الفصل العشرون

240 13 1
                                    

وصلت أمام بوابة المنزل تنظر إليه دون تعبير ..
برودة تتسلل إليها وكأن هناك ما انطفأ داخلها منذ تلك الليلة التي تعرت فيها الحقيقة المخزية لعائلة والدها
تنهدت بضيق وبلادة غير مسبوقة تسيطر عليها
رغم صغر سنها لم يعد بإمكانها إلا أن تقول اكتفيت .. !
عمرًا عاشته فوق عمرها الحقيقي
أيام طويلة من انتظار عودة الغائب
وأيام أطول من المعافرة والركض غير المتناهي كمحاولة بائسة لتعويض والدتها ..
وأخيرًا ايام أكثر صعوبة وأشد ثُقلًا تستوعب فيها حقيقة أنها كانت مخدوعة في أقرب شخص إليها .. نصفها الآخر !
لقد كانت تدرك أن جزءًا من روحه سابح في الظلام ، مدقع في المعاناة
لكن وفي أسوء خيالاتها لم تصل إلى محاولته ايذائهم دون جريرة ..
ومع ذلك لا تستطيع إلا أن تقلق بشأنه ، لا تستطيع أن تتجاهل ذلك الخافق داخلها الذي يردد دون توقف أن نصفه الآخر يعاني وإن أخفى .. !
يبكي وإن آذى
يستجدي الراحة وإن اختال وتمرد
نزلت فداء أخيرًا من سيارتها وما أن دخلت إلى البيت حتى سألتها والدتها بلهفة وقلق :
" ألم يتصل بكِ علي ؟!! "
رمقتها فداء بشفقة واضحة ثم هزت رأسها نفيًا بصمت بليد فغمغمت سميحة بنبرة ظاهرها الأمر وباطنها التوسل :
" إذًا اتصلي أنتِ به "
همست فداء بنبرة جافة :
" لا يجيب هاتفه يا أمي "
صرخت سميحة بغضب وعيناها تنذر بالدمع :
" جربي ثانيةً ، قلبي يخبرني أنه ليس بخير .. لما لا تشعرون بي ؟!! .. حرام عليكم "
اتسعت عينا فداء من هجوم أمها المفاجئ عليها بينما استطردت سميحة بقهر :
" جميعكم تلقون اللوم عليّ .. إن لم يكن بالحديث فبتلك النظرات الكريهة في اعينكم ، جميعكم لا تقدرون حرقة قلبي على ولدي الذي حُرمت منه عمر بأكمله وتنتظرون مني أن أنسى أمره كأن شيئًا لم يكن "
تلقت فداء كلماتها بصمت ثم غمغمت بعد لحظات بهمس ميت :
" أنا لم ألومك يومًا يا أمي ، على العكس أنا أعطيكِ كل العذر وأقدر فقدك لأنني معكِ في نفس القارب "
نهنهت سميحة في البكاء بينما اقتربت فداء منها ووضعت يدها على قلبها واكملت :
" كل ما يدور هنا .. لدي مثله هنا "
اقرنت قولها بوضع كفها الآخر على قلبها هي فهمست سميحة بعينين غائرتين غائمتين بالعجز :
" ماذا أفعل ؟!! .. كلاهما يكرهاني ، ينفرون مني ولا يرغبون حتى برؤيتي .. كلاً منهما يرى نفسه الضحية وأنا الجاني الوحيد "
تنهدت فداء ثم همهمت بقنوط وهي ترى أمها تقصيها عن الصورة من جديد :
" لأنهم ضحايا بالفعل يا أمي "
كادت سميحة أن تتكلم لكن فداء أكملت باسترضاء :
" ولكنك لستِ الجاني الوحيد "
" اتصلي بإخوتك يا فداء ، لا أحد فيهم يرد عليّ .. حتى بِشر لولا تعب فضة لم يكن ليدخل البيت ، وها هي فضة ستغادر ولن يأتي لرؤيتي مرة أخرى "
أومأت لها فداء بطاعة مجبرة ثم خرج صوتها مكتوم وكأن الضغط الذي تعيش فيه قد بدأ ينال منها هي الأخرى :
" أنا في غرفتي "
" ألن تأكلي ؟!! "
سألتها والدتها بخفوت فهزت فداء رأسها نفيًا دون أن تتوقف خطواتها وكأنها تعد للحظات لتنفرد بنفسها بعيدًا عن كل شيء .

________________

( المستشفى )
قبل نهاية يوم العمل بساعة كانت تجلس في مقهى المستشفى ترتشف قهوتها بهدوء وهي تتصفح آخر الأخبار لتتوقف عند صورة الراقصة التي اغوت زوج عمتها والتي لا تزال تتصدر صفحات الأخبار بشكل كبير وكأن أعدائه قد وجدوا في تلك الفضيحة كنزًا فيستمرون في نشر الأمر وتهويله ..
انعقد حاجبيها باستغراب لا يزال مسيطرًا عليها منذ أن علمت بالأمر
فزوج عمتها قاسي متعجرف ولا يبالي بأحد لكنه لم يكن يومًا محبًا للنزوات ، بل كل كيانه منغمس في عمله وتطويره وكأنه يرغب بأن يكون المتحكم الوحيد في مجاله في الشرق الأوسط بأكمله !
رن هاتفها فجأة برقم والدتها فاستقبلت المكالمة بابتسامة هادئة :
" مرحبًا يا أمي "
" هل أنهيتِ عملك يا صفية ؟!! "
ألقت أزهار سؤالها بحذر فردت عليها صفية :
" أجل انتهيت وسأمر عليكِ بعد ساعة على الأكثر "
تنهدت أزهار بضيق مكتوم ثم سألتها بتأكيد :
" هل أنتِ واثقة من رغبتك يا ابنتي ؟!! "
زفرت صفية بضيق مماثل ثم قالت :
" إنه الواجب يا أمي ، وعمتي لم تقصر معنا أبدًا "
" لكنه قد يضايقـ........ "
قاطعتها صفية بشفقة واضحة :
" الرجل في أسوء حالاته يا أمي ولم يغادر المستشفى حتى هذه اللحظة كما أننا سنذهب من أجل عمتي ولأنه لا يصح تركها بمفردها في وضع كهذا "
" كملك الله بعقلك يا ابنتي "
همهمت بها أزهار برضا فأنهت صفية المكالمة ثم رشفت ما تبقى من قهوتها واغمضت عينيها للحظات وهي تأخذ نفسًا عميقًا وكأنها تستعد نفسيًا لمعركة طاحنة ستبدأ صافرتها عقب رؤية عيناه .

____________

بعد وقت كانت صفية تمشي جوار والدتها في ممر المستشفى الفخمة التي تم نقل زوج عمتها إليها بملامح شديدة الجدية لترق نظراتها حينما وقعت على جلسة عمتها المثيرة للشفقة
سبقتها أزهار بعدة خطوات ثم أعلنت عن وجودهن فعانقتها فايزة باحتياج وبكت بحرقة شديدة جعلت عينا أزهار تدمع بشفقة عليها
وصلت صفية إليهن ثم عانقت عمتها بمواساة وبعدها جلس ثلاثتهن وأزهار تأخذ بيد صديقتها وهي تقول برأفة :
" وحدي الله يا أم سيف ، بإذن الله سيخرج لكِ سالمًا "
نهنهت فايزة بالبكاء فضمتها أزهار مرة أخرى وهي تحوقل بوجه حزين بينما غمغمت فايزة من بين شهقاتها :
" الطبيب يقول إنه لن يقوى على الحركة .. حسبي الله ونعم الوكيل في من سحبه إلى هذا الفخ "
قطبت أزهار بعدم فهم فهتفت فايزة بما هي موقنة منه :
" رفعت تم التلاعب به يا أزهار .. هذه ليست أخلاقه ولا طباعه ، مؤكد أحد منافسيه هو من أرسل إليه تلك الساقطة حتى توقعه في هذا الفخ اللعين "
ربتت صفية على كتفها وقالت بمواساة :
" هوني عليكِ يا عمتي ، بإذن الله سيكون بخير "
بكت فايزة من جديد وهي ترد عليها بنبرة واهنة :
" أي خير يا صفية ؟! .. إنه يرفض حتى التحدث مع أيًا منا منذ أن استفاق وأدرك إصابته واستنتج هول الفضيحة وما آل إليه الأمر رغم أننا نمنع عنه أي مصدر قد يوصل إليه أي معلومة حول هذا الموضوع "
" ومتى سيعود إلى المنزل ؟!! "
سألتها أزهار وهي تحاول احتواء ضعفها فهزت فايزة كتفيها وأجابت بصوت حزين :
" لا أعلم ، سيف مصر على عدم العودة إلى المنزل قبل استكمال علاجه "
تدخلت صفية فقالت :
" لكن هذا مرهق لكِ يا عمتي ، أظن أن عودته للمنزل واستكمال برنامج علاجه هناك سيكون أفضل للجميع وأولهم عمي نفسه "
هزت فايزة كتفيها بعجز يسيطر عليها بينما اضطرب قلب صفية حين وصل إليها صوته المرهق :
" مساء الخير "
تحولت الأنظار إليه و ردوا تحيته بملامح متباينة فاقترب سيف من والدته أولًا ثم سألها بنبرة هادئة :
" كيف الحال الآن يا أمي ؟! "
" الحمد لله يا ولدي "
همهمت بها فايزة بإرهاق فقال سيف بحنو :
" لقد جلبت لكِ بعض الأغراض من المنزل كما أمرتِ .. كيف حال أبي ؟!! "
" كما هو "
التفت سيف إلى أزهار ثم ألقى عليها التحية لينتقل بعدها بنظراته نحو صفية يسألها بملامح غامضة :
" كيف حالك يا صفية ؟!! ... أين سعد ؟!! "
" مشغول بعض الشيء .. سيأتي في وقت لاحق "
ابتسم سيف ابتسامة لم تصل إلى عينيه ثم أومأ بتفهم ساخر وقال بمواربة :
" لا بأس "
شعرت صفية بالتوجس لكنها آثرت الصمت أمام والدتها وعمتها وعقلها قد بدأ في شن هجومه لتفسير تلك النظرة والسؤال عن سعد الآن بالأخص .. !
فسيف لا يطيق سيرة سعد والعلاقة بينهما دائمًا في اضطراب
اللعنة ..
هل يكون لشقيقها يد في ما حدث ؟!!
لا ، مستحيل
أجل سعد أخرق لكنه لن يتمادى لتلك الدرجة خاصة وأن رد سيف لن يكون هينًا أبدًا بعد سقوط والده بهذا الشكل
شعرت صفية بالخوف الشديد على شقيقها رغم عدم تيقنها من حدسها بينما تركهم سيف وتحرك نحو الطبيب يسأله عن شيء ما يخص والده فهمهمت صفية لنفسها بشرود وقلق شديد :
" ماذا اقترفت من جديد يا سعد ؟!! "

____________

( بعد اسبوع )

يحتسي قهوته الصباحية بهدوء وصمت شارد وعيناه سابحة في الأفق البعيد ..
مر اسبوع منذ أن غادرها وغادرهم
ومر أيضًا اسبوع على ضربة لم يستطع ردها بعد .. !
لأن الحقير سفيان قد اختفى عن الأنظار تمامًا ولم يفلح أيًا من رجاله في العثور عليه وكأن الأرض قد انشقت وابتلعته
ومضت عيناه بغضب لأنه الأكثر دراية بأن اختفاء سفيان يعقبه دائمًا كارثة وهو المعني هذه المرة
زفر آل بضيق لأنه لا يستطيع مغادرة البلاد قبل التخلص من ذلك الحقير حتى لا يتعقبه ويؤذيه في صغيرته
فهو استطاع أن يوفر لها حماية قصوى هنا وهذا ما لن يستطيع فعله خارج البلاد بنفس الجودة لذا يجب أن يتخلص من سفيان تمامًا قبل أن يعود بها إلى الخارج كما يخطط .
ومض هاتفه جواره فأمسك به ليضوي الجنون في حدقتيه وتسقط القهوة من بين أصابعه حينما وجد الرسالة من رقم سفيان الذي بعث له صورة فداء كمفاجأة غير سارة بالمرة وعلق أسفلها بكلمة واحدة فقط ..
( مثالية )
وهي حقًا مثالية للانتقام منه عن طريقها
وهي حقًا مثالية للاستخدام كوسيلة ضغط عليه
وهي حقًا مثالية لينفث سفيان كل سمومه بها !
هوى قلبه بين قدميه برعب واسوء كابوس قد وجد مكانه على أرض الواقع
لكن لا .. إلا فداء !
إلا هي
سيحرق الأخضر واليابس قبل أن يصل سفيان إليها
لكن كيف ؟!!
لف آل حول نفسه كالمعتوه لا يدري ماذا عليه أن يفعل ولا يعرف كيف وصل سفيان إليها من الأساس .. !
اللعنة
وصوله إلى فداء يعني وصوله إلى البقية وسفيان لا يرد الضربة بمثلها بل يكتسح عدوه ولا يبقى على شيء منه .. !
أخرج آل بسرعة هاتفه الآخر ثم اتصل بأحد رجال سفيان والذي يعمل لصالحه وهتف به بغضب :
" إذا لم تصل إلى مكانه خلال ساعة أقسم أن أنحر عنقك بيدي "
ليغلق بعدها هاتفه دون انتظار ثم يجري مكالمة أخرى بنفس السرعة يأمر فيها بضعة من رجاله بتأمين شقيقته لينهي المكالمة قائلًا بصوت مرعب :
" لن يكفيني أعماركم إذا مس أحدهم شعرة منها "
أنهى آل المكالمة ثم أمسك بهاتفه الآخر وعيناه تضوي بالتفكير للحظات قبل أن يخطو تلك الخطوة و أن يتخذ قراره ثم يضغط زر الاتصال ويصبر للحظات طالت ليصله بعدها صوت بِشر الجاف :
" ماذا تريد ؟!! "
وللمرة الأولى تخونه الحروف وينال العجز منه !
لكنها فداء ..
نصفه الآخر ، قطعة قلبه الأثيرة
تقلصت أصابعه حول الهاتف وتسمر موضعه يستمع إلى صوت بِشر النافر ليصمت ( آل ) ويتحدث ( علي ) قائلًا بصوت حيادي :
" اعتني بفداء "
صمت بِشر للحظات ثم قال بصوت خشن ساخر :
" حقًا ! .. هل تنازلت وتتصل بي الآن لتوصيني بأختي التي ربيتها واعتنيت بها منذ ولادتها ؟! "
كاد آل أن يرد عليه لكن بِشر تمتم من بين أسنانه :
" دون مقدمات .. ماذا تريد ؟!! "
التزم آل الصمت للحظات يشعر كأنه عاد طفلًا صغيرًا من جديد ويتم توبيخه فشعر بالسوء حين انتابه هذا الشعور ثم تمتم بصوت مكتوم :
" قلت لك .. اعتني بفداء "
ورغم الإحساس الذي راود بِشر بوجود شيء غير طبيعي إلا أنه لم يستطيع أن يغفر أو حتى يمرر ما حدث معه فقال دون تراجع قبل أن يصل صوت صافرة انتهاء المكالمة إلى آل :
" فداء ستكون بخير طالما انت بعيد عنها "
اعتمت حدقتيه وكأن بِشر صفعه صفعة مدوية بتلك الجملة الأخيرة لشدة صوابها ..
هي بالفعل ستكون بخير طالما هو بعيد عنها
ستكون بأفضل حال
فهو لا يزال يذكر نظرتها المصدومة حينما أخبرهم بِشر بطبيعة عمله هو ووالده
إنها صغيرة على كل ما تمر به ..
صغيرة على صدمة كهذه خاصةً أنها كانت تبني الكثير من الخيالات البريئة حوله وحول والدها وهو لم يحاول أبدًا أن يشوه تلك الصورة داخلها فتركها على غشاوتها ليجد نفسه الآن مُهددا بها .. !
لقد نجح الحقير أن يجد أكبر نقطة ضعف لديه ويلعب عليها
شتم آل بغضب بالغ ثم تحرك بخطوات نارية ليحّضر ما سينهي به أمر سفيان حتى يغادر هذه البلاد دون رجعة .

_______________ 

( الوادي )

جالسة على الأريكة التي اتخذتها مستقرًا لها منذ عودتها إلى داره ، تمسك بين أصابعها ابرتين كبيرتين وخيوط من الصوف وتمارس هوايتها القديمة التي توقفت عنها منذ زمن طويل ..
تغزل الخيوط ببعضها بذهن شارد فيجذبها تداخل الألوان ببعضها ، ترق نظراتها للحظة ثم تعود لتشرد من جديد !
أصدرت معدتها ضجيج بسيط تعلن عن حاجتها للطعام فعبست بضيق ثم تجاهلت الأمر لدقائق قبل أن يهزمها شعورها بالجوع فنهضت من مكانها بوجه عابس ومزاج عكر ينتابها من حين لآخر منذ أن بدأ حملها ثم وضعت وشاحًا أزرقًا فوق رأسها بإهمال وغادرت غرفتها وهي تدعو الله أن لا تتقابل مع حماتها
دخلت ليالي إلى المطبخ تبحث عن شيء لتناوله ليزداد عبوسها مع تلك الرائحة التي هاجمتها على حين غفلة ..
رمقت الأواني الموضوعة على الموقد باشمئزاز وقد قررت تجاهل غثيانها لتحظى بأي وجبة تسد رمقها ففتحت الثلاجة ثم بحثت بعينيها شيء تتناوله لتلمع عينيها بفرحة لكن رائحة البخار المتصاعد من الأواني كان أقوى منها فأغلقت الثلاجة بسرعة وركضت إلى دورة المياه وبدأت تتقيأ بصوت مسموع لدقائق معدودة ثم هاجمها الدوار فجلست على الأرضية ودمعت عيناها بوهن شديد وهي تشعر أن المكان كله يدور بها ..
" يا الله ! .. ماذا بكِ ؟!! "
رفعت ليالي رأسها إليه ببطء ثم خرج اسمه كهمسة غير مسموعة من بين شفتيها فتحرك ليث نحوها بسرعة وحملها دون سابق إنذار فازداد دوارها مما جعل رأسها تتدلى للوراء بشكل مأساوي وترى المكان بالمقلوب ..
مر ليث وهو يحملها من أمام المطبخ فهاجمتها الرائحة من جديد فتقيأت مرة أخرى على ملابسه دون حول لها ولا قوة وشهقاتها تتعالى خشية مما فعلت بينما تمتم ليث بصبر :
" لا بأس ، لا بأس .. أنتِ بخير لا تخافي "
دمعت عيناها بضعف شديد ظهر في همستها الباكية حين لمحت حماتها تراقب الموقف من بعيد :
" أنا أريد أمي "
تجاهلها ليث ثم صعد بها إلى أن وصلا إلى غرفتهما فوضعها على الفراش بحذر بينما خرجت نبرتها شديدة الإحراج والارهاق وهي تنكس وجهها ارضًا بخزي :
" أنا آسفه "
" اهدئي يا ليالي لم يحدث شيء لكل هذا "
خلع عنها وشاحها الذي دمره القيء ثم ألقاه ارضًا ثم نظر بعجز إلى الجزء العلوي من منامتها الذي طالته البقع أيضًا دون أن يجرؤ على الاقتراب منها حتى لا ترتعب منه
قرر أن يتخلص من قميصه هو اولًا ثم قال بتروي وهو يسند رأسها على الوسادة :
" أنتِ بحاجة إلى تبديل ملابسك "
تورد وجهها حينما تخلص من قميصه أمامها ولم تعقب بشيء فسألها بصبر :
" هل أساعدك ؟! "
وهذه المرة هزت رأسها نفيًا بعينين مغمضتين إحراجًا وتعبًا ثم قالت بخفوت :
" دعني قليلًا وأنا سأحل الأمر "
نظر لها ليث غير راغبًا في تركها بمفردها لكن رائحة القيء أشعرته بالسوء فأخرج ملابس جديدة له ودخل إلى دورة المياه ونظف نفسه من الفوضى التي أحدثتها ثم خرج إليها فوجدها لا تزال على حالها ..
اقترب منها ثم سألها بصوت خفيض :
" هل أدعو لكِ غالية تساعدك ؟؟! "
هزت رأسها نفيًا ثم همهمت بعناد وهي تنهض ببطء :
" لقد أصبحت بخير "
لكنها ترنحت ما أن وقفت فأمسك بها ليث بسرعة وقال بصوت قلق :
" سأساعدك أنا "
" لا "
همست بها بصوت قاطع فتمتم من بين أسنانه :
" هل ستظلين هكذا ؟!! .. يجب أن يساعدك أحد "
" أنت لا "
همست بها بعناد فحملها ليث عنوة فشهقت مجفلة وتشبثت به على الفور بعينين متسعتين فدخل بها ليث إلى دورة المياه وأجلسها على حافة المغطس ثم قال بنفاذ صبر :
" سأدعو لكِ غالية أو إحدى العاملات "
رمقته ليالي بغضب بدأ يسيطر عليها ثم قالت بعصبية مفرطة :
" لا أريد أحد "
عنادها زاد من غضبه فوقف أمامها ثم قال بتهديد صريح :
" اسمعي .. إما أن تساعدي نفسك الآن أو سأفعل أنا ... اختاري "
اتسعت عيناها للحظات ثم كادت أن تجادله فهتف فيها :
" اختاري "
انتفضت من صوته ثم شرست نظراتها وهتفت بدورها :
" أحضر لي ملابس "
" لا تصرخي بوجهي "
" أخبرتك أني أريد أمي "
" لا يوجد أمي هنا ، نحن لسنا بروضة "
" ملاااااااااااابسي "
صرخت بها بجنون فخرج ليث يسب بصوت مسموع وغاب للحظات ثم عاد إليها يحمل بعض القطع بملامح نال منها الحرج ومد يده إليها فأخذتها منه بصمت وحياء ثم طردته مرة أخرى فغادر دورة المياه وتركها تنظف نفسها بينما وقف وراء الباب منتظرًا انتهائها وعقله لأول مرة يتوقف عند ردود افعالها محاولاً تحليل الشخصية التي تقيم معه في غرفة واحدة .. !
دقائق بسيطة وخرجت ليالي تجفف وجهها الشاحب بالمنشفة لتتوقف مجفلة حينما وجدته لا يزال موجودًا في الغرفة وكأنه ينتظرها ..
رمشت بتوتر سيطر عليها ثم تحركت من أمامه ببطء وحذر غير مفهومين له وجلست أمام المرآة تمشط شعرها وهي تبادله النظر من خلال المرآة وحين لم ينزل عينيه من عليها همست بخفوت قلق :
" ماذا بك ؟! "
صمت ليث للحظات ثم سألها بصوت هادئ :
" متى كانت آخر مرة تناولتِ فيها الطعام ؟!! "
توترت نظراتها فهي لا تتناول الطعام تقريبًا إذا لم يجبرها ومعظم الوقت لا تضع شيئًا في فمها خوفًا من هياج معدتها ..
حاولت استعادت السيطرة على نفسها ثم قالت بنبرة جادة :
" أنا لا أهمل طعامي "
" حسنًا لنغير السؤال .. ماذا كنتِ تفعلين بالمطبخ ؟!! "
اختارت ليالي أن تهاجمه فقالت بتصلب :
" وهل يجب أن أقدم لك تقرير عن كل تحركاتي خارج هذه الغرفـ.... "
صمتت برعب حينما تحرك نحوها فجأة بخطوات مخيفة إلى أن وقف ورائها بالضبط ثم تمتم بصوت شديد الهدوء لكنه أرسل رجفة ذعر داخلها :
" اعتدلي يا ليالي "
أومأت له بطريقة تلقائية عدة مرات فعاد وسألها من جديد بترهيب :
" متى كانت آخر مرة تناولتِ فيها الطعام ؟!! "
كتم ليث ضحكة كادت تغافله حينما همست ليالي بسرعة وبصوت مرتجف وكأنها تدفع تهمة عنها :
" لا أذكر "
" سأحضر لكِ شيئًا لتأكليه "
أومأت بالموافقة على الفور فكتم ليث ابتسامته مرة أخرى ثم هز رأسه بيأس منها وتحرك ناويًا المغادرة ليتوقف ويستدير لها حينما همست اسمه بخفوت ثم قالت بعد لحظات بسيطة بوجه أحمر ونظرات مشتتة من شدة الإحراج :
" هناك قطعة جبنة قديمة في المبرد .. هلا أحضرتها ؟! "
هذه المرة لم يخفي ليث ضحكته ثم أومأ لها وخرج من الغرفة ليحضر لها ما ترغب به فنظرت ليالي في أثره قليلًا ثم عادت تواجه نفسها في المرآة لتصطدم بابتسامتها التي بدأت تشق وجهها فهمست لنفسها بتحذير صريح :
" إياكِ يا ليالي .. إياكِ والسقوط في نفس الحفرة من جديد "

_________________

( بعد عدة أيام )

أنهت فداء عملها المسائي وودعت زميلتها بابتسامة هادئة لتتصادف مع خروج آدم في نفس التوقيت ..
حياها بلباقة ثم سألها عن حالها فظهرت عليها معالم الخجل وهي تدمدم :
" الحمد لله يا دكتور .. أنا حقًا لا أعرف كيف اشكرك على ما فعلته معي في ذلك اليوم "
ابتسم لها ادم بكياسة محاولًا تجنب النظر إلى عينيها ثم قال :
" لا داعي لأي شكر يا دكتورة .. جميعنا نمر بالضغوط ، إذا احتجتِ إلى أي شيء في أي وقت بابي دائمًا مفتوح لأجلكِ "
ابتسمت فداء وتورد وجهها ثم نظرت أرضًا بخجل وشكرته مرة أخرى لكن حين رفعت عينيها إليه من جديد وجدت وجهه مغلقًا بشكل ما وهو ينظر إلى شيء ورائها
التفتت فداء بعفوية لترى ما ينظر إليه فوجدت الدكتورة صفية واقفة أمام بوابة المستشفى تتحدث إلى مريض ما
شعرت بأنها تلقت صفعة دون سابق إنذار فجمدت ملامحها واعتلى الكبرياء هامتها بينما عقلها يتساءل بحرقة
هل يغار عليها ؟!!
هل لا يزال قلبه يركض ورائها حتى بعد انفصالهما ؟!!
ابتلعت فداء غصتها ثم وبخت نفسها بحزم أن لا دخل لها بما يشعر به فهو استاذها لا اكثر
كفاها أحلام مراهقة فقد نالت منه الكثير من الصفعات حتى تستيقظ من تفاهاتها !
" فداء "
التفتت تنظر له بملامح جامدة فنظر لها آدم بتعجب ظهر في سؤاله الهادئ :
" ماذا بكِ ؟! "
سيطرت فداء على نفسها وابتسمت له بزيف واضح ثم همهمت بشكل مفاجئ :
" لا شيء .. بعد إذنك يا دكتور "
ثم تركته وغادرت ردهة المستشفى فشعر آدم بالتشتت للحظة متعجبًا من تبدلها المفاجئ ثم خرج ورائها قائلًا ببوادر ضيق :
" لم تجيبي سؤالي يا دكتورة "
التفتت له فداء بوجه مقلوب فارتفع حاجبيه باستغراب وقال دون فهم حقيقي :
" هل ضايقتك في شيء دون أن أنتبه ؟!! "
بنفس الملامح المقلوبة تمتمت فداء بتهذيب :
" لا يا دكتور .. لم يحدث شيء "
" إذًا لما ....... "
صمت آدم والإجابة تضيء في عقله بشكل مفاجئ فانفرجت ملامحه المتصلبة بشكل تدريجي ثم ابتسم لها ابتسامة بلهاء جعلت الاستغراب يكون من نصيبها هي هذه المرة خاصةً حينما همس آدم لنفسه باستنتاج متأخر حينما تذكر حلمه القديم :
" ستبقى نائمًا حتى تقع في الحب "
" عفوًا ؟! "
همهمت بها فداء بعدم فهم فاتسعت ابتسامة آدم أكثر ثم غمغم بما لم تفهم منه شيئًا :
" شكرًا لكِ يا دكتورة "
رمقته وكأنه فقد عقله ثم سألته بجهل تام ونفاذ صبر :
" على أي شيء ؟!! "
اقترب آدم منها خطوة واحدة ثم همهم وهو يثبت نظره على عينيها للمرة الأولى وكأنه يغرس بها شيئًا مجهولًا لها :
" لأنكِ أيقظتني "
رمشت فداء عدة مرات وقد اضطرب معدل تنفسها ، تشعر بقلبها يرفرف بين ضلوعها فارتدت للوراء وكأنها توقظ نفسها من غفلتها التي ألمت بها لتصرفه المفاجئ ثم همهمت بحسم خافت يتنافى تمامًا مع تورد وجهها الواضح له :
" بعد إذنك يا دكتور "
راقب آدم مغادرتها بعينين مبتسمتين فتصنعت فداء عدم رؤيتها له وتحركت بالسيارة محاولة السيطرة على خفقات قلبها دون نتيجة .

____________

وفي الطريق فتحت المسجل لتشتت أفكارها التي احتلها مرة أخرى دون سابق إنذار ثم رن هاتفها برقم بِشر فابتسمت وهي تستقبل المكالمة ليأتيها سؤاله القلق دون مقدمات :
" اين أنتِ يا فداء ؟!! .. لما تأخرتِ ؟! "
قطبت للحظة ونظرت إلى ساعتها فيما تجيب بعدم فهم لحالته :
" لم أتأخر ولا شيء ، أنا خرجت من المستشفى للتو .. عدة دقائق فقط وأكون في المنزل "
" حسنًا .. أنا في انتظارك "
ابتهجت فداء لأنها ستراه أخيرًا بعد انقطاعه عنهم الأيام الماضية لتضمحل ابتسامتها حينما استطرد بِشر :
" أسرعي حتى اطمئن عليكِ قبل رحيلي أنا وفضة "
سألته فداء بعدم فهم :
" هل ستغادر فضة بهذه السرعة ؟!! "
زفر بِشر بإرهاق ثم تمتم بعدها :
" أجل ، ليث اشترى لها المنزل بأثاثه منذ يومين وهي الآن تحضر حقائبها "
انتابها الحزن الشديد فرغم أنها لا تجلس مع فضة كثيرًا لأن الأخيرة تميل للعزلة إلا إنها اعتادت عليها وفكرة أن تغادر المنزل بهذه السرعة أصابتها بالضيق ..
أنهت فداء المكالمة مع بِشر ثم مرت عدة دقائق قبل أن تعترض سيارة سوداء ضخمة يركبها أربعة افراد طريقها !
شعرت فداء بالتوجس اول الأمر ثم حاولت السيطرة على الأمر فأكملت طريقها دون توقف لكنهم ضيقوا عليها الطريق فدب الرعب في قلبها ونظرت حولها علها تجد من يهب لنجدتها لكن الطريق كان خاليًا بعض الشيء ..
أخذت هاتفها بسرعة ثم اتصلت ببِشر لكن الهاتف سقط منها حينما انحرف السائق تجاهها بشكل مفاجئ فانحرفت سيارتها بدورها .. !
صرخت فداء برعب تملك منها وحاولت السيطرة على السيارة ثم توقفت بشكل مفاجئ وقررت العودة للوراء وكان هذا اغبى قرار اتخذته إذ فوجئت بسيارة أخرى تغلق عليها الطريق من الوراء فتمت محاصرتها بشكل تام
تملك الذعر منها ونظرت حولها دون فهم لما يدور وقلبها يضرب صدرها من شدة الفزع خاصةً حين نزل أحد الرجال من السيارة وتوجه إليها بينما حاصر البقية سيارتها فبحثت عن هاتفها بسرعة في أرضية السيارة إلى أن وجدته وكادت تتصل بالشرطة لكن الرجل لاحظ ما تفعله فمد يده من نافذة السيارة وجذبه منها بعنف جعلها تصرخ بفزع ثم رماه بطول ذراعه فتحطم تمامًا ..
" ماذا تريدون "
همهمت بها فداء برعب ما بعده رعب فمال نفس الرجل إلى أن أصبحت رأسه في مستوى رأسها فنظرت له فداء بانهيار تملك منها بينما ابتسم لها الرجل بهدوء مخيف ثم رفع سبابته ببطء وأشار لها بالصمت معلنًا نهاية حوار لم يبدأ حتى ..!

______________
( في نفس التوقيت )

شعور بالسخط الشديد تمكن منه ..
للمرة الأولى يشعر أنه مقيد تمامًا بقيود غير مرئية وللعجب تبقيه موضعه عنوة !
عيناه معتمان بغضبه ورغبته العارمة في أخذ حقه والدفاع عن نفسه بعد إصابته الأخيرة في كتفه والدفاع عن من يخصونه بعد تلك الرسالة اللعينة التي أعلن فيها سفيان عن معرفته بأمر عائلته
ليست المرة الأولى التي يهاجمه فيها سفيان ولن تكون الأخيرة حتى يتمكن منه وبالتالي عليه أن يتخلص منه في أقرب وقت ممكن .. !
معركته الأخيرة التي عليه أن يخوضها 
آخر أعداءه بعد أن تخلص من الجميع
لكنه يعترف أنه أكثرهم شراسة وتطرف .. !
ومع ذلك ارسل وراءه كل رجاله تقريبًا حتى يعثر عليه وينهي الأمر ..
عل وقتها يستطيع أن ينام دون قلق على من يخصونه
عله يستطيع بعدها أن يغادر تلك المدينة بعد أن أخذت منه الكثير واخذ هو منها الأكثر
مج تبغه بغضب تضاعف حين ومض هاتفه برسالة جديدة من سفيان محصلتها كلمات معدودة ..
( ربما ستودع أحد أحباءك اليوم .. ! )
في لحظة انقلب الغضب إلى خوف ضرب ثباته فحاول الاتصال بفداء حتى يطمئن عليها لكنه وجد هاتفها مغلقًا
أزداد قلقه فاتصل ببِشر بسرعة لكن بِشر رفض المكالمة
شتم آل بغضب شديد ثم حاول الاتصال به مرة أخرى لكنه فشل من جديد
رمى الهاتف بغضب ثم أخذ هاتفه الآخر واتصل بالرجل الذي وكله بتأمين شقيقته لكن الرجل لم يجيب !
مرة بعد مرة بعد مرة والهاتف يرن دون مجيب
زمجر آل بعنف شديد واعتلى الجنون حدقتيه ثم بعث رسالة سريعة إلى بِشر يحثه فيها على البحث عن فداء بأقصى سرعة ليتصل بعدها بالرجل الذي بعثه للعثور على سفيان لكن قبل أن يتفوه بشيء جاءه صوت الرجل قائًلًا بحماس :
" كنت على وشك الاتصال بك سيدي .. لقد وجدته أخيرًا "

____________ 
( بعد وقت / في المنزل )

" هل أنهيتِ جمع أغراضك ؟!! "
التفتت فضة نحو سندس بملامح ساكنة ثم قالت بخفوت تمكن من نبرتها الفترة الأخيرة :
" اجل ، انتهيت "
طرق بِشر على الباب ثم دخل إليهن قائلًا بمزاج عكر أصبح مسيطرًا عليه هذه الآونة :
" لقد وضعت الحقيبتين في السيارة .. هل هناك أغراض أخرى ؟!! "
هزت فضة رأسها نفيًا وأجابت بخفوت وهي تشير إلى الحقيبة الصغيرة نسبيًا :
" لم يبقى سوى تلك "
أومأ بِشر بتفهم ثم حمل الحقيبة وخرج من المنزل بسرعة كأنه لا يطيق مجرد الوقوف به للحظة اضافية فرمقته فضة بشفقة بينما تمتمت سندس :
" شقيقك أنهى أمر المنزل في وقت قياسي ، انا لا أصدق أننا خططنا للأمر منذ اسبوع واحد فقط ! "
التوت شفتي فضة بشبه ابتسامة ثم قالت ببعض المكر :
" لقد ضغطت عليه بشكل ما حتى ينهي الأمر بأقصى سرعة "
" لستِ سهلة يا ابنة العامري "
شاكستها سندس فردت عليها في الحال :
" ولا أنتِ يا ابنة المنصوري "
ابتسمت سندس بخفة ثم تحركت نحو النافذة تتفقد بِشر فوجدته يقف جوار السيارة بينما يحاول الاتصال بأحدهم دون نتيجة !
رأت ملامحه التي تملك منها العبوس في الفترة الأخيرة يُضاف إليها القلق فأدركت أنه يحاول الوصول إلى فداء التي تأخرت عن موعد عودتها المفترض ..
زفرت سندس بإحباط كارهةً رؤيته بتلك الحالة التي لم تتبدل منذ أن تشاجر مع والدته في تلك الليلة اللعينة
لكن وهل تلومه ؟!!
لطالما كان بِشر اول المضحيين وأول الخاسرين في هذه الحرب النفسية التي شنتها عليه والدته منذ أعوام .. !
حملته مسؤولية اختيارها الخاطئ وجعلته يعاني الكثير بكل أنانية وجحود
وحتى بعد عودة ابنها الغائب انغمست في محاولات تعويضه  ونسيت الآخر الذي حُرم من والدته وهي أمام عينيه ولم تفكر حتى في تعويضه عن لحظة واحدة من لحظات اليتم التي أمضاها جوارها
لتأتي الطامة الكبرى بانكشاف كافة الحقائق ومحاولة الحقير آل إيذاء بِشر وتلفيق تهمة له ليجدوا الأم المنكوبة تختار طرفه دون ذرة تفكير أو تردد ..!
أجفلت سندس من شرودها على صوت فضة حين قالت :
" هيا بنا "
أومأت لها سندس ثم تبعتها فخرجت فضة ثم تحركت نحو غرفة سميحة التي تختبئ داخلها بعد أن رفض بِشر كل محاولاتها لاسترضائه خاصةً وأنه أصبح مدركًا أن كل تلك المحاولات سيعقبها طلب بالعثور على فلذة كبدها الغائب !
طرقت فضة الباب للمرة الأولى ففتحت سميحة الباب بعد لحظات بلهفة ظنًا منها أن بِشر دلف إلى المنزل أخيرًا ثم ظهرت ملامح الخيبة على وجهها فشعرت فضة بالحرج ثم قالت بعد لحظات بابتسامة ممتنة :
" لقد جئت لأشكرك سيدتي على كل ما فعلتِ معي "
" لا داعي للشكر يا ابنتي "
غمغمت بها سميحة بصوت مكتوم وعينين غائمتين بالأسى فشعرت فضة بالشفقة لأجلها ثم همهمت بنبرة ذات مغزى :
" لا سيدتي .. لا أحد يستحق الشكر سواكِ بعد استقبالك لي في بيتك حين لفظني الجميع "
صمتت ودمعت عيناها بألم بينما أكملت فضة بخفوت :
" تستحقين الشكر لأنكِ قبلتِ وجودي رغم خلافاتك مع عائلتي .. ولأنك تحملتِ نوبات جنوني ولم تسأمي أو تغضبي من صراخي في منتصف الليل "
ربتت سميحة على كتفها ثم تمتمت بصوت خافت وهي تلقي نظرة متألمة نحو باب المنزل :
" أراكِ على خير يا فضة "
ابتسمت لها فضة بود ثم ودعتها بتهذيب :
" أراكِ على خير سيدتي "
ثم تحركت بعدها بصحبة سندس لكن ما إن فتحن الباب حتى وجدن بِشر يقف أمامهن بملامح متجهمة بينما يتمتم بقلق بالغ :
" لا أستطيع الوصول إلى فداء "
" ألم تخبرك أنها خرجت من المستشفى ؟!! "
سألته سندس باستغراب من حالته فقال بنبرة مضغوطة مخبئًا أمر رسالة آل لنفسه حتى لا يصيبهم الرعب :
" الطريق لا يستغرق كل هذا الوقت "
أقرن قوله باتصال غير مستحب بآل ثم سأله دون مقدمات :
" هل فداء معك ؟!! "
أتاه الرد الجاف :
" No .. but I'll find her "
أخفى بِشر قلقه عن الواقفات ثم أولاهن ظهره وعاد إلى الحديقة وقد تيقن أن أخته قد أصابها مكروه بسبب المعتوه آل فقال من بين أسنانه بغضب عارم :
" أين أختي ؟!! .. ما الذي أصابها ؟!! "
" I told you I will find her "
تمتم بها آل باختصار شديد فهدر بِشر بسخط :
" وهل سأجلس وأنتظرك حتى تعيدها لي ؟!! .. ما الذي يحـ...... الو ، الو .. اللعنة عليك أيها القذر "
شتم بعنف حينما اغلق آل المكالمة دون سابق إنذار غير مدركًا أن آل وصلته المكالمة التي ينتظرها على أحر من الجمر على هاتفه الآخر .

_______________
ومض هاتفه بالمكالمة التي ينتظرها فوضع الهاتف على أذنه ينصت إلى محدثه بصمت مطبق وملامح وجهه تنافس الصخر في جموده
يخبره أحد رجاله أن سفيان يستعد لتسليم شحنة أسلحة في إحدى المناطق بعد أقل من ساعة فهمهم آل بحسم :
" قادم "
ركب سيارته وانعطف بها بسرعة كبيرة وعيناه لا ترى سوى الدماء
دماؤه التي سالت بيد سفيان ودماء سفيان التي سيريقها هو اليوم !
ذاهبًا بمفرده وكأنها معركة العمر التي اما سيخرج منها منتصرًا أو سيموت فوق ساحتها
ومن جديد رن هاتفه فاستقبل المكالمة قائلًا بملامح مخيفة :
" هل وجدتها ؟!! "
يجيبه محدثه بالإيجاب فتعتلي ابتسامة مرعبة ملامحه بعد أن استطاع رجاله تحديد مكان شقيقته والذي لم يبعد عن المستشفى التي تعمل بها بكثير
اتصل آل ببِشر وأخبره بمكانها بينما اكمل هو طريقه عاقدًا العزم على إنهاء أمر سفيان في الحال .
بعد وقت طويل من القيادة وصل إلى المكان المحدد لكنه لم يقترب بل ظل يراقب عن بُعد اولًا ..
عدة سيارات ومجموعة من الرجال تخفي ظلمة المكان وجوههم وعدوه يوليه ظهره ملهيًا في استلام أمواله !
دقائق بسيطة كانت كفيلة له لتفقد سلاحه ثم تركيب كاتم الصوت وما إن غادر الطرف الآخر حتى استعد آل منتظرًا ركوب سفيان لسيارته الذي لم يطول ليبدأ بعدها في شن هجومه على السيارة دون توقف مدمرًا زجاجها بأكمله لينعكس الانتصار في حدقتيه حينما رأى انتفاضات جسد سفيان خلف المقود بعد ان نالته عدة طلقات ثم حل بعدها الصمت التام وكاد آل أن يغادر لولا صوت هاتفه الذي شق الصمت من حوله فأخرجه ليجد نفسه يحدق في رقم سفيان !
التفت ينظر إلى السيارة بوجوم وشراسة فوجد السائق قد فارقته الروح بينما رنين هاتفه مستمر ..
استقبل المكالمة بحذر ليأتيه الصوت الهادئ حد السكون ، الساخر حد العته قائلاً بابتسامة وصلت إليه عبر الأثير :
" آل يا آل .. ربما كان عليك تفقد السيارة اولًا "
سقط الهاتف من بين أصابعه دون أن تفارق نظراته السيارة المحطمة ثم اقترب ببطء شديد ، بأطراف باردة مدركًا ان سفيان قد حضر له كارثة أخرى بما أنه استدرجه إلى هنا عن عمد وساقه إلى هذا الفخ !
ومع كل خطوة ينقشع الظلام وتتضح له الرؤية أكثر ..
شعر بوجود شيء خاطئ فتسارعت خطواته بشكل طفيف إلى أن وقف أمام السيارة بأنفاس مكتومة ثم مد يده ببطء محاولًا التحكم في أعصابه وفتح الباب المجاور للسائق الذي يشبه سفيان إلى حد كبير ليهوى قلبه بين قدميه وهو يحدق بعينين جاحظتين غير مستوعبًا ما أوقعه سفيان فيه للتو !

_________ 

( بعد وقت غير معلوم )

لعنة ..
لعنة التصقت به لما بقي من عمره
لعنة ستظل تطارده ، تنحر عنقه وتجتث كل ما فيه ببطء موجع
وخراب نزل على كل كيانه فتهشم غروره وضعفه على حد سواء وبقي شبح خالي الوفاض لا يقوى حتى على التحكم في رعشة جسده ..
يحمل الجسد الصغير المضرج بالدماء بين كفيه وعيناه لا ترى شيء حوله
يشعر برطوبة الدموع على وجنتيه وقلبه متوقف تمامًا داخل صدره
مطارق عنيفة تضرب ضلوعه مع كل نفس يحاول أخذه !
هل قتل طفلته ؟!!
لا ، بل قتل نفسه
كانت الرصاصة الأخيرة التي طالتها وطالته على حد سواء .. !
جسده يرتعد وروحه معلقة بين السماء والأرض بعذاب ما بعده عذاب
يرمق جثمانها بين كفيه وسط دموعه بتيه وأسنانه تصطك ببرودة تنحره ببطء موجع دون رحمة
نظر إلى السماء يستجدي ربه أن يوقظه من كابوسه البشع يغمض عينيه بعنف فتنهمر دموعه أكثر ثم يفتحها فجأة عله يستيقظ ........ لكن المحصلة صفر !
كل شيء كما هو
نفس الليل المخيف بظلامه الحالك
نفس الصمت الذي ينهش كل خلية به
ورائحة الدماء ..
رائحة الدماء لا تزال تزكم أنفه
وهي ... !
طفلته
الفرحة الوحيدة التي انتزعها من بين براثن الحياة
جسدها بين أصابعه بارد ، معلنًا أن الروح قد صعدت لبارئها بفعل يديه ..!
نظر حوله بتشوش لا يدري كيف وصل إلى باب هذا المنزل تحديدًا ولا لما .. ؟!!
لم يعد يدرك حتى ما يدور حوله ؟!
كل ما يستوعبه عقله هو برودة جسد طفلته بين كفيه
كل ما تراه عينه هو دمائها التي أسالها هو بنفسه
كل ما يشعر به هو روحه التي تنازع لمفارقة جسده ركضًا وراء روح ليندا
دوامة مرعبة هوى فيها وانتهى أمره !
فُتح باب المنزل على حين غفلة فانتفض جسده مرة أخرى وحدق بفزع ما بعده فزع في وجه بِشر الذي استغرب وجوده أول الأمر ثم انتبه بعدها لوجهه الغارق بدموعه ليهوله بعدها الجسد الصغير بين يديه فاتسعت عيناه بذهول متمتمًا بجنون :
" ما هذا ؟!! "
وكأنه للتو فقط يستوعب ..
وكأن الآن فقط مطرقة حقيقة نزلت على رأسه وكل كيانه فأدمته
نظر إلى أخيه بعينين تستجدي العون ودموعه تهطل بغزارة 
صوته مرتجف ببحة بكاء كطفل صغير سقط في اسوء كوابيسه يتمتم بخبال تام قد استولى على كافة حواسه :
" I killed my daughter "
( انا قتلت ابنتي )
لينهار بعدها جسده تمامًا أمام عينا بِشر المصعوقتين .

ولما تلاقينا .. الجزء الثالث من سلسلة قلوب تحت المجهر Where stories live. Discover now