.......

332 32 0
                                    

تلك لم تكن المرة الأولى التي يعود فيها إلى بيته ليجد رسالة مدسوسة
أسفل بابه تحوي تهديدًا شديد اللهجة، بل المرة السابعة، لليوم السابع على التوالي!
وليجمع يونس شتات أفكاره أعد فنجانًا من القهوة، وتوجه إلى المذياع القديم بعمر يفوق عمره، والقابع في أحد أركان غرفة المعيشة، صحبه إلى الشرفة، فتنزلت آيُ القرآن بصوت ( الحُصَري ) على قلبه بردًا وسلامًا.
قهوته الخالية من السكر مخدرات حلال تنتشي بها حواسه، وصوت الحُصري يموج بوجدانه، تمامًا كما كان يفعل في وسط بحيرة بُرُلُّس، ينسل صوته ماءً زلالًا من مذياع أبيه القديم الذي ورثهُ أبًا عن جد،
مع فارق أستبدال القهوة بشاي كان يُعده أبوه شيخ الصيادين صابر في البيت، فيحمله معه، وتدور الاكواب بينهما حتى نفاد آخر قطرة منه.
منذ أن مات أبوه وضع الشاي في قائمة المحرمات، عافته نفسه، وأستبدله بمشروب أكثر مرارة.
صوت الحُضَري حاضر لكن حنان أبيه غائب، جده حاضر لكن رائحة بُرُلُّس غائبة، سمكاته حاضرة لكن أنفاس أمه غائبة، لا تمنحه الدنيا ابدًا سعادة كاملة، إعتاد منها الخذلان؛ فقَبِل أن تهبه شيئًا تنتزع آخر من بين يديه، قبل أن يذوق قربًا تُطعمه بُعدًا، وحدها حواء غيابها كحضورها، كلاهما يستنزف صبره، ويُخرب نظامه.
لم يسكنه الشوق إليها، لكن الفراغ الذي تركته برحيلها قاتل، تجويف كبير في منتصف عمله يُقلق نهاره ويؤرق ليله.
أعتاد على وجودها في البيت والمصنع، حديثها، ضحكتها، شجارها، عنادها.. اعتاد على أشياء ركبت قطارًا يسير في أتجاه واحد فحسب، وتركت له فراغًا كبيرًا كهدية وداع سخيفة.
عليه أن يبني نظام حياته من جديد، بدون حواء، مثلما فعلها بعد موت أبيه، حواء لم تَمُت، لكنه منحها حُكم الأموات.

ثلاثة أيام تمر على طلاقها أختفت فيهم بين جدران أربعة، فتشاجرت مع أمها من اجل الخروج لساعتين لحضور ندوة بالجمعية، ما إن غادرت حواء بيت أمها شاردة الذهن، حتى أوقفها شاب تراه للمرة الأولى، ظنت أنه تائه يحتاج لمن يرشده إلى الطريق، فالتفتت إليه في تململ ظاهر، إلا أن الشاب فاجئها بقوله:
- سيدة حواء أتسمحين لي بالتحدث معك قليلًا؟
لم تُخفِ دهشتها، دار بخلدها يونس وضيقه من تحدثها الودي الى الرجال، خاصّة إن كان لا يعرفهم،
وكان يكره عملها بالمصنع، رغم انه في الوقت ذاته مكان عمله؛ فراودتها امنية خبيثة، أن تنشق الارض الآن عن يونس؛ فيراها تُحادث هذا الشاب، لتصيب من ضيقهِ بعضًا.
- سيدة حواء سأتحدث اليكِ بصراحة، أعلم بطلاقكِ من (يونس ابو الرجال) حفيد (سُلطان أبو الرجال).. فأن اردتِ الأنتقام من طليقك أو من جدهِ أو من كليهما معًا فأسمحي لي ان اعرض عليكِ هذا العرض الذي لا يُرد.
تناست حواء أمنيتها الساذجة بالكامل، والتفتت بكل جوارحها تترقب كلمات الرجل في دهشة لا تخلو من الغضب، أستطرد قائلًا بمكر:
- ملف صغير في مكتب (سُلطان أبو الرجال) بالمصنع، أظن انه مخول لكِ سُلطة الأطلاع عليه، نحتاج هذا الملف بشدة، وقبل أن تسألي من نحن فيكفي أن اقول لكِ إننا احد منافسي مصنع (سُلطان أبو الرجال)، وقد تضررنا كثيرًا بسبب أحتكاره لسوق حفظ وتمليح الأسماك.
شعرت بجمرات الغضب تشتعل بداخلها، كيف يجرؤ هذا الوقح على ان يطلب منها خيانة الأمانة، فما كانت تفتح فمها للحديث حتى اسكتها باشاره من يده، ويقول سريعًا ليتفادى رفضها:
- لم تسمعي عرضي كاملًا، مائة الف جنية نقدًا مقابل أحضارك الملف الصغير، وبهذا قد تكونين قد ضربتِ عدة عصافير بحجر واحد لا يكلفك شيئًا.
أنهى كلماته بأبتسامة ثقة، مزقتها حواء فوق شفتيه وهي تصرخ في الرجل حتى تفرّج عليهما المارة، الأهانة التي تضمنها عرضه البغيض كانت كافية لتشعب فتيل غضبها بجنون.. غادرها الشاب بعدما دفعه بعض المارة بعيدًا عنها.. وقبل أن يبتعد كثيرًا ألتفت ينظر اليها، وقال كلمة واحدة ينفث فيها سُمه، وجعلت قلبها يرتجف خوفًا:
- ستندمين.
لم تُغضبها كلمته فحسب، بل أستبد الخوف بقلبها عندما استطرد الرجل قبل ان يتوارى عن ناظريها:
-ستثبت لكِ الأيام القادمة ان هذا العرض غير قابل للرفض.
لأسباب مجهولة لها ضلت هذه العبارة تتردد كثيرًا بداخل رأسها، وكانه ملف صوتي سخّرت عقلها لأعادة تشغيله، حتى انها لم تنتبه لسؤال سائق سيارة الأجرة عن وجهتها إلا بعد ان كرره مرتين.
أثناء ترجلها من السيارة دست يدها في حقيبتها نصف المفتوحة لتخرج المال، اصطدم كفها ببطاقة تعريف شخصية، لم تضعها بنفسها في الحقيبة، اشتعل غضبها يزاحم الخوف في صدرها، دسَّ الرجل البطاقة في حقيبتها دون علمها.. يا له من وقح!
لكن الغضب تقهقر للوراء، وتقدم الخوف ليعلن أنتصاره الساحق، فالبطاقة لم تحوِ على ما يُدَون فوق البطاقات عادة من اسم شخص او شركة مذيلة برقم وعنوان.. بل أقتصرت على شيء واحد فحسب، شيء عجيب.. رسم كاريكاتيري لرأس تمساح!

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now