.......

281 29 6
                                    

إذا كان فضول القط قتله وحده، فإن فضول المرأة قادر على ان يقتل نصف سكان الارض دفعة واحدة!
إيمان هَدَل بذلك دفعه لأن يتربص بحواء الدوائر، انتظرها عند مطلع الطريق بعيدًا عن أعين المتلصصين، وحاول ان يقنعها بالعودة مع يونس الى المكان القديم لجزيرة فيلة، ليحاولا القاء الصندوق من جديد.
بدا يائسًا وهو يستجديها ان تقبل عرضه بفرصة جديدة لم يمنحها لأي زوجين من قبل، فكل زوجين استنفدا فرصتهما لم يسمح لهما بأن يعيدا الكرة مهما اصرا على ذلك، وعندما سألته عن سر رغبته في ان يمنحهما الفرصة الثانية، اجابها:
- جاءني أبي في المنام قبل قدومكما الى بيتي مع الشيخ إنسان، جلس برفقتي طويلًا وكأنه لم يكن حلمًا، وكأنه جرني عنده في قبره وعقد معي جلسة حكمة، يسكب في مدامعي درر اقواله كما كان يفعل في صغري، ثم قال لي انكما المختاران لأحياء اسطورة صندوق الشتاءات مرة اخرى، كانت اشارة، وانا دومًا اتتبع الاشارات، وأثق بها.
كان الرجل مهيبًا، منذ ان وقعت أنظارها عليه للمرة الاولى قذف بهيبته في قلبها لكنه الآن بدا بائسًا كطفل ضل الطريق الى بيته، وينشد المساعدة من الغرباء، حتى ظنت انه سيدخل ابهامه بين شفتيه ويمصه كما الرضع، انتفض قلبها في وجل عندما افترش الارض تحت قدميها واخذ يبكي بأنين طويل متصل كعواء حيوان جريح، تركته في موضعه وولت هاربة، ولم تنظر خلفها ثانية.
عندما التقاها يونس عند المنحدر المؤدي الى بيت الشيخ إنسان شعر بفزعها، فأقترب منها يهدئ من روعها، ويسألها عما أصابها، خافت ان تخبره بأعتراض هَدَل لطريقها فتفقد بذلك كل فرصها في ان يقبل يونس ان يعود برفقتها ثانية الى مكان الاسطورة.
رغم كل شيء ما زال جزء من عقلها يصدق كلمات الرجل ذي الرأس البندقي، إذا كانت قد وافقت على خطة يونس للهرب وهي التي لا تؤمن بقناعاته عن الشيخ إنسان واشتراكه في جريمة اختطافهما، اليست ايضًا مدينة لنفسها بأن تسير في الطريق الذي تؤمن به حتى نهايته؟
ماذا لو لم تكن مجرد اسطورة خرافية، ماذا لو كان الصندوق المسحور قادرًا بالفعل على ان يحبس شتاء علاقتهما بداخله، عندها لن تسود الخلافات حياتهما ابدًا، وسينعمان بعمر مديد من الحب.. الا يستحق الحب ان تسير في هذا الطريق الى نهايته؟ ليس عليها شيء سوى ان تؤمن ان هذا الصندوق قادر على حبس الشتاء بداخله، وان تحاول ثانية ان تحبسه، هي التي لا ينقص الايمان بذلك من قلبها، لماذا لا تحاول ثانية.. ماذا ستخسر ان حاولت؟ في الحقيقة لا شيء، لن تخسر شيئًا ان حاولت، لكنها ستخسر ان لم تحاول.. وسيبقى عقلها معلقًا بذلك الصندوق الى الابد، ويحاصرها فضولها في اليوم الواحد الف مرة، يسألها، ماذا ان كانت اسطورة الصندوق المسحور حقيقية؟!
لم تكن مهمتها في اقناع يونس سهلة، لذلك لم تحاول الحديث عن صحة الاسطورة، بل قفزت مباشرة الى قلب الهدف، إذ ان هذا هو الاسلوب المفضل للرجال دومًا:
- موافقة، سأرحل معك من الجزيرة هربًا في الوقت الذي تحدده، لكن في المقابل سنخوض ثانية الرحلة الى الموقع القديم لجزيرة فيلة.
خاب أملها، لم تكن مساومة يونس سهلة كذلك، كان أكثر ما يخشاه هو الرجل الذي لا يرتدي سوى الأسود، يدعي قدرة لا يملكها، مستغلًا عينين زرقاوين ميتتين تثيران القشعريرة في النفوس، لم يحب طريقتها في مساومته على شيء مقابل شيء، ليس هكذا يحب ان تسير الامور بينهما، قال بحزم لا يخلو من الضيق:
- حواء انسي ذلك.
كانت تلك هي الشرارة الأولى التي أعلنت بدء خلاف جديد، ادركت حواء ذلك، فانقضت على تلك الشرارة تسحقها في يدها، لن تمنحهما فرصة إشعال حريق جديد بينهما، قالت بصوت بدا هادئًا لا يشي بما يعتمل داخلها من اصرار :
- لماذا؟ أعطني سببًا واحدًا.
- لأن كل ذلك هراء.. تقول الاسطورة ان الصندوق سيغطس في القاع إذا صدق الزوجان واحسنا حبس الشتاء بداخله، كيف يمكن لصندوق خشبي صغير ان يغطس في الماء؟ هذا يناقض قانون الطفو.. ويعارض المنطق بشكل صارخ.
- ما دمت تثق بذلك؛ فلماذا انتَ خائف من المحاولة؟
- لست خائفًا، بل لا ارى جدوى من وراء ذلك.
- لكنني احب ان افعل، ارجوك، اريد ذلك حقًا.
- لا يا حواء انتهى النقاش.
لم تعد تقوى على حبس الشرارة في كفها، حررتها، وضاعفت من حجمها بقولها:
- عدم الذهاب ليس امرًا تقرره وحدك.
- والذهاب ليس امرًا تقررينه وحدكِ.
اصبحت الشرارة كرة نار توشك على حرق أحدهما، أو كليهما معًا، صاحت حواء:
- انظر ماذا يحدث لنا، اننا نتشاجر من جديد، لا يمضي يوم واحد دون ان نفعل، هل تريد ان نستمر في حياتنا معًا على هذا النحو؟
على غير المتوقع نبت فوق ثغره ابتسامه واسعة، ثم سألها:
- وهل تريدين ان نمضي حياتنا معًا؟
استدعت بوصلتها توجهها الى اصدق جواب، قالت اخيرًا:
- اريد ان اعيش معك حياة خالية من الخلافات، اريد ايامًا خالية من الشتاءات، اريد ربيعًا، وخريفًا، وصيفًا فحسب.
ترقرق الدمع في عينيها، اردفت:
- لا اريد حياة بائسة كالتي عاشها ابي وأمي.. لا اريد ان انجب اطفالًا يتعذبون مثلي من جراء علاقة فاشلة تجمع ابويهما.. لا اريد ان اكره نفسي.. لا اريد ان اكره الحياة يا يونس.. اريد ان احبها.
رغم صدق رعبتها في ذلك فأنها ادركت في هذهِ اللحظة انها كانت مسيرة منذ اول لحظة في علاقتها لأن تعيش نفس الحياة التي كرهتها، دون ارادة منها كانت تسير على خطى والديها، وكانت تدفع بيونس الى كل الطرق المسدودة، وكأن جنًا مارقًا تلبسها وجعلها تأتي بعكس ما ترغب، الآن امامها فرصة حقيقية للتخلص من ذلك الشتاء الجاثم بثقله فوق انفاس علاقتهما، لا تريد ان تضيع هذه الفرصة التي لن تتكرر ثانية، فاض من عينها الالم اردفت:
- قلت لي يوم ان ذهبنا في النزهة النيلية انك استعدت شعورك بالخفة الذي فقدته كثيرًا، اما لم اشعر يومًا بالخفة، بل بحمل ثقيل يسحق بصدري.
فرّت دمعة اخرى، تشد من خلفها ثلاث دمعات، شدها يونس اليه وتركها تسكب فوق صدره الدموع والآهات والأوجاع، لم تعد حواء ترى ضعفها عورة يجب سترها عن عينيه، كان قلقًا من ان يأتي بكلمة تبدد سكنها اليه؛ فلم ينطق بشيء، لم يطالبها بأن تكف عن البكاء، يعرف منذ ان تعلم ان يديم النظر السماء انها لا تتوقف عن المطر الا عندما يجف قلب السحاب.. فترك لصدره مهمة تجفيفه.
نظر للأيام الماضية منذ ان استيقظ في بطن الكهف كرحلة شفاء ، وان هذا المطلب لحواء بمثابة خطوة على طريق الشفاء، ولعلها الخطوة الاخيرة التي ستستقيم حياتهما من بعدها.
لبى طلبها، ولدهشتها لم تصدق ان يتخلى بهذهِ السرعة عن عناده ويوافق على اصطحابها مرة ثانية الى الموقع القديم لجزيرة فيلة، كانت الرحلة الثانية لا تختلف كثيرًا عن الاولى، الا ان هَدَل عندما حاول تجاذب اطراف الحديث مع يونس وجد منه صدًا ونفورًا، فجلس في موضعه من القارب صامتًا لا يفارقه، مخافة ان يثير حفيظة يونس؛ فيقرر الغاء الرحلة.
تابع تمّام مهمته كدليل لم يستأجره احد، قال:
- والذي لا يعرفه الكثيرون ان اول من فكر في اقامة السد العالي هو العالم العربي الفَذ الحسن بن الهيثم، استندت فكرته الى تقديرات وانطباعات نبتت في ذهنه العبقري واسع الخيال.. لكن زمنه خلى من الامكانيات اللازمة ليتجسد خياله العبقري الى واقع.. لكن الاوفر حظًا كان ادريان دانينوس مصري الجنسية، يوناني الاصل.. عاش في زمن توفرت فيه الامكانيات.. عندما طرح فكرة بناء السد في الاربعينيات قوبلت بالتجاهل في بادئ الأمر، ولم يتم النظر فيها حتى عام الف وتسعمائة واثنين وخمسين.
بلغ القارب موضع الصندوق، فشلت المحاولة الثانية، والثالثة، والرابعة.. وبعد عشر محاولات فاشلة عاد القارب بحمله الى الجزيرة هيسا يجر خلفه اذيال الخيبة، قال لها يونس:
- لا تحزني.
كان في الماضي يظهر لها امارات الشماتة ويقول جملته الخالدة أخبرتكِ من قبل، لم تستمعي لكلامي، لكنه هذهِ المرة لم يفعل، بل اظهر تقديره لخيبتها، وامتنت له حواء في نفسها.
نكّس هَدَل رأسه، وتهدل كتفاه وكأن مائة عام أُضيفت الى عمره، التزم صمتًا لم يحاول يونس تبديده.
في الصباح السابق لليوم الذي قررا فيه الهرب، اهادت عليه حواء طلبها، لكن هذهِ المرة بغير جدال، فقط قالت بصوت مضطرب:
- هل توافق على ان نحاول مرة اخرى؟
بدت امامه ضائعه، عقلها مشتت، وقلبها لا يعرف بر الأمان، لم يطل تفكيره، قال:
- هل تعديني ان تنسي الأمر برمته بعد هذهِ المرة، وان تخرجي هَدَل والأسطورة والصندوق المسحور من عقلك تمامًا؟
قالت بحماس طفولي:
- نعم، اعدك.
هذهِ المرة شعرت أنها ستكون مختلفة، يجب ان يحدث شيء هذهِ المرة، فكرت طوال الطريق الذي تستغرقه الرحلة في طريقة جديدة لحبس الشتاء، فأرتأت ان يقطع يونس جزئًا من قميصه، وتفعل هي بالمثل مع ملابسها القديمة، لم تكن تحب ان تؤذي الجرجار الذي أهدته لها السيدة ملوك، فعل يونس بغير اقتناع، القيا الصندوق في النيل، وكالعادة بدا المشهد التالي مكررًا، يسحب هَدَل صندوقه العتيق، يبكي وهو يتحسسه كأنه رضيع فاقد الانفاس يحمله بين يديه..
ويتذلل لهما حتى يحاولا مرة اخرى بطريقة اخرى.
جذب يونس الصندوق من يده بعنف، ورفع اصبعه محذرًا يقول:
- اصمت، لا اريد ان اسمع صوتك، انتهى الامر، لن نلعب لعبتك السخيفة مرة اخرى، وان اعترضت طريقنا ثانية فلن القي بالصندوق في النيل هذهِ النيل هذهِ المرة، بل سألقي بك انت.
انزوى هَدَل في ركن القارب يدفن رأسه بين ساقيه.. اصاب حواء الوهن، التفتت صوب يونس تقول بحرج:
- لعلك على حق يا يونس، انجرفتُ وراء الأوهام.
لاحت ابتسامة بسيطة فوق ثغرها وهي تردف:
- كان حلمًا طفوليًا سخيفًا، عندما كنت ارى ابويّ يتشاجران ويتصايحان كما يحدث في مصارعة الديوك، كنت اجلس في احد الاركان، ارتجف وادعو الله ان يحبس الشيطان في النار فلا يعد يثير الخلافات بين ابي وامي، وعندما لم يُستجب لدُعائي، تمنيت لو كان عندي صندوق كبير أحبس نفسي بداخله عند بدء شجارهما فلا أعود اراهما ولا اسمعهما حتى ينتهيا، ثم تطرفت الاماني مع عنف شجاراتهما حتى تمنيت ان احبس ابي وامي بداخل الصندوق ولا افتحه ابدًا.
توقف يونس عند كلماتها طويلًا، فسرت له الكثير من تصرفاتها معه، بات يفهمها الآن اكثر مما فعل في اي يوم مضى، اصبح قادرًا على الغوص في الاعماق بنفس مهارة الاسماك العمياء.. ابتسم يونس وهو يحتظن كفيها بين يديه قائلًا:
- وهل تظنين ان العلاقات السوية خالية من الخلافات؟ لم تري ولم تسمعي بعلاقات سوية لذلك ظننتِ أنها بنعومة الاحلام.. قلتِ لي انكِ ترغبين في علاقة لا شتاء فيها، فهل فكرتِ كيف سيصير الربيع ربيعًا بلا شتاء يروي البذور.. كيف سيصير الخريف خريفًا بدون شتاء تنبت فيه الاوراق التي تأخذ دورتها في الاخضرار ثم تتساقط يابسة لتنبت مكانها اوراق جديدة..
كيف سنشعر بدفء الصيف بدون شتاء يعلمنا ما بينهما من متناقضات؟
لا اظن ان ما ينجح العلاقات هو خلوها من الشتاء، بل قدرتها على احتوائه حين يحل، حتى يمر الى الفصل التالي بسلام.
الم يقل لكِ الشيخ انسان ان للحب فصولًا اربعة، فلماذا افترضتِ انها تحل بالحب مرة واحدة، ربيع واحد، شتاء واحد، خريف واحد، وصيف واحد.. لا اظن ان هذا ما اراد اخبارك به، اظنه ارادك ان تعرفي ان الفصول تتابع على الحب ما دام حيًا، كحياة الانسان، يمر فيها بعشرات الربيع، والشتاء، والخريف، والصيف.
أخذ نفسًا عميقًا زفره ببطء ثم اردف:
- لو كان الحب غير شتاء فهو حب منقوص، غير ناضج، حب زائف غير حقيقي، وانا اريد لنا حبًا قويًا يجمعنا، نعمل على حمايته والمرور به من ضربات البرق والعواصف الهوجاء.. لأننا نستحق ذلك.
مر بخاطره دُرر الحكمة التي القاها الشيخ انسان على مسامعه ذات مساء:
- هل تعرف يا بني لماذا تكثر حالات الطلاق بين الشباب، وتندر جدًا بين كبار السن؟ من اهم اسباب ذلك ان العمر كلما تُقدم؛ قلت الفروقات بين الرجل والمرأة، تأفل الهرمونات، وتتبدد الأختلافات.. ويقترب سلوكهما من بعضهما البعض، حتى لكأنهما يتحدثان بلغة شديدة الخصوصية لا يفهمها سواهما.. اما في الشباب تكون الفروقات بارزة، تؤهل كل منهما لأن يلعب دورًا متمايزًا فوق مسرح الحياة.
كان لكلمات يونس على قلبها مفعول السحر، للحبيب يد خفية تمسك بتلابيب القلب وتقوده حيث تشاء، وأصبح ليونس على قلبها هذا السلطان.. أطلّت السكينة من شرفات عينيه وهو يقول:
- الحب مثلنا يتنفس.. نحن نحتاج الى الأكسجين لكي نعيش، لكن في الوقت نفسه لولا ما نزفره من ثاني أكسيد الكربون لظلت دماؤنا محملة بالسموم.. وكذلك الحب، يحتاج الاكسجين لكي يعيش، الود، والرحمة، والمشاركة، والتسامح، والتضحية، والتماس الأعذار.. لكنه ايضًا يحتاج لأن يخرج الهواء السام، والشوائب المميتة.. يحتاج الى الصدام، والمصارحة، والمكاشفة، والعتاب.. والا اختنق ومات.
كان الصندوق الخشبي بين يديه يقلبه بغير اهتمام، أخذته منه وابتسامتها تشع كشمس النوبة، وبحركة مفاجئة القت به في النيل، ثم تطلعت اليه تمضي بعينيها عهدًا بأن تشاركه قاربه لعُمر بأكمله.
وعندئذ غطس الصندوق!

ثاني أكسيد الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن