.......

316 25 0
                                    

- أنا المسؤول عنكما، ستعملان تحت إمرتي مقابل طعامكما وشرابكما ومأوى لكما تحت سقف خيمتي.
هذا ما كان يخشاه يونس منذ ان رأى الحجر المختلط بالذهب، الغريب لم يكن سوى أحد المنقبين عن الذهب في وادي العلّاقي عند الحدود الجنوبية لمصر، ويعرف يونس ان هذه المنطقة لا يُسمح بالتجول فيها بغير تصريح مسبق من حرس الحدود، ووجوده برفقة حواء في هذهِ المنطقة الحدودية بغير إذن رسمي هو سبب كافٍ لتقديمهما الى محاكمة عسكرية!
يعرف أيضًا بأمر المنقبين المتسللين والمخالفين للشروط والقوانين التي تخضع لها هذهِ المنطقة الحدودية، واكثر ما يخشاه الآن أن يكون الغريب نفسه موجودًا فوق هذِ الأرض بغير تصريح، الآن تساوى خطر البقاء مع خطر الرحيل إذن.
شرح لحواء بكلمات مُقتضبة عمل المنقبين عن الذهب في الصحراء الشرقية، متجنبًا ذكر التصريحات الرسمية وخطر القبض عليهما من قبل حرس الحدود، فأحال الخطر فوق وجهها بوشاح الخوف، وكان الجزء الأسوء لا يزال في أنتظارهما، قال الغريب:
- بهذهِ الآلة ستنقبان معي عن الذهب، وبقدر ما تستخرجانه من الأرض ستحصلان على طعام وشراب.
الآن صارا مُجبرين على العمل في وادي الذهب مع الغريب الذي أمتنع عن البوح بالتاريخ وكأنه سر أستراتيجي، الخيار الآخر لم يكن أقل سوءًا، فشيطان الجوع الذي لا يرحم يتربص بجسديهما ليمزقه بمخالبه، عليهما أن يخوضا صراعًا جديدًا من أجل البقاء.
جهاز التنقيب عن الذهب لم يكن سوى بطارية ووصلة وسماعة وطبق وماكينة، يتحرك يدويًا كعصا المكنسة فوق الأرض بعد ضبطه على ذبذبات محددة، ما ان يتشمم الجهاز رائحة الذهب حتى يصدر أشارة او صفارة، الجهاز لا يلتقط ذبذبات الذهب فحسب بل معادن أخرى كالحديد.. منح الغريب جهازًا ليونس، وآخر لحواء، وطلب منهما البدء في العمل من صبيحة اليوم الثاني، لم يطلب في الواقع، بل أمَر!
أشار الغريب الى جبل قريب لمباشرة العمل، ظنت حواء في البداية ان العمل بسهولة بمكان، فهي ليست مضطرة للحفر في الرمال، او للكسر الصخور بالطرقة والأجنة طوال الوقت، لن تفعل الا بعد ان يصدر الجهاز أشارة بوجود الذهب، هكذا امسكت بالجهاز وشرعت في التنقيب منذ البكور.
لكن يونس لم يحمل في قلبه هذا القدر من التفاؤل، كان على يقين من أن مهمته ليست شاقة فحسب، بل خطرة كذلك.
تربص بهما الثالوث المقدس للفشل، اليأس والأرهاق، و الألم، هاجم حواء قرب الظهيرة، جف حلقها، وهتك الجوع ستر معدتها، لم تجد في جعبة أفكارها سوى الصمود، والا ستُحرم من الطعام لهذا اليوم، صمد يونس حتى كادت الشمس تلوح له بكفوفها مودعة في أشفاق.
جاء الغريب يجمع منهما محصول اليوم، حصد من يونس قطعة صغيرة من الحجارة المخضبة بذرات ذهبية قليلة جدًا، اما حواء فلم يكن في حوزتها سوى علب معدنية صدئة، وقطع حديد متفرقات ، أخفق جهازها في التقاط ذرة ذهبية واحدة!
استحوذ الغضب على صدر الغريب، وتربع فوق عروش عقله، منح يونس طعامًا بالكاد يكفيه لهذا اليوم، ولم تفز حواء بشيء سوى المزيد من الماء فحسب.
استشاطت غضبًا وصاحت به:
- انتَ رجل منعدم الضمير، هل ستتركني جائعة حتى الغد، وماذا ان لم اجد في الغد ذهبك الملعون، هل ستتركني أموت جوعًا.
أنطلق الشرر من عيني الغريب منذرًا بالخطر، جذب يونس ذراعها بعيدًا، عن مرمى النيران، ما ان وارتهما الخيمة حتى حررت ذراعها من يده، و انزوت في أحد الأركان تتجرع الكثير والكثير من الماء، تملأ به معدتها الفارغة، تشبثت قطرات الدمع بعينها، تخزها فتؤلمها، رفضت ان تسمح لنظرات يونس المستطلعة بأكتشاف الضعف الذي حفر لنفسهِ واديًا بداخلها، جلست تحتضن ساقيها وتخفي فيهما رأسًا ينضح ألمًا.
مسَّها يونس بيده، لمسته هذهِ المرة لها وقع غريب، كنغمة شاذّة فارّة من لحن مألوف.. رفعت رأسها تجابهه بعينين متسائلتين، جلس قربها يفترش قماشًا باليًا، أقتسم طعامه الضئيل مناصفة بينهما، لم يطلب منها ان تشاركه حصته، فقط وضع الطعام امامها، كانها طلب ضال يجوب الطرقات حرّك فيه شفقته! نجح في ان يشعرها بالمهانة من جديد، وحده يونس قادر على أن ينهال عليها بأهاناته واحدة بعد أخرى بطرق ابتكرها وحده، يحق له ان يسجل بها براءة أختراع.
لم تهدر انفاسه في الصراخ عليه، تركته واختارت ركنًا آخر للتتقوقع فيه، في أشارة واضحة لرفض يد الأحسان التي جاد بها عليها، ظنت انها بذلك قد رسمت له حدود أرضه، إلا ان يونس لم يعجبه هذا الحد، فتسور محرابها وقرّب منها الطعام ثانية، هذهِ المرة قال بحزم:
- لا تعاندي.
يظن انه ترفض أحسانه عنادًا، عليه ان يفهم ان ماء وجهها أحب اليها من طعامه، قالت وهي تنظر اليه بعينين أرهقهما جهد مبذول لحبس نهر من الألم عن السير في مجراه:
- لا أريد منك شيئًا.
خرج صوتها بهشاشة قطعة من القطن في مواجهة رياح الخماسين، دفنت رأسها في ساقيها ثانية، وضع الجنين اتخذت بجلستها، ووضع طفل في الثامنة اتخذت بردود افعالها، هكذا فكر يونس وهو يرفع رأسها بيده دون ان يعبأ بنظرات أستهجان رمقته بها، قال :
-يجب ان تأكلي.
عجزت عن منع النهر من الفيضان، انهالت العبرات فوق وجهها تحفر أخاديد ووديان، للمرة الاولى يراها يونس باكية، لم يحدث مرة واحدة طوال فترة زواجهما ان راى غيوم عينيها تفيض بحملها، على الأقل في حضوره.. رق لحالها كما لم يفعل يومًا، ليس من اجل دموعها، بل لعجزها عن التمسك بمكاسبها من حرب الكرامة التي بدأتها هي.
رفع قطعة من الخبز بعدما غمسه في عدس هربت منه الحرارة، ثم قربها من يمناها، همت بالرفض ثانية، الا ان معدتها أستصرختها تناشدها الرحمة، بأمكانها ان تُعِد أفضل من هذا الحساء وهي التي لم تحسن اعداد الطعام يومًا، لكن الجوع جعلها تستلذ بكل لقمة تدخل جوفها.. أجهزا على الطعام كاملًا في دقيقتين، تمردت الدقائق التالية ورفضت ان تمنحهما فرصة للحديث.
متعبة، يائسة، حانقة، لكنها ترغب في نسج حديث قصير بخيوط الود، يونس الذي يتخذ من الصمت عقيدة لا يفهم حاجتها ورغبتها، يظن ان نصف طعامه هو كل ما تحتاج إليه.
- شاركتني طعامك، ولم تاكل ما يكفيك.
حَوَت كلماتها رسالة تقر بما فعله للتو، لكن وراء كل رسالة معاني خفية، أنتظرت ان يقرأها بتلهف؛ فلم يزد على ان قال:
- ليس أمامي حل آخر.
-يا لكَ من شهمٍ كريم!
خطت فوق رغبتها بقدمها، وانتفضت مبتعدة عنه الى موضع نومها، توليه ظهرها.. ضرب هو كفًا بكف، زفر بضيق ثم قال:
- لا شيء يرضيكِ، اليس كذلك؟
أجابته بنبرات حادة دون ان تلتفت اليه:
- أصبتَ.
(( كلما تكررت المحاولات قل الخطأ ))
هذهِ القاعدة اثبتت فشلها مع حواء، او لعلها الأستثناء الذي لا تخلو منه أي قاعدة؛ كلما حاولت بناء جسر بينهما تهدّم فوق رأسها كل شيء.
لساعة أخرى شعرت بتقلبه في موضع نومه، جافاه النوم، وضج الارق عابثًا في رأسه، لا تزال توليه ظهرها حين قالت:
- لماذا تكرهني؟
ظن انها نامت منذ فترة إذ خدعه جسدها الساكن، ثم وشى السؤال بعقلها الذي تتضارب فيه الافكار، خلت جعبته من الجواب، رغم ثقته من انه يمتلك عدة إجابات منطقية، بدت كانها اختفت فجأة من رأسه لسبب يجهله.
- لماذا تكرهني؟
أستجمع جهده للعثور على الجواب المفقود، فتش في دواخله وأستدعى سلسلة طويلة من احداث مرت بهما، ثمة شيء جعله ينتبه الى ان الجواب مفقود لان صباغة السؤال خاطئة، الأجوبة تخشى الأسئلة الخاطئة فتهرب منها وتترك من خلفها فراغًا كبيرًا.
- أخطأتِ، أنا لا أكرهكِ.
- لماذا انتَ غاضبًا مني؟
بدا له السؤال هذهِ المرة سخيفًا، وان كان يعلم شيئًا آخر عن الأجوبة غير خوفها من الأسئلة الخاطئة، فهو كرهها للأسئلة السخيفة.
كان الصمت جوابًا كافيًا لأسكاتها، صمتت حواء وصمت الأرق، وصمت كل شيء بينهما.
في الصباح عضها الذنب، لماذا وافقت على ان تشاركه طعامه؟
كان عليها ان تبيت ليلتها جائعة لتوافق مبادئهها.. عمل هو مثلما عملت لكنه حصد نتيجة تعبه طعامًا فلماذا تشاركه فيه؟ من مبادئ المساواة التي تتشدق بها أنها مثله، لا تنقص عنه شيئًا ولا يزيد هو.. ما كان عليها ان تقبل منه ان يقوِّم عثراتها، أخطأت حين أقرت بقوته، وسمحت له ان يجود بإحسانه على الطرف الأضعف من المعادلة، في ساحات المعركة، لا يُرحم الخاسر، بل يُقضى عليه، ولا يقبل الخاسر التنازل عن عقيدته، بل يموت دونها.. لو رأتها إحدى زميلاتها في جمعية شوارب المرأة العربية لعنفتها بشدة.
أوحى مطلع اليوم الثاني بأنه سينتهي مثل سابقه، هكذا ظنت حتى صدر عن جهاز التنقيب الذي تتشبث به منذ خمس ساعات متصلة صفرة طويلة، ذبذباتها أشد مما سمعت في اليوم الماضي، وعندئذٍ أستخدمت الأجنة والطرقة لتستخرج كنزها الصغير من الأرض، قطعة حجارة بحجم كف اليد تتناثر بها ذرات الذهب، رحل طائر اليأس ورفرف طائر الأمل فوق رأسها، كان الغريب قد رحل عنهما، فلم تجد سوى يونس تتفاخر أمامه بكنزها.
منحها ابتسامة ما ان رأتها حتى تذكرت كم أفتقدتها، قال يثني عليها:
- أحسنتِ.
تصرفها كطفلة صغيرة تسمع مديح معلمها لم يشعرها بالحرج، بل بسعادة حقيقية تراودها للمرة الأولى منذ زمن طويل، نزعت رداء التحفظ قاىلة بلؤم:
- انها أكبر مما حصلت انتَ عليه بالأمس.
- بالفعل انها كذلك.
مسح عن جبينه بطرف قميصه حبات عرق غزيرة، ثم استطرد:
- انا لم اعثر على شيء اليوم، اظن انني سأستعيد هذهِ الليلة الطعام الذي منحتك اياه بالأمس.
قالها ممازحًا، لكن كلماته جعلت أبتسامتها تتلاشى ببطء، تسأل نفسها سؤالًا لم تحتر كثيرًا في أجابته.. هل تستطيع أن تعامله بمعايير الحرب وأن تتركه يبيت ليلته جائعًا؟ لا تستطيع.. تعرف ذلك، إذن هل تساومه على اعترافهِ بفضلها مقابل ان تمنحه قسمًا من طعامها؟ لكن بالفعل أعترف بمهارتها حين قال احسنتِ.. وشاركها طعامه بالأمس دون ان يساومها على اعترافها بحاجتها اليه.. ازعجها ان تكثر من التفكير في هذهِ التفاصيل الصغيرة، لكن عقلها لا يعمل سوى بهذهِ الطريقة التلسكوبية، التي تلتقط التفاصيل وتكبرها الف مرة، ثم تتعاطى معها بعشرات الاحتمالات المختلفة، حتى تستقر على ردة فعلها النهائي.. هل صدق يونس حين صرخ بوجهها قائلًا انها تحول الحياة كلها الى لعبة حرب يجب ان تخرج منها فائزة مهما خلّفت ورائها من ضحايا؟
ازعجها اكثر عجزها عن الاستمتاع فحسب بالهدنة المنعقدة بينهما دون اضطرارها للتفكير في كل الكلمات التي تُقال، وتلك التي لا تقال.
قالت بجدية:
- هذا ما انوي فعله، سنقتسم طعامي الليلة مثلما اقتسمتِ انت طعامك معي بالأمس.
- كنت امزح فحسب.
- لكن انا لا امزح.
ثمة بذرة لشعور لم تألفه ينمو بداخلها، شعور لم تختبره من قبل.
لا يحبها، تعرف ذلك، سمعت هزيم رعدها مرات عديدة، ولمست برقها الحارق بيديها، لا يحبها، ولن يفعل، ولعلها ايضًا لا تحبه، لكن الشعور الذي زرعته الايام الماضية بصحراء قلبها اجمل من ان تفسده بكثرة التفكير.
صافح مسامعهما محرك سيارة فظنا ان الغريب قد عاد، لكن السيارة التي توجهت صوبهما لا تخص الغريب، يجلس خلف مقودها شيخ كبير، اقبلا نحوه يستغيثان به استغاثة الملهوف، قال الشيخ:
- من انتما، وماذا تفعلان في الصحراء؟
بكلمات مُقتضبة طلب منه يونس ان يبعدهما عن هذا المكان، ثم اضاف في عجالة:
- صاحب الخيمة استعبدنا وارغمنا على العمل مقابل الطعام والمأوى، ارجوك خذنا من هنا وسادفع لك كل ما تريد.
لم يوحِ وجه الشيخ بما يجول في معترك افكاره، ناشدته حواء:
- ارجوك انقذنا من هذا الرجل، ارجوك.
أشار لهما الشيخ نحو سيارته، وكانت اشارته بمثابة فرصة للنجاة، انطلقت السيارة تشق الطريق بثلاثتهم مبتعدة عن الخيمة والغريب.
أوشك فصل طويل من رحلتهما على الأنتهاء، ليبدا بعدها اكثر الفصول

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now