رجل المنارة

947 70 14
                                    

يجر يأسه بقدميه المتثاقلتين ،خارجا من مكتبته القديمة ، يغلق باب مطعمه الخشبيّ، مصدرا صوتا عاليا في الزقاق الفارغ في منتصف الليل ، لكن لا صوت يعلو فوق صوت البحر و موجه اللذي يضرب الشاطئ بشراسة ، يتمشى العم جوسيا  نزولا من البيوت المرتفعة ، قاصدا تلك المنارة القابعة على أطراف لسان الشاطئ البعيد ، وكأنها وحيدة يحيط بها البحر إلا من طريق حجريّ متسع بعض الشيء ، تضيء بضوء ساطع أبيض يدور في بهوها الزجاجيّ المرتفع ، تدلّ السفن التائهة في الليل المظلم لتبصر الطريق ..

لا صوت لخطواته في هذا الطريق الحجريّ ، فقط صوت ألسنة الموج المحيطة به تبدو وكأنها تمتد لتنال منه بغضب ، وكأنها تمنعه من التقدم ..

يصل لبابها ويعتلي درجها الخشبي المنحدر بشدة ، يتبعه صدى صوت دعساته بسبب تهالك الدرج ورطوبة بعضه، متكأً على الجدار ، وما إن وصل لباب البهو الكبير في الأعلى ، وقف مترددا في الدخول ،  حتى بادره صوت في الداخل :-

"أدخل أيها العجوز ،  وأخيرا تنازلت عن غرورك يا جوسيا "

ابتسم العم جوسيا بسخرية عندما تذكر بعض لقطات من الماضي جمعته مع صديقه  القديم بارتولوميو ، حيث وصفه جوسيا عندها بالجنون ، ولكنه يحتاجه الآن ، ويحتاجه بشدة ، دخل بهدوء قائلا له :-

" أما زلت مجنونا كالسابق "

"بالطبع يا صديق ، وهل يمكن لعاقل أن ينجز هذا .."

فأزاح نفسه عن مدى نظر العم جوسيا لتظهر خلفه مخطوطة طويلة ممتدّه على لوح مائل كالمسند اللذي يستخدمه الرسام للوحاته ، كانت عبارة عن آلاف القطع الصغيرة الممزّقة ، كان بارتولوميو قد أمضى قرابة الثلاثين عاما في تجميعها  ..

فقد كان في صغره يلهو مع صديقه جوسيا على الشاطئ ، واختبأ عنه حتى دخل في مغارة مظلمة ، تعثّر حتى وقع في منحدر فوجد في آخره غرفة مليئة بالكتب القديمة ، ظنّها كتبا عادية في البداية ، حتى وقع نظره على مخطوطة ممتدّة تترجم اللغات اللتي كتبت بها تلك الكتب ، أخذ يتمشّى بالقرب منها ، ويقرأ تلك التوضيحات والأحرف الغريبة وترجمتها ، حتى تملّكه الشغف في معرفة محتوى الكتب ، وعندها اقترب من المخطوط يريد أخذه معه  هو والكتب ، وما إن لمسه حتر تكوّم كالتراب على الأرض قطعا صغيرة، أصابته صدمة لما حصل للمخطوط ، فخلع قميصه وأخذ يجمع فيه قطع الورق الصغيرة تلك مدة طويلة ، بحث عنه صديقه جوسيا ولكنه لم يجده ، اعتبره مزاحا ثقيلا في البداية ،ولكن مع مرور الوقت أصبح غيابه مقلقا ، وعندما جمع بارتولوميو تلك القطع الصغيرة وحمل الكتب على ظهره ، خرج من تلك المغارة بصعوبة قبل مغيب شمس اليوم التالي ، وقصد المنارة،  مكان عمل والده ، وأخفى الكتب والقصاصات هناك ، نسي كل شيء منذ ذالك الوقت واستمر بمحاولة تذكر الرموز  وتجميع المخطوط ..

وعندما اكتشف جوسيا وجوده في المنارة ، ذهب إليه وهو غاضب ،فلم يكترث بارتولوميو بقلق صديقه عليه وانصب اهتمامه على ترميم المخطوطة ، دخل إليه جوسيا إلى المنارة يصرخ فيه :-

آريس الحورية الهاربةWhere stories live. Discover now