نعتقد أننا نُقدم على تصرّف ما بملئ إرادتنا ، ولا نعلم أننا نُساق إليه سوقا ، كالدمى نحن في استجابة الروح للقدر ..
يُبحر الصديقان بسفينة جبر بعدما استطاع جوسيا معرفة كيفيّة قيادتها ، وانطلقا يلفح وجهيهما هواء الشتاء البارد، وبعدما استدارت السفينة واستقامت في اتجاه واحد ، قال بارتو لجوسيا :
" هل ينتابك ذات الشعور ؟ "
" هل تقصد الشوق؟ ، نوع غريب من الشوق يدفعنا للتقدم "
" إذا نحن نتقدم نحو شيء ما "
" شيء جميل ربما ؟ "
" لما انتابنا هذا الشعور إذا !؟، أتعلم يا جوسيا، أشعر برغبة شديدة في احتضان هذه الأمواج وحبسها داخل أضلعي "
" أنت تخيفني الآن، هذا يعني أننا سنغرق "
ضحك الاثنان، قبل أن يُلاحظا ضبابا يعلو سطح البحر إلى السماء، ثم بدت منه ظلال سوداء وصوت تخابط ألواح خشبيّة، تبيّن لهما مع اقترابهما أنها شجر، وسفن مركونة في على شواطئ جزيرة ضخمة، نظر بارتولوميو لجوسيا فوجده هادئا فسأله :
" هل تعرف ما هذا؟ "
" الجزيرة التي ركن البحارة فيها سفنهم بعدما ضاق شاطئنا بها "
" ألم تكن أبعد من ذلك ؟! "
" بالفعل، كانت تبعدنا مسافة ثلاثة أيام ، ولكنها تبدو وكأنها باتت أقرب بكثير الآن ! "
" أخاف أن تصطدم بمدينتنا "
" هذا محال ، لا يمكنني التفكير بالأمر "
قطعا مسافة أكبر حتى أصبحت الجزيرة خلفهم ، وكان نور الفجر يمحو ظلمة الليل برويّة، يكشف غطائه عن خيال لسفينة في الأفق تتقدّم نحوهم، ليتفاجأ جوسيا قائلا :
" هل ترى ما أراه؟! "
فتح بارتو الدرج الذي أمامه ليخرج المنظار وأخذ يُمعن النظر، قائلا :
" نعم إنها سفينة، هل تتقدّم إلينا ؟! "
" أنظر إليها جيّدا ، تشبه تماما تصميم هذه السفينة ! "
" لنراقب وننتظر حتى تتقدم "
وعلى الطرف الآخر يُنادي بينيت جبرا بعدما شاهد سفينة تتجه إليهم قائلا :
" جبر، هنالك سفينة تتّجه نحونا "
" يتقدم جبر بفضول، وهو يدفع كرسيّ آريس معه، ليتمعّن في الأفق، قائلا :
" لا يمكن هذا !، هذه سفينتي ! "
" لننتظر حتى نقترب منها ولنرى من يقودها "
اقتربت السفينتين من بعضهما بحذر ، نظر جبر بمنظاره ليلمح وجه العجوز جوسيا، لينظر لآريس قائلا لها بحماس :
" آريس هذا والدك ! "
لتنظر إليه وتهمس في رأسه بتعجّب :
"ماذا!؟، هل أنت جاد؟ "
" بالطبع "
فلوّح جبر بذراعه مناديا :
" جوسيا، عمي جوسيا ، أنا جبر "
فنظر إليه بينيت بتعجّب :
" كيف أصبحت محترما هكذا فجأة؟ "
" هيّا أيّها العجوز ، أنت رفيقي في المغامرة "
ضحك بينيت العجوز ولوّح بيديه هو أيضا ، ولو كان يدري لمن يلوّح، لقفز له في البحر فورا !..
وعلى السفينة الأخرى سمع جوسيا اسمه فقفزت مشاعره كلّها من عينيه، ونظر لبارتو قائلا :
" بارتو.. هذا ..هذا جبر ، جبر حي ، جبر عاد "
فاحتضن صديقه بفرح ولوّح لجبر مناديا له :
" جبر، أيّها الفتى المتهوّر، هل هو أنت فعلا !؟ "
لوّح بارتو لهما أيضا هامسا لصديقه :
" قلت لك سينجو ، سينجو كما أخبرت النبوءة "
حتى اقتربت السفينتين من بعضهما، وطلب جبر من بينيت أن يستمرّ بالقيادة حتى يجمع آريس بوالدها لأول مرة ، وبدوره استلم بارتو قيادة السفينة الأخرى بعدما التفّ بها عائدا، بعدما نسيا أمر السمك الهارب ..
أبحرت السفينتين بجوار بعضهما ليتمكّن جبر من اصطحاب آريس للقاء والدها، عبر جبر بها للسفينة الأخرى، كان جوسيا في لقاءه، حتى احتضنه بعد وصوله :
" أيها البحّار الأرعن، أنت حي ! وأخيرا ، لن أسمح لك بمطاردة الحوريات بعد الآن "
عندها اتجهت نظرات آريس للأسفل حزنا، وحرّكت الفستان لتتأكد بأن ذيلها مغطى عندما شعرت بعدم الراحة لوجودها بعدما سمعت ذلك من جوسيا ..
كان جبر وبارتو يحتضنان بعضهما، ليسأله جبر مستغربا :
" عمي بارتو! ، هل خرجت من عزلتك أخيرا !؟ ،سعيد برؤيتك مجددا "
" كنا ننتظرك ، بالرغم من أن الجميع يعتقدون بأنك مت، قل لي ، هل ذلك الذي يقود المدينة هو سجين موزيريس !؟ "
عندها تجمّد جبر لوهلة قبل أن يسأله :
" كيف علمت بذلك !؟ "
" إذا إنه هو ؟ ،سأخبرك بكل شيء لاحقا "
نظر جوسيا لتلك السيّدة التي تجلس على كرسي بعجلات خشبية ، كم كانت شديدة الجمال ، لكن من هي، لينتبه إليه جبر ، فباغته بسؤال :
" لماذا تنظر لزوجتي ؟ "
" هذه زوجتك ؟ ، أعتذر لك بني ، لم أعلم ب .. "
فقاطعه جبر :
" ألم تشتق لها ؟ "
جوسيا باستغراب :
" ماذا ؟"
" ألم تشتق لابنتك !؟ "
نظر جوسيا لبارتو وقد تذكرا حوارهما القديم ..
" ابنتي ! ، هل زوجتك ابنتي ؟ "
" نعم ، إنها ابنتك ! "
اندفع جوسيا نحو آريس ينظر لعينيها الذهبية وملامحها، فانسابت من عينيه بعض الدموع ، بعدما تذكّر آرتيس ببعض الشبه الذي كان على وجه آريس، وفجأة انساب صوت هادئ داخل جوسيا :
" أبي .. لا تبكِ "
انتفض جوسيا عائدا للخلف، فربّت جبر على كتفه قائلا :
" لا تخف ، هكذا تتحدث معك ، ترسل صوتها لداخل رأسك، إنها حوريّة، جعلتها ترتدي هذا الرداء لأخفي ذلك عن البحّارة "
عاد جوسيا واقترب منها ، وابتدآ حوارا طويلا، كانت آريس في غاية السعادة وكذلك كان جوسيا بلقائهما ، فيما شعر جبر بالفخر في نفسه، وانسحب نحو بارتو، ليتجاذبا أطراف الحديث حول الكتب والمخطوطات التي وجدها بارتو قديما، واعدا جبرا بأنه سيطلعه عليها، بينما كان بينيت يبحر بجانبهم، يشعر بألم الوحدة والغربة سويا، بالرغم من أنه بدا غير مكترث لذلك..
ما إن طلع الصباح على المدينة حتى حدث شيء غريب لم يعتد عليه أحد ، فقد انتشر جنود في المدينة، وعلى مداخلها عند طريق العربات الزراعي ، وعند الشاطئ وبالقرب من دار الأوبرا، حتى إن فليب والد مارلين وبحّارته اشتبك معهم بالبارود والسلاح، لتعيش المدينة ساعتين من الرعب ، ليتبيّن فيما بعد أن روز مارتن قد فرضت نفسها كملكة على مدينة كديميس، وجهزت منذ فترة الجيوش لذلك ..
استطاع البحّارة ابعاد الجنود لمحيط قصر روز وبقوا متأهبين لأي تحرّك ..
كانت مارلين تراقب كل ذلك، حتى هدأ الوضع قليلا، كادت أن تسدل الستار وتذهب لولا أن لمحت ماري من بعيد وهي تدخل لبيت العمدة، لتحدث مارلين نفسها :
" مؤامرة جديدة ستحيكها ماري مع زوجة العمدة، لا بد أن علاقتها مع روز قد ساءت لسبب ما "
وبالفعل استقبلت زوجة العمدة ماري، فلقد ساعدتها مسبقا عندما اكتشفت مكان مارلين في قصر روز ، ساعدتها على الإفلات من روز ..
دخلت ماري ودون أيّة مقدمات قالت لزوجة العمدة :
" لقد جنّت زوجة ابنك، تريد تحويل المدينة لواحدة من ممتلكاتها ! "
" وماذا علينا أن نفعل، وقد رأيتِ أنها باتت تمتلك جيشا !؟ ، هل شاهدتِّ اشتباكات اليوم ؟ "
وعندها نفذ صبر ماري ووقتها معا، لأنها كان يجب عليها المغادرة قبل المساء، لتردّ عليها قائلة :
" انظري يا امرأة ، إن لم يتمكّن زوجك من شراء الرجال كما فعلت روز ، والدفاع عن حقه في كونه العمدة ، سيفعل فيليب ذلك ، وسيتحوّل من قائد لبعض البحّارة إلى بطل وقائد للمدينة كلها، وهذا لن يحدث "
طأطأت والدة داني رأسها بقلق ، فأمسكت ماري بذقنها ورفعت نظرها إليها وقالت لها :
" لطالما كنتِ سيّدة هذه المدينة، لا تسمحي بذلك أن ينتهي ! "
قالت تلك الكلمات وخرجت وهي تتمتم :
" سأنتقم منكِ روز ، سأنتقم منكم يا عائلة مارتن مهما كلّفني الأمر ، أعدك بذلك أبي "
تودّع الشمس المدينة، ومع انتهاء اليوم يساور القلق قلب مارجريت والجدة ، لتخرج الجدة نحو البحر لتنتظر بارتو، بالرغم من محاولات مارجريت لردعها بسبب ما حدث من اشتباك في الخارج، ولكنها أصرّت على الخروج..
رآها فيليب ذي الرقعة الذي كان بين رجاله وهي تنزل على الدرج وتتجه للشاطئ، فانطلق نحوها يناديها :
" أيتها الجدة ، أين تذهبين ؟ "
" نحو الشاطئ "
وصل إليها ومشى بجانبها قائلا :
" سيعودان يا جدتي، للتو أبحرا، يحتاج الأمر وقتا "
" هذا ما قلته لنفسي قبل أن يذهب زوجي بلا عودة ، هل تسدي لي خدمة ؟ "
" بالطبع "
" هل يمكنك أن تضيء المنارة حتى لا يضلا في البحر "
" سأضيئها بالطبع لا تقلقي "
وهكذا اتجه فيليب للمنارة وأضاءها، كانت الرياح شديدة والبحر هائجا بعض الشيء ، ولكن بالرغم من ذلك بدت بين الأمواج وحلكة الليل سفينة ، فاستبشر فيليب ونزل ليستقبل صديقيه ، وعندما وصل ورست السفينة تراجع عن ذلك وبقي على مسافة بعيدة منهم ..
رست تلك السفينة بعد فترة إبحار طويلة تجاوزت عدة شهور ، لينزل بحّارتها محمّلين بضاعتها من السكّر ، ليتبيّن أنها لعائلة مارتن، ليحدّث فيليب نفسه :
" توقيت رائع يا مارتن ، يا وجه النحس المحلّى ، بائع سكر جشع "
يتبـــــــــــــع
آراؤكم الجميلة🎑وتصويتكم💙