الفصل الثالث والأربعون:

23.2K 585 12
                                    




٣ ابريل
كان رحيل يعبث بأغراضه التي لم يخرجها من الحقيبة بعد حين وقعت ورقة مطوية من بين ثيابه الممسك هو بها. نظر رحيل للورقة باستعجاب، قبل أن يترك الثياب على السرير ويهبط بهدوءٍ ليلتقطها.
انتصب واقفًا من جديد، ثم فتح الورقة وبدأت عيناه تتسع حينما قال:
-دي جت هنا ازاي!
شرد للحظة وهو يتذكر أنه خبأها بين ثيابه في الخزانة، وهذه هي نفس الثياب التي خبأها بها. أخذ نفسًا مطولاً وزفره بسرعة وهو لا يزال ينظر لتلك الورقة، بدى عليه الإختناق والحزن وهو يطالعها، وللحظة بدأ يتحسس حروفها وقد لمعت عيناه حزنًا.
ولم ينتبه لمن ولج توًا ويقف على مقربة منه.
-احم احم!
انتبه رحيل لوجود شخص ما في الغرفة فأسرع يستدير و ينظر إليه بصدمة، ثم أخفى الورقة سريعًا خلف ظهره قائلاً بارتباك:
-آآ صهيب! آآآ.. إنت جيت امت؟!
استعجب صهيب لما فعله الآخر، فهو معتاد على اخباره كل شيءٍ عن شيء، فماذا جد الآن!
سأله صهيب بحيرة، وهو عاقد حاجباه:
-بتخبي إيه؟
اهتزت نبرة رحيل وهو يجيبه متعلثمًا:
-دآآآآ آه دة، ورق، ورق عادي، قصدي أنا مش بخبي، أنا آآآ
رفع صهيب يده إلى شعره وأرجعه للخلف قليلاً، ثم اقترب منه عدة خطوات وهو يتحدث بسخرية:
-مش معقول يا رحيل، أنا مش عيل صغير عشان تكدب وأصدق!
تراجع رحيل للخلف مما أثار حنق الأخير واستفزه حتى مد يديه خلف ظهر رحيل وسحب الورقة من يده عنوة، فنظر له رحيل برعبٍ وحاول جاهدًا أخذها منه، إلا أنه لم يستطيع فالتجأ للكلام لربما فلح..
-يا صهيب صدقني دي حاجة خاصة بـ..
قاطعه صهيب مبتسمًا ببرود:
-عادي يا رحيل أناهعرف بنفسي إيه اللي فيها، وبعدين لو مكنتش بعدتها عني مكنتش هاخدها منك!
ثم ابتعد عنه بضع خطوات وبدأ بفرد الورقة جيدًا ليقرأ، بينما ظل الأخير واقفًا مكانه منتظرًا أن تَحُل الكارثة عليه.

فقط بضع ثواني، وكان وجه صهيب كالأحمر القاني، عيناه تشبعتا بالغضب تشبعًا، يكاد يقسم من يراه أنه فاني. تركت عيناه الورقة وتحولت إلى من يقف على مسافة بضع خطوات منه، ثم تقدم نحوه وهو يصيح باشتعال:
-الكلام دة حقيقي!
لم يجرؤ رحيل على النظر في وجهه، ولم يجبه.
فعاد الأخير يهدر بصوتٍ عالٍ:
-جاوبني، أنا ابنك؟!!
نظر له رحيل وبدأ يشرح مبررًا بحزن:
-الموضوع مش زي ما انت آآ..
قاطعه صهيب بنبرة حاسمة:
-عاوز إجابة بس، الكلام دة حقيقي ولا لأ؟!
أخذ رحيل نفسًا عميقًا، ثم أجابه بحذر:
-آه، بس أنا آآآ..
قاطعه من جديد بهدوء مفاجئ:
-خلاص، إنت مش جاوبت، هو دة إللي أنا كنت عاوزه.
ثم تركه وذهب، فذهب خلفه براء يسترضيه، إلا أنه يئس عندما خرج من الغرفة وذهب إلى غرفته، لذا قرر تركه قليلاً ليتعايش مع هذا الواقع المرير، وخرج من غرفته متجهًا للحديقة.

...............

جلس صهيب على الفراش في غرفته مصدومًا، لا يصدق ما حدث، وضع يداه على رأسه وأسند ذراعيه على قدمه وهو يتساءل مع نفسه، أإلى تلك الدرجة من السقوط كانت والدت! لقد تعايش دومًا مع واقع أنها خائنة، لكن زانية! ومع من!!
أي أن رحيل لم يكن يحبه، بل كان يعتني به كتنفيذًا للوصية، أو لأنه والده حتى ولو لم يعترف به. يعني هذا أن رحيل كان.. كان يقضي الوقت معها بينما هي متزوجة من أخيه. وهذا يعني أيضًا أنه لربما ساعدها في قتله، و..
-آآآآآآآآه
وقف صهيب فجأة وهو يخرج صوتًا حادًا من حنجرته، ثم اتجه نحو مزهرية حمراء أمسك بها ثم أسقطها أرضًا بقوة، ثم أخذ أخرى وأسقطها أيضًا وهو ما يزال يصيح بغضب. فهو لا يصدق، لا يصدق أنه كان يعيش طوال حياته في كذبة سوداء سامة.
ثم اقترب من المرآة الكبيرة في غرفته، وكاد أن يحطمها إلا أنه وجدها تقف خلف انعكاسه في المرآة، فنظر خلفه مباشرةً فوجدها أمامه.
وبسرعة سألها بحدة:
-جاية هنا ليه؟!
تحدثت بهدوء:
-اتحكم بأعصابك.
وضع يداه على شعره، وظل وتخلله بأصابعه جاذبًا إياه بقوة للخلف يكاد يقتلعه من جذوره، ثم تركها وجلس على السرير المجاور.
مضت فترة من الصمت ينظر هو في الفراغ، وتنظر هي له منتظرة ما سيفعل، إلى أن بدأت هي حين لم تجد له ردة فعل.
فذهبت إليه ووقفت أمامه، حينها نطق هو بانفعال:
-كل دة كان كدب، حتى اللي كنت مفكرهم، مفكرهم صادقين، طلعوا أكبر كدبة في حياتي!
أخذت هي نفسًا مطولاً، ونظرت له وهي تجيبه بجمود:
-تعرف إيه أكبر غلطة ممكن الإنسان يقع فيها؟
رفع رأسه لينظر لها منتظرًا إجابتها، فتابعت بثبات:
-إنه ميوزنش الأمور صح.
أجابها هو بنبرة عالية محتقنة:
-أنا مباخدش قرارات غلط!
أجابته ببساطة:
-بس بتتسرع في حكمك على الناس!
صمت قليلاً وهو غير متقبل لنقدها، ليرد بعدها بضيق:
-إنتي اللي مش فاهمة
وضعت يدها على كتفه وهي تردف بجدية:
-قوم ياصهيب، تعالى وأنا هقولك ازاي كل دة يتحل.
لم يفهم هو مقصدها وظل ينظر لها، فأمسكت به من ذراعه وحثته على القيام معها، فوقف وهو لايفهم شيئًا، حينها ظلت تسير به إلى أن وقفت أمام الحمام ونظرت له، ثم تحدثت بروية:
-إدخل اتوضى
نظر لها بدهشة وظن في البداية أنها تمزح، إلا أن جدية وجهها وتعابيره جعلته يقتنع أنها جادة تمامًا، فسألها بخفوت:
-أتوضى!!
أومأت رأسها مرة واحدة، فأشاح وجهه عنها ولم يجبها. فماذا يقول لها، أنه لا يعلم كيف يتوضأ!
أم يقول أنه لم يصلِ في حياته يومًا، لقد كانت حياته خالية من الذكر، ومن أي شيءٍ يتعلق بالعبادة، ولم يعلمه أحدهم الأمر من قبل.
شعرت هي أنها فهمت ما به من نظراته فسألته بترقب:
-بتعرف تتوضى!
أجابها بضيق وكأنه لم يقصد:
-لأ معرفش، مش فاكر ازاي
-تمام، طب بصلي
نظر لها، فدلفت إلى الحمام وبدأت تتوضأ، أولاً غسلت يداها، ثم تمضمضت ثم..
ظل هو ينظر لها وهو لا يفهم لما تعلمه الآن أمرًا كهذا، بل لا يفهم أصلاً لما تحاول حتى مساعدته، عاد لينتبه لها من جديد فوجدها تغسل قدمها اليسرى. ثم نظرت إليه وخرجت من الحمام لتسأله بهدوء:
-دورك
كاد أن يلج لكنها سبقته بقولها:
-وانوي الصلاة قبل الوضوء
أدار وجهه لينظر لها لثوانٍ قبل أن يعود ليدخل من جديد.
وبالفعل بدأ يتوضأ، لكنه توقف فجأة فقالت هي بتريث:
-شعرك وودنك
تابع صهيب الوضوء بعد أن أملته ما عليه فعله، إلى أن انتهى، ثم خرج من الحمام وسألها بهدوء:
-اتوضيت، ولسة عاوز أكسر باقي الفازات!
رفعت حاجبها للأعلى، وأجابته بهدوءٍ مماثل:
-تصور لو إنت جعان أوي، وكلت حتة من صاندويتش صغير أوي، هتشبع؟
تحدث بنفاذ صبر:
-صاندويتش إيه، وجعان إيه؟
-جاوبني بس
زفر وهو يجيبها بحنق:
-لأ مش هشبع.
-إنت بقى الوقت كلت حتة بس منه، تعالى نكمله
كاد أن يتحدث، إلا أنها سبقته محذرة بـ:
-ومتقوليش أنا مش جعان أنا مش بهزر على فكرة!
نظر لها بدهشة فهذا ما كان سيقوله الآن، لكنه انتبه إليها وهي تقف أمامه قائلة برفق:
-صلي يلا
نظر لها وتحدث بغضب:
-بقولك مبعرفش أتوضى ازاي، يبقى هعرف أصلي؟!
استدارت لتواجهه بوجهها الهادئ، لدرجة أنه شك أنها سمعت ما قال، وتابعت وكأن شيئًا لم يكن:
-بسيطة، الناس كلها مبتكونش عارفة إلا لما تتعلم.
ثم تركته وخرجت من الغرفة. قطب حاجباه، ووقف مستشيطًا منها غاضبًا على تركها له فجأة هكذا، فليس لها الحق أن تظهر متى شاءت وتختفي متى شاءت. لكن الأمر لم يطل حتى عادت مجددًا ممسكة بكتابها الذي دومًا ما يراه معها، حينها تبدلت ملامحه من الغضب إلى الدهشة والفضول، جلست على الفراش أمامه ونادته بجدية:
-صهيب، تعالى
تنهد، ثم ذهب إليها متسائلاً بعدم فهم:
-مش فاهم!
وحين جلس بجانبها، نظرت له ثم بدأت تتحدث ببساطة:
-أنا هفهمك. ربنا قال "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَاعِ إِذَا دَعَانِ" وربنا قال "أَلَآ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَإِنُّ القُلُوبُ" فاحنا هنعمل كدة، هنصلي، بس وعشان نصلي لازم على الأقل تكون حافظ الفاتحة، وأي سورة تانية عشان تصلي.
أخذ نفسًا طويلاً، ثم أجابها بهدوء:
-أنا حافظ الفاتحة، بسمعها كل يوم في المساجد.
ابتسمت له برفق، وقالت وهي تشير على شيء داخل المصحف:
-خلاص احفظ السورة دي.
نظر لها بتعجب لكنه على الرغم من هذا آثر أن يفعل، فهو يشعر أن هذا سيريحه، أو ربما..
أخذ نفسًا عميقًا ثم أخذ منها كتاب الله الذي مدت يدها له به، وبدأ يحفظ. كان كلما قرأ آية شعر بأنه مذنب، لا يدري لما سيطر عليه هذا الشعور فجأة، لكنه بالفعل يشعر بالندم، وبالرغم من هذا تتسلل السكينة إلى قلبه، كما لو كانت الآيات شفاءًا لصدره ولروحه من كل سقم، حتى وصل إلى مرحلة أنه بدأ يتناسى كل ما حوله، ويعيش فقط مع كل كلمة ينطقها. وبعد وقت من حفظه بدأ يفهم لما يشعر بالندم.. هذا لبعده عن خالقه، هل التجأ إليه قبل الآن؟ لا
هل فعل ما يستحقه خالقه منه؟ لا، والآن وبكل بساطة حزين لأن حياته لا تسير كما يريد هو، ولكن هل أدى حقه لكي يطالب بما يريد؟ أيضًا لا، لا ولا.. كم هو غافل!
كل هذا وأكثر كان يدور في عقله، أسئلة أحزنته إجابتها، وأشعرته بالندم، والضيق من نفسه في آن واحد.

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقHikayelerin yaşadığı yer. Şimdi keşfedin