.......

282 34 2
                                    

- يونس أنا اتحدث معك.

رمال غزيرة تُحاصره، أكثر منا يستطيع عدها لو افنى عمره كله بين الأرقام، جبال مُثبتة بالأرض كالأوتاد تشهد على خيبته، وصخور قاسية، كل شيء بعد البُرُلُّس قاسٍ، كل شيء بعد البُرُلُّس خاوٍ، لكن القسوة والخواء اللذين يتكالبان عليه الآن أقوى من قدرته على الأحتمال.
-أنت رجل بشع لا يُطاق.
ماذا كان جده سُلطان يقول في زيارته الأخيرة لبيت أبيه، تحت قيظ الظهيرة وهو ينثر الردّة على السمك النائم فوق المطرحة أستعدادًا لشوائهِ في الفرن الطيني؟ نعم تذكر، كان يقول الرجل الحقيقي يجد لكل مشكلة حلًا، الرجل الحقيقي لا يقف شيء في وجهه، متى أراد فعل، ولا يُفعل به إلا اذا سمح.
ماذا سيقول جده لو رآه الآن هائمًا على وجهِ في الصحراء، مُقيد إلى صخرة بائسة، ولا يملك سوى قوت يكفيه بضعة أيام، الرجل الحقيقي يجد لكل مشكلة حلًا، لكن عقله لا يُسعفه، توقف بعناد محركه، المحرك لا يدور، والحل لا يزال مُخبأ في رحم الغيب، وحده رجل حقيقي ينجح في الوصول إليه، رجل حقيقي، عليه أن يكون رجلًا حقيقيًا، ترددت العبارة الأخيرة برأسه خمس مرات متتابعات.
- يونس الأ تسمعني؟
لم يدخل الكهف منذ الأمس؛ كهفه الذهني يفي بالغرض، هناك بأمكانه أن يهرب من كل شيء، ويسرق فسحة من الزمن، لا يؤنسه فيها سوى أفكاره وأرقامه.
- أنا الآن أثق أكثر من أي وقت مضى ان قراري في الطلاق منك كان أصوب قرار أتخذته طوال حياتي.
أخرجته كلماتها من كهفه الذهني، بل أنتزعته منه كما تقتلع الأعاصير جذور أشجار راسخات، أنتفض واقفًا، وصاح مُعنفًا:
- لم يكن قرارك، كان قراري.
قالت بعناد:
- بل قراري أنا، أنا رغبت في الطلاق منك، وأنت أستجبت لرغبتي.
ضم أصابعه بقوة، يغالب دفعها بعيدًا عنه، إلى أبعد مسافة مُمكنة، صاح بقسوة آملًا أن ينجح في أسكاتها:
-أتعلمين، أنت مجرد خطيئة لم اندم على شيء كندمي على أقترافها.
نجح في أسكاتها للحظات فحسب، وقفت مشدوهة، تتصاعد الدماء إلى عروق وجهها وتتزاحم بداخله، توهج وجهها بالغضب، وهي تصيح بأهتياج لا سلطان عليه:
- أنتَ أحقر رجل قابلته في حياتي، لقد أستحققت كل شيء فعلته بك، اليوم الذي ضبطت فيه منبهك لتستيقظ في موعد أجتماعك الهام، ثم فوجئت بعد ضياع صفقتك أن عقاربه لم تكن منضبطة، أنا التي عبثت بها.. واليوم الذي وجدت فيه بعض أوراقك مفقودة وكدت تفقد عقلك بسببها، أنا التي أخفيتها.. واليوم الذي وقفت تضرب كفًا بكف وكل اطارات سيارتك مثقوبة، أنا التي مزقتها.. واليوم الذي عدت فيه من عملك لتجد جميع سمكاتك نافقات، انا التي قتلها.
أطلق صيحة غضب ثم انهال على الجبل يسدد نحوه لكمه عنيفة، فجرت الدماء من خدوش أصابعه، توقف بعدها كل شيء، توقفت الارقام عن القفز، هدأت وسكنت وأتخذت من احدى زوايا عقله مستقرًا لها، توقفت يد الفشل عن سحق صدره، وتحررت أنفاسه، حتى ليظن ان الأرض نفسها هجرت مداراتها وتوقفت عن الدوران، والأهم.. توقفت حواء عن الكلام .
اعتصمت حواء بالكهف الصخري لتخفي عن عينيه سقوط أمطار الألم، فوق أرض لا تزال رطبة به، يظن نفسه الوحيد الذي وئدت أحلامه في مهدها، هي أيضًا كان لها أحلام دافئة، بيت صغير، وثلاثة أطفال، ورجل يمسك بيدها عندما تستلقي فوق فراش الموت، يعكس لون الثلج في رأسيهما الآف الذكريات السعيدة، تأخذها معها إلى القبر.. رجل يكون جدًا لأحفادها، لديه الصبر الكافي ليبحث معها عن نظارتها حين تفقدها بين وسادات الأريكة، ويحفظ اسم دواء الروماتيزم ومواعيد جرعاته.. ينزع طقم الأسنان من فمها لينظفه حين يحبسها فراش المرض، يمنحها عكازه في منتصف الطريق الى البيت ويتوكأ هو على كتفها، يبكي بين ذراعيها ولا يخجل من كونه رجلًا يبكي.. حين تجوع يطعمها الرحمة فترى الحياة قاسية خارج أرضه، يلقنها الشهادتين وهو يحتضن كفيها فتكون آخر كلمات تسمعها من الدنيا، دعاء بجند خلد تجمعهما.
لكن الايام التي كانت ارضًا خصبة لأحلامها تسللت من بين اناملها هربًا، وكأن الزمن أدانها بجرم مشهود ولم يقبل منها صرفًا ولا عدلًا.
انسلت الى تضاريس خريطتها النفسية ومضت تحطم وتهشم وتمزق، لم تكتفِ بالدمار والأشلاء والدماء، احيت في عقلها صورة أبيها، ورفعت في وجهه سيوف الغضب، فعلت به كما يفعل جندي شجاع بعدو مغتصب، نكّلت به، ثم مثّلت بصورته، مرة لأنه هجرها وهي بعد لم تكمل الثامنة، والف مرة لأنه اول رجل أطعمها مُر الخذلان.
ذكريات اهتاجت تطعنها بألف طعنة نافذة، لجسدها ذاكرة لا تنسى، تشعر بذلك كل خلية ودت كف يونس لو سحقتها، تعلم ان الصفعة كانت موجهة إلى وجهها لا إلى الصخرة، لكن يده غيرت وجهتها في اللحظة الآخيرة.. عادت بها الذكرى إلى أبيها، يوم ان هجرها، احتدت وغضبت وصرخت (انتَ لستَ أبي بعد الآن) صفعها، ثم حمل حقيبة أسفاره ورحل، فلم تعرف يومها أيهما أقسى، صفعة نزلت على وجهها، أم هجر سحق قلبها، منذ ذلك اليوم صار أبوها والعدم سواء، لم تنزله من نفسها منزلة الأموات، فالأموات لهم قبور وشواهد تُقِر ان فلانًا مر من هنا، اما العدم لا يترك من خلفهِ أثرًا.
كتمت صوت نحيبها بكفيها، مخافة ان يصل إلى مسامع يونس، تُضحي بأي شيء ولا تمنحه متعة أذلالها، والأنتصار عليها.. كأعصار هائج لا يُفرق بين عدو وحبيب حاولت ضرب الأصفاد حول قدمها بقسوة، فسالت الدماء تختم أرض الكهف بوسم القهر.. علا دبيب الرعد بداخلها عندما شعرت أن ضفدع الرعب على أستعداد لأن يقطع قدمه؛ ليتحرر من أسره، فقط لو كان يملك الأداة المناسبة!

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now