الفصل الثالث والعشرون

222 14 1
                                    

( بعد عدة أيام )

تجلس في المستشفى تحدق أمامها بشرود ونظرات فارغة لا تفارقها منذ ما اقترفت ..
كيف طاوعته ؟!
كيف خطت هذه الخطوة ولما خضعت أمام ضغطه عليها ؟!
لقد أجاد حصرها في الزاوية وهي في النهاية اختارت أن تفعل ما لم تتخيل أبدًا أن تفعله
سقطت في شركه وتزوجت به بعد أن أقسمت مرارًا أن لا تفعل
والآن أصبحت حرم سيف الدين الوهابي قلبًا وقالبًا !
قيدت نفسها معه بيدها وأغلقت على نفسها زنزانته لما بقي من عمرها
فهي ليست حمقاء لتظن أن لها منه خلاص
لكن لا ..
وحق الله لتدّفعه ثمن ابتزازه لها غاليًا ، ستجعله يعض أصابعه ندمًا لأنه فكر مجرد التفكير في استغلالها
لقد جعلها زوجته غير مدركًا أن الطريق الأمثل لتعذيب رجل هو الزواج منه !
لكن المشكلة كلها الآن تكمن في طريقة إخبار والدتها بالكارثة التي أوقعت نفسها بها
لقد خافت أن تسقط أمها نتيجة دخول سعد السجن فقررت أن تتولى هي زمام الأمر فذهبت وتزوجت سرًا !
ضحكت صفية بسخرية مريرة ثم مسحت وجهها لا تدري من أين تبدأ ليعتلي العزم عينيها فتنهض وقد رأت أن أفضل حل هو أن تُطلع والدتها على الأمر برمته من بدايته وعلى ما تنوي فعله بسيف الدين
ستأخذ ثأرها منه كاملًا دون نقصان
ليس ثأر ابتزازها فحسب بل ستثأر لكل ما اقترفه في حقها منذ انفصالهما الأول .
عادت إلى مكتبها لتبدل ملابسها وهي تسترجع لحظة عودتها إلى المنزل بعد عقد قرانهما وهيئة سعد الذي نهض ما أن رآها وحملق فيها وكأنها طوق نجاته الوحيد ، كطفل صغير انقلبت عليه لعبته وتحولت إلى كارثة وينتظر في تلك اللحظة من والدته أن تلملم وراءه توابع الأمر .. !
استرجعت نظرته نحوها وسؤاله الخشن الذي خبئ وراءه رجفة تجلت في حدقتيه :
" هل تحدثتِ معه ؟!! "
وقتها لم تنتبه صفية إلى حاله ثم تركته وتحركت لترمي جسدها فوق اريكتها بعينين غائمتين بالذهول وهي لا تصدق الفخ الذي سيقت اليه بكل سهولة وتلك القيود التي التفت حول معصميها في لمح البصر فتحرك سعد ورائها وجلس على الطاولة الصغيرة امامها يسألها بانفعال مكتوم وقد وترته هيئتها لأبعد حد :
" لما تبدين بهذه الحالة ؟!! .. هل رفض مقابلتك ؟!! "
وايضًا لا رد منها فيعود سعد ويجيب سؤاله الأخير :
" لا ، مستحيل أن يرفض لقائك .. إنه مهووس بكِ "
وعند جملته الأخيرة رفعت صفية عينيها إليه ثم وبكل القهر الذي كانت تحمله داخلها في تلك اللحظة منه ومن سيف على حد سواء رفعت كفها وصفعته بقوة صادمة سمرته موضعه برهبة لتهطل بعدها دموعها بغزارة أمام عينيه المتسعتين بذهول وهي تصرخ من بين أسنانها بجنون مطبق قبل أن تركض إلى غرفتها وتعتكف داخلها :
" أنا أكرهك و أكرهه .. أكرهكما معًا .. أكرهكما "
اجفلت صفية على دخول إحدى عاملات النظافة إلى المكتب لتنظفه فأخذت حقيبتها بعد أن أنهت تبديل ملابسها وهي تحمد الله مرة أخرى أن والدتها لم تكن في المنزل وقتها ولم ترى تلك الحالة التي كانت عليها .
خرجت بعدها من المستشفى وكادت أن توقف سيارة أجرة لكنها فوجئت بسائق عائلة عمتها يقف أمامها فألقت عليه التحية وسألته إذا كان قد أتى للمستشفى لزيارة أحد يخصه لكن الرجل أجابها بتهذيب شديد :
" لا يا هانم ، لقد أرسلني سيف باشا لإيصالك إلى المنزل "
اتسعت عينا صفية بصدمة ثم ابتعدت عن الرجل قليلًا واخرجت هاتفها واتصلت بسيف الذي كانت ترفض اتصالاته المتكررة بها طوال الأيام الماضية والذي استقبل الآن اتصالها قائلًا بمزاج رائق :
" صوفي ... هل اشتقتِ لي أخيرًا ؟! "
شرست نظرات صفية ثم قالت بصوت خافت من بين أسنانها :
" ما الذي تفعله بالضبط ؟!! .. ألم نتفق أن يبقى الأمر بيننا لفترة حتى أجد طريقة أخبر بها أمي ؟! "
" من جهتي أنا ملتزم بالاتفاق حتى الآن "
غمغم بها سيف ببساطة فألقت صفية نظرة نحو السائق الذي بادلها النظرة بارتياب ثم اولته ظهرها وقالت بغضب مكتوم :
" وكيف سأفسر أمام أمي وجود سائقك معي ؟! "
" لقد أردت اراحتك من عناء المواصلات ولولا أنني أنهي إجراءات نقل والدي إلى المنزل كنت أتيت وأخذتك بنفسي "
هتفت صفية بصوت مرتفع قبل أن تتدارك نفسها بصعوبة :
" ومن طلب منك المساعدة ؟! "
" أنتِ زوجتي وبالطبع لن أنتظر طلبك "
يقولها سيف باستفزاز فوصلته سبتها له ثم أغلقت الهاتف بغضب والتفتت إلى السائق الذي استمع إلى النصف الأخير من الاتصال فرمقها بحذر جعلها تشتم سيف في سرها مرة أخرى قبل أن تدمدم بتهذيب مفتعل للغاية :
" شكرًا لك يا محي ، تستطيع المغادرة وسأتدبر أنا أمري "
أومأ لها السائق باحترام ثم قال :
" كما تشائين سيدتي "
ثم ركب سيارته بسرعة كأنه يعد الدقائق للإفلات من براثن لسانها الذي لف حول عنق سيده منذ لحظات بسيطة .. !
راقبت صفية مغادرته بعينين غاضبتين ثم أوقفت سيارة أجرة وركبتها لتعود إلى منزلها وهي تحاول ترتيب أوراقها وتدعو الله أن لا تسقط أمها بنوبة قلبية أو ينال منها الغضب فتهجم عليها بعصا المكنسة وتقتلها فور أن تخبرها بزيجتها المشرفة .

___________________ 
تقف مبتسمة برهبة على أعتاب باب بيتها ..
رهبة لا تملك التحكم فيها لكنها رهبة لذيذة .. منعشة ، تمدها بطاقة مهولة تؤهلها لإعادة ترتيب حياتها على طريقتها هي وليس على طريقة غيرها !
قلبها يدق بحماس وعيناها تضوي بالرضا
ما أجمل أن تكون صاحب البيت ، مالكه  .. لست ضيفًا تتحكم فيك حساسية موقفك ووضعك !
ما أبهى أن تحيا حرًا دون قيود وإن كانت غير مرئية .. !
وما أروع أن تستيقظ من وهمك وتعي لما تضيعه من بين يديك باستسلامك لضعفك ووهنك وتقبلك للأمر الواقع حتى وانت بداخلك ترفضه فترفس استسلامك وتوجه طاقة تمردك للاتجاه الصحيح وتضع بنفسك اللبنة الأولى في بنيانك الجديد الذي ستسعى بكل طاقتك أن لا يُدك مرة أخرى ولا حتى يهتز باي ريح عاتية .
" هل ستقفين كثيرًا بهذا الشكل ؟! "
انتبهت فضة لصوت سندس الممتعض ثم خطت خطوتها الأولى داخل منزلها وهي تقول بصوت مطمئن :
" إنه رائع "
كانت المرة الأولى التي تراه فيها .. !
فهي أوكلت الأمر تمامًا لبِشر وليث مكتفية بفكرة امتلاكها لمنزل خاص ولم تشغل بالها بأي تفاصيل اخرى كالأثاث وما دون ذلك ..
" إنه بالفعل رائع وتصميمه دافئ للغاية "
اومأت فضة تؤيد رأي سندس بابتسامة خفيفة ثم صفقت بعد لحظات بحماس متقد وكأنها توقظ نفسها من لحظات التأمل وتؤجلها لوقت اخر بينما ضاقت عينا سندس باستغراب لتبدل حالها المفاجئ :
" عليّ أن أسرع بإفراغ حقائبي وترتيب أغراضي قبل وصول إخوتي "
وبالفعل رفعت فضة أكبر حقيبة تملكها وجرجرتها نحو أحد الغرف فيما تقول بنبرة قوية ذكرت سندس بشخصيتها القديمة قبل الحادثة :
" سأتخذ هذه الغرفة لي .. هيا يا ابنة المنصوري يا مدللة اجلبي الحقيبة الأخرى حتى ننتهي في أسرع وقت "
شتمتها سندس في سرها ثم حاولت دفع الحقيبة الأخرى بصعوبة شديدة فلم تفلح ..
وصلتها ضحكة فضة المستفزة وهي تنظر لها من الغرفة التي دخلت إليها ثم قالت بصوت مرتفع ونبرة مغيظة :
" هل تحتاجين إلى مساعدة يا ابنة العاصمة ؟! "
رمقتها سندس بحنق ثم قالت بكبرياء :
" تعالي وخذي حقيبتك بنفسك ، أنا لست خادمتك "
ضحكت فضة بخفة ثم تمتمت وهي تخرج من الغرفة لتأخذ الحقيبة الأخرى :
" أقنعني أداءك "
اتسعت عينا سندس حين رفعت فضة الحقيبة بسلاسة وحينما لاحظت الأخيرة نظراتها غمغمت بوجه عابس وهي تعود إلى الغرفة من جديد :
" الله أكبر "
مطت سندس شفتيها بامتعاض ثم تبعتها إلى الغرفة وبدأن في تفريغ الحقائب وترتيب الملابس والاغراض في الخزائن فغمغمت سندس بغموض وهي منهمكة في رص بعض الأشياء :
" ماذا قررتِ للمرحلة القادمة ؟!! "
أجابتها فضة دون انتباه وهي ترتب ملابسها :
" أظن أنني سأبدأ بالعمل في المطعم حتى بدء الدراسة "
" وماذا عن العلاج النفسي ؟!! "
سألتها سندس بحذر فنظرت لها فضة بانتباه للحظات ثم سألتها :
" هل أفادك العلاج النفسي ؟!! "
صمتت سندس لبعض الوقت ثم أجابتها بصدق :
" لم يحل الأمر من جذوره بالطبع لكن مع الوقت تقبلت ما حدث معي واستطعت الوصول لسلام نفسي لم أحظى به من قبل "
عقبت فضة تؤيدها بابتسامة خفيفة وهي تشير إليها :
" والدليل مساعدتك لي الآن "
هزت سندس كتفها وهي تقول بعفوية كانت أقرب للفظاظة :
" لم أتقبلك بشكل كامل "
كشرت فضة في وجهها فشعرت سندس أنها أساءت التعبير فقالت بما ظنته تبرير يصلح الأمر :
" أنتِ في النهاية ضُرتي "
وهنا لم تتمالك فضة نفسها فتعالت ضحكاتها للمرة الأولى منذ ما حدث معها وهي تنظر إلى سندس الممتعضة من ضحكاتها بعدم تصديق جلي جعل سندس تهتف فيها بغيظ :
" ماذا ؟!! .. هل أخبرتك مزحة دون أن أدري ؟!! "
بنفس الضحكات اجابتها فضة :
" مزحة الموسم والله "
رمتها سندس بقطعة ملابس بغضب واضح فحاولت فضة التحكم في نفسها ثم قالت بصوت حاولت إضفاء طابع الجدية عليه :
" أنا لا أصدق أنكِ لازلتِ تنظرين إلي كزوجة لبِشر ! .. هل أنتِ معتوهة يا ابنتي ؟! "
مطت سندس شفتيها بامتعاض صامت بينما استطردت فضة تعلن عن مشاعرها للمرة الأولى :
" يا ابنة العاصمة يا أذكى من خلق الله ، بِشر أخي مثله مثل ليث .. بحق الله لقد نشأت مع فكرة أنه شقيقي الآخر "
دافعت سندس عن موقفها فقالت بحنق :
" لقد كنتِ تتعمدين مغازلته أمامي "
زجرتها فضة بحدة :
" احذري من تعبيراتك يا سندس .. أنا لا أغازل الرجال "
كادت سندس أن تتحدث لكن الأخرى قاطعتها قائلة بصراحة تامة لا تخلو من التهكم :
" لقد كنت أتعمد مضايقتك لا أنكر لأنكِ أيضًا كنتِ تتعمدين إبعاده عنا بطريقة مفضوحة وهو كان يراعيكِ قدر إمكانه وأنتِ مستمرة في دلالك المقيت وتباهيك بجمالك الذي لا مثيل له "
شرست نظرات سندس ثم قالت بصوت غاضب :
" أنا لست مدللة يا فضة احترمي نفسك "
" وأنا لم أغازل ابن عمي وإياكِ أن تكرريها "
هتفت سندس بعجز من النقاش معها :
" والله أنتِ ضرتي بحق "
لوحت فضة بكفها ثم قالت بضيق مماثل :
" وأنا لن أنكرها مرة أخرى .. أنا فعلًا ضرتك "
قذفتها سندس بقطعة ملابس أخرى فتلاشتها فضة فيما تقول بصوت قوي :
" توقفي عن الجنون وأكملي ما بدأتي "
" لن أساعدك "
هتفت بها سندس بطفولية وهي تدير ظهرها لتخرج من الغرفة فتمتمت فضة في إثرها بمكر :
" على راحتك ، ارحلي قبل أن تحصلي على إجابة سؤالك الذي تدورين حوله "
توقفت سندس فأدركت فضة أنها أصابت الهدف وبالفعل استدارت سندس تقول بارتباك طفيف :
" أي سؤال هذا ؟!! .. أنا لا أدور حول شيء "
رمقتها فضة بذكاء لا ينقصها ثم قالت بنبرة ساخرة :
" آه ما أغباني ! .. لقد ظننت لوهلة أنكِ تتساءلين حول موعد انفصالي عن بِشر "
اعتلى التجهم ملامح سندس وقد شعرت أنها مكشوفة لفضة زيادة عن اللازم بينما قالت فضة بعد لحظات بسيطة :
" السؤال يكاد يقفز من بين مقلتيكِ "
رمشت سندس بضيق ووقفت تكتف ذراعيها معلنة بصمت عن انتظارها للإجابة فهزت فضة رأسها بخفة ثم قالت بصوت متزن به نبرة اعتذار :
" أنا لا أستطيع أن أقفز الآن فوق كل شيء يا سندس ، لقد أمسكت بطرف الخيط بمعجزة بعد أن كنت على شفا حفرة من الجنون "
رمقتها سندس بصمت فاستطردت بشرود حزين :
" أنا في هذه المرحلة أشعر كأنني أسير على حبل رفيع وبالتالي عليّ أن احسب كل خطوة مئات المرات قبل أن أخطوها حتى لا أتهاوى في القاع من جديد "
لحظات ورفعت فضة رأسها إلى سندس الساكنة أمامها ثم قالت بخفوت صلب وهي تشير إلى جدران المنزل حولها :
" هذه كانت خطوتي الأولى والثانية هي عملي معكم وهزم رهابي من التعامل مع الناس وصدقيني في اقرب وقت سأذهب إلى بِشر واحله من هذا الارتباط بشكل كامل لكن دعيني أرتب أوراقي أولًا كما أشاء "
تنهدت سندس وقد شعرت ببعض الهدوء بعد إجابة فضة المستفيضة عن السؤال الذي لطالما أرقها ..
فرغم إدراكها الكامل أن لا شيء حقيقي يجمعها ببِشر إلا إنها لا تملك إلا أن تتألم من زواجهما الصوري
الأمر موجع لها للغاية حتى وإن كان مجرد حبر على ورق كما يقولون !
همست فضة وكأنها تقرأ أفكارها :
" هانت يا ابنة العاصمة "
تطلعت إليها سندس بعجز دام للحظات ثم عادت تعمل معها بصمت بينما عقلها الملتوي يعمل بلا لحظة توقف ويحثها على سلك طريق معين لفصل فضة عن بِشر في أسرع وقت ممكن .. !
طريق متمثل في مارد غامض مخيف تعثر بفضة دون سابق إنذار وتأثر بها بشكل ملحوظ
ربما عليها أن تجمع بينهما لتضمن استحالة قرب فضة من بِشر !
ربما عليها إعادة الوصال بينهما لكن بشكل تدريجي صحيح فتعود عليها هي الفائدة الكبرى
ربما عليها أن تخطط بتروي شديد حتى تصل لنتيجة مرضية تناسب جميع الأفراد وأولهم هي
اعتلت ابتسامة خفيفة شفتي سندس وقد قررت المضي قدمًا في الأمر لكن بعد خروج ابنة آل من المستشفى وتماثلها للشفاء .

__________________

( الوادي )
بوجه شحب من الصدمة وعينين تضوي بالخوف والحذر وقلب قد هوى بين القدمين وقفت ليالي تحدق في زوجها ببلاهة جعلته يكرر حديثه عليها بصبر وملامح غير مقروءة :
" أنا لم أتوقع أبدًا أن يسافر عزيز معنا إلى العاصمة وبالتالي لن أستطيع تركك في شقتي عند الذهاب إلى فضة كما اتفقنا "
همهمت ليالي بصوت مرتجف :
" هل تعني أنني سأذهب معكم إلى بيتها ؟!! .. لكن فضة لن تسـ...... "
تنهد ليث ثم قال بعدم ثقة :
" أنا سأتحدث معها "
رمشت ليالي بتوتر أقرب إلى الفزع وهي تجد نفسها محاصرة أمام أكبر مخاوفها ..
كيف ستقابلها ؟!!
كيف ستقف أمامها بعد كل ما حدث بسببها ؟!!
كيف سترفع عينيها إليها دون خزي ؟!!
بل كيف ستتقبل فضة وجودها من الأساس في بيتها ؟!
يا الله ما هذه الكارثة ؟!!!
وامامها كان ليث يقرأ الانفعالات المتتابعة على وجهها وكأنه كتاب مفتوح أمامه بينما حاله لا يختلف عنها كثيرًا
فهو محاصر بدوره بين تقبل فضة للأمر وبين كيفية تبريره للموقف أمام عزيز إذا رفضت فضة استقبال ليالي معهم !
والأهم كيف سيتصرف إذا وافقت فضة وتفهمت الموقف ثم انهارت إذا ما رأت ليالي ؟!
اللعنة على كل تلك التعقيدات التي لا تنتهي .
انتبه ليث على صوت ليالي المرتجف وهي تقول :
" سأمثل أنني متعبة أمام عبد العزيز وبعـ..... "
قاطعها قائلًا بتجهم وقد أدرك ما تحاول الوصول إليه :
" إذا قلنا أن السفر أرهقك .. ما الذي يمنع أن ترتاحي في بيت فضة ؟! .. ألن يكون أكثر منطقية من تركك بمفردك في شقتي وأنتِ متعبة ؟! "
" إذًا اتركني هنا ؟!! "
بنفس النبرة أجابها ليث :
" وقتها لن يكون هناك حاجة لذهابي أنا الآخر وسنثير التساؤلات "
زفرت ليالي بعجز وكأن الكون قد تآمر عليها ووضعها أمام الأمر الواقع ثم كبلها تمامًا بأمره النافذ كسيف على رقبتها فنظرت إلى ليث تسأله العون فتنهد بدوره ثم وضع كفه بعفوية على كتفها فيما يقول بتروي لا يدري إن كان يطمئنها أو يطمئن نفسه :
" لا تقلقي ، بإذن الله ستمر على خير "
ثم أتبع بعد لحظات بعدم ثقة :
" فضة تماسكت كثيرًا عن ما قبل ولا أظن أن تتسبب في فضيحة أمام عزيز "
حقًا ؟!! .. وماذا عنها هي ؟!
كيف ستتماسك أمامها ولا تنهار بعد أن سلمتها بنفسها إلى شقيقها ليذبحها وإن كان دون قصد ؟!
أومأت له ليالي باستسلام وعيناها لا تزال ضائعة في شرودها المكلل بالقلق وعقلها يتخيل مئات الصور مما قد تفعله معها فضة إذا ما رأتها .
أما ليث فتركها ثم دخل إلى الشرفة يدخن سيجارة بانفعال مكتوم ثم أخرج هاتفه وسمى الله ثم اتصل بفضة وهو يدعو أن يمر الأمر على خير .. !
لحظات وجاء سؤال فضة المتحمس دون مقدمات :
" هل خرجتم من المنزل ؟!! "
تنحنح ليث ثم أجابها :
" سنخرج فور أن يصل عزيز "
وعلى الناحية الأخرى قطبت فضة ثم سألته بتعجب :
" عزيز ! .. هل هو قادم معكم ؟!! .. هل تصالح مع غالية ؟! "
رد ليث بالإيجاب ثم قال بعد لحظات :
" وهذا ما اتصلت بكِ لأجله "
" ماذا هناك ؟!! "
سألته فضة بحذر فتنهد ليث ثم قال بحذر مشابه :
" ليالي "
عم الصمت للحظات قبل أن تتمتم فضة بجمود :
" ماذا عنها ؟! "
ابتهل ليث سرًا أن لا تنهار ثم أجابها :
" كنت سأوصلها اولًا إلى شقتي وبعدها آتي لزيارتك أنا وغالية "
قاطعته فضة تتمتم باستنتاج :
" لكن مجيء عزيز سيجعل الأمر مريبًا أمامه "
صمت ليث فاستطردت فضة بعد لحظات تسأله بغموض وكأنها أدركت ما يفكر فيه :
" وماذا ستفعل ؟!! "
" لا أعلم ، ما رأيك ؟!! "
تمتم بها ليث كاذبًا فقالت فضة بذكاء وبصوت صلب ذكره بوالدته :
" لا ، أنت تعلم جيدًا ولذلك اتصلت بي حتى تعرض عليّ الأمر اولًا حتى لا اُفاجئ بها أمام عزيز وأصنع مشهدًا أو فضيحة "
ورغم أن نبرتها كان يشوبها الاتهام إلا أنها لم تعلو لدرجة واحدة فصمت ليث ولم يعقب على حديثها تاركًا لها المساحة كاملة حتى تفرغ ما بجعبتها لكن فضة فاجأته وقالت بصوت مكتوم بعد صمت دام لدقيقة كاملة :
" لا تقلق يا ليث ، سأتحمل من أجل أن أراك "
جملتها اوجعته فهمس باسترضاء :
" هل أتركها في الوادي ؟! "
ردت عليه فضة بتهكم :
" وبالتالي لا يكون هناك حاجة لقدومك أنت الآخر بما أن عزيز سيرافق غالية "
تنهد ليث بضغط ظهر في قوله : 
" حسنًا .. أخبريني ماذا افعل ؟!! "
شعرت فضة بالضغط بدورها فقالت بصوت مكتوم :
" أخبرتك .. دعها تأتي معك وأنا سأحاول تدبر الأمر هنا "
زفر ليث مرة أخرى بقنوط وقد تيقن أن لا حل آخر أمامه فأنهى المكالمة مع فضة وقد وصل عزيز أخيرًا فعاد إلى غرفته ووجد ليالي تقف أمام المرآة ترتدي حجابها الأزرق بوجه مهموم فتمتم بضغط قبل أن يخرج من الغرفة ليستقبل عزيز :
" لقد وصل عزيز .. أسرعي قليلًا "
رمقت ليالي ظهره وقد استمعت إلى مكالمته مع فضة وأدركت موافقتها على لقائها فتعجبت وازداد رعبها
ماذا تفعل ؟!! .. إنها لا تملك إلا أن تقلق من هذا اللقاء !
فهي الجانية وفضة المجني عليها
هي الموصومة بذنب الغدر وإن كانت النية طيبة
وموافقة فضة الشفهية شيء واللقاء الحتمي وتقابل أعينهن شيء آخر !
حتى ليث المتفهم المؤازر سيتلاشى تمامًا ويحل محله الآخر الذي نال منها فور أن يجد نفسه في موضع اختيار بينه وبين شقيقته وهي لا تستطيع أن تلومه .
تنهدت ليالي ثم أخذت حقيبتها وتبعت ليث بذهن مشوش وعقل يضع كل الفرضيات وقلب ينبض بخوف من المحتوم .

_________________

( بعد عدة ساعات )

خرجت فداء من دورة المياه تجفف وجهها بعد أن توضأت للصلاة فوجدت هاتفها يرن برقم غريب .. !
ضوت عينيها بالتساؤل ثم استقبلت المكالمة دون أن تنطق بحرف منتظرة سماع الصوت المقابل اولًا وبعد لحظات جاءها صوت تنحنح ذكوري تبعه صوت شبه مألوف :
" مساء الخير "
قطبت فداء ثم ردت بتشوش :
" مساء النور .. من معي ؟!! "
شتم آدم نفسه سرًا على اندفاعه واتصاله بها لكنه ورط نفسه وانتهى الأمر فاضطر أن يعرفها بنفسه قائلًا بخشونة زائدة عن الحد :
" أنا آدم "
وحين حل الصمت من ناحيتها أتبع :
" دكتور آدم "
اضطربت فداء واتسعت عيناها بمفاجأة ظهرت في صوتها :
" أهلًا ... أهلًا يا دكتور "
تنحنح آدم مرة أخرى ولأول مرة في تاريخه يشعر بالتوتر لمحادثة فتاة ثم قال بعد لحظات بتهذيب مبالغ فيه :
" أردت الاطمئنان عليكِ .. فأنتِ تغيبتِ اليوم أيضًا "
جلست فداء على طرف فراشها وقالت باعتذار شديد :
" أنا أعلم أنني مقصرة جدًا في عملي هذه الفترة لكن أقسم لك اننـ...... "
قاطعها آدم وقد ضايقه اعتذارها الذي يحول الاتصال إلى مكالمة شديدة الرسمية بينهما وهذا ما لا يرغب به :
" فدااااااء ، فداء .. أنا أطمئن عليكِ فحسب ، لا أحاسبك ولا أطالبك بأي تبرير "
صمتت فداء وقد تحرك قلبها من جملته البسيطة فسألها آدم من جديد وإن كانت نبرته تحمل لينًا وحميمية لم تكن بينهما من قبل :
" أخبريني .. هل أنتِ بخير ؟!! "
وسؤاله كان شديد الصعوبة عليها ..
فهي متخبطة ، متوترة ولا تزال مرتعبة مما مرت به وتخاف القيادة بمفردها !
حتى إنها لم تجد في نفسها القدرة للرد المعتاد فهمست بصوت يكاد يُسمع :
" لا أعلم "
وعلى الناحية الأخرى عبس آدم بعدم فهم فبدل السؤال لآخر حتى يطيل المحادثة بينهما لأطول وقت ممكن :
" حسنًا .. أخبريني لما لا تأتي إلى العمل ؟!! "
ومرة أخرى اعتبرت فداء سؤاله نوع من أنواع التحقيق معها فقالت بصوت مكتوم :
" أنا أعتذر عن تقصيري ، لكن ظروف عائلتي شديدة السوء هذه الفترة .. أعد حضرتك أن أكون متواجدة من الغد بإذن الله "
كز آدم على أسنانه وقد شعر أنها تتعمد وضع هذا الحاجز بينهما فقال من بين أسنانه :
" أخبرتك أنني اطمئن عليكِ فقط "
زفر بعدها ثم قال بشكل مفاجئ :
" هل أخبرك ! .. اعتبريني لست طبيبًا "
عبست فداء ثم قالت بمكر وقد بدأت الصورة تتضح لها وتطمئن أن اتصاله لن يتبعه أي إجراء رسمي ضدها :
" لا أفهم "
رفع آدم عينيه للسماء ثم خرج صوته بغيظ :
" ماذا بكِ يا فداء ؟!! "
" ما بي يا دكتور ؟! "
تسأله والبراءة تكاد تقفز من بين حروفها فتزيده اشتعالًا وهو لا يعلم أنها تكتم ابتسامتها في هذه اللحظة حتى لا تظهر في صوتها لكن رغمًا عنها خرج مكتومًا بالضحك وهي تسأله :
" دكتور آدم .. هل أنت بخير ؟! "
وبعدها افتعلت فداء السعال حتى تغطي على الموقف لكن كان الوقت قد تأخر وقد فهم آدم أنها تلاعبه فاتسعت ابتسامته وقال بصوت مشاغب :
" لا أعلم يا دكتورة "
ثم أتبع بعد لحظات :
" قلتِ أنكِ قادمة في الغد .. أليس كذلك ؟! "
أجابته فداء بالإيجاب فاعتلى تعبير ماكر ملامحه ثم قال :
" إذًا سندرس هذه الحالة معًا في الغد "
" أي حالة ؟!! "
سألته بعدم فهم حقيقي فأجابها آدم ببساطة :
" حالتك .. فأنتِ قلتِ أنكِ لا تعلمين إذا كنتِ بخير أو لا لذلك حين نتقابل غدًا سأسعى جاهداً لأن تعرفي الإجابة "
صمتت فداء وقد غزاها التوتر من لهجته الممازحة معها فخرج منها السؤال بشكل تلقائي بنبرة جادة لكنها مرتجفة :
" دكتور آدم .. ماذا تريد مني ؟!! "
وبدوره تفاجئ آدم من السؤال فصمت قليلًا ثم قال بصدق :
" صداقتك "
كادت فداء أن تتحدث لكنه أكمل بصوت خافت :
" أشعر أننا سنكون صديقين جيدين إذا توفرت لنا الفرصة "
هوى قلبها بشعور مدغدغ ثم همست بتردد :
" أصدقاء ! "
" إذا كنتِ لا تمانعين "
( ما هذا التهذيب المبالغ فيه ؟! )
همهم بها آدم موبخًا نفسه وانتظر ردها الذي لم يتأخر كثيرًا فقالت بصوت خافت وناعم :
" لا أمانع "
كتم آدم زفرة راحة كادت تخرج منه ثم قال بصوت حاول أن يكون رزينًا :
" حسنًا .. أراكِ غدًا "
ابتسمت فداء وودعته ثم ألقت جسدها على الفراش تحدق في سقف غرفتها بوجنتين متوردتين وهي تشعر للمرة الأولى أن لمشاعرها نحوه صدى
أما آدم فابتسم ببلاهة ثم بإرسال رسالة الانتصار إلى بكر ..

( المهمة الأولى تمت بنجاح ... لقد صرنا اصدقاء )
لم تمر دقيقتين وجاءه الرد الساخر ..

( مبارك يا عانس )

________________

ركبت غالية السيارة مع عزيز الذي أصر على أن يتبع ليث بسيارته ورفض رفضًا تامًا أن يقلهما معه في نفس السيارة لسبب غير معلوم .. !
إصراره الغريب جعلها تتمتم فور أن استقر جوارها بعبوس طفيف :
" انا لا أفهم سر رفضك لأن يقلنا ليث بسيارته ! "
رد عليها عزيز بنبرة هادئة وعيناه تضوي بالغموض :
" لأنني أرغب بالانفراد بكِ ، هذا كل ما في الأمر "
ليتبع بعدها بتروي :
" ثم أنتِ حامل وزوجة شقيقك حامل أيضًا والجلوس في المقعد الخلفي لن يكون مريحًا لأيًا منكن "
تنهدت غالية باستسلام بينما سمى عزيز الله ثم انطلق خلف سيارة ليث ليتمتم بعد لحظات من الصمت :
" هل هناك مشكلة بين ليث وزوجته ؟!! "
ارتبكت غالية قليلًا ثم قالت :
" لا ، ما الذي جعلك تفكر في ذلك ؟! "
رفع عزيز كتفيه قائلاً ببساطة :
" لا أعلم ، فقط شعرت بذلك .. كما شعرت أنها لا تريد السفر معنا "
هزت غالية رأسها دون معنى ثم قالت بصوت خافت :
" لا أذكر أن شيء حدث بينهما "
" هل أنتِ متأكدة أن حضوري لا يضايقها ولا يحرجها في شيء ؟!! "
هزت غالية رأسها نفيًا ثم تمتمت كاذبة :
" على الإطلاق .. كل ما في الأمر أن ليالي حملها يرهقها للغاية لذلك كانت مترددة بشأن السفر حتى لا تتعب أكثر لكن ليث أقنعها "
أومأ لها عزيز بشك ثم مد يده نحو المسجل واختار أغنية ليسلي بها طريقهما
انسابت الالحان الهادئة كخرير ماء يهدئ الأعصاب فابتسمت غالية وهي تتعرف إلى صوت مطربها المفضل بينما دندن عزيز معه بخفة ..

( بِرُوْحِي فَتَاة بِالْعَفْاف تَجَمَّلَت
وَفِي خَدِّهَا حَب مِن الْمِسْك قَد نَبَت
وَقَد ضَاع عَقْلِي وَقَد ضَاع رُشْدِي مذ َأَقْبَلَت
وَلَمَّا طُلِبَت الْوَصْل مِنْهَا تَمَنَّعْت
وَلَمَّا طُلِبَت الْوَصْل مِنْهَا تَمَنَّعْت )

بحثت أصابعه عن أصابعها حتى التحمت ثم حرك كفيهما معًا ووضعهما فوق فخذه ثم بدأ يحرك إبهامه على ظهر كفها برقة تناسبها فتورد وجهها واختلج قلبها بعشقه وكأنها تجرب الوقوع في حبه من البداية .. !
رغم كل الظروف
رغم ما عرضها له
ورغم توتر علاقتهما
لا تزال تهوى في عشقه كالمرة الأولى
لا تزال ترتجف حين يمسها أو يهمس لها بشيء ولا كأنها باتت ليال طويلة بين ذراعيه !
مشاعرها نحوه في حضرته بتول ، لم تُمس بأي سوء تعرضت له من عائلته أو منه هو ..
يستحوذ على كل كيانها ويأسرها في كل مرة ترى فيها عمق حبه لها بين مقلتيه فلا تجد الجرأة للتراجع بل تركض نحوه تبادله مشاعره بكل ما أوتيت من قوة !
رمقها عزيز بنظرة خاطفة زلزلت كيانها ثم عاد لدندنته الخافتة مع الأغنية وكأنه يهمس بها لأجلها فقط  ..

( بَلِّغُوْهَا إِذَا أَتَيْتُم حِمَاهَا
أَنَّنِي مُت فِي الْغَرَام فِدَاهَا
وَأُذَكُرُوْنِي لَهَا بِكُل جَمِيْل
فَعَسَاهَا تَحِن عَسَاهَا )

" أنت تعلم أنه مطربي المفضل .. أليس كذلك ؟! "
تسأله بابتسامة لم يرى في جمالها قط فغمزها عزيز ثم تتوه إجابة سؤالها وسط كلمات الأغنية التي همس بها وهو يتأمل ملامح وجهها كيفما استطاع ..

( إِن رُوْحِي تُنَاجِيْهَا
وَعَيْنِي تَسِيْر إِثْر خُطَاهَا
لَم يَشُفني سوى أَمَلِي
أَنَّنِي يوما أَرَاهَا )

دمعت عيناها بتأثر فرفع عزيز كفها نحو شفتيه يلثمها بحنان شديد بينما كررت غالية كلمات الأغنية وكأنها تردها له :
" إن روحي تناجيك وعيني تسير إثر خطاك .. لم يشفني سوى أملي أنني يومًا اراك "
انفرجت ملامح عزيز بابتسامة عريضة ثم همس بمشاغبة :
" نحن على الطريق السريع يا ست الحسن "
تورد وجهها ثم همست :
" لا أفهم "
ضحك عزيز ثم قال :
" أقصد أن لا المكان ولا الزمان يناسبا ردي على ما همستِ به للتو "
شعرت غالية بسخونة وجنتيها ثم قالت بدفاع :
" أنا أردد كلمات الأغنية أقسم بالله "
ومرة أخرى ضحك عزيز ثم قال مشاكسًا :
" وأنا أيضًا أردد كلمات أغنية "
نظرت له غالية بعدم فهم فدمدم بصوت منغم :

( لو كان المكان يسمح وست الحسن لو تأذن أنا عايز اقول إني بحبك من زمان جدًا )

ضحكت غالية وهزت رأسها يأسًا منه فأمسك عزيز بذقنها يرفعها إليه ثم كرر بخفوت حار :
" أنا أحبك من زمان جدًا "
ضوت عينيها بعشق مماثل لكنها قالت بمشاغبة :
" انتبه للطريق أمامك يا عزيز "
ابتسم لها ثم عاد بانتباهه إلى الطريق ليعبس بعدها حين لاحظ أن ليث قد صف سيارته على جانب الطريق بينما همهمت غالية بتوتر :
" ماذا حدث ؟!! "
_____________

  وفي سيارتهم كان ليث يربت على ظهر ليالي بدعم وهي تتقيأ دون توقف ..
لقد انهارت مقاومتها تمامًا من رائحة الوقود فأخرجت كل ما بجوفها كما تشعر أن روحها على وشك الخروج منها بدورها
دارت الدنيا بها فهمست بصوت شديد الوهن والخفوت وهي تشعر باقتراب الأرض :
" سأسقط "
وبتلقائية لف ليث ذراعه حول خصرها يسند ظهرها إلى صدره فيما يتمتم بحنو :
" لا تخافي .. أنا هنا "
دمعت عيناها بضعف بينما هرول عزيز وغالية يسألون عن ما يحدث فرأوا حالة ليالي فيما قال ليث :
" لقد أتعبت رائحة الوقود معدتها "
نظرا لها بشفقة ثم تقيأت ليالي مرة أخرى فثارت معدة غالية بدورها وظهر على وجهها الغثيان فأخذها عزيز بسرعة وابتعد بينما همست ليالي بإرهاق شديد :
" أشعر أنني سأفقد الوعي "
مد ليث ذراعه الفارغ وأخذ قنينة الماء ثم فتحها وبلل كفهوبدأ يمسح على وجهها مرة بعد مرة فيما يقول :
" تنفسي قليلًا وسيزول هذا الغثيان بأمر الله "
تنفست ليالي بصوت مرتفع وكأنها تحارب حتى تحظى ببعض الهدوء فعدل ليث من جلستها بعدما كان يتدلى نصفها تقريبًا خارج السيارة ثم ناولها قنينة الماء فيما يتمتم :
" اشربي بعض الماء حتى تتحسن حالتك "
ابتعدت ليالي يده وردت عليه بصوت مرهق :
" لا ، لا أطيق وضع اي شيء في فمي الآن "
ومرة أخرى بلل ليث كفه ثم مسح على وجهها فالتقت عيناها بعينيه بشكل عرضي وسرت شرارة خفية بينهما فتسمرا قليلًا ثم انتبه ليث لقربهما الشديد من بعضهما فابتعد عنها وأخرج بعض المحارم الورقية ثم جفف لها وجهها وهو يتهرب من النظر إلى عينيها مستنكرًا تلك الخفقة التي تمردت دون بقية الخفقات وكأنها ناقوس خطر يهدده .. !
أما ليالي فإصابتها بداء عشقه قديمة
ونسبة شفائها معدومة لأنها لا تبحث عن شفاء بل تركت مرضها به يستفحل فيها منذ زمن فتحول إلى مرض عضال لا غنى لها عن ألمه !
فتحت ليالي النافذة المجاورة لها أكثر بينما سألها ليث بصوت خشن :
" هل بتِ أفضل قليلًا ؟! "
أومأت له دون أن تنظر نحوه وقد نال منها الوهن تمامًا فقال ليث بعد لحظات :
" نامي قليلًا ربما يفيدك الأمر "
ومرة أخرى هزت رأسها بصمت ثم أغمضت عينيها تحاول تهدئة تشنج معدتها بسبب توترها من اللقاء المحتوم لتمر دقائق بسيطة وتسقط ليالي في غفوتها تاركة جوارها رجل يحاسب نفسه على تأثره الكارثي بعينين واسعتين ورموش ندية .

__________________

( بعد عدة ساعات / العاصمة )

قبل وصولهم بقليل نظر ليث إلى ليالي التي كانت تفرك كفيها بتوتر شديد فسألها بصوت هادئ رغم إدراكه للإجابة  :
" هل أنتِ بخير ؟!! "
نظرت إليه ليالي ثم قالت برهبة :
" أنا أريد الذهاب الى شقتك الخاصة ، خذني إلى هناك "
رمقها ليث بشفقة بينما استطردت بتوتر بالغ :
" أخبر غالية وزوجها أنني متعبة للغاية ولا أستطيع الذهاب معكم "
ثم دمعت عيناها وهي تتبع بانفعال :
" أنا فعلاً متعبة "
" اهدئي قليلًا "
همهم بها ليث بدعم خافت فهزت ليالي رأسها باستنكار لهدوئه ثم قالت بصوت بدأ يرتفع عن المعتاد :
" أنا لا أريد الذهاب معكم "
تنهد ليث بصبر ثم أشار لها بالصمت واتصل بعزيز ثم شغل مكبر الصوت بينما تنظر له ليالي بتساؤل :
" هل تحتاج إلى شيء يا ليث ؟!! "
وكأنه يتعمد أن يُسمعها الرد المنطقي قال ليث :
" ليالي متعبة ، سأصحبها إلى شقتي اولًا ثم نذهب بعدها لرؤية فضة "
وبالفعل جاءه السؤال المتوقع :
" ولما نتركها بمفردها إذا كانت مريضة ؟!! .. فلتأتي معنا افضل حتى تستطيع غالية وفضة الاعتناء بها قبل ذهابنا إلى الطبيب ونحن اقتربنا على كل حال "
نظر ليث نحو ليالي وكأنها يسألها إذا كانت فهمت المغزى ثم أنهى المكالمة مع عزيز ونظر إليها بصمت فسالت دموعها وهي تهمهم بخفوت كطفلة مفزوعة :
" لا أريد الذهاب "
برد فعل عفوي مد ليث ذراعه نحوها وربت على كتفها مكررًا قوله السابق بصبر ومواساة :
" لا تخافي .. أنا معك "
هزت ليالي رأسها رفضًا فزفر ليث بقنوط لكنه ترك ذراعه يدعم كتفها ثم قال بعد لحظات بنبرة مرهقة :
" أنا لا أريد الضغط عليكِ ، لكن صدقيني لا أملك حلًا اخر الآن "
نظرت له ليالي ثم همست بضعف شديد لامس قلبه فأجفله :
" أنا خائفة يا ليث "
نظر نحوها وتشابكت نظراتهما مرة أخرى فدق ناقوس الخطر داخله من جديد ثم قال بوعد صادق لا يعرف كيف انتزعته منه بينما يصف سيارته أمام منزل فضة :
" أعدك أن لا يمسك سوء طالما أنا حي ارزق "
تشبثت ليالي بكفه دون وعي منها فربت ليث على كفها بدعم ثم نزلا من السيارة فنظرت غالية نحوهما بتوتر وهي تدعو الله أن تمر هذه الزيارة على خير ..
أما ليالي فاختبأت وراء ليث وغالية وقلبها يهدر داخلها بصخب
تراه يقرع الجرس فيقرع قلبها برعب ما بعده رعب وتغمض عينيها تتوسل ربها التماسك
يُفتح الباب فتتأهب كل حواسها لكن يظهر صوت بِشر يرحب بهم ببساطة من لا يدرك حقيقة ما يدور !
ثم تمر لحظات بسيطة متتابعة تظهر فيهم فضة فتبتلع ريقها الجاف برعب ..
ترى ليث يعانقها كأب افتقد طفلته
لحظة أخرى وترى غالية تضمها إليها بحنان فطري يشع منها
وتستقبل فضة ضمة شقيقتها بعينين مغمضتين
ثم ثانية ..
اثنان
ثلاث
وتفتح فضة عينيها بنظرة مباشرة وجهتها اليها فتبدو كما لو أنها فتحت في وجهها أبواب السعير فيهوى قلب ليالي بين قدميها وتدرك أنها دقت بوابة الجحيم للتو .

ولما تلاقينا .. الجزء الثالث من سلسلة قلوب تحت المجهر Where stories live. Discover now