض وصايتك، دون سيطرة.. اليوم اتحدث الى صديق يسمع مني، ولا يلقي بكلماتي في وجهي، او يستخدمها كسلاح ضدي.
الى حد كبير كان محقًا، هكذا فكرت حواء، الا انه يخلط كثيرًا بين الاهتمام والسيطرة، او لعلها هي من تفعل! هي لم تحاول السيطرة على حياته، بل كانت تمنحه الاهتمام فحسب، الاهتمام دليل حب كما أخبرتها أبلة عفت.. هكذا كانت تفعل معها، تحاصرها بأوامرها، لا تترك لها مساحة تخصها، تجثم فوق انفاس حياتها، وعندما يعجزها الاختناق حتى عن الصراخ كانت ابلة عفت تخبرها ان الاهتمام دليل حب.. لم تجادله، كان الجو رائقًا ولم ترغب في تعكيره.
لكنها بادرته قائلة:
- ليس ذنبك يا يونس، ليس ذنب أحد، جاءه اجله، وما كان بأمكان احد ان يستقدمه ساعة او يستأخره.
لمع القهر في عينيه، قال بصوت خنقه الندم:
- ربما لو كنت حاولت.. لكان بأمكاني إنقاذه.
- لا تحمّل نفسك ما لا تطيق، أنتَ لستَ خارقًا يا يونس، لا يمكنك ان تكون بطلًا للجميع.
مرت بعينه غيمة رمادية، لم يجرؤ على سؤالها ( ولا حتى بطلكِ أنتِ؟ ).
يخيل انه وقف اخيرًا على خطأه الذي تسبب في ان تبتلعه أفواه الظلمات، منذ ان التهم التمساح أباه امام عينيه فقد الايمان في الدنيا بأسرها، مات قلبه هناك في قاربه الجديد وسط البحيرة، يؤدي ايامه بروتينية، يعد الساعات، ولا يعيشها.. خلق الله الانسان ليكون خليفته في الارض فيعمرها، لا ليضع عمره هباء منثورًا تذروه الرياح.. تعطلت دوافعه، وفقد شغفه بالحياة، لعله حاول إحياء هذا الشغف بتسمية احدى سمكاته بشغف، وكلما ماتت اتى بواحدة جديدة ومنحها الاسم نفسه، دومًا كان عمر شغف قصيرًا، وكذلك عمر شجاعة.
حظى نبي الله يونس بالشجاعة ليلقي بنفسه من السفينة الى البحر، ويبتلعه الحوت، ولكن شجاعته لم تتوقف عند هذا الحد، كان شجاعًا كفاية ليواجه الظلمات الثلاث دون ان يفقد ايمانه، ادرك ان ايمانه في بطن الحوت لم تكن عقابًا، بل درس تعليمي، تعلم خلالها نبي الله كلمات ذهبيات، تبددت الظلمات أمام عظمتها.. فارق قومه يائسًا منهم، فعلمه الله في بطن الحوت الا ييأس!
وكذلك كان ينبغي على يونس ان ينظر الى ظلمات الحياة التي حُبس بداخلها كدرس تعليمي، لا يظلم الله احدًا، لكنه يربينا وبعلمنا بطرق قد لا تدرك عقولنا حكمتها..
يدرك الآن انه اتخذ من علاقته بحواء مهربًا من ظلماته، دخل هذهِ العلاقة يائسًا يبحث عن ضوء النهار، وظن انه سيجده بين ذراعي امرأة، لكنه فوجئ ان حواء لا تشبه الصورة النورانية التي رسمها لأمه من خلال احاديث أبيه عنها، كانت مثله تمامًا، تعيش في ظلماتها الخاصة، تحمل مثله بعض العقد والنواقص التي لا يخلو منها انسان، شعر بآدميتها.. فنفر منها.
والمرآة تدرك بحدسها متى يُقبل عليها رجل، ومتى ينفر منها.. كان معها جسدًا لا روحًا، وهذا وحده كان كافيًا لتبني بينها وبينه الف جدار عازل.. وما ان ادرك سذاجة تفكيره، وان محاولته تشكيلها بنفس مقاييس امه محاولة ظالمة جائرة، حتى كان الاوان قد فات، النبع الذي كان يحوي بضع قطرات من ماء انقطع عنه المدد؛ فصار جافًا قاسيًا.
فسرت هذه الحادثة لحواء سبب تغير يونس وحدته معها في آخر ليلة جمعتهما بالمنجم، عندما اخبرته عن رأس التمساح المطبوع فوق البطاقة.. لا بد أنها ذكرته بما يبذل جهده طوال الوقت كي ينساه، الآن تفهم، وجدت لتصرفه المعنى الذي كانت تبحث عنه.
سألت نفسها في الكهف عندما كشفت الشمس عن شعرها الابيض ( هل يمكن سرقة الزمن؟).. توقف الزمن عند موت ابيه، وتوقف بها عند طلاق امها، وما تلاه من عمريهما من تبعات لهذه اللحظة الفارقة.. نعم، يمكن سرقة الزمن.. لكن السارق هو نحن! نحن نختار ان نوقف عجلة الزمن أو نسيرها.
انتبهت ليونس وهو يمسك بيدها ويضعها فوق دفة القيادة، اضطربت وكأنه يمسها للمرة الاولى.. علمها كيف تديره بثبات، كانت سعيدة بجهودهما المشتركة التي تدفع بالقارب يُمنة ويُسرة، وباتت بوصلتها تتحرك بسعادة في كل الاتجاهات، ضحكت كطفلة لم تعرف الحزن يومًا، راقبها بسعادة غامرة وهي تطوف معه فوق النيل.. ثم سألها بعد حين:
- هل ترغبين في ان نحاول من جديد؟
كان سؤاله مباغتًا ادركت انه لا يقصد قيادة القارب في النيل، بل قيادة سفينة اكبر تحمل قدرها ومصيرها.. اربكتها نظراته المترقبة، الهواء يندفع ليرتطم بجسديهما، ورغم ذلك تشعر بالدفء.. طافت نظراتها في سماء عينيه فلم تجد برقًا ولا رعدًا، لا عاصفة او صاعقة.. بل رأت الاحداث الأليمة أصفر لونها.. وضعف بنيانها؛ فتساقطت عند اقدامهما مثل اوراق الخريف! فرفعت له وجهًا مرتبكًا، يتزاحم فوقه الخوف والرجاء.
الحب كضوء النهار لا يمكن حبسه، لكننا نخطئ حين نظن انه من الضروري ان يأتي مبهرجًا، ومحملًا بأطنان من الشغف! الحب كثيرًا ما يأتي كنسمة رقيقة تورث في القلب السكينة والرضا.. لذلك يغفل الكثيرون عن رؤيته.
في عُرف السعادة تتحول الساعات الى دقائق والدقائق الى ثوانٍ.. وما ان فارقته حتى سقطت ميتة عند ضفته..
التفتت حواء صوب يونس، تتلكأ عيناها فوق تضاريس وجهه، رأت فوق حاجبه الأيمن جبلًا من الحنين، وفوق الايسر تلًا من الهموم، بينهما طيف كبير من الغيوم، ومن فوقهم وسط الجبين ينبت قرص كبير بلون الارق، يحكي عن ليال كثيرة من الوحدة، والحيرة، والقلق، والندم، والغضب.. يشق شفتيه نهر غزير من الشغف، لكنه يتبخر سريعًا تحت قيظ واقع لا يرحم.
نظرت اليه ملايين المرات قبل هذه المرة، وقرأت أمرات وجهه غير مرة، حتى ظنت انها حفظت خريطته، وكشفت سريرته، لكن هذه المرة ليست ككل مرة، انها الاولى التي تجيد فيها حقًا قراءة المكتوب فوق صفحة وجهه.
قبل ان تلوح للنيل مودعة انحنت تحفر اسمها واسم يونس بعبثية فوق المياه الجارية، ورغم كل قوانين الطبيعة الصارمة التي علمتها اياها ابلة عفت، آمنت ان مياه النيل ستحتفظ فوقها بأسميهما الى الابد.

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now