.......

252 26 0
                                    

كانت ايامي كلها عادية، وفي عدة ايام فحسب انقلب عالمي رأسًا على عقب.
قالها يونس وهو ينفث بضيق، لم تكن السيدة ملوك امرأة عادية، إمرأة يبهجها ورق شجر الموز وجلود الجمال لا تكون ابدًا امرأة عادية، أثار حديثها انتباه يونس، ويدها تمتد كل حين الى صحون بلح الحجازي، والقنديلة، والقرقودة، والسكوتي، وتعطيع ليأكل، وما ان يلتهم واحدة حتى تعطيه أخرى، قالت السيدة ملوك:
- لا يوجد يوم عادي، لا يتشبه يوم بآخر.
قال يونس بتردد وقد خشي ان يكون لأعتراضه على كلمات المرأة معنى تستقبحه:
- لكن الكثيرون يرون الايام متشابهات، ومع ذلك يستمرون في العيش.
واخفى عنها ( وانا واحد منهم ).. قالت السيدة ملوك وكأنها تخاطب طفلًا يجهل، ويجهل انه يجهل:
- هؤلاء لا نقوم عنهم احياء، ولا اموات كذلك.. احياء اموات هو الوصف الأدق.
ثم تبعت ذلك بجملة طويلة بلغتها النوبية لم يعِ منها يونس حرفًا، خرجت حواء الى البيت لتنضم لهما عند الممر، أما الشيخ انسان فقد استأذن للأنصراف منذ بعض الوقت، وترك الشابين في ضيافة زوجته.
- هيا، استريحا قليلًا، الرحلة شاقة وتبدو آثارها واضحة فوق وجهيكما.
تبادلت حواء مع يونس نظرة حرج قبل ان تلتفت الى المرأة وتقول:
- معذرة ان اثقلنا عليكِ، اننا نشعر بالحرج كثيرًا و...
لم تسمح لها السيدة ملوك بأن تكمل عبارتها، وبادرتها تقول:
- ولمَ الحرج يا ابنتي؟ بيتنا مفتوح لسيّاح الشمال، نقتسم معهم نصف البيت ونوفر لهم الطعام والشراب، هذا عملنا الذي نتكسب منه، فماذا ان فتحتُ البيت لشابين خلوقين مثلكما لقاء صحبة طيبة تمنحانها لسيدة عجوز ورجل كبير في عمر جديكما؟
أذهبت كلماتها الكثير من الحرج العالق في النفوس، ارشدت حواء الى غرفة تضم عنجريبًا واحدًا، يتوسطها باب يفضي الى غرفة اخرى، داخلية تحوي عنجريبين.. القى يونس بجسده فوق أحدهما.. بعد حوار قصير مع حواء لم أي شجار كعادتهما.
أغلقت حواء الباب الذي يفصل بين غرفتيهما، اخذت تفكر في احداث هذهِ الرحلة العجيبة منذ ان استيقظت في بطن الكهف، بل اعادت الشريط للخلف أكثر، الى المصعد، حينما نطق يونس بالكلمة التي تغير بعدها كل شيء، كانت تستعيد هذهِ الذكرى من قبل بكثير من الراحة، لكن الآن باتت الذكرى أكثر ايلامًا، دون ان تفهم سببًا لذلك.. الحقيقة التي لا نعثر عليها في يقظتنا، نبحث عنها في رقادنا، ظلت تعاقر السهر تنقب عنها حتى ادركها الكرى.
اخفى ارهاق الامس عن ادراك يونس الكثير، استيقظ باكرًا، عبر الباب الفاصل بين الغرفتين، ألقى نظرة متفحصة على حواء النائمة بعمق، ثم خرج ليتجول قليلًا في البيت بهدوء لئلا يوقظ أصحابه.
أبصر فوق الجدران ما آثار زوابع الدهشة في نفسه، فاللوحات الجدارية التي رآها بعين الأرهاق بالأمس، لم تكن سوى رسومات باليد فوق الجدار، رسم خلقته اصابع فنان يجيد بث الحياة في الجدران!
بعد ساعة استقر طعام الفطور فوق الطبلية، التف اربعتهم حولها في الممر، والنيل يشاركهم لحظات السمر، يضحك لنكاتهم، ويحزن لهمومهم.. طافت انظار حواء فوق وجه الرجل الذي مكثت في بيته ثلاثمائة وخمس وستين يومًا وكأنها تراه للمرة الاولى، او ترى فيه وجهًا غير الذي عرفته وألفته، لم يعد كالجمل الذي يجرجر أحماله، كان مبتهجًا كثيرًا هذا الصباح، وكأن قدميه تحررتا من أثقالهما؛ فغدا طيرًا خفيفًا تحتظنه السماء برفق بين جنباتها.
كانت حواء حائرة، كيف تدعو المرأة، هل تقول السيدة ملوك.. بدد الشيخ انسان حيرتها عندما قال لها:
- قولي لها يويو.. هكذا تحب ان يدعوها ابناء الجزيرة، تزوجنا كبارًا، لم يمن الله علينا بالذرية، لذلك كل شباب الجزيرة يعدونها في مقام جدتهم، يويو تعني جدتي بالنوبية.
انتقل الحديث مباشرة أثناء تناول الشاي الى الشعيرات البيضاء في مقدمة رأسيهما، وقد ابتدرهما الشيخ إنسان قائلًا:
- عندما اخبرت زوجتي القصة كاملة، بدا ان لديها رأيًا مهمًا يفسر هذهِ القصة العجيبة.
كانت السيدة ملوك قد واتتها الفرصة لتتفحص شعر حواء أثناء تحضير طعام الأفطار، بعدما نزعت حجابها في مأمن من العيون، افتتحت السيدة ملوك حديثها في جلستهم الرباعية بعبارة نوبية، فبادرها الشيخ إنسان:
- تذكري ان الشابين لا يفهمان لغتنا، ووه غالي...( يا عزيزتي ).
ثم نظر نحوهما قائلًا بأعتزاز:
- زوجتي تتحدث دائمًا بلغتنا النوبية، لكنها بتشجيع مني تعلمت العربية وبعضًا من الأنجليزية حتى تستطيع التواصل مع السياح الذين يأتون الى جزيرتنا.
ربتت السيدة ملوك فوق كفه، ثم التفتت صوب الشابين تقول:
- تربينا على حكايات قديمة أضحت جزءًا منا، بعضنا يظنها مجرد حكايات تسرق انتباه الصغار وتزور احلامهم في ليالي قمرية، والبعض الآخر يرى في الخيال أشباح الحقيقة تُفصح عن نفسها.
عبأت رئتيها بالهواء العليل، ثم قالت:
- دُونت الحكاية في كتاب الف ليلة وليلة على لسان شهرزاد في احدى لياليها الألف.
ما ان اتت السيدة ملوك على ذكر الكتاب المفضل لحواء حتى صبّت هذهِ الأخيرة كل تركيزها على المرأة التي أردفت تقول:
- تحكي القصة عن ابنة وزير آية في الحسن والكمال، تدعى زهرة الورد، وشاب فقير صار بعشقها مشغول، يدعى انس الوجود.. يتراسلان سرًا بمكاتيب العشق والهيام، حتى وقعت إحدى الرسائل في يد الوزير، فما كان منه الا ان اتفق مع زوجته ان يودع زهرة الورد في وسط جزيرة نوبية بمعزل عن الجميع، ويمدها بالطعام والماء، ومن المؤن كل ما تحتاج، حتى يبقيها في مأمن من العشق.. جمع من البنائين والنجارين أمهرهم، وأمرهم ببناء قصر منيع في الجزيرة فوق الجبل، وخصص لها من يؤانسها ويخدمها.. مغلوبة على أمرها لبّت لأبيها أوامره، وقبل الرحيل نقشت على باب بيتها رسالة الى انس الوجود تخبره بما فعله أبوها الوزير، وما ان حطت رحالها فوق الجزيرة حتى عاد الخدم بالمراكب الى الشاطئ الآخر، يكسرونها بأمر من الوزير، فيقطعون بذلك على زهرة الورد حلم العودة الى الديار.
اتى الصباح حاملًا رياح الفراق، توقف انس الوجود عند الباب عندما كان ذاهبًا لخدمة السلطان، وقرأ رسالة حبيبته الأخيرة، اشتعلت النيران في قلب العاشق، وانتظر حتى جاء المساء حاملًا رداءًا حالكًا للتخفي، وسار لا يهتدي سوى بالنجوم، يبحث عن حبيبته المنفية، حتى تقرحت قدماه.
تقطعت انفاس السيدة ملوك؛ فأنتظرت حتى انتظمت ثم تابعت:
- ساق الله في طريق انس الوجود حيوانًا ناطقًا أرشده الى آثار خطوات حبيبته، وعرف من احد العابدين الزاهدين ان المراكب اوصلت الحبيبة الى الجزيرة البعيدة، ثم عاد بها الخدم، وحطموها عند الشاطئ.. استعان بتمساح كبير حمله على ظهره وعبر به النيل الى الجزيرة.. وفي النهاية استطاع انس الوجود اقناع الوزير بزواجه من زهرة الورد..
طافت الدهشة في عيني حواء سبع مرات، واودعت فيها سبع حيرات، ثم انطلقت تطوف بعيني يونس سبعًا متماثلات.. كان يونس هو اول من حرر لسانه من قيود الدهشة قائلًا:
- وما علاقة هذهِ القصة بما يحدث معنا؟!
اشار اليه الشيخ إنسان قائلًا:
- تريث يا بني، لم تسمع بعد بقية الحكاية.
تسائلت حواء، هل الحب هو ما جعل من هذين الزوجين نسختين متطابقتين الى هذا الحد، ام انهما كانا يتشابهان منذ البداية؟! فالمرأة تتحدث بلسان زوجها، والزوج يتحدث بلسان زوجته، وكأنهما في عالم خاص بهما، ينسجان من الكلمات ما لا يعقله سواهما!
قالت السيدة ملوك بعدما أخرجت نواة بلح من فمها قليل الأسنان، وأسندتها الى حافة الصحن:
- هذا ما قالته شهرزاد كما دونته الاقلام في بطون الكتب، أما الحكاية فلها بقية لا يعرفها سوى اجداد الاجداد.. نسيها الجميع الا واحدًا، ظل يورثها جيلًا بعد جيل، حتى وصلت الى احفاد الاحفاد، الى (هدل).. خادم اولوم.
خرجت حواء عن صمتها لتكرر في حيرة:
- خادم اولوم! ماذا تقصدين؟
اردفت السيدة ملوك بعينين تبرقان شغفًا:
- اولوم كلمة نوبية تعني التمساح.. هدل خادم التماسيح هو حفيد لأحد الحراس الذين ارسلهم الوزير ابنته في الجزيرة، وحده يعرف بقية حكاية زهرة الورد وانس الوجود التي لم تروِها شهرزاد في لياليها الالف، خادم التماسيح هو الحفيد الوحيد المتبقي على قيد الحياة، وهو وحده الذي يملك بقية الحكاية.
- وما علاقة هذا بنا؟
سألها يونس مرة اخرى في تململ واضح، اشارت السيدة ملوك الى الشعر الابيض الضارب في رأسه، ثم قالت بحمكة العارف:
- هذا الشعر الابيض هو الرابط بين قصتكما وقصة وباقي القصة المفقودة.. والصندوق الذي يملكه خادم التماسيح هو دليل صدق الحكاية!
بادره الشيخ إنسان عند عودتهما من صلاة الفجر بمسجد الجزيرة:
- أوشريا ساع آوي.. هل تعرف تلك الشفرة؟
تطلع اليه يونس متسائلًا، كان الشيخ قد لاحظ الضيق الذي يعتلي وجه يونس عندما يتحدث الشيخ بلغته النوبية مع السيدة ملوك والرجال بالمسجد، لعله ظن ان في ذلك عدم احترام لضيف لا يعرف تلك اللغة؛ فأردف الشيخ:
- كانت تلك الكلمات القليلة هي شفرة النصر في حرب اكتوبر، هل تعرف ذلك؟
هز يونس رأسه المنشغل بالافكار نفيًا، فأستطرد الشيخ:
- كانت القيادات تبحث عن شفرة جديدة لا يتمكن اليهود من فكها، ليتبادل بها الضباط والجنود التعليمات اثناء الحرب، فأقترح احد الجنود على قادته استخدام اللغة النوبية، لأنها لغة تُنطق ولا تُكتب، ولا يتحدث بها سوى ابناء النوبة فحسب.
اللغة النوبية قسمان، لغة الكنوز، نسبة الى اللهجة الدنقلاوية التي يتحدث بها اهل السودان في دنقلة، ولغة الفاديكا، ويتحدث بها السكوت والمحس والحافاويين..
وكانت أوشريا ساع آوي هي شفرة ساعة الصفر التي حيرت اليهود في حرب اكتوبر، أوشريا اي اضرب، ساع آوي اي الساعة الثانية، ومنذ هذا الوقت سُميت بشفرة النصر.
لأستخدام اللغة النوبية كشفرة حرب كانت القيادات في حاجة الى جنود يجيدون اللغة، وتلك كانت مزية النوبيين الذين كانوا يعيشون في النوبة القديمة قبل التهجير، لأنهم حافظوا على تراث أجدادهم اللغوي، أما المهجرون من أرضهم فكثير منهم هجر اللغة مع التراب.
فهم يونس ان لهذا السبب يحرص الشيخ والسيدة ملوك على التحدث باللغة النوبية، وكان يتحدث مع الامام منذ قليل حديثًا طويلًا لم يتخلله كلمة واحدة عربية.
قال الشيخ بعزة وقد وصلا الى نهاية المنحدر:
- لا خير فينا ان لم نحافظ على لغة اجدادنا وسمحنا لها بأن تندثر، من الحماقة ان يتخلى المرء عما يميزه.
صمت يونس اعجابًا، فعاجله الشيخ:
- ماذا قررت ان تفعل؟
تنهد بحيرة وقد اتى الشيخ على ذكر طريقه الذي بات مسدودًا، قال:
- لا اعرف.
قبل ان يفترقا كلّ الى غرفته، قال الشيخ:
- ان اردت رأيي فلن تخسر شيئًا من زيارة خادم التماسيح وسماع ما عنده.
بات يونس ليلته يقلب حديث الصباح في رأسه، لم يصدق من كلمات السيدة ملوك حرفًا واحدًا، خياله جامح لكن للعقل حدود، بحث فيما قالته عن محمل واحد من المنطق فلم يجد، المرأة تهذي بحكايات أجدادها فوق جزيرة نوبية، وبسبب الشعر الابيض تصر على الربط بين ما حدث معه خلال الايام الماضية، وبقية مفقودة لحكاية من عصور الف ليلة وليلة!
لماذا إذن يسير الآن برفقة حواء والشيخ إنسان في الطريق الى منزل ذاك الهدل خادم التماسيح؟
لأنه لا يدري ماذا يفعل غير ذلك، اليأس عدو الأنسان، يدفعه الى طرق ما ظن ان يطأها قط، وها هو يدفعه الى ان يقف على اعتاب بيت رجل يُّكذِّب ومنذ الآن كل الكلمات التي سينطق بها، مهما قدم له من دلائل وأمارات.
مرّت بخاطره فكرة نبتت بداخله ليلًا أثناء حديث الشيخ عن اللغة النوبية، وما ان اتى الصباح حتى استطال عودها، وزاحمت الافكار في رأسه..
بر اي لق.. قد تكون هذه الكلمات باللغة النوبية!

ثاني أكسيد الحب Where stories live. Discover now