574

113 22 9
                                    

الباب في كل لحظة منتظراً أن يقال له : آن أوان الانصراف.

إن حلقة ضيقة من الناس تحيط به. وهم جميعاً يهزون رؤوسهم حسرة، ويرثون لحاله، ويحزنون لما آل إليه، وما أكثر الذين تأثروا أشد التأثر لقصته التي شاعت في المكتب كله فجأة .. فبعضهم يناقش الأمر، وبعضهم يمدح فاسيا ويعبر عن أساه.

قالوا أنه كان فتىً هادئاً متواضعاً يعد بمستقبل مشرق. وقالوا أنه كان يحرص على الاستزادة من العلم وكان يعمل جاهداً في سبيل استكمال ثقافته. وقال أحدهم : ((إنه بوسائله وحدها إنما استطاع أن يخرج من ظرف وضيع جداً)). وأشاروا، بكثير من الحنان، إلى العطف الذي كان يحمله له صاحب السعادة.

وأخذ بعضهم يشرح لماذا تحاصر ذهن فاسيا فكرة زجه في الجيش عقاباً له على عدم إنجازه عمله. قالوا أن الفتى ينتمي في أصله إلى طبقة الأقنان*، وإن الفضل في وصوله إلى الحصول على رتبة موظف إنما يرجع إلى جوليان ماستاكوفيتش وحده.

ذلك أن جوليان ماستاكوفيتش قد رأى فيه علائم موهبة حقيقية، كما رأى فيه طواعية كاملة، وأدباً جمّاً ... الخلاصة أنهم تكلموا كثيراً وتناقشوا طويلاً.

وكان من أكثر الناس تأثراً رجل طيب قصير القامة جداً، أقصر كثيراً من متوسط طول الرجال. إنه أحد زملاء فاسيا، وما هو الآن فتىً في ريعان الشباب. فلعله بلغ الثلاثين من عمره. كان شاحب الوجه كـميت.
كانت أعضاؤه جميعها تختلج، وكان يبتسم ابتسامة غريبة .. ربما لأن حادثاً رهيب أو أي أمر فاضح يمكن أن يملأ قلب شهوده خوفاً شديداً ولذة عجيبة في آن واحد.

كان الرجل القصير يركض بين الجماعة التي تزدحم حول فاسيا من أقصاها إلى أقصاها، وكان لقصره ينتصب على رؤوس الأصابع، متشبثاً بزر هذا أو ذاك من زملائه (الذين كان يحق له أن يقاربهم) ، وما ينفك يردد أنه يعرف كيف وقع ما وقع، غير أن الأمر معقد، ولا يمكن ترك الأمور على ما هي عليه.



____

*الأقنان : العبيد في مرحلة الحكم الإقطاعي.

BRO |✔| اقرأ 1Where stories live. Discover now