بداية النهاية ونهاية البداية

506 35 2
                                    

ثمانية وثلاثون عامًا تمُر، لا يحب تذكر مرور الزمن سوى الاشجار فحسب، فالشيخوخة مصدر فخرها، اما الناس فيفضلون ان ينسوا، يعيشون السنين وكأنها لم تأت، ولن تمر.

رغم انها تطبق فوق وجوههم آثارها، وبدواخلهم اماراتها، فأنهم ينكرون مرورها بأرضهم كسوأة يجب سترها.. الشيخوخة زائر غير مرغوب فيه، اذا حلّ تسول الاهتمام بهداياه، لا احد يحب هدايا الشيخوخة، لكن حواء فتحت لها ذراعيها، واستقبلتها بالترحاب، لم تخش منها، لم توارها كبقة في رداء، اجلستها فوق مقعدها الآثير قرب نافذة تستقبل وجه القمر، قدمت لها واجب الضيافة، فكانت حليمة عليها، ودودة اليها.

لا يحسن استقبال الشيخوخة سوى أمرئ ذاق الحياة حتى ارتوى، ولا يخشاها سوى بائسين لم تحبهم الحياة ولم يحبوها.. يرغبون في اعمار اطول علّهم يحصدون ثمرة بذور لم يزرعوها قط!

افسحت حواء للشيخوخة مكانًا في فراش المرض، وتركتها تمس بيد من الوهن جبينها فينضح بالعرق، لم تهتم، ولم تغتم؛ فيد أخرى بجوارها كانت تمسح عن جبينها حبات العرق، يد حانية كأفئدة الطير، عذبة كماء النيل، قادرة على خلق فراشات تخفق في سماء صدرها، يد رافقتها منذ ولادتها داخل المصعد، ولثماني وثلاثين عامًا بعدها.

امسكت بيد يونس تشد عليها، يتشارك الناس في الزاد والمتاع، والأفكار، وبعض الذكريات، كانت تلك هي المرة الاولى منذ بدء الكون التي يتشارك فيها شخصان دمعة واحدة! هبطت قطرة من سحابة كانت تظلل رأسيهما، قسمتها الرياح الى نصفين، كل نصف استكان فوق شفاه واحد منهما، سار كل نصف مرتحلًا في الجسد، دخل مجرى الدماء، سكن الشريان والوريد، تدفأ بغرف القلب من برد الشتاء، واحتمى بتلافيف العقل من تقلبات الخريف، وتسور الرمش والجفن لينعم بألوان الربيع، وعندما جاء الصيف سقط النصف من شرفات العين واختلط بنصفه الآخر فأمست قطرة واحدة، دمعة واحدة تشارك فيها حبيبان.. سقطت فوق كفيهما المتعانقين.

في تلك اللحظة تذكرت حواء حلمها القديم، رجل يحتظن كفيها في سكرات الموت، يلقنها الشهادتين، يبكيها بكاء من فقد العالم بأسره، ولا يخجل من كونه رجل يبكي، يتربع فوق عرش الذكريات، ويعيد على مسامعها تفاصيل ذكرى لا تُنسى، وضحكة لا تبلى، يشد على يديها وقت الالم، يسرق من شفتيه بسمة اخيرة ويهديها لعينيها.

لم يأت الموت بالضجيج والصخب، مارس مهمته الازلية بهدوء وكأنه يخطف من الرياح نسمة واحدة، لكن هذهِ النسمة قلبت موازين يونس، هدمت سقف عالمه، وزلزلت الارض اسفل قدميه، لم يسمح لأحد من اولادهما الثلاثة واحفادهما السبعة بنزع جسدها من احضانه حتى مطلع الفجر، تركوه يبكيها ويشتكي حزنه عليها.. اليها، يحكي لها عن الم فقدها، وحيرته فيما يفعل من بعدها، فكانت له الداء والدواء في الوقت ذاته.

ماتت هناك في البيت الصغير قرب البحيرة، ودفنها بجوار قبر أبيه وأمه.. وجده.

                              المؤلفة
                              سُفرة يونس سلطان ابو الرجال

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now