الفصل الرابع والأربعون:

24.7K 585 4
                                    



أمام ذاك البحر الهائج، وتلك الأمواج العاتية، وبين اختلاط أصوت الهدير مع تلاطم الأمواج، هناك تلك الواقفة بثبات. تنظر بجمود له وكأنه منجاة، منجاة من الوحدة والألم، منجاة من المواساة. تجذب الرياح شعرها بلطف بين الحين والآخر، فيتطاير للخلف أو يهتاج.
أخذت نفسًا عميقًا من نسيم البحر المنعش، وأغمضت عينيها لتحظى ببعض السكينة التي فارقتها منذ زمن. وبإبتسامة باهتة تحسست بطنها المنتفخة، ثم نظرت للبحر بوجوم وبدأت تتحدث بالأجنبية، وإليكم الترجمة:
-ولدي العزيز، أنت امتزاج بيني وبين رجلٍ أكرهه، ومع ذلك لم أستطع أن أكرهك وأنبذك مثلما فعلت مع والدك، ربما لأن نصفك الآخر مني، أو لأنك داخلي أنا!
نظرت للأمام بشرود، وتابعت وأنظارها متعلقة بإحدى الموجات الضخمة:
-سألت نفسي مرارًا، لما لم أتخلص منك،لكني لم أجد الجواب، أنا أحبك، وأكرهك في آنٍ واحد، ولأجل حبي لك احتفظت بك، ولأجل كرهي لك، أظل ألوم نفسي على احتفاظي بك.
أريدك أن تعلم أني لست شريرة أو تلك المتسلطة عديمة الرحمة، أنا فقط صرت أفتقد المشاعر. لقد فقدتها وصار عندي القليل فقط لأحيَ به، أصبح لدي فتور تجاه كل شيء.
صمتت قليلاً قبل أن تنظر لموضع يديها فجأة وتقول بهدوء:
-أتصدك! أمك التي كانت تخشى قطف فرع من غصن عتيق، صارت الآن ترمي بالقلوب عرض الحائط ولا تشعر بأي تأنيب للضمير!
بلى، لا أزال أتذكره حتى الآن وهو يترجاني أن أغير رأيي، أن أعطف عليه بفرصة واحدة لكنني رفضت ووضعت الحساب على المائدة ورحلت، وأيضًا لا أشعر بالذنب!
اختفت ابتسامتها تمامًا، وظهر العبوس والقتامة على وجهها وهي تتابع حديثها بجمود:
-ليس ذنبي، لقد صنع مني ذاك المتجبر مسخًا، يسير على القلوب المسكينة فيحطمها تحطيمًا.
خفت حدة ملامح وجهها تدريجيًا وهي تقول:
-ربما أنت من ستشعرني بالتحسن، فكلما تخيلت قدومك شعرت بالسعادة التي لا أفهمها.. أتعلم؟ أتمنى ألا تكون ولدًا، أتمنى ألا تكون إلا أنثى رقيقة تحب الجميع، مثلي في الصغر. زهرة في فصل الربيع تأخذ بتلاتها اللون الوردي. فهلا تكون أنثى وتحقق لأمك ما ترجوه!

-أو يكون رجلاً شديد الحنان كعيني والدته، وليس كأبيه!
أخرجها هذ الصوت من شرودها، فالتفتت سريعًا لتنظر لقائل تلك العبارة، وما إن رأته حتى سألته بحمرة الغضب:
-إنت مين، و..و واقف هنا من إمت؟!
نظر لها الرجل باسمًا، ليجيبها بعدها بهدوء:
-أنا لؤي، وأكيد انتي متعرفينيش، أما واقف هنا من إمت.. فصراحة واقف من ساعة ما بدأتي الكلام مع نفسك ومع ابنك!
زاد وجهها غضبًا وشراسة وسألته بانفعال:
-طب أنا بكلم نفسي، إنت إيه دخلك؟!
ببرودٍ أجابها:
-فكرت إن إحنا لما بنكلم نفسنا، بنسمع نفسنا بس مش إللي حوالينا.
أخذت نفسًا عميقًا لتحاول السيطرة على هدوئها، فمعنى أنه أجابها بنفس اللغة، أنه فهم كل حرفٍ نطقته. وعلى الرغم من ذلك بذلت مجهودًا لتجيبه بصوتٍ أقل حدة:
-وإنت عاوز إيه!
رفع حاجباه للأعلى وسألها متهكمًا:
-لأ، إنتي فهمتيني غلط، أنا جاي أشم هوا، مش أعوز من حد حاجة، وأنا حبيت المكان هنا جدًا، ووقفت فيه، ومش ذنبي إنك اتدايقتي إني سمعتك!
نظرت له بضيق، ومادت تستير لتذهب، إلا أنه أردف يستفزها وهو ينظر للبحر:
-أنا فكرتك هتفضلي لحد ما تمشيني!
فأدارت هي وجهها لتنظر له، في حين تابع هو باسمًا:
-القاعدة الأولى في الحياة دي، لازم تكون قوي عشان تعرف تعدي.
تابعت النظر له باهتمام لما يقول، وأكمل هو بنفس الإبتسامة الخفيفة:
-دة مكانك، وأنا أخدته، مفيش رد فعل؟!
فاجأته بردها البارد:
-آجي أضربك مثلاً!
هز رأسه نافيًا مرتين، ثم اقترب منها ثلاث خطوات، فبذلت هي كل ما لديها من جهد لكي تظل ثابتة، لكنها لم تقدر، فتراجعت ضعف الخطوات، حينها استمر هو بالتقدم، وهي بالسير للخلف، إلى أن دخلت قدمها داخل حفرة من الرمال، فوقعت، حينها تقدم هو حتى وقف أمامها، وسرعان ما جثى على ركبتيه ليصير في نفس مستواها، فنظرت هي له برعب، وكادت تزحف للخلف لكنه أمسك فكها بإصبعين وشعر بها وهي ترتجف، فبدأ يتحدث بنفس الهدوء:
-مش بس نظهر القوة دي، لأ لازم نبقى أقوية من جوا بجد.
تركها هو حينها، ثم تابع بتهكم:
-تحبي أصورلك نفسك الوقت، وأوريكي إنتي خايفة مني ازاي!
لمعت عيناها بالدموع، ونظرت للرمال أسفلها بأسف، فهي بالفعل برغم تلك الشجاعة التي تدعيها، إلا أنها جبانة لا تقوى على حماية نفسها.
رفعت بصرها لتنظر له، فلم تجده، وقفت سريعًا وظلت تبحث عنه بنظرها في كل مكان، لكنها لم تبصره. وحين يئست، سارت حتى وصلت إلى سيارتها، ثم اشتقلتها وذهبت.

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن