.......

263 27 0
                                    

هزت رأسها نفيًا فأستطرد :
- الثعلب في الخرافة يشتهي العنب، لكنه لا يستطيع الوصول اليه، فما كان منه الا ان حاول التخفيف من أحبطاطه؛ فرمى العنب بأنه فج حامض! حيلة استخدمها الثعلب لئلا يعترف بفشله، بجهله، بنواقصه.
ثم أردف باسمًا قبل ان يغادر الغرفة:
- الحب يتنفس بينكما.. لكنكما تعانيان من خطأ في الترجمة.. فلتفكري قليلًا فيما قلت، هناك احتمال أنني شيخ مسن ثرثار أهذي بكلمات جوفاء، وهناك أيضًا احتمال ان كلماتي تضرب في كبد الحقيقة سهمًا.
غادر الغرفة، بقيت حواء وحدها كما تمنت، لكن لم يعد عقلها الى دوران شريط الذكريات، كما لو ان كلمات الشيخ انسان القمت عقلها حجرًا اخرسته.
يشعر انه شيخ مسن بلغ ساحل الحياة، خالي الوفاض.
طوال عام زواجه كانت علاقته بحواء يمكن وصفها بصحبة السفينة، ففي البحر لا صداقة دائمة، ولا علاقات متينة، انما روابط بعمر الفراشات، تموت ما ان ترسو السفينة في موانئها مع الدقات الأخيرة لعُمر الرحلة.. فلماذا يشعر الآن بحبل خفي لا يزال يربطه بها؟! كما لو ان احدى الفراشات تحدت قوانين الحياة وعاشت بقلبه أكثر مما ينبغي.
تذكر روعة البدايات كسحابة لا تلبث ان ترحل سريعًا، دومًا تحملنا البدايات على بناء سقف عالٍ من التوقعات لكنه كان قانعًا بالنذر اليسير، حلم بأمرأة مثل امه التي عرفها من حكايات ابيه، او قريبة الشبه منها.. النساء فراشات وديعة كما اخبره ابوه، فلماذا تتنكر حواء لبنات جنسها؟! كان بحاجة الى انثى تترك له نفسها كما يفعل شراع السفينة في احضان الرياح، أحب البحيرة لسكونها، اما حواء فكانت موجًا عاتيًا تهلع منه قلوب أشجع البحارة.. لم يجد فيها المرأة التي ظنها، فشعر كمن وقع ضحية الخديعة، ايقن ان المرأة تعلمت من البحر ثلاثة اشياء.. الثورة في مدها وجزرها.. القتل غرقً لمن يخشاها.. ومائها لا يروي للظمآن عطشًا!
فقط لو تمكن من الخروج من بطن الحوت، لعل كل شيء وقتها يصبح أفضل.
دنا منه الشيخ انسان، جاوره في مجلسه فوق صخرة تسع كليهما بالكاد، اشعل النار في مجموعة من الحطب، ثم عاد ليحضر العدة اللازمة لصناعة كوبين من الجَبَنَة، وما ان تراقصت الرائحة الذكية في الأجواء، حتى حطت بداخل انفيهما تثير فيهما الأشتهاء.
اخذ الشيخ انسان من خصال جِمال الصحراء صبرها، ومن صقور السماء حكمتها؛ فجمع الخصلتين قائلًا:
- الحياة بحر كبير يسعى كل منا الى ان يصطاد ما به من خيرات، لكننا نجهل ما قد يعلق في شباكنا، قد تصطاد سمكًا وفيرًا يكفي ليشبع قرية كاملة، وفي اليوم التالي قد تجني سمكة واحدة، سامة ولا نفع منها، قد يعلق بشباكك محارة تحوي لولوة ناضجة، او قوقع حلزوني يخرج لك جسده الرخو الشبيه باللسان إغاظة لك، ثم يدخل الى مسكنه الآمن بينما لا تملك انتَ واحدًا.
قاطع يونس حديث الشيخ ساخرًا:
- وقد يخرج لك صغير حمار نافق!
ضحك الشيخ ملء السمع، ثم عادت قسماته الى جديتها وقال:
- هل تعرف يا بني من بين كل هؤلاء من هو المحظوظ حقًا؟
ترك يونس للشيخ مهمة اخباره، استطرد الشيخ:
- من علم ان الدنيا ما سُميت دُنيا الا لدنائتها، وحقارتها، فلا يتخذ منها دار مقام، ولا موطنًا لأستقرار، غريب، مجبر على العيش فيها لبعض الوقت قبل ان يرتحل الى موطنه الأبدي.. هل تعرف لماذا كلما نظر جيل من الاجيال التي قبله يوقن انهم في الماضي كانوا يعيشون حياة اكثر سعادة؟
- لأن الناس في الماضي كانوا اكثر جهلًا.
- بل لأنهم كانوا اكثر بساطة! احلامهم بسيطة.. كلما ازدادت الحياة تعقيدًا، وارتفاع ايقاع سرعتها.. نجد ان السخط يحتل القلوب لافظًا الرضا.
اعقب كلماته بالنظر الى سماء خضبتها دماء شمس محتضرة، تبع يونس انظار الشيخ، وايتقرت عيناه عند ابعد نقطة في الافق، حيث يبدو كل شيء بعيدًا وقريبًا في الوقت نفسه.. تمامًا كحواء.
قال يونس:
- هل تعرف متى كانت المرة الاولى التي اكتشف فيها ان شباكي تكفي لصيد كل شيء الا الاحلام؟
انتظر الشيخ الجواب دون ان يحثه عليه، استطرد يونس وعيناه تسبحان بين ثنايا السحاب:
- كان حلمي ان اتخذ من المياه موطنًا، ومن السماء سقفًا، ومن سكان البحر خلانًا، لكن ما ان تخطيت الثانوية العامة حتى افسدت الحياة اكبر احلامي، لم اتمكن من دخول الكلية البحرية التي حلمت بها سنين طويلة، فقط لأنني ابن صياد بسيط، لا منصب ولا جاه ولا مال يشفعون لي، فقط ابن صياد ابتلعته الدنيا في جوفها، وايقظته من حلم اكبر منه.
يعرف الشيخ انسان ان في الصمت احترام لآلام الآخرين.. حين تفشل الكلمات في ان تكون دواء؛ فالصمت هو الطبيب الوحيد.. قال بعد حين:
- هل تعرف انني عشت اغلب عمري اتنقل بين محافظات عِدة، عملت طباخًا، وعامل نظافة، وأمين مكتبة، ونجارًا وبائعًا متجولًا.. ثم انتقلت الى التجارة ففتح الله علي من اوسع ابوابه.. لكنه شاء ان اخسر كل مالي دفعة واحدة، فقررت ان اتوقف عن مصارعة الحياة التي أهلكتني، وعدتُ الى ارضي وناسي، وها انا منذ ثماني سنوات اشعر بسلام لم اشعر به عندما كان المال يجري بين يدي مثل الماء الزلال.
مر وقت طويل لا ينطق احدهما بشيء.
- كيف هي؟
سأل يونس على استحياء فقال الشيخ باسمًا:
- كمن ضل طريقه.. مثلك بالضبط.
قال يونس متأففًا:
- ليست مثلي، نحن مختلفان.
- المشكلة ليست في اختلافكما، فهذا طبيعي، واحد قوانين الحياة، المشكلة الحقيقية انطما لا تُحسنان استغلال الجسور المشتركة بينكما، ليتمكن كل منكما من ان يعبر نحو الاخر.
ثم اردف:
- الرجل والمرأة يا بني كالشمس والقمر، لكل منهما عالمه الخاص، ولكل منهما اهميته الفريدة، للكون كله، قد تتشابه بعض خصالهما، وتتحد سبلهما فيتعاقب الشمس والقمر، لكن الاساس هو اختلاف مداراتهما، وفي هذا الاختلاف كمال من نوع خاص..
محاولة مسخ القمر ليصير شمسًا لن تصنع عالمًا افضل!
الأقطاب المختلفة هي التي تصنع الكهرباء.. والمد والجزر هما اللذا يصنعان الأمواج.
اكتفى الشيخ بما قال، جمع أغراضه، وآثر ان يترك يونس يبحر وحده قليلًا وسط أفكاره، اذ ان الشيخ افضل من يعلم ان الرجل يحتاج الى هذهِ الوحدة، فهي وقود الحياة التي بدونها يفقد قدرته على الأستمرار، وقبل ان يدور على عقبيه قال:
- لا تحرم امرأتك من مشاركة الآمك، انتَ بهذا الأقصاء لا تحميها، بل ترسل لها رسالة سلبية بأنك لا ترغب في قربها منك.
وفي داخل عقل يونس تجلت له هذهِ الحقيقة، هو لم يُرد قط اقصائها، بل كانت تجتاحهُ رغبة جامحة في ان يشعر انه اسطاع ان يكون بطلها او فارسها..
لكنه لم ينجح، لم تثق فيه حواء قط، ولم تمنحه صفة الفرسان.. ايكون هاذا هو سبب الثقب الأسود الذي التهم بجشع كل اللحظات الجميلة بينهما؟!
وفى الشيخ انسان بالوعد الذي قطعه لهما، سيساعدهما على الخروج من المأزق، ويخلصهما من مخاطر مجابهة حرس الحدود، هكذا فكر يونس وهو مع حواء الى كلمات الشيخ:
- بعد ان تحصلنا على التصريحات يجب عليكما مغادرة وادي العلاقي في اقرب وقت، لا تقلقا سأتكفل انا بكل شيء، ولأنني لا آمن عليكما مع احد غيري فسأعاونكما بنفسي على مغادرة الوادي، ثم سنتوجه الى بيتي وهناك سيكون بأمكانكما فعل ما تريدان، ان اردتما الاتصال بأهلكما فأفعلا، وان اردتما البقاء كضيفين مرحب بهما؛ فبيتي مفتوح لكما.
سألته حواء بقلق يحوم فوق صدرها يثقل انفاسه:
- وماذا ان لم ننجح في مغادرة الوادي، ماذا ان افتضح امر التصريحات المزورة؟
- لا شيء من ذلك سيحدث، ثقي بي يا ابنتي.. والآن استعدا للمغادرة مع شروق الشمس بإذن الله، هيا اخلدا الى النوم فأمامنا في الغد طريق سفر طويل.
قالها ثم توجه من فوره الى غرفته الحجرية، بقيت حواء في مجلسها حول نار اشعلها يونس منذ بداية الامسية، يجلس في الطرف المواجه لها، يولي السنة النار جل اهتمامه، يداعبها بعصا رفيعة، فما ان توشك النار على قضمها حتى يبعدها سريعًا، تابعت حواء تلك المناورة حتى ملّت وهمّت بالمغادرة، اوقفها يونس بأن نظر الى وجهها للمرة الاولى منذ صرخ عليها، وقال:
- هل ترغبين في النوم الآن؟
اوشكت على ان تقول نعم، لكنها تركت لنفسها برهة من التفكير دفعتها لتقول:
- لا، الوقت لم يتأخر كثيرًا.
ظنت انه راغب في الحديث معها، الا ان صمته الطويل اوشك على ان ينبأها بخطأ ظنونها، حتى قال بغتة:
- يجب ان نضع معًا تفاصيل الخطة ب.
ايقظت كلماته الليل الناعس، رددت حواء بدهشة:
- خطة ب.. ماذا تقصد؟!
القى يونس نظرة الى فتحة المنجم المؤدية الى الغرفة، والتي عبرها الشيخ منذ قليل، قبل ان يعيد النظر اليها قائلًا:
- يبدو الشيخ واثقًا كثيرًا من اننا سنخرج من الوادي بسلام، انا ايضًا اثق به لكن ماذا ان لم ننجح في ذلك، ان اكتشف حرس الحدود التصريحات المزورة، فسنحاكم بتهمة التسلل.. لذلك قلت يجب ان نضع الخطة ب.
وشوشتها النجوم لتخبرها بأن القادم لا يبشر بخير، تجاهلت حواء ثرثرة النجوم وانحنت بجسدها الى الامام، سألته هامسة دون ان تدري لماذا تشعر بأنها مجبرة على اخفاء حديثها عن آذان النار:
- وما هي الخطة ب؟
زفر يونس نفسًا عميقًا طرد فيه كل توتر يزاحم صدره ثم قال:
- سنروي لهم ما حدث معنا، لكن ماذا ان لم يصدقنا احد، وهذا وارد جدًا نظرًا لأنها قصة خيالية لا تدخل الى عقل طفل صغير، ننام فوق فراشينا في منزلنا في كفر الشيخ ثم نستيقظ في الصباح التالي في كهف بصحراء اسوان!
ان لم يصدق احد حكايتنا فيجب ان نغير اقوالنا، وسيبدو الامر حينها اننا اعترفنا أخيرًا بالحقيقة بسبب الضغط اثناء التحقيق.
تضخم فضولها حتى بلغ عنان السماء، سألته:
- ماذا سنقول اذا؟
قسم عصاه الرفيعة الى نصفين، والقى بها اخيرًا في النار بعدما طال شوقها إليها، فرك كفيه بعضهما  ببعض ثم تأمل وجهها لبرهة قائلًا:
- ستقولين انك تعتقدين انني خدرتك واحضرتك الى هذا المكان، نكاية فيكِ، انتِ لا تعلمين اي شيء ولم تشتركي معي في هذا التسلل الى هذهِ المنطقة الحدودية بوعيكِ او برغبتكِ، اظن انه لن يصعب عليهم التصديق نظرًا لخلافاتنا وطلاقنا الحديث، لم ترغبي في الاعتراف بذلك في بادئ الأمر حتى لا تشعرين بالذنب لما سيلحق بي من اذى، لكنكِ اضطررتِ للأعتراف مخافة ان تُحاكمي بسبب اتهام باطل.. ان لم يستطع كلانا النجاة، فعلى الاقل تنجين انتِ.
تجمدت قسماتها، لا تقوى على الحراك، ومعها كل افكارها ومشاعرها وكأن الزمن اختار هذهِ اللحظة بالذات لتتوقف أنفاسه.. اطال النظر الى وجهها، منذ وقت طويل لم تتقابل اعينهما لتبني بينهما جسرًا،،وقت طويل بدا كألف عام من اعوام سكان الصحراء.. نطقت اخيرًا تقول:
- لن أفعل.
بقدر ما ضايقه اعتراضها الذي أنبأه بمهمة شاقة تتألف من محاولات عدة لإقناعها، فإن سرورًا خفيًا تسرب إليه، اكد قائلًا:
- بل ستفعلين، ان ضاقت بنا السبل ستفعلين، عديني بذلك.
هذهِ المرة بدت كلماتها أكثر حدة وهي تهتف:
- لن أفعل!
ثم اردفت وهي تهجر مجلسه حول النار، وتغادر بحركة عصبية،:
- كيف تطلب ذلك مني؟
لحق بها يقبض على ذراعها ويديرها لتواجهه، افصح بحزم:
- قلت لكِ ستفعلين، لا فائدة من عقاب كلينا على ذنب لم نرتكبه..
شاب نوبي قابلته اليوم في القرية اخبرني انه يخشى ان تصل عقوبة التسلل الى منطقة حدودية  الى الاعدام اذا ما حُوكمنا ايضًا بتهمة التجسس، والتزوير.
نزعت ذراعها هاتفة:
- لن افعل ذلكَ بك!
لا يزال الزمن عاطلًا عن السريان، سكتت الرياح عن الترتيل، واختفت عن عينيها كل الخيالات، حتى الشريط السينمائي فشل في اعادة الدوران كعادته كي يذكرها بكل ما فعله يونس من قبل، وبأسباب كافية لتكرهه، اغلقت عليها نظراته، اي منفذ للهرب، ثم قال محاولًا الوصول الى ابعد نقطة من نفسها:
- لماذا؟ الستُ انا الرجل الذي تكرهين؟ بل الرجل الذي يحتل اكثر الاماكن بغضًا بقلب؟ ها قد سنحت لكِ الفرصة للتخلص مني.. والى الابد.
السماء رائقة لا تُنبئ بأمطار ليلية، والهواء ساكن لا يشي برياح عكسية، فمن اين اذن تساقطت هذهِ الامطار في عينيها، ومتى عصفت الرياح بجسدها لتصيب أطرافها برعشة شتوية؟!
ارادت الفرار، حاولت، جاهدت، عاندت، تحاملت، لكن القيد كان متينًا، والاسر كان حليمًا، لم تنفر منه هذهِ المرة، ثبتها في الارض كشجرة عمرها الف عام، شاخ جذعها، وتهدلت اغصانها، ولا تزال اثمارها لم تنضج بعد.
- اجيبيني.. لماذا يصعب عليك فعل ذلك؟ الستُ انا الرجل الميت الذي تزوجتِ به كما كُنتِ تحبين ان تصفيني.. الستُ انا جسد بلا روح، كنت تبتهلين الى الله ليخلصكِ منه.. الستُ انا من قتلتِ سمكاته ومزقتِ اوراقه وثقبتِ آثار سيارته بغضًا له.. ها انا اعطيكِ الضوء الأخضر لتوجهي لي المزيد من الضربات، فلماذا لا تفعلين؟
أيحسبها مسخًا بلا قلب، جمادًا بلا عقل، ايضن انها حقًا تملك القوة الكافية لتلقي بهِ في النار مثل العصا التي القاها قبل قليل، صاحت بغضب أرتعدت له عشر نجمات قريبات لحديثها كُن مُنصتات:
- لا ارغب في موتك، ولم ارغب قط.. لماذا تشعرني دائمًا انني أمرأة متحجرة القلب؟
قتل سمكاتك شيء، وقتلك انت شيء آخر، يحلو لك ان تراني مسخًا، لكنني لستُ كذلك.
تهدج صوتها مع آخر كلماتها، القيد الذي فرضه عليها بنظراته لا يزال قويًا، فرّت بعض قطرات المطر من عينيها، لكن لم يكن ذلك هو السبب الذي جعله يطلق تنهيدة قوية ثم يقول:
- أعرف انكِ لستِ كذلك، بل لعلي انا المسخ بشكل ما.
كادت ان تخبره انه ليس كذلك، لم تفعل، إذ انتبهت الى امر ادهشها، تحدث الشيخ انسان عن خطأ في الترجمة، وكان كل منهما يتحدث بلغة مختلفة عن الآخر، لكن باغتها شعور قوي في هذهِ اللحظة انهما يتحدثان ذات الحروف، وينسجان ذات الكلمات، حتى الفواصل والنقاط، الوقفات والسكنات، علامة الاستفهام ومبتدأ الكلام، الفاعل وما يرفع به، المفعول وما يُفعل به.. بات واضحًا لها محل يونس بقلبها من الاعراب.
الشمس تشير دومًا الى الحقيقة، لكن الجميع يُفضل الضوء الباهت للقمر، ليس لأنه أكثر رومانسية، بل لأن الحقيقة غالبًا ما تكون صادمة، كاشفة، مُلزمة بالكثير، ولم تجد في نفسها القدرة على الالتزام بشيء؛ لذلك لجأت للهرب، كما اعتادت على ان تفعل دائمً، هذهِ المرة لم تُلقِ له بسمكة رنجة حمراء، فقدت قدرتها حتى على صنع ستار للألهاء.
يونس تعلم درسه جيدًا، الصياد الماهر لا يترك صيده يعود مرة اخرى الى البحر في اللحظة التي يحكم فيها الشباك حوله؛ لذلك لم يسمح لها بالفرار، انقض على معصمها ثانية يثبتها في مواجهته، ود لو قال الكثير، ود لو منحها آذان قلبه ليسمع كل ما تريد ان تقص عليه من حكايات، لم يكن يومًا بهذا القدر من الراحة والانفتاح، وكأن جبالًا من الوسواس سقطت عن كتفيه في هذهِ اللحظة بالذات، اراد ابحارًا آمنًا بين صخور البعد وشعاب الأقتراب؛ فناشدها هامسًا:
- ابقي قليلًا:
وكانت اكثر من يرغب بالبقاء، تراءى لها الليل يقضًا اكثر، ودافئًا اكثر، يذكرها بانها الليلة الأخيرة لهما بين احضان الصحراء، عادت الى مجلسها حول النار، جاورها يونس، لفظ الصمت من قاموسه، وأخذ يقايضها الكلمة بالكلمة، أما هي فعاهدت نفسها الا تدير الشريط السينمائي أبدًا هذهِ الليلة.
دار بينهما حديث غريبين قريبين! يتحسس كل منهما موضع كلماته لئلا يطأ منطقة ملغمة تنسف ودًا يطل برأسه على استحياء عند الحدود الفاصلة بين أرضيهما.
سابقت الكلمة اختها حتى اوصلتهما معابر الحديث الى اليوم الأخير لحواء في المصنع، فما كان من يونس إلا ان طالبها بأن تشرح له بالتفصيل ما حدث بينها وبين الرجل الذي عرض عليها المال مقابل المعلومات التي تلزمه من مكتب الجد سُلطان، ولأنها تملك ميزة الأهتمام بالتفاصيل؛ أخذت تشبع فضوله بوصف ما حدث وكأنه يراه رأي العين.
حك يونس رأسه كمن يستجدي عقله العمل بسرعة اكبر، ودقة اكثر، ثم قال:
- الكلمات التي وجدتها على الجدار كانت (بر إي لق).. هل تمثل لكِ اي معنى؟
- لا، أسمعها للمرة الأولى، بأي لغة تكون يا ترى؟
- لا اعرف.
تذكرت حواء البطاقة فأسرعت تخبره بأمرها، وتصفها بدقة، تختم حديثها قائلة:
- لكنني لم أفهم معنى رأس التمساح المطبوعة فوق هذهِ البطاقة.
راقبت تغير قسمات يونس وأضطرابه، اضطراب لا ترصده سوى عين يقظة، ولشد ما كانت عيناها يقظتين تلك الليلة، نهض فجأة يتمنى لها ليلة سعيدة، وقفت بدورها تسأله بدهشة عما أصابه، لم يجبها، كان حادًا وهو يقول:
- يكفي سهرًا، سنتحرك باكرًا.
قالت بعناد:
- لا اريد النوم.
فأنفعل محتدًا:
- هل تظنين أننا في شرفة المنزل، هذهِ صحراء شاسعة لا نعرف ما الذي تخبئه لنا، ثعابين، ذئاب، عقارب.. هيا للداخل.
وكأنه اتفق مسبقًا مع احد الذئاب، دوى صوت عواء طويل مزق السكون وزلزل قلبها.. فعلت كما طلب على مضض، لم تملك القوة الكافية للشجار مرة ثانية في اليوم نفسه، لكن الارق ظل يحاورها حتى مطلع الفجر، لا يلقي عليها سوى سؤال واحد فحسب.. لماذا تغير يونس فجأة بمجرد ان أتت على ذكر البطاقة ورأس التمساح.. هل يمكن ان يكون يونس احد اسباب الغرائب التي تحدث لها؟!
ساعات طوال لم تعثر على جواب مقنع تمنحه للأرق فيقر به عينًا..
وازدادت حيرة على حيرة.

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now