تترابط الأحداث بسيّئها وجيّدها حتى تكوّن قصة ذات مغزىً في النهاية، فالعاقل لا يعيش القصة بالقدر الذي يبحث فيه عن المغزى، بينما الحمقى وقود أحداث بائدة لا يفهمون مغزاها ولا يفكرون فيها أبعد من ذلك..
لهذا يحاول بارتولوميو أن يفهم الحدث جيّدا، ويمحّص في النصوص أكثر من مرّة، مرارا وتكرارا، حتى نفذ منه صبر والده بينيت بسبب دخول جنود هوجا المدينة،. وخوفه من توجههم للمنارة، فصاح بابنه قائلا :
"هل ستتأخّر أكثر من ذلك، يجب علينا المغادرة لتأمين المنزل، الجنود ينتشرون وأنا لا أثق بهم"
ينظر بارتو من النافذة المتّسعة نحو منزله البعيد يتفحّص سلامته بسرعة ويجيب والده :
"أين سنخفي هذه الكُتب إذا؟!"
" لن يمسّها سوء، إنها كتب وهم أغبياء لن يعيروها اهتماما! "
" بل سيفعلون ولكن بطريق أخرى، سيحرقونها! "
" من قال لك ذلك؟! "
" التاريخ!، الأغبياء يخافون الأفكار والتغيير، وبالتالي هم يخافون الكتب فيعمدون دائما لحرقها، وربما حرق كتّابها أيضا! "
" إذا وماذا سنفعل الآن؟!، لن نحملها معنا بالطبع، ولن نتركها هنا أيضا!"
" ولكننا نستطيع إعادتها للمكان الذي كانت فيه قبلا "
" أين؟ "
" في الكهف المجاور للمنارة، في المكان الذي سقطت فيه سابقا لأجدها "
نظر بينيت للجهة المقابلة للمدينة في الناحية الصخرية من اللسان الذي يمتد نحو المنارة، ليجد مدخلا صغيرا بالفعل قريبا من الشاطئ، فقال لابنه :
" هذا جيّد، نستطيع أن نخبئها هناك في طريقنا للمنزل "
وبالفعل حملا الكتب بين ثيابهما واتجها للمغارة، كان المطر قد بدأ بالتساقط وكان الليل يزداد سوادا بتكاثف الغيوم، مما سهّل لهما الاختباء في المغارة دون أن يراهما أحد، ولكنهما اضطرا للبقاء فيها مع اشتداد المطر، ومن ناحية أخرى غادرت جيوش هوجا نحو أطراف المدينة قبل أن يفرضوا قوانينهم الجديدة عليها..
وهذا ما نبّه أهلها، فاتجهت مارجريت نحو مشغلها تاركة طفلها الصغير لدى الجدة، لتخبئ أقمشة الصوف والحرير والمعدات في مخزن تحت الأرض حتى لا يقوم الأعداء بإتلافه..
بينما كانت مارلين تتجه للكوخ لترى آريس، لمحت جبرا فيه، فتراجعت وعزمت على العودة أو ربما التلصص على خيام الأعداء بالرغم من المطر الشديد، وبينما هي تتنقل بين البيوت، تصل للمشغل فتحس فيه بحركة لتدخل على الفور، لتتفاجأ بالسيّدة مارجريت توجّه إليها سلاحا وتصرخ بها :
" من أنت؟!،. ولماذا أنت هنا؟!"
فتزيح مارلين اللثام عن وجهها قائلة :
" أنا مارلين سيّدة مارجريت، أحسست بحركة في المشغل ودخلت لأرى ما الذي يجري؟"
أطلقت مارجريت تنهيدة ارتياح وأزاحت سلاحها وضحكت، ثم قالت لها :
" لقد أرعبتني مارلين"
" أنا آسفة سيّدتي، ولكن ماذا تفعلين هنا؟! "
" أخبّئ القماش عن جنود هوجا، لا أحد يعلم ماذا سيفعلون بنا، ولكننا لسنا أصدقائهم بالطبع "
" هذا صحيح، سأساعدك إذا وسننتهي بسرعة"
" أرجو أن لا يتوقف المطر حتى ننتهي"
كان روبرت في هذه الأثناء يحضّر ثلاثة كؤوس من الشاي الدافئ لجوسيا وفيليب ولنفسه، كان المطعم فارغا لتأخر الوقت وشدة المطر وخوف البحّارة من بطش الجنود، حتى فتح الباب ودخل باتريك أخ ماري الصغير، أزاح فيليب عينه عنه واستدار متجهما نحو جوسيا، ليهمس له جوسيا :
"إنه مجرّد فتى صغير.. ما بك!؟ "
ثم اتجه باتريك نحو روبرت، وألقى عليه التحية وأخذ يساعده، نظر إليه روبرت فوجد تعابير وجهت مليئة بالحزن على غير العادة، فسأله :
" ما بك باتريك، تبدو يائسا؟!"
" نعم جئت هنا لأتحدث إليك"
" حضّرت لك كأسا إضافيا من الشاي، انتظرني حتى أقدّم هذين الكأسين للعم فيليب والعم جوسيا، ثم سنجلس وحدنا على تلك الطاولة"
وأشار إليها بيده، فحمل باتريك كأسيهما إليها، ثم جلسا سويا، كان باتريك يلتزم الصمت وروبرت ينتظر، ولكن الصمت لم يطل حتى انهمرت بعض الدموع من عيني باتريك، حاول مسحها بكم قميصه، فاستثار فضول روبرت الذي سأله بدوره :
" ما بك يا صديقي؟، هل أنت خائف مما يحصل، لا تخف نحن بجانب بعضنا البعض ولن.."
"لا لا، الأمر ليس كذلك، إنه أكبر مما تظن، لا أعرف هل من الجيّد أن أخبرك به أم ماذا!، ولكن صدري بات يضيق به"
"تكلّم باتريك، نحن أصدقاء"
" أختي ماري، تتعاون مع هوجا ضدّنا !"
وبينما كان باتريك منهمكا بالحديث مع صديقه روبرت، كانت روز قد استقبلت ماري بجناح خاص، وأعطتها وقتا لترتب أغراضها، أخذت ماري تضع ملابسها في مكانها وتجمع الأوراق جانبا حتى ترتبها، وتضعها في مكان آمن، وما إن بدأت ترتب الأوراق حتى لاحظت ضياع الأوراق التي سرقتها من السيّد مارتن والتي امتلكت بواسطتها الكثير من الأراضي والمحال التجارية دون علمه وبختمه الخاص، فجن جنونها، وظنت أن باتريك هو الذي فعل ذلك وعرف عنها أكثر مما يجب عليه معرفته، فشعرت بالاختناق وأن عليها أن تجد حلا لهذه الفوضى التي حصلت فجأة في حياتها، وفي نفس الوقت كانت تنظر للمطر وتتمنى أن يستمرّ حتى تعتذر عن الذهاب مع جنود هيدشا نحو المدينة..
وما هي إلا دقائق حتى دخلت روز لغرفتها، فحيّتها وجلست بيأس :
" هل رأيتِ الذي حل بي ماري؟!"
قلّبت ماري عينيها وهي تحاول تذكّر تلك الأمور التي تخص روز، فسألتها :
"عن أي شيء تتحدثين؟!"
"عن جيوش هوجا الذين سرقوا مني أحلامي، لن أكون ملكة لهذه المدينة أبدا"
سكتت ماري قليلا، ثم قالت لها :
" عليكِ أن تحسّني علاقتك مع والدك "
" ما الذي تقولينه؟!، ألستِ من قال لي أن والدي لا يريدان مني أن أسيطر على المدينة قبلا؟!"
"نعم ولكن والدك هو من وافق على شروط الهدنة معهم، وهذا يعني أنه سيعمل معهم عاجلا أم آجلا "
" لم أفهم شيئا ماري تكلمي بوضوح أكثر"
" والدك سيكون في موضع قوة، حسّني علاقتك به "
ثم قامت وحملت حقيبة لها وهمّت بالمغادرة، لتسألها روز :
" إلى أين أنتِ ذاهبة؟!، ألم تخبريني أنك ستمكثين معي لفترة وجيزة؟! "
" نعم ولكن علي أن أقوم بزيارة صغيرة ولن أتأخر "
لتصيح بها روز :
" هي، والمطر، إنه يشتدّ "
ولكن ماري مضت دون أن تجيبها نزولا نحو كوخ جبر، وعندما وصلت طرقت الباب بهدوء ليفتح لها جبر، تعجب من مجيئها في هذا الوقت، ولكنه أدخلها للمنزل بسبب المطر، ورحّب بها..
تغير لون آريس وبدت مستاءة من رؤيتها، وبخاصة عندما وضعت ماري معطفها وذهبت لتساعد جبرا حتى في الضيافة التي سيقدمها لها، وعندما جلسوا سويا بجانب المدفأة، سألتهما ماري
:
"جئت لأطمئن عليكما في هذه الأجواء، إذا كيف هو حالكما؟ "
كان جبر سيرد عليها إلا أن آريس باغتته قائلة :
وكأننا طلبنا منها ذلك، اتركينا وشأننا، قل لها أن تتركنا وشأننا.. "
واستمرّت آريس بالحديث في رأسه مستاءة، فيما بدا جبر يتلكأ بالحديث، يتوقف ليستمع لآريس، ويحاول بنفس الوقت أن يتحدث لماري ويشكرها على تفقدها لهما، فسألته ماري ما به، ليجيبها أن هناك ألم برأسه ويحتاج للراحة فقط، لم تمضِ عدة دقائق حتى استأذنت وخرجت، وهي تشعر بأن هناك أمرا مريبا بهما، كان المطر قد بدأ يهدأ، فتوجهت نحو خيمة هيدشا حتى لا يصدر منها موقف ما قد تخسر فيه تحالفها مع هوجا..
بينما كان جبر يلوم آريس لأنها أفقدته تركيزه، ولكنها صرخت فيه :
"قلت لها أنه ألم برأسك، وفي الحقيقة كان هذا صوتي، قل لي أنك لم تعد تريد أن أحادثك بعد الآن وسأكتفي بالغناء في المحيط كالسابق"
ثم زحفت نحو البحر واختفت فيه، ناداها جبر ولكنها لم تجب، وضع كلتا يديه على رأسه وجلس على عتبة بابه المطل على البحر، وكان يعلم بأنه قد أخطأ ولكنه تركها وحدها هذه المرة..
سبحت آريس قدر استطاعتها وابتعدت، نظرت خلفها فلم تجده أصلا يحاول البحث عنها أو اللحاق بها، لتعلم أن الأمور تتغيّر، وأنها أصبحت حملا ثقيلا عليه..
سمعت زوجة العمدة صوتا عند الباب، فاستيقظت من النوم، وأيقظت العمدة قائلة له :
" يبدو أن أحدهم يطرق الباب، هيّا قم لترى من الطارق"
" في هذا الوقت، وفي هذه الظروف؟!"
ثم اتجه نحو الباب، وإذا به نايل المسؤول عن بيت السجلات، يستأذن بالدخول، مما أثار استغراب العمدة،. فأدخله وأجلسه عند المدفأة وقدم له الضيافة، وعندما جلسا قال له نايل :
" جئت لأخبرك بما حصل، ولماذا أوقفت العمل الآن "
" تكلّم نايل دون مقدمات "
" الختم ضائع، وأنا أشكّ بالسيّد مارتن!"
"ماذا؟!، مارتن سرق الختم؟!"
" أنا لا أتهمه، ولكن لا أستثنيه أيضا"
"نعم، نعم فهمتك، وسأتصرّف بطريقتي"
" تصرف ولكن، لاتخبره بأنني شككت فيه مهما حصل، أخبره بأنك تفتّش عنه في كل المدينة فقط "
وبالفعل وفي صباح اليوم التالي خرج العمدة ليتفقد الأمر متوجّها نحو قصر مارتن..
يتبــــــــع