الفصل الثامن والأربعون:

22.1K 575 7
                                    


اعتادت منذ صغرها حين تأخذ قرارًا ألا ترجع فيه أبدًا، حتى و إن شعرت بالندم حيال ذلك القرار..
هي الآن أمام عيادة الطبيب النفسي، ويفصلها عنه بابٌ واحد. ذاك الباب يفصلها عن كل الألم الذي ستضطر آسفةً أن تحياه من جديد، لأنها وبكل بساطة ستستطرد كل ما حدث معها، و كل الألم الذي سببه لها زوجها يومًا.
رفعت يدها و قبضت على المقبض و قلبها يترجاها أن تبتعد، لكن عقلها يدفعها للمضي قُدمًا. فتحت الباب و دلفت للداخل، فكان الطبيب موليًا إياها ظهره بمقعده الأسود الجلدي، و بحذرٍ شديد تقدمت هي و جلست على المقعد المناظر لمقعده مُعتدلاً.

بعد ذاك الرعب والفزع الذي يسيطر عليها حين يقترب منها رجلٌ أيًا كان، و بعد هذا الألم الذي تضطر كل يومٍ لخوضه، و الكوابيس التي تراودها، قررت زيارة طبيب نفسي بدون إخبار أحدٍ عن الأمر، و الأهم أنها أرادت طبيبًا لا تعرفه، و لا يعرفها.
كانت ناظرةً أمامها بشرود، و لم تنتبه للطبيب الذي أدار مقعده و ظل ينظر لها بدهشة.
أخذت نفسًا عميقًا و زفرته على عجالة، ثم نظرت له فوجدته قد اعتدل و ينظر لها، ولكن ليس هذا هو المهم.. المهم من هو! وقفت متسعة العينين، ناظرةً له بصدمة قبل أن تتحدث:
-إنت! آآآ إنت بتعمل إيه هنا؟!!
عانق الأخير أصابع يديه ببعضها، ثم نظر لها لثوانٍ قبل أن يردف بهدوء:
-المفروض أنا إللي اسألك!
هزت رأسها نافية و هي تجيب بارتباك:
-لأ أنا كنت جاية أقابل الدكتور!
حل يده وأشار للغرفة ككل وهو يجيبها:
-العيادة دي بتاعتي.
بدأت تستوعب الأمر و قد بدأت ذكرياتها تعيد لها بضع كلمات..
"أنا لؤي" "د. لؤي وجيه في إنتظارك يا فندم" "لؤي"
-لؤي!
قالتها وقد بدى عليها التشتت
فرفع ناظريه إليها وابتسم قائلاً ببساطة و هو يومئ رأسه:
-لؤي
نظرت له بجدية، مختلطة بالغضب و الحنق، و سارت في اتجاه الباب و هي تردف:
-أنا مكنتش أعرف إن إنت، أنا ماشية
-اتفضلي، بس أنا مغلتطش لما قولتلك إنك بتهربي دايمًا
وقفت في محلها و قد تشنج وجهها بشدة، ثم استدارت إليه لتحدجه بنظراتها القاتمة، فتابع هو بجدية:
-تقدري تتفضلي.
اقتربت هي منه، و ما إن وقفت أمامه حتى ضربت على المكتب بيداها الإثنتين بقوة، ثم تحدث بغضب و هي تتشبث بحروف كلماتها:
-أنا مش بهرب..
أرجع رأسه للخلف، و سألها بسكون:
-أممم، يعني إنك تخرجي أول ما تشوفيني دة مش هرب!
ثم وقف، فحاولت أن تظل ثابتة بمكانها و نجحت، ثم استدار إليها، فخارت مقاومتها وتراجعت خطوتان للخلف، فظل هو يقترب و هي تبتعد ليسألها في ذات الوقت:
-أومال ليه بتخافي!
كادت أن تقع وهي تتراجع مجددًا، فأسرع هو بخطوتين وأمسك بيدها، وجعلها تعتدل في وقفتها. حينها خلصت هي يدها منه بسرعة و قد بدأت ترتجف بطريقة غريبة، مما جعله يبتعد عنها نفس الخطوتين اللتان كانتا الفاصل بينهما.
ظل ينظر لها لبعض الوقت قبل أن يردف بجدية:
-قدامك خيارين، إما إنك تفضلي هنا ونبدأ نتعاون عشان تقدري تعيشي حياة طبيعية، أو.. تمشي، والباب وراكي أهو، و أنا معاكي شوفي هتختاري إيه؟
ثم تركها وعاد لمكتبه من جديد، فظلت هي تنظر له تارةً، ثم للباب أخرى. قد تقف حياتها فقط على تلك اللحظة التي ستقرر فيها، و هي واثقة أنها لو غادرت لن تعود و لن تذهب لطبيب آخر. لكن في ذات الوقت الأمر ليس هينًا، المواجهة صعبة، و..
نظرت للباب و قد أخذت قرارها، ستغادر، سارت عدة خطوات. ستتحمل الألم، و الخوف، و الكوابيس كل ليلة، لكيلا تتحمل تلك المواجهة
ستغادر..
ستتحمل خوفها الدائم من أي رجل يقترب منها و ستعيش تعيسة هي و طفلها لكيلا تتحمل تلك المواجـ..
توقفت عند الباب حين وصلت إلى تلك النقطة، لا لن تتحمل يكفي ما قاسته و عانت منه، يكفي كل هذا لن تتحمل..
استدارت تنظر له، فوجدته مُكتف اليدين مسترخي الظهر ناظرًا لها بهدوء، أطرقت رأسها و بدأت تقترب منه من جديد، فأخفى شبح ابتسامة ظهرت على محياه.
-ماشي، آآ هفضل
-ليه؟
سألها ذاك السؤال الذي لم تضع له إجابة قبلها، لكنها استطاعت أن تجيب بألم:
-I can't Bearing (ما عاد بإمكاني التحمل)
أومأ رأسه و أجابها:
-good
ثم سألها من جديد:
-أمريكية صح؟
-آه
-نطقك للغتنا بيخليكي تتكيفي معانا بسرعة!
أخذت نفسًا طويلاً قبل أن تجيبه بروية:
-كنت بحب اللغة العربية عمومًا والمصرية خصوصًا من صغري، فاتعلمتهم من غير تكسير.
أومأ رأسه مبتسمًا تلك الابتسامة الخفيفة، ثم وقف و ذهب أمام المعقد الخاص بالمرضى، و أشار لها قائلاً بثبات:
-اتفضلي.
بدأت تقترب ببطءٍ منه و لا يزال التردد جاليًا على ملامحها، لكنها بمجرد أن وصلت له، و جلست، تحدث بنبرة متريثة:
-أنا عاوزك و انتي بتحكي تغمضي عينك، وتنسي إني موجود. إحكي لنفسك مش ليا
نظرت للسقف فوقها، و دمعت عيناها وهي تتذكر كل شيء. لم تكن الذكريات تحتاج إلا إذنًا بالخروج لكي تأخذ محيطًا هائلاً من أفكارها.. نفذت ما طلبه منها، وأغمضت عينيها لتقص على نفسها ما حدث.
...

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن