الفصل الخمسون:

24.3K 574 8
                                    




كانت السيارة في أوج سرعتها، كانا عائدان إلى منزلهما.. أو اقتربا كثيرًا منه.
كان كلاهما بالرغم من الصفاء الذهني المؤقت الذي انتابهما شاردان في البعيد. كلاً منهما يفكر في المواجهة القادمة، فهي تعلم تقريبًا كل شيءٍ سيعلمه هو عما قريب، ربما أصر رحيل البارحة على اخبارها بالأمر بصورة هادئة كي يضمن أنها لن تتخلَ عنه بعد معرفة حقيقة نسبه، و ما يكمن خلفها..
لكنها لم تفكر في هذا، بل جُل ما فكرت في كيف سيكون وقع الخبر عليه؟
وللحظة وضعت نفسها محله وسألت نفسها ما الذي كانت ستفعله إن كانت محله؟ أجابت نفسها عدة مراتٍ أنها ستتألم كثيرًا ولكن رد فعلها سيكون هادءًا. لكن لم تنسَ أنها تتحدث عنه هو، لا عن نفسها.. هي اعتادت اللون الأسود في حياتها، واعتادت على مواجهة الصعاب بجموح، وبالرغم من أنها لن تنكر أنه تعذب كثيرًا في حياته هو الآخر لكن في ذات الوقت يجب أن..
-وصلنا
قالها صهيب بصوتٍ مرتفع، فانتفضت على إثرها وقد تفاجأت أنه قد فتح لها باب السارة وواقف بجانبها تقريبًا، نظرت له بانزعاج قائلة:
-طيب براحة بتجعز!
رفع حاجباه وهو يسألها مستنكرًا:
-دة على أساس إني مش بنده من ساعة!
أخذت نفسًا طويلاً لتركز، ثم نزلت من السيارة وهي تجيب بهدوء:
-مكنتش آخدة بالي
وضع يده على كتفها، وسار معها للأمام، ثم بدأ الحديث بجدية:
-بصي، مش مهم أكلم رحيل النهاردة، خليها بكرة، بجد مفياش دماغ أسمع.
هزت رأسها نافية، وردت بغموضٍ وهي تتقدمه بالخطوات:
-إنت مش هتحتاج تكلمه أصلاً!
كاد أن يسألها عما تعنيه، إلا أنه قد وجد رحيل واقفًا أمامه، فتجهم، وأشاح بوجهه في اتجاهٍ آخر. حينها تقدم رحيل، وظلت جويرية تراقبه بهدوء. كان رحيل ممسكًا بنفس الدفتر الوردي، وكانت ملامحه تدل على أن الفترة السابقة لم تكن بالهينة عليه.
حين وقف رحيل أمامه تحدث بهدوءٍ وثبات:
-الحقيقة دي أخدت من عمري كتير.. أخدت وقت طويل عشان يبقى عندي القدرة أقف قدامك وأكلمك في الحقيقة دي.
صمت قليلاً وقد ترقرقت الدموع في مآقيه وتابع بجمود على الرغم من هذا:
-لو عاوز الحقيقة يا صهيب عمري يوم ما كنت هقولك على الحقيقة دي.. عشت بحبك وهموت بحبك مش عشان مجرد إنك ابني، لأ عشان إنت كنت كل حياتي اللي مكانش عندي استعداد أخسرها تحت أي ظرف.
حاول صهيب أن يحافظ على ثبات عينيه وهي تنظر للبعيد، ولكن رغمًا عنه نظر له، ورأى عيناه الحزينتين، ولم يعقب.
تابع رحيل بنبرة أكثر ثباتًا:
-أنا بعترف إن غلط أخبي عليك، بس أنا يا صهيب مش من النوع اللي بيتحمل خسارة حد بيحبه! يا صهيب إنت اللي صبرتني على فراق أمك.
احتقنت عينا صهيب، ومع ذلك ظل على موقفه صامتًا، مع أنه صدم من عبارته الأخيرة..!
أي أمٍ هذه..؟!
-طلاما عرفت الحقيقة يا ابني، يبقى لازم تعرفها كاملة.
صمت رحيل لثوانٍ يراقبه، ويراقب انفعالات وجهه، ليكمل بعدها بألم:
-أنا وأمك كنا بنحب بعض جدًا يا صهيب، كنا هنتجوز خلاص في نفس الشهر اللي هي اتجوزت فيه عمك جلال.
فرت الدموع من عينه، وبدأ صوته يتقطع، ثم أبعد ناظريه عنه قائلاً بشرود:
-إحنا كنا خلاص هنبقى سوا، لولا الظروف.
تنهد بأسى، وأخذ يمسح عبراته بعنف، ثم مد يده له بالدفتر الوردي، وأمسك يده الأخرى ليضعه بداخلها، ثم نظر له وبدأ يتحدث بجدية:
-أنا عارف إن صعب تسامحنا يا صهيب، بس الزمن كان صعب، الظروف كانت قاسية، وكل حاجة عملناها كانت بسس اللي مرينا بيه. بص يا صهيب المذكرة دي بتاعة أمك الله يرحمها، أنا كنت مفكرها خانتني لحد من كام يوم بس عرفت كل حاجة، عاوزك تقرأها وهتفهم كل حاجة.
كان صهيب ينظر له وكأنه مشوش، شارد، ضال، لا يعلم أين الحق، وأين الباطل! من يصدق، عقله أم قلبه؟
عقله يخبره أنه يكذب، وقلبه يلوم عقله فرحيل كان الوحيد الذي رعاه، واهتم به وخاف عليه كما لم يخف أحدٌ من قبل.. كان قاسيًا عليه أن تتشوه صورته أمامه بتلك الطريقة.
ربت رحيل على يده بابتسامة خفيفة، ونظر له قائلاً:
-اطمن، معدتش هتشوفني تاني إلا لما تعوز بنفسك تشوفني، دة إذا عوزت أصلاً!
ثم وبدون كلمة أخرى تركه ورحل. تعلقت عينا صهيب به لثانيتن قبل أن يعيد النظر للدفتر الوردي، ثم يرفع نظره كأنه يبحث عن شيءٍ ما، لتستقر عيناه التائهتان عليها، فاقتربت منه حينها وكأنها شعرت أنه يناديها. وحين اطمأن هو لمجيئها عاود النظر للدفتر بشيءٍ من الشرود والتخبط.
حين رأته هي بتلك الحالة أردفت بهدوء:
-إنت كنت عارف إنك لازم تعرف الحقيقة في نهاية المطاف.
أخذ نفسًا ثم أجاب باختناق:
-بس ميغيرش أفكاري ومعتقداتي، تخيلي لو اكتشفت إني كنت عايش كل دة على أوهام!
أمسكت يده ونظرت له بقوة وهي تناديه بنبرة عالية قليلاً:
-صهيب!
أغمض عيناه وهو يضم يدها بيده.. كان خائفًا، خائفًا من معرفة شيءٍ آخر، خائفًا أن صدم مجددًا
-ما كلف الله يومًا إنسيًا إلا قدر طاقته.. ما وضع الله ثقلاً إلا وله حامل، حتى الألم وإن زاد فائقه.. فصبرًا فليس الأجرُ إلا لصابرٍ لله من فضله سائل.
كانت تلك هي الكلمات التي قالتها ارتجالاً، فنظر لها بحنان، وابتسم رغم كل شيء فقد خففت عنه كثيرًا، لقد كان يكفيه أن يشعر أنها تحاول التخفيف عنه، كفاهُ أن أمره يهمها وأراحه كثيرًا...
يا إلهي كم يكون الإنسان غريبًا حين يحب!
وبهدوءٍ سارا بعدها ليدخلا إلى المنزل.

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن