الفصل الثالث والثلاثون :

22.8K 646 5
                                    




-بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في كل خير ..

ها قد أصبحت ملكه الآن، كأي شيء أراده وحصل عليه بتصميم ومثابرة، إلا أنها ليست مجرد شيء ..

لقد خلى عقلها من أي فكرة، هناك تبلد رهيب في مشاعرها، وألم كبير يضغط عليها، كانت تردد خلفهم وهي غير واعية، تفكيرها منصب على شيء واحد، كيف يبلي والدها الآن في قبره !
هل هو خائف من ظلام القبر، أم نور الملائكة تؤنسه !
هل هو يُسأل الآن، هل أجاب على جميع الأسئلة بثبات ؟
هل هو يـ ..
-ألف مبروك يا بنتي
قاطع شرودها صوت رحيل الذي قالها هو يتفرس ملامحها، وكأنه يحاول تذكر أين رآها من قبل ..
أومأت رأسها كإجابة مختصرة له، بالكاد تستطيع التركيز على ما يحدث حولها، هناك دوار شديد يسيطر عليها منذ ساعات، وهي تحاربه بشتى الطرق ..

وقف رحيل ينظر لها مستعجبًا، كل شيء تم بسرعة، وتلك الفتاة ..
تلك الفتاة مألوفة إلى حد كبير، ثم لما يبدوا أنها حزينة، أليست سعيدة بزواجهما!
العجيب أنه لم يشعر بالضيق لزواج صهيب، بل شعر براحة لم يدرِ لها سببًا منطقيًا، كان من المفترض أن يخبره بأنه سيفعل، لكن ما الفرق فقد فعل على أية حال، وتزوج بالفعل ..
لحظة واحدة فقط .. إتسعت عيناه فجأة وهو يتذكر وجه تلك الفتاة التي سكبت دلو الماء على ولده من قبل، نعم إنها هي نفسها إلم تكن ذاكرته تخونه ..!

وعلى ذلك فقد وقف عقاب مبتسمًا بثقة لنفسه وكأنه قد خمن شيئًا وصحَ !

بعد دقائق، كان الجميع في الخارج، وكلٌ استقل سيارته الخاصة، وذهب، عدا هما. وقف صهيب ينظر إليها، لا تبدوا طبيعية، نعم هي لا تتحدث كثيرًا في الغالب، لكن ليس بتلك الطريقة ..
تنحنح بصوت عالٍ قليلاً وقال بثقة :
-قولتلك هنتجوز ..
لم تجبه، بل يبدوا أنها لم تسمعه حتى، اقترب قليلاً حتى وقف أمامها وسألها بضيق :
-إنتي بتتجاهليني ليه الوقت ؟
كانت شاخصة أبصارها إلى مد البصر، وحالة ساعديها، وجهها حزين كزهرة خاصم ضوء الشمس بتلاتها فلم يكن لها إلا الذبول، وعينيها تلمعان بشدة، حتى أن عضلات وجهها دلت على وجود ألم دفين بها، لربما هذا ما خفف من غضبه حين لم تجبه مرة أخرى ..

أما هي فقد كانت تعيش في عالم آخر الآن، فتلك اللحظات التي.. التي رأته فيها آخر مرة، لقد ذهب الآن وغادرها، و .. وهو في القبر الآن، بعيدًا عنها، وحده، كمذهب الباقون..
اشتد الدوار بها أكثر، وحاولت مقاومته ككل مرة، لكنها لم تقدر تلك المرة أبدًا، فتأثير كل لحظة عاشتها يتكرر أمامها مجددًا، ومجددًا ومجددًا...

وجدها فجأة تترنح، فسألها بدهشة :
-مالك ؟
لكن قبل أن ينهي سؤاله حتى، وجدها قد فقدت توازنها، وكادت أن تقع، إلا أنه أسندها بسرعة، وظل يردد إسمها بصدمة، فأول مرة يراها بهذا الضعف والوهن.
حين وجد ألا فائدة من مناداتها، لن تستفيق على أية حال، قام بحملها، وهو ينظر في وجهها الحزين، ثم سار إلى سيارته وأدخلها، ليجلسها على المقعد المجاور لمقعده برفق، وما إن تأكد من إعتدالها، حتى إستدار وجلس هو في مقعده. نظر لها لدقيقة كاملة، لا يعلم ماذا عليه أن يفعل، ما الذي أوصلها إلى تلك الحالة، هل هو السبب ؟!
نفى عن عقله هذا السبب الواهي، فهي أقوى من أن يضعفها قرار كهذا، لابد وأن الأمر خطير ..
قرب يده من وجهها ليمسحه، لكنه لم يكد يلمسها حتى أبعد يديه عنها، لام نفسه فإن أراد لمسها فلتكن يقظة أولاً، ناداها مرة أخيرة بصوت خافت :
-جويرية !
لم تجبه ثانيةً ..
حينها انطلق بالسيارة بسرعة كبيرة،حتى يصل إلى مقصده بسرعة..
بعد كل دقيقة يعيد النظر لها من جديد .. ويتساءل مجددًا، ماذا بها ؟!
بعد ربع ساعة، كان أمام منزله، وبسرعة ترجل من السيارة وذهب نحوها. فتح الباب، ليحملها بعدها برفق ثم ذهب بها نحو بيته
حين ولج إلى منزله، استقبلته أحد الخادمات فسألته بقلق وهي تراه يحملها :
-أساعدك يا بيـ...
قاطعها هو بهدوء :
-إطلبي الدكتور بسرعة
أومأت رأسها، وأسرعت تسير أمامه لتنفذ طلبه، بينما حملها هو وصعد بها السُلم بتريث، كان كل تركيزه منصب على أمرين، على وجهها الذابل، وعلى الدرج، كان فقط يريد أن يعلم لما وجهها حزين هكذا، ماذا بها !
ما إن وصل غرفته حتى وضعها على الفراش بسرعة، ودثرها جيدًا بالغطاء، ثم أحضر مقعدًا، وجلس عليه ناظرًا لها، منتظرًا الطبيب..
تحدث بنبرة خافتة فجأة وقال :
-عارف إنك زعلانة من الطريقة دي، بس أنا ليا أسبابي، يمكن بالنسبالك إنتي ملكيش دعوة، بس ...
صمت قليلاً قبل أن يأخذ نفسه ويتابع بضيق :
-كل حاجة حصلتلي كانت بسببك، حاولت أبعد عنك الشهر دة، أول أسبوع مبفكرش إلا فيكي، ومبحلمش إلا بيكي، ومش عاوز أشوف غيرك !
نظر لها مليًا، ثم تابع باسمًا بسخرية :
-وبصراحة مقدرتش أتحمل بعدها، بدأت أراقبك، ومن أول يوم راقبتك فيه كنت واثق إنك عارفة إني براقبك، عارف إنك حسيتي بيا، وعارف إنك بتحسي إن فيه شيء مشترك بينا، عشان كدة ...
تابع ببساطة :
-عشان كدة إتجوزك، أنا كنت هدخل براء السجن بتلفيق تهم لو موافقتيش، ومكانش الموضوع هياخد يوم، وكنتي هتوافقي، بس شكلك حسيتي إني بهدد بجد عشان كدة وافقتي، أو ...
سكت للحظة، قبل أن يقول بحذر :
-أو خوفتي من حاجة معينة وجبرتك تعملي كدة !
فجأة سمع صوت أحدهم يطرق الباب، فإستدار نحوه، وحين رآى الخادمة أردف بخفوت :
-الدكتور إجى ؟
-أيوة يا بيه، أجيبه !
أجابها بحدة :
-إنتي مستنية إيه، طلعيه
أومأت رأسها وذهبت سريعًا، فأعاد صهيب النظر إليها مرة أخرى، ولاحظ أن بعض خصلات شعرها قد تسللت إلى خارج الحجاب،وتلقائيًا أخفض يده قليلاً نحو وجهها، ثم واراها خلف الحجاب.
بعد لحظات كان الطبيب قد جاء، فأدخله صهيب وهو يردف باتزان :
-إتفضل
ولج الطبيب للداخل، وسار حتى وصل إلى السرير الذي تنام عليه جويرية، ثم سأله بحيرة :
-أومال مين دي ؟!
أجابه بإقتضاب :
-مراتي
نظر له الطبيب حينها وكأنه قد صدم، فهو يعرفه منذ زمنٍ حين كان يعالج عمه، ولم يظن يومًا أن شابًا مثله قد يتزوج، ثم أنه ...
-دة مش وقت تستغرب فيه خالص على فكرة !
قاطع صهيب تفكيره بتلك الكلمات الحادة، فنظر له الطبيب بجدية ثم أومأ رأسه واتجه إليها ليفحصها ..

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن