الفصل الرابع والعشرون

223 8 1
                                    

نظرة
مجرد نظرة مباغتة جعلت كل تماسكها المزعوم ينهار وتذروه  الرياح !
نظرة ريحها سام زلزلت أعماقها وهزت كل ثوابتها
نظرة من مقلتين اشتعل فيهم السعير فأهلك استقرارها النفسي المتهالك دون شيء واذاب ما بقي من قدرتها على الوقوف صامدة فترنحت وقفتها وهربت عيناها من اللقاء بخزي يليق بما تسببت به .. !
اما فضة فكانت تسبح بجحيمها الخاص ..
تلك الثواني المعدودة على أصابع اليد الواحدة مزقوا رداء ثباتها المهلهل ووضعوا في رأسها افكار شيطانية رأت فيهم نفسها تمزق وجه ليالي بأظافرها وتجردها من ثيابها مثلما حدث معها .. !
لكن لمسة غالية على كتفها وتبعتها لمسة أخرى من ليث تحمل كل الدعم الذي قد يقدمه انسان جعلوا شيطانها يتراجع فتغمض عينيها تبتلع جمراتها بصمت
كانت لحظة تشبه الموت والبعث في آن واحد .. !
لحظة الهلاك الأخير لفضة القديمة ولحظة انبعاث الأخرى التي تطمح لبنائها ..
خرجت زفرة حارقة منها وهي تبتعد عن غالية ثم أشارت لهم جميعًا بالدخول دون أن تسمح لأعينهن بلقاء آخر وكأنها تقطع على نفسها طريق الانهيار قدر امكانها ..
اما ليالي فنظرت إلى ظهرها بعينين غائمتين بالدمع والأسى ليقتحم ليث الصورة يحذرها بنظراته من انهيارها الوشيك فأومأت له بصمت حزين وتبعت خطواته كطفلة تتشبث بجلباب والدها حتى لا تنهشها الضباع !
اختارت الجلوس على مقعد منفرد تاركةً الأريكة لليث وفضة التي كانت تلتزم الصمت بشكل مريب وكأنها دخلت في معركة نفسية لا يدرك أحد أبعادها ..
حاول بِشر إلهاء عزيز في محادثات مختلفة حتى لا يلاحظ توتر الاجواء بينما عرضت غالية على شقيقتها بابتسامة مرتبكة أن يصنعن القهوة سويًا حين لاحظت حالتها ..
وما أن اختفين عن الأنظار حتى خرجت زفرة ارتياح من ليالي واسترخت قبضتها المضمومة بشدة فوق ركبتها فمنحها ليث نظرة دعم قابلتها هي بابتسامة شديدة الارتجاف وهي تكاد تعد اللحظات للهرب من هذا البيت .
اما فضة فما أن دخلت الى المطبخ حتى انحنت على الحوض تتنفس بإنهاك شديد وكأنها تقبع أسفل ضغط عصبي غير مسبوق
كانت تحاول قدر إمكانها أن لا تصرخ بحديث طويل تلدغ به من غدرت بها وباعتها إلى شقيقها دون أن يرف لها جفن !
اقتربت منها غالية ونظرت إلى وجهها المحتقن بعينين موجوعتين لأجلها ..
فكل خلية من شقيقتها الصغيرة كانت تبكي الا عيناها !
نظراتها كانت متحجرة ، صلدة وكأن كل أحاسيسها قد تجمدت خلف بركان الغضب الذي تكتمه .. !
لحظات أخرى وتبعهم ليث ودون أي مقدمات أدار فضة إلى حضنه يجبر من كسرها ما استطاع ، يقبل رأسها بلا انقطاع وكأنه اعتذار ضمني لما تمر به الآن بسببه ..
تنفست فضة بتحشرج فوق صدره وارتجف جسدها بعنف المشاعر التي تكتمها فمسح ليث على ظهرها عدة مرات وهو يهمس بمساندة :
" لا بأس .. تنفسي "
حاولت فضة البكاء عل البكاء يريحها لكن حتى الدموع أبت أن ترحمها فتشبثت في قميص ليث بعنف تكاد تمزقه وانفاسها تتسارع كأنها تعيش أحداث ليلتها السوداء من جديد .. !
نزلت دموع غالية بينما قطب ليث حين شعر أنها همست بشيء ما لم يصله فمال برأسه نحوها وقال :
" ماذا تقولين حبيبتي ؟!! "
" اصفعني "
همست بها فضة بصوت شديد الخشونة وكأنها تعاني لتخرجه من حلقها فاتسعت عينا ليث بينما استطردت فضة بنصف وعي :
" اصفعني .. اجعلني استيقظ "
تبادل ليث النظرات مع غالية التي كتمت صوت بكائها بمعجزة فحاول ليث التصرف ومشي بفضة إلى أن وصل بها إلى الحوض ثم أدارها بعد أن فتح الماء وضرب به وجهها عدة مرات فشهقت بصوت مسموع وبدأت تستعيد وعيها بالمكان ببطء شديد بينما يمسح ليث على وجهها بالماء هامسًا بألم وهو يقبل رأسها دون توقف :
" هوني على نفسك ، والله سيزول كل هذا الوجع "
واخيرًا أصابتها رحمة ربها فبكت ..
بكت فضة بعنف ووجع مما جعل غالية تهرول وتغلق عليهم باب المطبخ بينما كانت الأخرى تكتم صوت بكائها بكفيها ليزيح ليث كفيها عن فمها قائلًا بصوت متحشرج :
" لا تكتمي صوت ألمك عني يا تاج رأس اخيك "
واستقبلت ضلوعه شهقاتها المرتفعة والتفت ذراعيه حولها يكاد يخفيها داخله وقلبه يتمزق مع كل دمعة تذرفها ..
ليت بيده إعادة عقارب الساعة لكان حماها من كل عين نظرت لها 
لكان قتل الخسيس حين ولدته أمه
لكان فداها بروحه وصنع لها عشًا آمنًا لا يطالها فيه اصبع !
وقعت عيناه على غالية التي كانت تبكي بدورها فأشار لها أن تقترب ثم سحبها إليه بذراعه الآخر فتشبثت به هي الأخرى ثم عانقت فضة تشاركها ألمها فاغلق ليث ذراعي حمايته على شقيقتيه بشدة وهو يبتهل لربه أن تمر أيامهم الصعبة دون مزيد من الخسائر .. دون مزيد من الألم .

ولما تلاقينا .. الجزء الثالث من سلسلة قلوب تحت المجهر Donde viven las historias. Descúbrelo ahora