الفصل السابع والأربعون:

22.3K 578 18
                                    



انعكس ضوء الغروب على البحر الساكن، فجعل له لونًا مختلفًا. برغم سكون البحر في هذا اليوم هناك صوت لأمواج صغيرة تتلاطم. والبديع جمال المنظر..
الرمال ما تزال دافئة، وظلها ينعكس بجانبها كمرافقٍ لها وهي تنظر للأعلى بهدوء. تقدمت عدة خطوات لتبلل قدماها بمياه البحر، وأخذت تنظر لانعكاس الغروب على سطحه.
و من خلفها بعدة أمتارٍ وقف هو. كان ينظر لها وكأنه يراها لأول مرة، ككل مرةٍ يراها فيها يفكر أنها برغم هدوئها الدائم بها ما يشغله بها ما يجعله يراها في كل مرة كشمسٍ أضوت الأرجاء بنورها و وهجها الساطع.. يكاد يقسم في داخله أنه واثق أن ذاك السكون يُخفي خلفه الجنون، الإنطلاق للعالم ليتبعه نوعٌ مختلف من الإثارة.. تلك الإثارة التي تشعرك بالحرية، و المجازفة..
عيناها تُخبرانه دومًا أنها لا تنتمي لهذا الواقع البائس كما أخبرته عيناه دومًا حين كان ينظر في المرآة أنه لا ينتمي لهذا الواقع!
حين رآها تتقدم للبحر سار إليها بثبات، و ما إن وصل إلى حيث تقف هي سألها بهدوء:
-ها المكان عجبك؟
لم تحرك عيناها وهي تجيبه بخفوت:
-عجبني
رد بثقة:
-كنت عارف.
صمتت ولم تعقب، فتابع هو بنفس هدوئه وهو ينظر إلى حيث تنظر:
-لما كنت بتخنق كنت باجي هنا من غير ما اعرف حد.
-يعني إنت مخنوق!
كان سؤلاً وجيهًا منها، فأجاب بوجوم:
-الخنقة دي هتبقى وصف مبسط لحالتي حاليًا.
بنفس الهدوء أردفت:
-مفكرتش للحظة إن مفيش داعي للخنقة دي!
سألها باهتمام:
-ازاي؟
-مفكرتش إن إنت شايف الموضوع من وجهة نظرك، مجربتش تشوفها من وجهة نظره هو!
زفر، وقطب حاجباه، فقد علم أنها تفهم لما يشعر بالإختناق و الغضب بداخله، ربما أي شخص سيحتاج إلى ساعاتٍ من الشرح لكي يفهم أن عمه هو والده، أما هي فلا، لقد صمتت حين علمت وكأن شيئًا لم يكن، وهذا ما جعله يسامح نفسه على ذلة اللسان تلك. والآن هي تتطرق إلى الأمر وكأنها درسته عن كثب وتفهم كل أركانه وزواياه. برغم ما يسيطر عليه من غضبٍ وحنقٍ حين يتذكر الأمر، لكن شعوره أنها مهتمة بالأمر ولو قليلاً يُسعده.
-لنفترض، إنتي لو كنتي مكاني، عايشة كل الوقت دة على إنه بس عمك، و.. وفجأة عرفتي إنه أبوكي هتعملي إيه؟
أخذت نفسًا، ثم نظرت له وبدأت تتحدث بروية:
-صهيب، مينفعش تحطني مكانك تحت أي ظرف، أنا في حالتك كان تصرفي هيبقى مختلف. كنت هسيبه يشرحلي وجهة نظره، غلط لما نحكم بس من منظورنا الخاص.
سكن وجهه، وتبدلت ملامحه للشرود والوجوم، ثم أردف بنبرة بدت منكسرة من الداخل:
-يا جويرية أنا حياتي غير، كل أفراد عيلتي كانوا بيقتلوا في بعض!
استشفت هي من حديثه أمرًا مهمًا، فسألته بتريث:
-دة معناه إن والدتك ليها دخل بالموضوع!
تجهم وجهه ونظر لها مجيبًا إياها بانفعال وذكريات الماضي تلاحقه:
-مسمهاش أمي، أنا معنديش أم، الست دي مش أمي بأي شكل من الأشكال.
ردت عليه بنبرة عالية قليلاً:
-هي أمك حتى لو إنت اتبريت منها و..
-لأ مش أمي سامعة، الست اللي تقتل وتخون وتكدب متبقاش أمي، أنا عمري ما هعترف بيها أبدًا ولا عمري هسامحها، بكرها وبكره كل الستات، كلهم زيها، كلهم خاينين، كدابين، بيظهروا الوش البريء وبس و..
يا الله، عيناه قد احمرتا، وأنفاسه قد علا صوتها، كما أنها لم تره غاضبًا هكذا من قبل. هل هو مجنون! يخبرها أنه يكره النساء، إذًا ماذا يراها؟ رجلاً مثلاً!
انحنت حتى وصلت للمياه بالأسفل، ملأت يدها بالماء ثم وقفت ونثرتها بقوة على وجهه وهي تقاطعه بصرامة:
-مش من حقك تحكم على حد من وجهة نظرك إنت بس، وبعدين إنت أعلنت إنك بتكرهني، وإنت مش بتكرهني، إنت متقدرش تكرهني يا صهيب.
-أيوة عشان إنتي مش زيهم، إفهمي بقى أنا متمسك بيكي عشان إنتي شبهي، بتخليني أنسى كل حاجة بس أول ما أبدأ أفكر فيكي.
صمتت قليلاً قبل أن تهدأ من نبرتها وتتحدث بثبات:
-من وجهة نظري يا صهيب إن مفيش حد اتولد شرير، ومحدش الشر ملاه من مفيش، عارف الشيطان؟ حتى دة كان ليه سبب إنه يكفر ويبقى شرير، وبعد إرادت ربنا سبحانه وتعالي كان السبب غيرته من آدم عليه السلام وغروره اللي منعه يسجدله لما ربنا أمره وقال "ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلْقتَ طِينًا" وكان دة بالنسبة ليه سبب وجيه عشان يكفر، بس طبعًا دة عشان ربنا كان عاوز يخلي فيه جنة ونار، بس الموضوع هنا هل إنت شايف أمك أسوأ من الشيطان عشان تعمل كدة من غير سبب حتى لو مكانش مقنع! بنصحك تدور حلو ورا الموضوع دة، ثقة في الله هتلاقي إجابات تشفيك.
ثم وبدون حرف آخر تركته على عجالة، كيف تستطيع جعله يهدأ بعد أن توصله إلى تلك الدرجة من الإنفعال؟!
وكيف يخبرها أنه يكره النساء وهي منهن هل حسبته يقصدها! لا لا لقد أخبرته أنها تعلم أنه لا يكرهها. ولكن كيف علمت!
أخذ نفسًا مطولاً وقرر أن يلحق بها ليسألها عن شيءٍ ما.
كانت هي حينها قد ولجت للداخل، فلحقها إلى أن وجدها تتجه نحو إحدى الغرف، حينها أسرع إليها وأوقفها في منتصف الطريق وهو يمسك بيدها لكيلا تتابع السير. تنهدت وانتظرته حتى يتحدث، واستدارت لتنظر إليه.
بترقب سألها:
-جويرية أكيد مخدتيش الكلام دة عليكي!
ابتسمت باكتهاء وهي تجيبه بفتور:
-لأ يا صهيب إنت عمرك ما بصتلي بكره، و أنا عمري ما أغلط في نظرات الكره أبدًا، أنا عارفاها كويس أوي.
كيف يخبرها أنه يود لو يفعل أي شيء في مقابل معرفة ماضيها، من الواضح أنه لم يكن جميلاً كماضيه، أي كرهٍ هذا الذي تتحدث عنه؟ وأي ألمٍ قاسته!
-أنا أعرف إن كان عندك أخت، بس.. بس معرفش عنها حاجة، وازاي ماتت!
تبدلت نظراتها إلى الصدمة الممزوجة بالألم فجأة، وقالت:
-إنت قولت جينا هنا عشان ننسى!
ظهرت الجدية على ملامحه وهو يجيبها ببساطة:
-أقدر أزود يومين كمان لو حابة ننسى فيهم، بس أنا يهمني اعرف، يهمني عشان..
صمت قليلاً ولم يدرِ ماذا يقول، فهو بالفعل لا يعلم لما يهتم بمعرفة الأمر، لكنه إلى درجة كبيرة يشعر أن هذا الأمر له علاقة بحزنها الدائم.
نظر لها وتابع بهدوء:
-هتقولي!
نظرت له مطولاً في صمتٍ رهيب، وعلم أنها لن تجيبه، لذلك قرر أن يـ..
-إسمها سوفانا، كانت توأم ليا، ماتت.. ماتت بإنهيار عصبي وهي عندها ١٦ سنة.
كانت تتحدث وتصمت ثم تتابع وهي مطرقة الرأس، بعد أن استندت على الحائط خلفها.
سألها هو بهدوء:
-حصلها نفس إللي حصل لفيروز صح؟
نظرت له مصدومة فهي لم تكن تنوي إخباره، وسألته بثبات:
-براء قالك حاجة؟
هز رأسه نافيًا وأجابها:
-لأ مجرد إحساس.
تنهدت بأسى، ثم نظرت للأسفل مرة أخرى، و استمر الصمت نحو عشر ثوانٍ قبل أن ترفع رأسها له فجأة وتتابع متشبثة بحروف كلماتها:
-بس إحنا مسيبناهمش، هي صح ماتت، بس أنا.. أنا أخدتلها حقها.
كانت عيناها جامدتان بطريقة قاسية، وهي تنطق بشراسة:
-كل واحد في الخمسة دول خد جزاؤه.
اتسعت عينا وهو يسألها:
-خمسة!
أجابته بنوعٍ من الإستهجان:
-خمسة.
أغمض عينيه وفتحها عدة مرات، كيف يعقل هذا! خمسة رجال على فتاة! فتاة تشبه زوجته إلى حدٍ كبير. أصابته الفكرة بالغضب والاستنكار. ثم عاد ليسألها بانفعال:
-وإنتم سيبتوهم!
هزت رأسها نافية وهي تجيبه بعينين حادتين:
-ولو على جثتي، قتلناهم كلهم.
لم يصدق هو ما قالته، تلك المسالمة تقتل! هل يتوهم ما سمع، لكنها تابعت لتؤكد له الأمر:
-معتصم قدر يجمع منهم أربعة، ووداهم في مكان برا المحافظة، لأنه كان وعدني أنا وبراء يمسكهم، ولما جابهم قال لنا وروحنا هناك.
نظرت له وعينيها بدأتا تشتعلان وهي تتابع:
-أنا متحكمتش في نفسي لما شوفتهم، وكنت جايبة سكينة معايا، و..
لم تكن جويرية تشعر أنها تقص له ما حدث، بل كانت تتذكر فقط الأمر وكأنه واقع أمامها، ولم تعلم أنها كانت تروي له ما تتذكره حينها..

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقWhere stories live. Discover now