.......

219 28 0
                                    

قرعت الرياح ناقوس المغادرة؛ طفقت الشمس الوليدة تطل عليهم من خصاص السحاب بفضول كبير، ترقب حركاتهم، وتسجل في ذاكرتها لحظات سكونهم، قال الشيخ إنسان:
- الطريق طويل الى الجزيرة، هيا يجب ان نتحرك الآن.
- جزيرة؟ أي جزيرة؟
لم يُجب الشيخ سؤال يونس في الحال، تحركت السيارة تحمل ثلاثتهم وتشق بهم الطريق فوق دروب الرمال، تنثر بعضًا منه على الجانبين، او لعل الرمال هي التي تتقافز من تلقاء نفسها، تلوح لهم بكفوفها مودعة.
يعتقد ابناء الصحراء ان للرمال ذاكرة كعقول الانس والجان، تحتفظ ببصمات اقدام السائرين عليها، وترسل لهم مراسيل شوق عبر ذرات الهواء، وما ان يسوقهم اليها الحنين مرة آخرى، حتى تبثهم الحب عبر حرارتها.. الرمال كأحضان العُشاق، كلما الهبها الشوق، ازدادت حرارتها!
- جزيرة هيسا.. حيثُ اعيش.
تلك هي المرة الاولى التي يعرفان فيها ان بيت الشيخ إنسان يقع فوق جزيرة نوبية على ضفاف النيل تُدعى هيسا، أقدم جُزر شمال النوبة، بدا الشيخ شغوفًا بالحديث عن جزيرته وهو يقول بمزاج رائق وكأنه ذاهب في نزهة:
- لا يمكن وصفها بالكلمات، يجب ان تروها بالعين والفؤاد.. لكني اؤكد لكما ان من يخط بقدميه فوق جزيرتنا مرة؛ يُقيد الى الأبد بالحنين اليها.
اخبرهما الشيخ انسان ان اليوم مميز لأبناء اسوان، الخامس عشر من يناير والذي يمثل عيدها القومي، تكريمًا لأبنائها الذين ارتضوا بالتهجير حماية لوطنهم الام من اخطار الفيضان؛ يأمل يونس ان يصير هذا اليوم في ذاكرة الايام عيده هو الآخر، إن كُتبت له ولحواء النجاة من نقطة حرس الحدود.. ابتهل الى الله ان ينجيهما دون مصاعب.. ثم قذف الله في قلبه كلمات صاحب الحوت، حين ناجى ربه في الظُلمات، تذكر اباه يومًا حين قال:
- ما افسده العالم تصلحه (لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين).
ردّدها الى ما شاء الله ان يرددها، فوجد السكينة تتنزل على قلبه والرحمات.
التفت يطمئن على حواء، رآها ساكنة، تعقد حاجبيها بشدة، وعيناها تسبحان في اللون الاصفر من حولها، شعر بخوفها الرابض وراء هدوءها، اراد ان يبثها بعض الامان؛ فوجد انه لا يملك منه الكثير، استدار عائدًا الى سيرته الأولى، وحبال ( لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين) بينه وبين ربه لا ينقطع وصلها.
السفر الطويل ملعقة تُقلب وعاء العقل وتخرج ما سكن بقاعه من افكار، وما تراكم بجوانبه من ملاحظات منسية؛ لذلك بعدما قطعت السيارة من عمر الرحلة ساعة الا ثُلثها، تذكر فجأة الفراشين الآخرين في غرفة الشيخ الحجرية، او العنجريب كما يحلو للشيخ تسميته، جال بخاطره ان يسأل الشيخ في الحال، لكن وساوسه قفزت بعقله تحذره، وتطلب منه ان يتريث، استجاب لها دون ان يعرف أسبابها، لكن السؤال التصق بعقله كما يعلق جسد الحلزون الرخو بسطح صخري املس.. لمن الفراشان الآخران يا ترى؟
أخرجت الملعقة المزيد من الافكار، فعكف عليها يغزل منها كلمات كما كانت الشمس تصنع بخيوطها الذهبية في قصة الشيخ الخيالية..
رجل يساوم حواء على معلومات تخص المصنع، ثم يلقي في وجهها بتهديداته، ويدس بحقيبتها بطاقة تحمل رسمًا لرأس تمساح.. خطابات سبعة غير معلومة المصدر، وكتابة فوق جدران بيته بلغة غريبة.. انتقالهما الفجائي الى كهف في وسط الصحراء الشرقية.. خدعة الشعر الأبيض.. وغريب يُنقب عن الذهب ويستعبدهما مقابل الطعام والمأوى.. والشيخ إنسان حارس المنجم الذي لا يكف عن نسج الحكايات الخيالية، عن ارض حُبلت في الزمن بعد الزمن، وقوانين فصول أربعة تُشكل دستورًا للحب!
لساعة ويزيد فشل في ان يسير في حذاء الشمس، لم يستطع ان يجد كلمة واحدة يجمع بها كل هذهِ الخيوط المتضاربة، وكأن كل خيط ينسج قصة منفصلة بذاتها.
وعندما اوشك عل  ان يصل الى حافة التعب اصطدم بسؤال آخر أيقظ انتباهه ثانية، لماذا كان الشيخ انسان متوجهًا صوب خيمة الغريب التي تبعد مسافة كبيرة عن المنجم، وتقع في جهة مختلفة عن قرية وادي العلاقي؟!
كان الامر بسهولة بمكان، مرت خدعة التصريحات المزورة على نقطة حرس الحدود على الطريق دون صعوبات.. كان ليكون هذا مصدر سعادة ليونس، لكن على العكس من ذلك، شعر بالمزيد من الخطر.
عندما قدم الشيخ انسان للضابط بطاقتي هوية ليونس وحواء اندهش كلاهما، وعندما سألاه فيما بعد من اين تحصّل على البطاقات، أجاب ضاحكًا بغير وجل:
- بالطبع مزورة.
لم ترق ثقته ليونس.. لم ترق له على الأطلاق.
قالت حواء وهي تحاول عبثًا فض غلاف علبة بسكويت، تنزلق بين اصابعها المتعرقة:
- اسوان المحافظة جميلة حقًا.. مقارنة بالأيام الماضية فكأنني انتقلت فجأة من العصر الحجري الى العصر الحديث.
أخبرها الشيخ انسان ان اسوان كانت تعرف في عصر المصريين القدماء باسم سونو اي السوق، لأنها كانت مركزًا تجاريًا للقوافل من والى النوبة، ثم سميت في العصر البطلمي ب سين، ثم سماها النوبيون ناب اسوان.
يلتفون حول طاولة تستقر بأحد أركان مطعم صغير، حاول كل منهم نزع عباءة التعب لدقائق قبل استكمال الرحلة من جديد، وكما وعد الشيخ انسان منح يونس فرصة الأتصال بجده، لكن ما القى بالفزع في قلبيهما ان المحاولات الست الاولى للأتصال بالجد وأمها بائت بالفشل، حتى قطع صوت الجد في الاتصال السابع صوت الرنين الرتيب المزعج، فتنفسا الصعداء.
تبادل يونس مع جده كلمات قليلة قبل ان يتغير وجهه، إذ صاح به جده:
- يونس اين كنت طيلة الأيام الماضية.. واين حواء.. داهمت قوة من الشرطة البيت والمصنع قبل قليل.. ماذا فعلتما.. لماذا تبحث عنكما الشرطة؟

ثاني أكسيد الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن