الفصل التاسع عشر

220 12 0
                                    

غادر مُكللًا بالهزائم ، يجرجر ذيل الثقل الذي يجثم فوق كيانه
منبوذ بإرادته .. وحيد باختياره !
عيناه لا حياة بهما وروحه مختنقة وكأنه ينسلخ عن نفسه من جديد
صرخات بِشر المقهور بما عانى صفعته
دموع فداء ونظراتها اللائمة بصمت اوجعته
وفُرقته الاختيارية عنها قصمته
أما صمت أمه الذي قابلت به كل شيء أخبره بوضوح أن معاناته كانت منقسمة على ثلاثة أفراد دون أن يدري .. !
منبوذ خارج أرضه
منبوذ بين أهله
وصغيرة منسية !
وصل أخيرًا للشارع الخلفي حيث صف سيارته بعيدًا عن الأعين ثم ركبها وظل يحدق أمامه دون أن يرى شيء ..
لقد أخطأ هدفه فدمر الجميع !
اختار فريسة جريحة وعدو من نسج خياله وضربهما في مقتل
خاصةً هي .. !
هي التي فقدانه لها بعدما اقترف وبتلك الطريقة عاهة مستديمة لن يبرأ منها أبدًا
زفر بثقل شديد ثم غادر تاركًا كل شيء وراءه
لقد انتهت حكايته معهم إلى هذا الحد وآن وقت اختفائه عن حياتهم
سيعود من حيث أتى .
مرت دقائق من القيادة في هدوء تام إلى أن ظهرت سيارة سوداء رباعية الدفع وجاورته ..
لم ينتبه لها في أول الأمر لكن ما إن نظر من النافذة المجاورة له حتى وجد سلاح مشهر في وجهه لتخرج منه طلقة أصابت ذراعه ففقد القدرة على التحكم في السيارة للحظات قبل أن يتمالك نفسه رغم الألم الحارق في ذراعه فأخرج سلاحه في ثوان معدودة ثم أفرغه على مهاجمه وعلى السيارة بسرعة قياسية واحترافية شديدة لتترنح السيارة بهما ثم رآها تنقلب في المرآة الجانبية لسيارته ..
رن هاتفه برقم سفيان فشتم آل ثم استقبل المكالمة فوصله صوت الآخر بهدوئه المعتاد وكأنه رأى كل ما حدث :
" ربما نجوت الآن لكن لا تثق بحظك في كل مرة "
لم يرد آل بشيء ثم صف سيارته دون أن يترك الهاتف واتصل بأحد رجاله ثم خرجت كلماته مختصرة بصوت ميت :
" سفيان الديب ... في أسرع وقت "
لكن الطرف الآخر قابل كلماته بإعلان صادم :
" سيدي ، السيد هارون وابنته ماتا "
أغلق آل هاتفه دون أن يتفوه بحرف وقد جمدت نظراته أكثر
لقد توقع الأمر منذ أن لاحظ عبث سفيان في الصفقة الأخيرة
كان مدركًا لهدفه ولم يكلف نفسه عناء الوشاية به عند هارون هذه المرة بل تركه يحقق مرادهما معًا .. !
أعاد آل تشغيل سيارته وعيناه تبدو كما لو أنها لوح زجاجي معتم
ألم حارق يضرب ذراعه ..
وألم أشد يسكن صدره !
رمق جرحه بخفة واعتياد ثم عاد إلى من بقيت له بعد أن أدرك أنه جرح سطحي وأن الرصاصة لم تنل منه
دخل إلى المنزل ليكمل طريقه نحو دورة المياه ثم خلع قميصه الملطخ بدمائه وألقاه أرضًا وبدأ بعدها بتنظيف جرحه وتعقيمه ببرود شديد مستخدمًا حقيبة الاسعافات الأولية التي لا تغادر موضعها أبدًا تحسبًا لأي طارئ .. !
أنهى آل ما يفعله ثم بدل ملابسه ودخل إلى الغرفة فوجد ليندا نائمة بين ذراعي نجاة فسحبها بخفة لكن نجاة انتفضت من نومها وتشبثت بها فطمأنها آل بعينيه ثم أخذ طفلته التي تململت قليلًا فوق صدره ثم سكنت من جديد فضمها يستنشق عبقها الطاهر ثم وضعها على الفراش واستلقى جوارها ينظر إليها بتيه طال كثيرًا إلى أن سقطت رأسه جوارها بينما وجهه محشور في عنق صغيرته وكأنه يشكو إليها وحدته ويستجديها كتفًا يستند عليه .

__________________ 

( بعد عدة أيام )

تقف على أعتاب دار العامرية تنظر أمامها ببلادة وانهزام
ما أقسى أن تستعد للحرب ثم تسقط مهزومًا منكلًا بك من الضربة الأولى .. !
لقد باعها والدها مرة أخرى إلى نفس المشتري
أرسلها معه رغمًا عنها ، رغم تذللها إليه حتى يرحمها
قابل بكائها بالتعنيف كما قابل غضب غالب لأجلها بغضب أكبر جعل الجميع يصمت تمامًا أمام كلمته الأخيرة التي ألقاها على مسامعهم في المستشفى معلنًا إصراره على عودتها لبيت زوجها حتى تقضي شهور حملها معه .
وليث لم يمانع !
بل تقبل الأمر بصمت تام مصدقًا على كلمة والدها بأن مكان طفله لن يكون إلا ببيت والده .. !
" لما تقفين هكذا ؟! "
انتبهت على صوته الهادئ لكنها لم تكن تملك طاقة لأي شيء فتحركت بصمت تام وكأنها آلة بلا إرادة ودخلت إلى الدار لتنتفض بفزع وتتراجع للوراء حينما أطلقت إحدى الخادمات زغرودة عالية فأمسك بها ليث حين اصطدمت به وهمهم :
" لا تخافي ، إنها تحتفل بكِ لا أكثر "
التفتت تنظر له بتشتت وللحظة رأت طيف شفقة يموج في عينيه فأغمضت عينيها عنه واكملت خطواتها لتعود وتتوقف مرة أخرى حينما وجدت حماتها تقف أمامها شامخة وصلبة كما المعتاد .. !
توترت حدقتي ليالي واستعدت نفسيًا لوابل من الكلمات الجارحة أمام زوج غالية الذي كان يجلس بدوره وعلى وجهه كل علامات الضيق لتُفاجئ بهدوء نبرة سعادات ومباركتها لها فهزت ليالي رأسها كيفما اتفق ثم عادت ونظرت إلى ليث وكأنه ورغم كل شيء المسؤول عن حمايتها من أي شيء وخاصةً والدته فوجدته ينظر إليها بدوره مدققًا في تعابيرها ثم وضع كفه فوق كتفها فانتفضت تلقائيًا فأشار نحو عزيز بنظراته وهو يرمقها بتحذير بينما خرجت كلماته شديدة الود :
" اصعدي لترتاحي قليلًا وأنا سأطلب من العاملين تحضير الطعام لكِ "
وكأنه أهداها صك حريتها ، تحركت بسرعة رغم تعبها الشديد لتختفي من أمامهم بينما وقف ليث أمام عزيز ينظر له بجمود ظهر أكثر في حروفه :
" ما الذي أتى بك ؟!! "
" جئت لاستعادة زوجتي  "
رمقه من جديد بغضب أشد ولم يرأف بحاله ، إذ كان يبدو كما لو أنه لم يحظى ولو بقسط بسيط من الراحة منذ ما حدث بينه وبين غالية ليهتف به ليث من بين أسنانه :
" اي زوجة يا عزيز ؟!! .. زوجتك التي لم تحافظ عليها ! "
ثم ترتفع نبرته على حين غفلة ويهدر به :
" شقيقتي التي استأمنك عليها لأكتشف في النهاية أنك تزوجتها بمقايضة ! "
لم يتقبل عزيز اللوم أكثر من ذلك فهدر به بدوره :
" أنا لم أقايض غالية بشيء ، لم أفعل "
" وماذا تسمي اتفاقك مع والدك على الزواج بأخرى ؟!! "
صرخ عزيز بحدة وضغط :
" لم أكن سأفعلها ولو على رقبتي "
حاولت سعادات تهدئة الوضع لكن عزيز كان في أوج غضبه بسبب صلادة رأس زوجته وامتناعها حتى عن رؤيته ورفضها المستميت للتخلص من ذلك الجنين الذي سيقتله هو قبل أن يقتلها هي ..
استغفر ليث ربه ثم تمتم بنبرة مكتومة وهو يحاول جاهدًا التماسك حتى لا يهدم المنزل فوق رؤوسهم جميعًا ليتخلص من كل تلك الكوارث التي تنهال على رأسه دون سابق إنذار :
" ارحل يا عزيز حتى تهدأ غالية على الأقل وبعدها ..... "
قاطعه عزيز قائلاً بضغط شديد :
" أخبرها اني أريد رؤيتها الآن يا ليث .. الآن "
ليستطرد بانفعال صرف :
" والله لولا احترامي لحرمة المنزل لبحثت عنها في كل غرفة ، ما هذا العناد ؟!! "
أشارت سعادات لابنها تستسمحه بعينيها حتى يترك عزيز يصعد إلى غرفة غالية لكن ليث قال بنبرة قاطعة وإن تخللتها العقلانية لأجل صاحبه الذي يعاني أمامه :
" غالية لن تستمع إلى شيء منك الآن ، أنت لا تعرفها مثلي "
زفر عزيز بغضب مكتوم ثم قال دون تراجع :
" سأراها على الأقل يا ليث .. كما أنه لا يصح أن تستغلوا غيابي وتأخذونها من المستشفى إلى هنا دون إخباري وكأنكم تضعونني أمام الأمر الواقع "
احتدت نظرات ليث ثم تمتم من بين أسنانه :
" وهل كان يصح ما فعلته أنت وعائلتك بها ؟!! " 
اشتعلت عينا عزيز ثم قال بصوت غاضب :
" مهما كان .. يظل ما حدث بيني وبين زوجتي ، وحقها أنا كفيل بإرجاعه "
كاد ليث أن يتحدث لكن عزيز رفع كفه وتمتم بأمر خشن وكأنه قد فقد كل تعقله :
" أنا أريد رؤية زوجتي يا ليث "
" وها أنا أتيت ، توقف عن الهتاف "
التفت ثلاثتهم على صوتها الذي لم يعلو لدرجة واحدة بل كان هادئ النبرات كعادته ، أما ملامحها فكانت مزيج ما بين الكبرياء والغضب المكتوم ..
رمقها عزيز بتمهل وكتم زفرة راحة كادت أن تغافله وتصدر عنه لتقف غالية أمامه وتتمتم بنظرات جامدة ناسبت قولها :
" قل ما تريد قوله ثم ارحل يا عزيز "
غادرت سعادات المكان ثم تبعها ليث بعد لحظات بسيطة وهو يرمقهما بحذر بينما تأمل عزيز ملامحها التي حاولت إخفاء كسرتها بقناع الشموخ الذي ترتديه ثم قال بصوت مكتوم :
" كيف تغادرين دون أن تخبريني ؟!! .. أنتِ حتى لم تستمعي لي ولو لمرة يا غالية "
رمقته غالية بخيبة أمل ضربته في مقتل ثم قالت بصوت ساخر لا يشبهها :
" هل حقًا تلومني على رد فعلي لتصرفاتك يا عزيز ؟!! "
كاد عزيز أن يتحدث لكن غالية أكملت بهدوء تام وكأنها تذبحه بشفرة باردة ثلمة :
" اتفقت مع والدك ضدي ، وكدت أن تذهب لخطبة أخرى والآن .... "
قاطعها عزيز ضاغطًا على كل حرف يقوله :
" أنا لم أتفق مع أي شخص ضدك ولم أكن لأخطب غيرك بالطبع "
وكأن المحادثة السابقة تتكرر همست غالية بصوت ميت :
" أنت من أخبرتني أنك وافقت والدك يا عزيز "
دافع عزيز عن نفسه بحرارة :
" كنت أهادنه حتى احظى بكِ ، كنت يائس حد الجنون وأنا أراهم يرغبون بتزويجك من ذلك المتصابي الحقير .. كل ما رغبت به أن أكون جوارك يا غالية لما لا تفهمين ؟!! "
أخفت غالية دمع عينيها بصلابة تُحسد عليها ثم ردت عليه بوهن قصمه :
" كل ما أفهمه الآن يا عزيز أنك سلكت طريق ملتوي لتتزوج بي بأي ثمن حتى وإن كان على حساب كرامتي ، كل ما أستوعبه أنني رفضت أن يحط أحد من قيمتي لسنوات طويلة فأتيت أنت وعائلتك وأهنتموني كما لم يفعل أحد من قبل "
استغفر عزيز بضغط ثم قال بصوت متعب ملهوف :
" حسنًا يا غالية سأعتذر منكِ لما تبقى من عمري لكن الآن علينا أن نجد حل لتلك الكارثة التي وقعنا بها قبل أي شيء آخر "
احتدت نظراتها على نحو مفاجئ لكن صوتها الهادئ لم يتغير قيد أنملة وهي تجيبه بهدوء كارثي :
" أنا لن أجهض طفلي يا عزيز "
" هل ترغبين بموتي يا غالية ؟!! "
سألها بصوت مكتوم فنظرت له بعدم فهم مما جعل شفتيه تلتوي بابتسامة شديدة الإرهاق وعينيه تضوي بحزن عميق :
" هل تظنين أن لي حياة إذا أصابك شيء ؟! "
رمقته غالية بحزن مشابه ثم همهمت بعد لحظات طويلة بأسى وحسرة :
" ارحل يا عزيز "
" لا تفعلي هذا بنا "
يغمغم بها بتعاسة فتوليه غالية ظهرها وتغادر وهي تكرر بصوت باك وقد تشقق قناع قوتها الزائف :
" بالله عليك ارحل "
رمق عزيز طيفها الراحل بعينين غائمتين بالكمد ثم غادر بدوره بعد أن أرسل إلى ليث رسالة يرجوه فيها بإقناعها حتى تتخلص من تلك القنبلة الموقوتة التي تحملها بين أحشائها .
_____________

وفي الأعلى كانت تقف ليالي أمام الباب المغلق للغرفة التي ستجمعها به مرة أخرى بقلب خائف مترجف
لا تريد فتحه ، لا ترغب برؤية ما وراءه !
تخشى أن تدير المقبض فترى انتهاكه لها مرة بعد مرة
مرتعبة من ذاك الذي لا يدرك أحد وجوده وراء الوجه الهادئ المراعي والذي لم يظهر لسواها ..!
ابتعدت للوراء قليلًا وظلت في الرواق تحدق حولها بلا هدف ثم اختارت أن تقف جوار النافذة الموجودة في نهاية الرواق عل النسمات الباردة تهدئ مما يعتمل داخلها
أسندت رأسها على الحائط تحدق في السماء بشرود وحرمان ..
نعم ، محرومة هي من هذا الصفاء وتلك الحرية التي توحي بهما سعة ولون السماء أمامها .. !
قدرها أن تتمنى الطيران والتنفس رغم قصقصة جناحيها
غامت عيناها بحزن طفيف وهي تستعيد ذكرى قديمة لها في هذا المنزل بصحبة فضة
كانتا لا تزالا في المرحلة الثانوية وقد كانت تشاكس فضة وقتها بأمر لا تذكره الآن فركضت فضة وراءها في الردهة وهي تتوعدها بغيظ ممتزج بالضحكات المنبعثة من القلب
وهي كانت تضحك وتركض بحرية مصدرها يقينها بعدم وجود ليث في المنزل لتُفاجئ به أمامها وقد وصل لتوه من الخارج فتوقفت بسرعة مما جعل فضة تصطدم بظهرها بعنف جعلها ترتد للأمام نحوه تكاد تسقط بين ذراعيه فتوردت بحرج شديد بينما هتفت فضة بعفوية فظة :
" ما الذي أعادك باكرًا ؟!! "
لكنه كان يبدو متعجلًا فلوح بكفه وقال دون اهتمام وهو يتحرك تجاه غرفته :
" حلي عن رأسي يا فضة "
ليتوقف بعدها ويستدير نحوهن قائلًا بتحذير :
" إياك أن تركضن هكذا خارج الدار "
ثم يكمل طريقه ترافقه نظراتها اللامعة لحضوره المهيب لتلكزها فضة تسألها :
" أين ذهبتِ ؟!! "
فتتوارى ليالي خلف إجابة ماهرة من وجهة نظرها :
" منظرنا شديد السوء أمامه .. سيظننا أطفال "
فتضحك فضة وتتمتم بعفوية شقت قلبها الأخضر :
" هو يرانا أطفال بالفعل ، أسمعها منه دائمًا "
تسبل أهدابها بضيق لكن فضة لا تلاحظ ثم تعود لمشاكساتها مرة أخرى دون انتباه لحالها .
شهقت ليالي بإجفال حينما هزها ليث بشكل مفاجئ فنظرت له بتشتت جعله يرفع كفه قائلًا بنبرة مطمئنة :
" اهدئي إنه أنا "
لتجد نفسها تهمهم دون شعور :
" وأنت كل المعضلة "
وصله حديثها بشكل خاطئ فغامت عينا ليث بالضيق الذي ظهر في نبرته :
" لما تقفين هنا ؟!! "
همست ليالي بحلق جاف :
" هل يمكنني الإقامة في غرفة أخرى ؟!! "
" لا "
خرجت حاسمة دون تردد فأسبلت أهدابها بألم ليستطرد ليث موضحًا :
" هناك عاملين في المنزل ولا يصح أبدًا أن نقيم في غرف منفصلة "
تنهدت ليالي بصمت ثم تحركت أمامه ودلفت إلى الغرفة بقلب منقبض ثم جلست على أول أريكة قابلتها فتمتم ليث بعد لحظات :
" سأخبرهم بإحضار الطعام لكِ "
" لا داعي "
خرجت الجملة من بين أسنانها بصوت مكتوم فالتفت ليث نحوها وسألها بحذر :
" ما الذي لا داعي له ؟!! "
نهضت ليالي ثم قالت بضغط :
" لا داعي لأي شيء "
قطب ليث بعدم فهم بينما استطردت ليالي بقهر :
" لا تدّعي الاهتمام بينما قلبك يلعن اليوم الذي التقينا به "
كاد أن يتحدث فقاطعته بغضب مكتوم :
" أخبرتك أن ترفض طلب والدي ، أخبرتك أن تقول له الحقيقة "
" أي حقيقة ؟!! "
سألها بترقب فدمعت عيناها وغمغمت :
" حقيقة مقتك لي يا ابن العامري "
رمقها ليث بصمت دام للحظات وكاد أن يقول شيء لكنه أغلق فمه ثم تمتم ببطء :
" وماذا عن طفلي الذي تحملينه بين أحشائك ؟!! "
" لا تكذب على نفسك ، أنت أيضًا لا تريده "
همست بها بعينين غائمتين بالكمد فزفر ليث بقنوط ثم أشار لها أن تصمت حين كادت تتحدث من جديد وقال بحسم :
" اسمعي .. أنا أدرك جيدًا الوضع الذي وجدنا أنفسنا به لكن ما لا تدركينه أنتِ أنكِ بتِ مسؤولة عن روح أخرى "
كادت ليالي أن تقاطع حديثه لكنه شدد على كل حرف يصدر منه وعينيه تشع بالتحذير :
" ربما زيجتنا كانت خاطئة منذ اليوم الأول ، ربما لم يكن عليّ أن أنصت لوالدك من البداية وأقحم نفسي في حكايتك ، ربما ظلمتك ، ربما آذيتني .. لكن كل هذا انتهى الآن وما نحن بصدده هو ذلك الطفل .. ابني الذي لن يتكفل به غيري طالما أنا حي أرزق "
أرادت أن تصرخ وماذا عني ؟!!
أنا .. من يتكفل بي ؟!!
من يساندني ؟!!
من يتشبث بي ويخبرني أنني لست بمفردي أم أنني لا أستحق ؟!!
أرخت ليالي جفنيها بإرهاق لكنها لم تكن تدرك أنه قرأ بالفعل كل تساؤلاتها المقهورة في عينيها الشفافتين لذا خرجت همسته التالية ببعض اللين :
" انظري لي "
رفعت له عينيها من جديد فصمت قليلاً وكأنه يزن حديثه أولًا ثم قال بنبرة تحمل كل طمأنينة العالم بين طياتها :
" ستكونين بخير ... وهذا وعد مني "
انحنت زاويتا عينيها بشجن ثم همست بصوت خفيض ممتن :
" شكرًا لك "
ولدهشتها ابتسم .. !
ابتسامة تكاد لا تُرى على الإطلاق بل كانت مجرد انفراج بسيط لملامحه ثم همهم ساخرًا :
" على الرحب "
ثم أتبع حديثه قائلاً بإصرار وهو يرمق وجهها الشاحب بعدم رضا :
" ارتاحي الآن ريثما ينتهون من تحضير الطعام لكِ "
ليتركها بعد ذلك ويغادر الغرفة فتجلس ليالي على الأريكة للحظات ثم تشعر ببعض الإرهاق فتتمدد فوقها رافضة النظر حتى نحو الفراش الذي جمعهما مرة واحدة كانت كفيلة لإعادتها إلى نقطة الصفر بجنين لم تحسب لوجوده أي حساب .

____________________

( العاصمة )

تقف في استقبال المستشفى بأعصاب على الحافة ..
لم تكن ترغب في الحضور من الأساس لكنها حضرت رغمًا عنها بعد أن تخطت نسبة الغياب المسموح بها
وجهها منطفئ وعيناها ذابلتين وصدى واحد يتردد في أذنيها دون توقف
( زوجك تاجر سلاح أورث مهنته إلى ابنه )
أرتجف جسدها من جديد وكأن بِشر ألقى قنبلته للتو .. !
والدها وشقيقها التوأم تجار سلاح
شعرت بالاختناق الشديد وتحركت تنوي الخروج إلى حديقة المستشفى قليلًا فأوقفها صوت إحدى النائبات تسألها بترفع :
" إلى أين ؟!! "
عدلت فداء نظارتها ثم قالت بصوت خافت مكتوم :
" دقائق وأعود "
رمقتها النائبة ببرود ثم قالت بصوت مسموع لبقية الواقفين وقد قررت اتخاذها ككبش فداء لتفرض سيطرتها على بقية الطلاب الواقفين :
" هل تتهربين من العمل يا دكتورة ؟!! .. أم أنكم جئتم إلى هنا في نزهة ؟!! "
اختنق حلق فداء ثم ردت من بين أسنانها :
" أنا لم أتهرب من العمل يومًا ، ومؤكد لن أفعلها الآن "
" إذًا الزمي مكانك يا دكتورة لأن لدينا الكثير من العمل "
همهمت بها بسماجة ليظهر صوت آدم بحزم وهو ينظر إلى وجه فداء الممتقع :
" ماذا يحدث هنا ؟!! "
التفتت نحوه فداء بعينين حمراوتين بينما تولت النائبة الرد فقالت باستهزاء وهي تشير نحو فداء :
" أطباء المستقبل ... يتهربون من العمل "
كاد آدم أن يتحدث لتتسع عيناه بصدمة شكلت ملامحه حين هتفت فداء بغضب شديد :
" كفى ، أخبرتك أنني لم أفعل شيء "
اربد وجه الأخرى بالغضب وقد شعرت بالإحراج من العيون المسلطة عليها فقالت بسخط عارم :
" ما قلة الاحترام هذه ؟!! .. كيف تصرخين في وجهي ؟!! "
" كفى "
هتف بها آدم بحزم فعم الصمت تمامًا ثم قال من بين أسنانه بغضب واضح :
" اتبعنني .. الآن "
استغفرت فداء ثم تبعتهما لتجد نفسها تقف أمامه كالصغار بينما تخرج حروفه حادة قاسية :
" ما حدث في الخارج مرفوض تمامًا .. نحن في مستشفى وانتن طبيبات مسؤولات ويجب عليكن الحفاظ على المظهر العام أكثر من ذلك "
نظرت له فداء ثم قالت بضغط شديد :
" أنا لم أفعل شيء "
بينما هتفت الأخرى من جديد رغبةً في حفظ ماء وجهها :
" بل فعلتِ .. أولًا قررتِ ترك مكانك دون استئذان ثم صرختِ بي أمام الجميع "
" نحن لسنا في روضة يا دكتورة "
همهم بها آدم بحسم ثم كتف ذراعيه قائلًا بنبرة ذات مغزى :
" ثم توزيع طلاب الامتياز ليس ضمن اختصاصاتك "
اكفهر وجه الطبيبة بحرج شديد بعد أن أنصف آدم الأخرى عليها فقالت من بين أسنانها :
" لكن العمـ...... "
قاطعها آدم قائلًا بنبرة مقصودة :
" العمل لم يكن كثيفًا للدرجة يا دكتورة "
رمقته الطبيبة بغضب شديد بعد هذا الاحراج العلني فأعطتهم ظهرها وكادت أن تغادر المكتب لولا أنه أوقفها فاضطرت إلى الالتفات نحوهما من جديد فنظر إلى فداء ثم قال بصوت قوي :
" مهما كان السبب ممنوع التطاول على زملائك يا دكتورة خاصةً إذا كانوا اكبر منكِ .. من فضلك اعتذري لها "
كزت فداء على اسنانها ثم غمغمت بكبرياء جريح :
" أنا آسفه "
لم تهتم الأخرى بأسفها وغادرت بخطوات نارية فالتفتت فداء حتى تغادر بدورها لكن آدم أوقفها فأغمضت عينيها بضيق شديد ثم التفتت له بهدوء كاذب :
" هل كل شيء على ما يرام ؟!! "
رمقته فداء بصمت جاف فاضطر أن يوضح ببعض الحرج :
" أنتِ متغيبة منذ عدة أيام واليوم لا تبدين بخير "
خرج صوتها حادًا بعض الشيء :
" لا شيء ، أنا بخير "
" لكنـ....... "
قاطعته فداء بانفجار خافت مكتوم وهي تنظر نحوه بغضب شديد لم يفهمه :
" دكتور آدم .. أنا نسيت سوء التفاهم السابق لذا توقف عن تلك التصرفات التي تظن أنك ستنسيني بها كلماتك المؤذية التي القيتها في وجهي في ذلك اليوم .. أنا بخير ولست بحاجة إلى أي شفقة أو حماية منك أو من غيرك ، أشياء تافهة كتلك لن تسقطني ولن تؤذيني "
كتف آدم ذراعيه بصمت مطبق وملامح شديدة الهدوء فشعرت فداء أنها تمادت ووجهت سهم غضبها في الاتجاه الخاطئ مما جعل عينيها تدمع بغزارة فتوترت وقفة آدم بينما همست فداء بصوت باك قبل أن تهرب من أمامه :
" أنا آسفه .. أنا حقًا آسفه "
غادرت مكتبه بسرعة شديدة فتحرك ورائها وقد تيقن من الخاطر الذي راوده حينما اختفت تمامًا الأيام السابقة ثم توقف حينما وجدها تتوجه نحو دورة المياه فتحرك في الردهة بغير هدى لدقائق معدودة ثم وجدها تخرج بوجه تظهر عليه آثار البكاء فتحرك نحوها بسرعة ثم وقف أمامها قائلًا بنبرة حانية :
" تستطيعين المغادرة يا دكتورة "
رفعت عينيها إليه ثم قالت باعتراض واه :
" لكن توقيع الانصراف ...... "
ابتسم آدم لبراءتها ثم قال بهدوء :
" لا تقلقي ، أنا سأتكفل الأمر "
اومأت فداء براحة ثم كادت أن تتحرك فأوقفها آدم هامسًا اسمها بخفوت ثم قال دون سابق إنذار :
" قومي بإلغاء الحظر حتى أستطيع التواصل معك "
اتسعت عينا فداء للحظة ثم وبالكاد أخفت ضحكة كادت أن تغافلها ثم أومأت له بتهذيب وغادرت المكان بأكمله ليسب آدم نفسه وهو يكرر باستنكار :
" قومي بإلغاء الحظر حتى أستطيع التواصل معك ! .. هل أنت ابن خالتها يا أحمق ؟!! "

________________

تجلس بهدوء تام تعبث بهاتفها بصمت تتفقد الرسائل التي وصلت إليها الأيام الماضية لتلمع عينيها بالخيبة حينما لم تجد أي رسالة أو اتصال من إخوتها ..
قطبت بتساؤل وعقلها يأمرها بالتريث فربما قد انشغلا في شيء ما !
عند ذلك الخاطر تأهبت حواسها باستنفار وراودها شعور بالقلق فاتصلت أولًا بغالية لكنها لم تجيب ..
زفرت فضة بقنوط ثم حاولت الاتصال بليث الذي اجاب هاتفه بعد لحظات بسيطة بنبرة قلقة إذ أنها تتصل به للمرة الأولى :
" فضة ! .. هل أنتِ بخير ؟!! "
صمتت قليلًا ودمعت عيناها بعجز ثم أجلت حلقها وغمغمت بثبات تُحسد عليه :
" لا تقلق أنا بخير ، أنا فقط .... "
( اشتقت إليك )
خجلت أن تتفوه بها ثم قالت بصوت هادئ :
" كيف حالك أنت ؟!! .. وكيف حال غالية ؟! "
عم الصمت بعض الشيء ثم خرجت نبرة شقيقها خشنة بعض الشيء وهو يتمتم بمواربة :
" نحن بخير لا تقلقي لكن ...... غالية حامل "
شهقت فضة ثم سألته بسرعة :
" ماذا ؟!! .. وكيف حالها ؟!! "
حاول ليث طمأنتها فقال بصوت هادئ :
" بخير يا فضة لا تقلقي ، سأحضرها معي إلى العاصمة حتى أعرضها على طبيب شهير رشحه لي أحد أصدقائي وبإذن الله ستكون بخير "
شعرت فضة بوجود شيء خاطئ فسألته بحذر :
" ولماذا تحضرها أنت ؟!! .. أين عزيز ؟!! "
أجابها ليث بصبر :
" لقد تشاجرا لأنه يريد اجهاضها خوفًا عليها وهي ترفض "
انتابها الحزن على حال شقيقتها فغمغمت بصوت خافت :
" سأحاول التواصل معها مرة أخرى "
كادت أن تنهي المكالمة لكن ليث ناداها ثم صمت قليلًا ثم قال ببعض الحذر :
" هناك أمر آخر "
توجست فضة خيفة وانتظرت بصبر يتخلله القلق ليتمتم ليث بعد لحظات :
" ليالي أيضًا حامل "
جمدت ملامح وجهها وقد استنتجت بقية الأحداث بمفردها فقالت بخفوت شديد :
" مبارك لك أخي "
لم يرد ليث بشيء وظلا صامتين للحظات قبل أن تهمهم فضة ببعض التردد :
" أنا أريد استئذانك في أمرًا ما "
خرجت من ليث زفرة راحة حينما أتاه صوتها مرة أخرى وقد ظن أنها ستغلق المكالمة في وجهه فقال بصوت حان :
" أي شيء ؟! "
" أريد الإقامة في شقتك "
قطب ليث بعدم فهم ثم سألها بترقب :
" بمفردك ؟!! "
صمتت فضة قليلًا ثم أخبرته بمخططاتها بعزم مفاجئ :
" أنا أريد العودة إلى الجامعة وسأعمل أيضًا مع بِشر في المطعم من بعد الظهيرة حتى المساء "
صمت ليث للحظات ثم سألها من جديد :
" ولماذا ترغبين بالإقامة في شقتي ؟!! "
" حتى أشعر أنني في بيتي ، حتى أكون على حريتي وأتصرف كما أشاء .. أنا أريد بناء حياتي من جديد يا ليث أرجوك "
أدرك ليث ما تتحدث عنه لأنه مُلم بحقيقة وضعها في بيت بِشر ومع ذلك قال بصبر :
" لا يصح بقائك بمفردك في الشقة يا فضة "
" لكنـ....... "
قاطعها ليث قائلاً بعقلانية :
" ألا تقولين أنكِ ترغبين بالعودة إلى دراستك وستعملين حتى المساء في المطعم ؟! .. إذًا ستعودين إلى بيت بِشر على وقت النوم فقط "
" لكنه ليس بيتي "
همست بها فضة بعجز فصمت ليث قليلًا ثم قال بشكل مفاجئ :
" بِشر كان أخبرني أن صاحب البيت المقابل له يرغب ببيعه .. ما رأيك أن ابتاعه من اجلك وهكذا لن تكونين بمفردك في مكان منعزل وفي نفس الوقت ستحظين بالخصوصية التي ترغبين بها "
أعجبها اقتراحه فهمست بالموافقة ليتمتم ليث بعزم :
" سأتحدث مع بِشر ليحدد لي موعد مع الرجل "
ابتسمت فضة وغمغمت بامتنان :
" أدامك الله لي يا ليث "
وبدوره لانت ملامحه ثم همس بتردد :
" هل أنتِ بخير يا فضة ؟!! .. اقصد بعد أن علمتي بحمـ.... "
كان يشعر بالخوف عليها من أن تنهار مرة أخرى لكنها صدمته مرة أخرى وهي تتمتم بصوت شديد الاتزان :
" لا تحمل همي يا أخي ، أنا بخير الحمد لله "
شكر ليث ربه بخفوت ثم أنهى المكالمة لتُفاجئ فضة بدخول سندس عليها دون استئذان فتمتمت ببساطة :
" لمن ندين بهذه الزيارة الشريفة ؟! "
قالت سندس دون أن تجلس :
" بِشر في الخارج ويريد رؤيتك "
" أخبريه أن ينتظر واجلسي قليلًا "
رمقتها سندس باستغراب شديد لكنها نفذت لها ما ترغب ثم جلست أمامها تنظر لها بترقب فقالت فضة وهي تعتدل في جلستها فوق المقعد الكبير :
" سأخبرك بشيء ما لكن لا أريد منكِ انهيارات درامية "
كزت سندس على أسنانها ونظرت لها بصمت فقالت فضة ببطء :
" أنا أريد العمل في أحد فروع مطاعمكم "
رفعت سندس حاجبيها ثم قالت بتعجب :
" ألم أعرض عليكِ الأمر بنفسي ؟! "
أشارت لها فضة حتى تنتظر ثم أكملت حديثها بتروي :
" وسأغادر هذا البيت وأقيم في البيت المقابل لكم "
اتسعت عينا سندس بالتدريج فحضرت فضة نفسها لزوبعة جديدة لكن سندس تراجعت في اللحظة الأخيرة ثم سألتها بشكل مفاجئ :
" ماذا فعل بكِ علي يا فضة ؟! "
" صفعني "
همهمت بها فضة بخفوت شديد وعينان خبى وميضهما فنظرت لها سندس بعدم فهم بينما استطردت هي بنفس النبرة :
" جعلني أدرك حقيقتي ومكاني ، أيقظني من غفلتي يا سندس ووضعني أمام أكبر نقطة ضعف لي فرأيت نفسي على حقيقتها "
" أي حقيقة يا فضة ؟! "
همست بها سندس برهبة فدمعت عينا فضة وقالت بصوت أبي لكنه جريح :
" حقيقة أنني أنا من تساهلت وتهاونت في حق نفسي إلى أن وضعت نفسي في مأزق لا فرار منه .. أنا أخطأت في حق فضة وتباهيت بقوة لا أملكها فجاءت صفعته كصاعقة أيقظت وعيي من وهمه الذي تملك منه "
رمشت سندس عدة مرات ثم قالت دون وعي :
" أنا لا أفهم شيئًا .. هل تحبين علي ؟!! "
اتسعت عينا فضة للحظة وقد باغتتها سندس بسؤالها الأحمق مثلها فخرجت منها ضحكة يائسة وتمتمت بخفوت شديد :
" حسبي الله ونعم الوكيل "
عبست سندس بضيق فقالت فضة بصوت واضح :
" أنا أريد منكِ مساعدتي في إقناع بِشر لأنه يرفض إقامتي بمفردي "
مرة أخرى كزت سندس على أسنانها وقالت بغضب مكتوم :
" ستأتين للإقامة أمام بيتي ! "
رقت عينا فضة وقد اختفى منها الهزل تمامًا لتخرج نبرتها مكللة بانكساراتها :
" أكملي جميلك يا ابنة المنصوري ، عسى أن تتخلصين مني هذه المرة "
أسبلت سندس اهدابها للحظات ثم قالت بعدائية :
" ضعي حجابك يا عملي الأسود حتى استدعي بِشر "

________________
يجلس مسترخيًا فوق الأريكة يتابع مباراة كرة قدم بحماس شديد والابتسامة الشامتة لا تفارق وجهه .. !
عيناه تضوي ببريق انتصار حظى به أخيرًا بعد سنوات طويلة من الاستحقار والتهميش
سعد الفاشل ، سعد الأبله ، سعد الذي لا يُجيد شيئًا ، واخيرًا ..... سعد اللص !
تهمة الصقوها به يومًا ما فصرخ ببراءته ولم يصدقه أحد حتى عائلته
عاش بين عائلته بوصمة ذنب لم يقترفه .. كان بيدقًا استخدمه رفعت الوهابي في حربه للتفريق بين سيف الدين وصفية
لعبة استسهلها وضرب بها علاقتهما في مقتل دون مبالاة به وكأنه حيوان أجرب لا ثمن له !
لم ينساها لهم قط
حتى رغم تملقه لهم أحيانًا لم ينسى أبدًا تلك الليلة التي بكى فيها من فرط الإهانة والتكذيب !
صبر وصبر وها هو ضرب ضربته وجاءت كما أراد
( ضربة معلم )
ربما هو أهوج بعض الشيء لكنه يملك عقل وعينين استطاع أن يميز بهما فتور العلاقة بين عمته وزوجها فلم يفعل أكثر من دق المسمار الأخير في نعش علاقتهما
ذلك المسمار اللين المُسمى بـ ( فاتن ) !
راقصة تعرف عليها في إحدى سهراته ومن خلال مراقبته المستمرة لها استطاع أن يميز جشعها الشديد وعشقها غير المتناهي للمال ..
فكانت الجندي المناسب للمهمة المناسبة .. !
ألقاها في طريق رفعت الوهابي فصدها الرجل مرة واثنان وفي الثالثة استسلم لحُسنها وبدأت علاقتهما تتطور إلى أن وصل لما أراد وتزوجها رفعت باشا عُرفيًا
اعتلت ابتسامة شيطانية معالم وجهه ثم صرخ بحماس شديد :
" جووووووووول "
لتخرج أزهار من غرفتها تهتف به بضيق عارم :
" أخفض صوت التلفاز قليلًا ، نحن لسنا في مقهى هنا "
نظر لها سعد بطرف عينه ثم سألها بابتسامة ملتوية :
" كيف حال عمتي الآن ؟!! "
وجمت ملامح أزهار وقالت بشفقة دون انتباه لحاله :
" مسكينة ، كان الله في عونها .. الفضيحة صعبة "
صدرت عنه ضحكة ساخرة فرمقته أزهار باستنكار لتخرج حروفه ملبدة بالشماتة :
" لا تنظري لي هكذا ، أليس هذا الرجل هو من تعامل معنا دائمًا باستحقار ويخبئ صلة قرابته بنا لأنه يستعر منا ؟! .. انظري إلى حاله وفضيحته الآن ، هو من أصبح شبهة "
" لا شماتة في مرض أو موت يا سعد "
ألقتها أزهار بحزم فأومأ لها سعد بطريقة استعراضية فيما يقول بابتسامة عريضة :
" اللهم لا شماتة "
هزت أزهار رأسها يأسًا منه ثم نهضت لتتصل بعمة أولادها حتى تطمئن على حالها وهي ترمي نظرة عابرة نحو صفية التي كانت تجلس في غرفتها تقرأ كتابًا بملامح هي أبعد ما تكون عن التركيز .. !
دعت لها أزهار بصلاح الحال ثم أكملت طريقها إلى غرفتها بينما كانت صفية ترمق هاتفها كل حين وآخر ... أو بالأحرى تقرأ رسالته الأخيرة لها مرة بعد مرة والتي لم تجد في نفسها الطاقة حتى تردها ولو بكلمة واحدة رغم ما يمر به ورغم قلبها الحزين على سقوط والديه في وقت واحد
رمقت الرسالة مرة أخرى ثم قرأتها بصوت خافت ...

( أحتاجك )

______________

وصلت فداء إلى أحد المطاعم المطلة على البحر وجلست بوجه لا يحمل أي تعبير ..
طلبت فنجانًا من القهوة المرة رغم كرهها لها لكنها كانت بحاجة شديدة إلى استعادة بعضًا من تركيزها الهارب منها منذ ما حدث وما عرفته !
فهي لا تزال على حالها منذ غادرت المستشفى ولا تريد حتى العودة إلى المنزل
أصبحت تمقت منزلها ... وحشته ، اتساعه الشديد والموت الذي يسكن جدرانه !
بيتهم الذي وبرغم حياتهم فيه إلا أنه دون حياة فعلية
جدرانه باردة و مشاعر ساكنيه شبه ميتة تجاه بعضهم البعض
عادت إلى ذاكرتها تلك الفترة في مراهقتها التي اعتادت فيها أن تقارن بين أجواء بيتهم وأجواء بيت خالتها ..
كانت تحسد سندس وصخر وحتى بشر الذي استطاع أن يخلق لنفسه مكانًا بينهم !
بِشر الذي تبنته الخالة إيمان حرفيًا بينما ظلت هي جوار شبح أمها الذي لا يجيد فعل شيء سوى الرثاء
ومع ذلك لم تيأس .. بل كدت وتعبت لتتفوق وتُظهر شخصيتها عل ذلك يكون تعويضًا كافيًا لأمها بعض الشيء لتُصفع بعدها وعلى مدار سنوات طويلة بالحقيقة القاسية وهي أن
( فداء لن تكون كافية أبدًا مهما فعلت )
ابتسمت لنفسها بمرارة ثم وضعت حساب القهوة وغادرت دون أن تنتبه إلى ذلك الكيان الذي نهض ورائها ليتتبعها بناءً على أمر سيده .

ولما تلاقينا .. الجزء الثالث من سلسلة قلوب تحت المجهر Nơi câu chuyện tồn tại. Hãy khám phá bây giờ