.......

272 33 1
                                    

استعاد جسد هَدَل الحياة التي فقدها، بدا بقوة شاب وهو يتقافز هنا وهناك، ويطلق صيحة النصر، حتى ارتج القارب يمنة ويسرة، انكمش تّمام على نفسه مخافة ان الرجل الهائج في ان ينقلب بهم القارب في وسط المياه.
كانت نظرات يونس وحواء الذاهلة مثبتة على مكان الصندوق الذي اختفى للتو!
لم يعارض الصندوق قوانين الطفو، بل احترمها كما تحترم الاقدام قوانين الجاذبية فتسير على الارض لا على السماء، قال يونس بحيرة:
- كيف حدث ذلك؟ هل مصادفة؟
ضحكت حواء ملء القلب وهي تقول بحيرة مماثلة:
- لا اعرف، لا اعرف حقًا.
أعاد عقلها الشريط السينمائي لثوانٍ الى الوراء.. عندما اقتنعت بكلمات يونس وارتأت ان لا فائدة من حبس الشتاء بداخله، ألقت الصندوق في النيل بغير اكتراث، فأخترق المياه تمساح ضخم لم تقع انظارها على مثله، وثب فوق الصندوق واختطفه بلمح البصر، ثم غطس به نحو القاع.
كانت قد تسائلت عن دور التمساح الحارس في الاسطورة، ها هي قد عرفت الجواب!
واخيرًا فطن هَدَل الى السر الذي عرفته زهرة الورد في الأسطورة الحقيقية، صندوق الشتاءات لم يأمر بصنعه ساحر لئيم، بل ناصح حكيم.. صندوق الشتاءات لا يحبس الشتاء بداخله، بل يُعلِّم حامله كيف يتقبل فصول الحب كما هي!
كان الوقت ليلًا، القمر يتجلى من شرفته ليوزع هدايا بلون الفضة على الجميع، اختفت النجوم هذهِ الليلة حرجًا؛ فنجوم الارض كانت أشد منها بهاءً.
فتيات يرتدين الجرجار بألوان البهجة السبعة، يزينه ما يتدلى من اعناقهن، قرص جابر او قلادة اصغر حجمًا.. بينما ترتدي ام العريس شاوشاو من الذهب البندقي، انقى انواع الذهب.. يحتار الرائي هل هذا البريق مبعثه الحلي، ام انعكاس الفرحة في عيون سوداء مكحلة.
             دقوا على الدفوف يا اهل القبيلة
             نظموا الصفوف وادعوا كل عيلة
                الليلة الحنة، وبكرى الدخلة
              زغرطوا يا بنات.. يا بنات الحنة
صدحت الجدران تشاركهم اغانيهم المتوارثة جيلًا بعد جيل، يحيون الليلة الاولى من ثلاث ليالٍ من الفرحة قبل يوم الزفاف، يسمونها ليالي الحناء.
حضر الكبير والصغير، الغني والفقير، يقدمون التهاني والهدايا، يغنون مع الحان فولكلورية، ويرقصون الاراجيد رقصة اجدادهم المميزة، ثم يتبعونها بالرقص مع الكرباج.
كان في تجمعهم تحت الاضواء المعلقة شكل القمر المضيء في سمائه.
         صقفة على الكفوف دي الفرحة الكبيرة
              قابلوا الضيوف وباركوا للأميرة
                الليلة الحنة، وبكرى الدخلة
             زغرطوا يا بنات .. يا بنات الحنة
ومن احدى الشرفات اطلت اميرة الحفل، ترد بالبسمات كلما التقت عيونها بعيون تدعو لها بحياة طويلة مفعمة بالحب وبالبركة.
ترتدي جرجار اصفر تحته بطانة باللون ذاته، يطوق عنقها الأسمر الساحر الأصفر، ومعصميها وأصابع كفيها، كانت زاهية كما يليق بالليالي القمراء.
            مبروك يا عريس اخترت الاصيلة
          دي اجمل ونيس في الرحلة الطويلة
                الليلة الحنة، وبكرى الدخلة
             زغرطوا يا بنات.. يا بنات الحنة
لم يكن زفافًا عاديًا، فالعروس من قبيلة الجعافرة والعريس عبدون من قبيلة العبابدة.. اختار جد العروس جزيرة هيسا مسرحًا للزفاف تأدية لنذر قديم.. فأهل الجزيرة فتحوا له ابواب بيوتهم يوم ان هُجِر من قريته الصغيرة قريب النيل.. واقسم ان يعود الى الجزيرة ثانية ليقيم فيها زفافًا لم يشهد النوبيون مثله، ويطعم جميع اهل الجزيرة من وليمة عظيمة، تزوج ابناؤه في ضوف لم تُهيئ له الفرصة ليؤدي نذره، اما في بلاد الشمال او في الغربة، لكن مع زفاف اول حفيدة له قرر ان اوان الوفاء بالنذر قد حان.
كانت الليلة الاخيرة ليونس وحواء في الجزيرة قبل الهرب، لذلك قررا الذهاب بالساعات المتبقية الى اقصى طاقات الاستمتاع.
عندما اخبرهما الشيخ انسان عن الزفاف المقام على ارض الجزيرة في المساء تحمسا للحضور.. لا يزال يونس حتى هذهِ اللحظة لا يعرف لماذا لم خبر هَدَل الشيخ إنسان بشكوكه بشأنه يوم ان صرّح بها في القارب.. عرف ذلك لأن الشيخ ظل يحفظ له الود، ولم تتغير معاملته قط.. فتأكد ان هَدَل لم يبح له بشيء.. فكّر يونس مرات عديدة ان يتحدث الى الشيخ فيلقي بالتهم في وجهه صراحة، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة.. حتى ان كان الشيخ متعاونًا مع الشركة المنافسة في اختطافهما فلن يعترف بذلك بالتأكيد.. ورغم ذلك لم يستطع ان يبغض الشيخ، التمس له العذر بأن ظن ان الشيخ نفسه قد يكون ضحية خدعة مارسها صاحب الشركة المنافسة عليه.. المشكلة فحسب، انه لا يستطيع التأكد أي من هذه الاحتمالات هو الصواب، عض الخوف قلبه عندما حاول الاتصال مرات عدة بالجد سُلطان دون جدوى.. فهاتفه مغلق على الدوام، وهاتف ابلة عفت كذلك.. فأما ان الأثنين قررا تغيير ارقامهما مخافة ان تتبع الشرطة محادثاتهما مع يونس وحواء.. واما ان مكروهًا قد اصاب كليهما.. خاصة ان رسول جده لم يصل الى الجزيرة حتى الآن..
لكنه استبعد الاحتمال الثاني، لو اراد الخاطف بهما سوءًا لفعل منذ البداية ولمّا كلف نفسه مشقات هذه الرحلة.. وقد تكون حواء محقة في ظنونها من تلاقي حدثين في الوقت نفسه.. السحر والاسطورة.
قبيل حفل الزفاف بنصف ساعة، انتهت حواء من ارتداء الجرجار بعد ان غسلته، وخرجت تنظم الى يونس عند بداية المنحدر، فوجئت به يدنو نحوها مبتسمّا على استحياء، يقدم لها شيئًا ملفوفًا بغلاف فضي بغير اتقان، ويهمس لها:
- وددتُ لو قدمتُ لكِ الافضل.
فضت الغلاف فأنكشف ما ستره، حذاء بغير كعب يطابق مقاس قدميها، ويوافق لون الجرجار.. رفعت صوبه عينين تبتسمان، لم تكن المرة الاولى التي تتلقى فيها الهدايا، لكنها شعرت هذهِ المرة ان يونس مدفوع برغبة حقيقية في اسعادها؛ فأحسن انتقاء ما يوافق ذوقها واحتياجاتها، لم تفرح بالهدية لكونها هدية، بل لأنه انتقى لها الشيء الذي ينقصها، اهتم بالتفاصيل ونظر الى حذائها الذي ابلته رمال الصحراء وقساوة الطرقات، وعرف انها تحتاج ال آخر جديد دون ان تشير عليه بذلك.
لم تكن هديتها الأثمن، لكنها ستظل الاقرب الى قلبها رغم بساطتها.
غمرتها بهجة العرس كما لو كانت ابنة الجزيرة، لا يفرق بينها وبينهم سوى لون بشرتها، لكن القلوب حملت اللون ذاته؛ فتألقت، احتفوا بها وبيونس تذوقت طيب طعامهم، وشاركتهم الضحكات والسمر.
لم يكن يونس اقل منها بهجة، خاصة وهو يستقبل عبدون مرحبًا بقوله:
- إر تمامايري؟.. ( انتَ تمام؟ ).
أجابه عبدةن باسمًا:
- أي تماما....( انا تمام )..... سمعت انك تعلمت النوبية هنا.
- كلمات قليلة فحسب.
رغم قصر عمر معرفتهما فإن رابطة صداقة قوية لاحت في الافق، استمسك بها كلاهما، سأله يونس ممازحًا:
- الا يجب ان يتزوج الرجل من قبيلته، والمرأة من قبيلتها؟
ضحك عبدون قائلًا:
- لا نشترط ذلك، المهم انها نوبية وليست ( جُربَتِّية ).
- ليست ماذا؟
- جُربَتِية.. غير نوبية.. البعض لا يزال يتشبث بذلك.
اومأ يونس برأسه متفهمًا، فأضاف عبدون وهو يرمق الجمع بأبتهاج، وعندما سأله يونس عن اصول قبيلته أجاب:
- العَبابدة يفخرون بأن جدهم هو الزبير بن العوام الصحابي الجليل.. والجعافرة من نسل جعفر الصادق رضي الله عنهما وارضاهما.
هجم اصدقاء عبدون عليه يطوقونه ويجذبونه ليشاركهم رقصة الاراجيد، كتفًا بكتف، وقدمًا بقدم، كالبنيان يشد بعضه بعضًا.. اشغل الجميع بالرقص، وابتعدت عنهما العيون المتفحصة، شعرت بيده تنسل مستترة بستر بالزحام لتطوق كفها في يقين لا يشوبه شك، اتسعت ابتسامتها وإن لم تنظر اليه، ثم مالت نحوه لتقول:
- يفترض اننا لسنا زوجين، ماذا سيقول الناس الان؟
- ومن قال اننا لسنا كذلك؟
استحالة البسمة الى حيرة، ثم دهشة، سألته:
- ماذا تقصد؟!
مال صوبها يقول:
- اتذكرين متى امسكتُ بيديك للمرة الأولى فوق الجزيرة؟
تذكر جيدًا كيف كانت الرياح يومها جامحة، لا لم تكن الريح وحدها.. قالت:
- نعم، يوم عدنا من النزهة النيلية.
حملت لها نسمات الرياح كلماته:
- في تلك اللحظة.. رددتُك الى عصمتي.
انبعث قلبها من رقاده، يشدو فرحًا وابتهاجًا، امسكت بلجام صوتها المضطرب وهي تقول في عتاب مصطنع:
- دون ان تسألني رأيي؟
جاوبها سؤالًا بسؤال سابحًا بباصريه بين حنايا وجهها:
- وهل تمانعين؟
كانت ناقمة على شرع منحها من عمر الكون ثلاثة اشهر للعدة، تمضيهم جنبًا الى جنب مع رجل لا تريده ولا يريدها، والآن زارتها الحكمة، العدة فرصة ذهبية منحها الله لزوجين متشاحنين ليتألف قلباهما من جديد..
انتفضت لأصوات الكرابيج على الارض، اجتمع الشباب يطوقون عبدون في شكل دائرة ويتمايلون في حركات ممنهجة، بدا لها النيل في هذهِ اللحظة يتمطّع ليشاركهم رقصاتهم.
دنت منها الحنّانة تود ان تنقش على يدها احدى الرسمات، كما فعلت مع كل النساء في العُرس، فسألتها المرأة قائلة وهي تنظر بفضول نحو يونس:
- بنت ام متزوجة؟
هزت حواء كتفيها تقول:
- وما الفارق؟
- المتزوجة ترسم اليدين معًا، وغير المتزوجة ترسم يدًا واحدة.
لم تكن الحنانة وحدها تنتظر الجواب، يتلهف لجوابها قلب الرجل الجالس بجوارها، ادركت انها كانت تحمل في قلبها دومًا صحراء لا قطرة فيها ولا كلًا..
نجح يونس في ان يزرع فيها اول نبتة، تمكّن اخيرًا من ان يشعرها بانها امرأة مرغوبة، انثى كاملة يتقبلها كما هي، بمحاسنها ومثالبها، بفضائلها ونواقصها، بعقلها وجنونها؛ ففجر بداخلها ينابيع العطاء، في هذا الزمان الانسان الشجاع هو الذي يقدر على الحب، ويونس اثبت انه يتحلى بأخلاق الفرسان.. جمعت اطراف حيائها، ونثرت دلالها تقول بغنج وهي تمد يديها:
- ارسمي الأثنتين.
قفز قلب يونس طربًا، ومنحها نظرة حب اضائت ما بين السماء والارض، ادركت انه لا يكفي ان يكون صيادًا حتى يعثر على اللؤلؤة، بل عليه ان يكون بحارًا جسورًا يغوص في الاعماق ليفوز بها.

ثاني أكسيد الحب Donde viven las historias. Descúbrelo ahora