فجري أنت ، بقلم آلاء منير

By AlaaMounir201

631K 22.3K 6.3K

ماذا يحدث عندما تتلاقى سمو المبادئ مع دنيا الرغبات ! عندما تضعك الحياة بين اختيارين أحلاهما علقم .. عندما تُخ... More

تواقيع الأبطال
المقدمة
الفجر الأول
الفجر الثاني
الفجر الثالث
الفجر الرابع
الفجر الخامس
الفجر السادس
الفجر السابع
الفجر الثامن
الفجر التاسع
الفجر العاشر
الفجر الحادي عشر
الفجر الثاني عشر
الفجر الثالث عشر
الفجر الرابع عشر
الفجر الخامس عشر
الفجر السادس عشر
عودة 💫
الفجر السابع عشر
الفجر الثامن عشر
الفجر التاسع عشر
تنويه 😍
الفجر العشرون
الفجر الواحد والعشرون
الفجر الثاني والعشرون
الفجر الثالث والعشرون
الفجر الرابع والعشرون
الفجر الخامس والعشرون
الفجر السادس والعشرون
الفجر السابع والعشرون
الفجر الثامن والعشرون
الفجر التاسع والعشرون
الفجر الثلاثون
الفجر الواحد و الثلاثون
الفجر الثاني و الثلاثون
الفجر الثالث و الثلاثون
الفجر الرابع و الثلاثون
الفجر الخامس و الثلاثون
الفجر السادس و الثلاثون
الفجر السابع و الثلاثون
الفجر الثامن و الثلاثون
الفجر التاسع و الثلاثون
الفجر الأربعون
الفجر الواحد و الأربعون
الفجر الثاني والأربعون
الفجر الثالث و الأربعون
تابع الفجر الثالث و الأربعون
الفجر الرابع و الأربعون
الفجر الخامس و الأربعون
الفجر السادس والأربعون
الفجر السابع و الأربعون
الفجر الثامن والأربعون
الفجر التاسع والأربعون
الفجر الخمسون
الفجر الواحد والخمسون
الفجر الثاني والخمسون
الفجر الثالث والخمسون
الفجر الرابع والخمسون
الفجر الخامس والخمسون
مهم 💖
وحشتوني 💖
الفصل السادس والخمسون
الفجر السابع والخمسون
الفجر الثامن والخمسون
الفجر التاسع والخمسون
الفجر الستون
الفجر الواحد والستون
الفجر الثاني والستون
الفجر الثالث والستون
الفجر الرابع والستون
الفجر الخامس والستون
الفجر السادس والستون
الفجر السابع والستون
الفجر الثامن والستون
الفجر التاسع والستون
الفجر السبعون
الفجر الواحد والسبعون
الفجر الثاني والسبعون
مهم جدا
الفجر الثالث والسبعون
الفجر الرابع والسبعون
الفجر الخامس والسبعون
الفجر السادس والسبعون
الفجر السابع والسبعون
الفجر الثامن والسبعون
الفجر التاسع والسبعون
الفجر الثمانون
الفجر الواحد والثمانون
الفجر الثاني والثمانون
الفجر الثالث والثمانون
الفجر الرابع والثمانون
الفجر الخامس والثمانون
الفجر السابع والثمانون
الفجر الثامن والثمانون
عيد ميلاد 👑🎂
موعد عودة 💖
الفجر التاسع والثمانون ( والأخير )
ختام الفجر ضي

الفجر السادس والثمانون

6.9K 249 159
By AlaaMounir201

مساكم براق يا لآلئ 💫💖
تأخرت عليكم طبعا عشان واخدين على الدلع مني يوميا 😂
بس للأسف كان غصب عني اليومين اللي فاتوا أوقات الواتباد بيكون غريب 🤦‍♀️
طبعا عارفة منتظرين الفصل على أعصابكم 😂🙈
وأنا هكون عشمانة بقا بفوت كتير وتعليقات وتفاعل كده بفصل النهاردة
هيكون شوية تقيل ببعض المشاهد
بس أتمنى إن شاء الله يعجبكم
يلا بينا مفيش وقت للتفسير 💆‍♀️

................

هناك أسطورة تناقلتها السنون تحكي أن .. ضبعًا سحر شخصًا يصور له أمانًا لا يملكه جبان

فسايره حتى مغارة مظلمة بعيدة عن أهله، مجردًا من كل دفاع

ثم .. أجهز عليه غادرًا !

 

( أنا .. مُغتصَبة )

تأكيد رغم الشكوك التي سبقته كان قاتلًا ..

فسلاح الحقيقة غير رحيم بحدته

ينحر روح أنثى نُهش جسدها ، ويطعن معها قلب رجل أحب

فماذا أقسى على عفة أنثى من أن تُنتهك ذليلة !

وماذا أثقل على عنفوان رجل من أن يُكبل عاجزًا !

 

عم سكون طافح بذبذبات عجيج مُعتقل بداخلها عقب الاعتراف الذي أوقد صدريهما معًا

كان هو يرمقها بوجه متشنج ألمًا أما هي قبالته ترتجف زائغة معذَبة

عقد عمر حاجبيه ببطء وردد بنبرة مبحوحة بطيئة " مغت..صَبة "

أغمضت عينيها مع الكلمة في هوان وأحست لوهلة بالحقد تجاهه لما دفعها إليه من بوح دومًا راوغته

لقد أجبرها عمر على شيء حتى والداها لم يفلحا فيه مهما حاصراها

 

ابتلع ريقه بصعوبة متمعنًا فيها باضطراب يفطن لعتب ملامحها لما تسبب به من تشقق جرح طال حسر صديده إلا أنه أضاع سبيل المواساة فلم ينطق

فرقت جفنيها المبللين ترمقه بأعين محمرة محقونة ، وأقرت بملامح تترنح بين تشنج ورجة " نعم .. نعم، هل هذا ما أردت معرفته يا عمر، ها قد منحتك ما رغبت، فهل أنت مرتاح الآن بإقراري الذليل "

 

لم يرد عليها وبدا آسفًا ذاهلًا وشحوب يتسع فوق صفحته حتى تحولت لأخرى رمادية بالية .. مما جعل قلبها يقرع بجنون وهلع متسائلة للحظة إن كان صُدم جدا حد النفور منها !

أجفلت مع الخاطرة حتى جسدها ارتج بشكل ملحوظ لعينيه مما جعله يرمش مطالعًا اختلاجاتها بتيه وينادي بشفقة بزغت من بين احتراق روحه الملتاعة " مياسة "

سكت مجددًا والأحرف تخونه بالفرار

فكل الكلام الآن في حضرة سطوع الحقيقة .. باهت !

 

تراجعت خطوة عنه تعاين تعابيره المشفقة للحظات حتى أغمضت عينيها تسيل عبرتان تزامنًا مع ضحكة جوفاء مريرة همست بعدها " لا يا عمر .. وفر شفقتك لوقت لاحق فلم تسمع شيئا بعد "

رفعت عينيها له تباغت بصراخ محترق مشيرة لنفسها المكلومة " فالكلمة سطحية باردة أمام عمق نارها الحقيقية يا عمر .. فأنا أنثى منحورة مهانة ذليلة .. فهل هذا ما أردت تأكيده .. ها أنا أخبرك .. أنثاك كُسر أنف كبريائها قبلك وقد استباحها حقير تلذذ بسلب شرفها بأبشع الطرق "

أغلق عمر عينيه يفغر شفتيه المتيبستين لاهثًا عبرهما تتلاشى عنه كل دماء وجهه لآخر قطرة

كاد أن يترنح فاستند على الطاولة من خلفه لتدعمه

شهقت مياسة عدة مرات يُذبح صدرها بحدة تنفسها حتى شعرت بألم رغم وطأته إلا أنه كان تافهًا مقارنة بوجع قديم ضُغط بقوة فانفجر كل قيحه المتعفن للخارج ولم تعد تملك قدرة صده

استدارت عنه تحتضن جسدها المرتعش منكمشة وكأنها تخفي نفسها عن عينيه المتصلبتين وهذت " ولكن من أين أبدأ ! .. وماذا أحكي .. فلا شيء سيوصف ما عانيته .. لن يكفي الشرح والكلام مهما استفضت بهما "

كان هو من ورائها صامتًا ملتزمًا بدور الإنصات رغم عسره عليه كرجل حُر يُهزم بسماعه لتفاصيل انتهاك أنثاه على يد خسيس عديم رجولة ونخوة

إلا أنه سيكون شجاعًا كفاية نيابة عنهما معًا كما وعدها دائمًا

وسينصت بقلب مفتوح مهما تألم ، ومهما ثقلت أنفاسه واختنق لن يجزع نافرًا

شهقت مياسة تنشج فتدفقت دموعها بجود ساخن كأنها تواسي روحها المكممة لسنين خرس

انزلقت على شفتيها فلعقت ملوحتها لترتعد وذاكرتها تنشط بتفجر مذاق الدماء الذي استعادته يجري لاسعًا في فمها

عندما كانت تحس أن عظام وجهها تُسحق من شدة الضرب وحنجرتها تتفتت من عنف الصراخ الغير مجدي

فقد كانت تتوسل رحمة من قلب جبان تجرد من الإنسانية

فجرّدها من كرامتها وقلبها وصولا لملابسها وجسدها ..

 

نكست رأسها بعد لحظات ممتدة وعم السكون إلا من شهقات تعجز عن تكبيلها حتى صوبت وجهها إليه شاكية بتحطم ودموع شابة مقهورة " منحته ثقتي يا عمر، فجعلني أخسرها من بعده في كل رجل "

عادت تنحني رأسها بذبول وحركت كفها الغير ثابت لرقبتها تقص بشرود حزين ومُحزِن " كنت مختلفة عما رأيته أنت مني، كنت أكثر سذاجة وبراءة كزهرة في طور تفتحها الأول، كنت صغيرة أفتقد لصاحب يؤنسني غير والديّ .. صدّقته، فلماذا قد يخدعني شخص لم أؤذيه .. صح ؟ "

تلفظت بالتساؤل الأخير بسخرية لاذعة من نفسها تبعتها بضحكة مستخفة مستاءة بينما تهز رأسها يمينًا ويسارًا مكملة بذات النبرة " خاصة وأني كنت مميزة جدا عنده لدرجة أنه عرفني على والده والذي كان سعيدا جدا أن ابنه أخيرا تعرف على فتاة راقية تليق به !! "

وجهت نظراتها لعمر الساكن المطرق قائلة بتعجل وكأنها تبرر موقفها المشين حين ذاك " لذا كان من الطبيعي أن أتعرف على أمه أيضا، أليس كذلك ؟ "

لم يرد ولا زال محسورًا بدور المنصت دون أية مقاطعة ، وقد بدت هي غير مترقبة لأي جواب منه يخفف عنها وقع الذنب

فلا شيء سيمحي تهاونها في حق نفسها مهما قيل

شهقت ببكاء مستمر وهذرت باختناق " فلماذا قد يؤذي رجل فتاة أحبته ؟ .. حتى أبي الذي أخطأ في حق عالية الغالية التي أحبها أكثر من نفسه كما وصف دائما ، استحق فرصة ثانية واستطاع تعويضها ولم تفقد أمي إيمانها بحبه، فلماذا سأفقد أنا إيماني بالحب ! .. لهذه الدرجة كنت أعاني تخبطًا لم أفسره "

 

أغمضت عينيها تميل للأمام قليلا فتساند وقفتها المهتزة بتشبثها بظهر كرسي وقد شعرت كأن أحشائها تتلوى كمدًا وندمًا

كم كانت غبية !

كم كانت ضعيفة رقيقة كفراشة يسهل قتلها بطيش شرر حارق

لم تحافظ على نفسها وهي معترفة بذلك .. تهاونت جدا أثناء رحلة بحثها عن رفيق صادق فتعثرت منذ بداية الخطوات وكانت السقطة بكسر لا جبر بعده
 


سكتت للحظات طويلة تضيع في عالم خاص مظلم، مسترجعة كل مشاعر الخوف وجلد الذات والذنب الثقيل حتى كادت أنفاسها أن تُزهق، فتخلى عمر عن صمته الثقيل مُقرًا بإدراك صعب " استدرجك "

نظرت له دون رد مباشر إلى أن شرحت بأسى وانهزام " لم أجد أمه .. منذ أولى اللحظات أدركت أن هناك خطأ في هذا البيت الساكن، حتى علمت أنه كذب فحاولت الخروج في الحال "

عقد عمر حاجبيه يعاونها بفهم ملتاع " و.. منعك "

هزت رأسها تخبره بصراحة رغم مرارتها " حاول تليين رأسي بينما يقرأ تحفزي الرافض ، أخبرني أننا ناضجان كفاية كي نحب بعضينا بطريقة مكتملة .. إلا أني استمريت برفضي وصرخت منددة فُجر تفكيره المنحط تجاهي "

سكت عمر مطرقًا لا يجد إقدامًا على مزيد من الاستجواب لتتابع هي باهتزاز " عندها .. اقترب مني .. تفوح منه رائحة الخمر ومن نظرتي المدققة به علمت أنه ليس في وعيه الكامل "

سكتت هنيهة قبل أن تضحك فجأة كمخبولة " صدق أو لا تصدق ، لم أشك فيه متفحصة إلا وأنا في عقر داره محاصرة .. كنت ساذجة لدرجة مثيرة للغثيان "

ارتجفت شفتاها وصمتت مستذكرة أسود أحداث حياتها حتى همست بعار " انتقل لطريقة أخرى يجيدها وقد ظن أن تفلح معي ، الاغواء .. إلا أني لم أحس إلا بالنفور عندما حاول .. حاول ت..قبيلي "

أغمض عمر عينيه يضغط أسنانه بقوة مستنفرًا متصلبًا لكنه لم يقاطعها وهي مستغرقة في شرودها مضيفة بتقطع بكائها " ابتعدت عنه صارخة ولم .. أشعر بنفسي .. إلا وأنا .. أصفعه .. وعندها .. عندها .. "

خرست بتلعثم كأن أحبال الرهبة قيدت لسانها ، ليفرج عمر عينيه يرمقها مرتقبًا يعلم أن السوء لم يحن بعد فيراها تغفر شفتيها تمر بذات الصدمة " عندها كان يتحول لآخر .. وكأن الصفعة ما هي إلا الإشارة المنتظرة لانفتاح بوابات الجحيم .. أقسم بأني ظننت لوهلة من نظرة عينيه بأنه ليس بشريًا .. بل كيانا آخر مظلمًا وظالمًا "

تلكأت أنفاسها ورفعت يدها إلى وجنتها تحس بها تلتهب وأكملت " صفعني .. صفعة من شدتها ضربت رأسي بالحائط فنزفت .. وكانت تلك أول مرة تمتد عليّ يد مخلوق "

عادت دموعها تتثاقل وتتسابق نحو خديها تردف شاحبة مهترئة " انتفضت عندها مبهوتة مصدومة لكني اتبعت غريزتي وركضت للباب بغية الهرب، لأصدم أكثر وأنا أكتشفه مغلقًا بإحكام بينما أستمع لصوت ضحكاته العالية فأدرك مرعوبة أني دخلت بمحض إرادتي الحرة لفخه السهل "

سكنت تشرد في الفراغ ويدها لا زالت على وجنتها تتلمسها وقلبها يقرع بقوة متذكرة الذل الذي تلقته على يديه بأقسى أسلوب

عندما اقترب منها يتسلى بتعابير الخوف فوق ملامحها التي لم يسكنها يومًا إلا الاعتداد والجأش

 

" لن تخرجي من هنا يا مياسة إلا وأنتِ ملكي ، لذا وفري جهودك فلن يحرركِ مني أحد "

 

تذكرت توعده المستمتع بتزعزعها أمامه فطأطأت رأسها تبكي بعنف كان ينفض جسدها نفضًا أمام أعين عمر المتحجرة فيتمنى لو يوقفها عن الاسترسال ورحمهما معًا، لكن هذا لم يكن في صالحها لذا تماسك أمام أوجاعها المتفتحة وجراح رجولته

 

وأخذت هي تهذي دون توقف " لقد أخبرني أنه لا مفر .. إلا أني لم أرضخ .. كنت أقاوم وأصرخ وأفتش عن الهرب رغم علمي أنها مصيدة متقنة لا فرار من قضبانها طالما لم يعرف بي أحد، صفعني .. صفعني يا عمر .. لم يتوقف عن صفعي حتى شعرت أن بشرتي تشوهت .. وكلما قاومت كلما تلذذ وزاد من ضربه .. ومع كل ضربة صرخة ، ومع كل تأوه ضحكة .. كان شيطانًا .. مجنونًا ومريضًا "

شهقت وبكت أكثر ترفع وجهها البالي لعمر المتشنج الشاحب متابعة بإذلال " لم يكن اغتصاب جسد بالنسبة له ، كان يغتصب فيّ عزتي وكبريائي، كان يعجبه توسلي وصراخي، ومقاومتي المستميتة تغضبه فيتمادى بكسري، لم يترك في جسدي مكانًا إلا وضربه بغلظة وسادية تاركًا أثر ملون، وكان متمهلا جدا كأن العالم كله يتوقف طوعًا لرغباته "

دمعت عينا عمر فأوصد جفنيه شاعرًا بآهة مكتومة تتضخم بحلقه ومياسة تستفيض متحررة من كتم طال أوانه " هو لم يغتصبني مباشرة بل .. كان مستمرا بضربي يرغب في القضاء على كل مقاومتي المزعجة وقد كنت استفزه بها "

رفعت كفها لرأسها النابض بصداع أصابه من وطأة البكاء واستطردت " لقد كنت أتألم بشدة يا عمر .. كنت أتوسل القدر أن يرسل لي أبي أو أي شخص يظهر من العدم .. فقط كنت أريد معينًا يخلصني من كمية الألم التي أحياها .. كنت فقط في الثامنة عشر من عمري أو أقل ، مجرد خائفة تبكي بشدة وكان هذا للأسف يروقه "

 

" يا إلهي " تأوه عمر يختنق حتى أصدر شهقة جافة يفقد ثبات وقفته فعاد يستند على الطاولة بكلتا كفيه محني الكتفين بثقل عظيم صرع صلابته بالأرض، ولا زال يستمع لها وهي تذهله بدرجات شاهقة من الألم " ما عشته كان بشعًا .. بشعًا لدرجة أن الوجع الحقيقي .. لم يأتِ بعد "

فغر عمر شفتيه يرفع وجهه ناحيتها بحدة فرأت عروق جبهته وقد انتفخت للغاية لتعلم أنه يمر بضغط عصيب ويكتمه، شهقت تؤكد رغم ذلك " لم يأتِ بعد يا عمر "

" آآآآه " تأوهت بوهن كان يسيطر على كل صمودها بمرور الوقت طويلا بطيئا فيخفق جسدها بالأوجاع بينما هو يعاود الهجوم عليها بغير اكتفاء بعد أخذ بضع دقائق راحة أهدرها بحرق السجائر ..

انحنى يجذبها من خصلاتها الشقراء القصيرة وبدأ بسحلها على الأرض متجاهلا ترجيها " كفى أرجوووووووك "

لم يكتفِ وهو يسب بشناعة ويتذمر " شعرك القصير السخيف هذا يحد من متعتي "

حاولت المقاومة ترفس وتتعلق بالأرض بلا جدوى وشيء لم يفلح في تحريرها من قسوة قبضته حتى شكت أن يخلع رأسها

 

أدخلها إحدى الغرف يدفعها بقدمه في خاصرتها فزعقت ألمًا لكنها تحاملت تزحف بعيدا عنه وتفتش بعينيها المتورمتين عن مخرج، لتجد أنها محاصرة في غرفة ضيقة حارة وخانقة برطوبتها، بها عدد كبير من زجاجات الخمر والتي انحنى يلهث ملتقطًا واحدة منهم ليتجرع منها لنصفها مباشرة

نزل بعينيه لها فيرى دموعها الغزيرة الممزوجة بدماء نزفت من أنفها الذي عزم على كسره شموخه

ابتسم قليلا يدنو منها فانكمشت للخلف برعب جعل ابتسامته السعيدة تتسع، نزل على عقبيه أمامها يدعي العتاب " إن كنتِ طاوعتني لكنتِ رحمتِ نفسك مما تعانين الآن "

زفر بمسرحية مكملا " أنتِ لا تفهمينني .. مجرد مراهقة سمينة وغبية "

مد يده يلامس ذقنها بنعومة فحاولت التملص رفضًا ليضغط عليه بغلظة تأوهت منها بألم " أول وأهم درس كان عليكِ معرفته، أننا نحن الرجال، عندما تلح رغباتنا .. فلا يوقفنا عنها شيء .. هذه فطرة في كل المخلوقات خاصة نحن ، مثلنا مثل الحيوانات ، لذا أنتِ من دفعني لما فعلت معك يا مياسة ، فأنا لم أقدم لكِ يومًا إلا الحب وكان عليكِ تقديري في المقابل ومراعاتي .. أليس كذلك يا قلبي ؟ "

كانت تئن ودموعها تنزلق على كفه بسخاء فتجاهد لتبتعد عنه مشمئزة لكنه بدأ يربت على وجنتها يراضيها بثعبانية " اهدئي ، توقفي عن البكاء وهيا .. خذي .. سيريحك بعضها "

مد زجاجة الخمر لفمها عارضًا عليها بعض المتعة فأبعدت وجهها معارضة بعناد لا يلين

ضايقته ليصر فقاومت بحدة بما تبقى لها من قوة حتى سقطت الزجاجة منه أرضًا متهشمة

أغلق عينيه واتسعت فتحتي أنفه يتنفس بعنف ثيران وقد عاد له غضبه مكتسحًا ردود أفعاله فلم يشعر بنفسه إلا وهو يلطمها بظاهر يده لترتمي على الأرض متفجرة الدماء في فمها حتى اختنقت بها

ظلت تشهق وتسعل عدة مرات كأنها تحتضر خائرة لكنه لم يفلتها يسحبها من خصلاتها مجددا لتصرخ حتى جُرح صوتها مع رجه رأسها بقسوة " لماذا تجبرينني على العنف .. يا ساقطة من تحسبين نفسك لتقولي لا لي أناااااا ؟ .. ألا تتعبين .. ألا تستسلمين "

ثم عاجلها بصفعة أشد جعلت صفيرا صاخبًا يجتاح مسامعها فتأوهت بخور لا تجد حتى القدرة على البكاء فتوشك على أن تغيب عن الوعي لولا حرب ضروس تخوضها مع عقلها المتوقف المصدوم

 

أحست بكفيه يمتدان لجسدها اللين بتحسس فج شهواني نافذ الصبر، لتشهق مستميتة في حربها مع بقايا وعيها تدفع كفيه عنها

أخذ يضحك بشدة من محاولاتها الضعيفة التي لا تكل، حتى لهث كمسعور لا يتوقف عن استباحة جسدها بخشونة لمساته وقد استثار

ليزداد الرعب لأقصى مراحله الشاهقة وهي تسمعه يناوشها بشيطنة خبيثة " انظري لهذه الحركة السريعة "

قالها وجذب طرفي قميصها بغل فتمزق إلى نصفين لتصرخ شاعرة بالمهانة محاولة دفع ثقله وحماية لحمها العاري عن عينيه

لكنه لم يحررها فيضربها بقوة تكبح مقاومتها ويخلع عنها ملابسها حتى تعرت علويًا بالكامل

أحست بكفه فوق بشرتها تلوثها ، فأخذت تنتفض وتبكي مولولة حتى كادت أحبال أصواتها أن تتمزق لكنها لم تكف أو تهمد

كانت بين خيارين أحدهما الموت

وأحيانا يكون الموت هو الخيار الأكثر رأفة بك من الآخر

لذا استماتت في الدفاع بحثًا عن موت يخلصها ومهما ضربها لا تكف وبهلع تحس ببنطالها يُمزق فظلت تنادي على أبيها وتستغيث " أبيييي .. أبييييييييي .. انجدوني .. انجدونيييييييييييي "

ظل يضحك من عمق قلبه وكفه على فخذها يضغطه ويردد بجنون مريض " تملكين بشرة ناعمة جدا أيتها السمينة .. طبقات لحمك تغوص فيها أصابعي لدرجة تثير جنون شهوتي .. سنستمتع كثيرا يا مياسة، على الأقل أنا سأستمتع أكثر حتى مما تصورت "

كان صوته يصلها بصعوبة من بين صرخاتها التي لا تكف وهي مغمضة عينيها لا ترغب برؤية انعكاس اهانتها في مقلتيه ورعبها يكاد يفجر قلبها المتسارع

مال نحو رقبتها يحرقها بقبلات جنونية مستلذة بينما تكافح للمراوغة والتملص تكاد تتقيأ قرفًا منه وهو يهمس مغيبًا " ما أجملك، أقسم بأني راهنت أنكِ فرس عربي أصيل ونادر "

 

شهقت وهي تبعد وجهه وتسد قبلاته بكفيها برفض مقهور وأثناء حربها في دفعه ضربت بكوعها أنفه فتأوه يرتد للخلف نازفًا موقفًا سيول قبلات أغرقتها في وحل من القذارة سالبة أنفاسها

 

مد يده يلمس الدماء فتتسع عيناه وينهج وغضبه يضطرم مسيطرًا على إثارته ليزجرها من بين أسنانه " يا بنت الكلب .. اهمدي .. كفى .. أيتها البشعة السمينة كفى "

لم تستمع له رغم الآلام الفظيعة التي تلتهم كل شبر منها

فمسح أنفه السائل ومال يلتقط بقايا زجاجة متكسرة متوعدا مُعمى بحقده وغله تجاهها " لا تهدئين ؟ .. أنا سأجعلك تهمدين نهائيا إذن "

هجم عليها يكبلها مهيمنًا عليها ففتحت عينيها على أقصى اتساع مرتعب تتوسله لتراه وهو يكتف ساقيها بركبتيه ثم وبطرف الزجاجة الجارح شق باطن فخذها في جرح سريع طولي أغرقها في بركة دماء منهمرة وجعلها تنتفض متشنجة صارخة عاليًا " أبيييييييييييي .. انجدني أرجوووووووووك .. آآآآآآآه "

بلغت أقصى حدود التحمل ما أن عانقت نوبة الهلع ذروتها، فكان الوقت المناسب لتحرير صرخة ألم إجهاض عسير لذكريات مشوهة

 أحست معها بقلبها يُسحق فبرزت عيناها وانتفخت عروقها بينما أنفاسها تثاقلت حد الانعدام، شرعت تشهق مرة وأخرى للتنفس ولكن بلا جدوى، عندها تخلت عنها بقايا صلابتها تفقد توازنها مع فقدانها الاتصال بواقعها الملموس وقد وقعت أسيرة ماضٍ مزلزل

فترنحت وبلحظة هوت أرضًا على ركبتيها متقوسة على نفسها في انكماش ذعر مشين !

 

وثب عمر عقب لحظتي صدمة اجتازها فورًا ليهب نحوها ملجمًا طوفان هادر من المشاعر العنيفة بداخله وقد منحها أولوية الدعم

جلس على ركبتيه أمامها يرمق حالتها بقلق فائض وقد تشنجت أطرافها يكتنفها الخدر مع تعرق مفرط وآلام حادة متفرقة

أخذت تسعل بقوة وتشهق ومدت يدها لقلبها تهتف بهستيريا ورعب " قلبي .. قلبي سيتوقف .. سأموت .. قلبي ينفجر .. قلبي ينفجر وجعًا .. أوقفوا الألم .. قلبي ينفجر "

اتسعت عينا عمر وبدأ يناديها بجزع " مياسة .. مياسة .. انظري لي "

لم تستجب مطلقًا تصدر صرخات متقطعة عنيفة وترتجف بشدة ولا زالت مسجونة في تلك الغرفة الرطبة التي تفوح منها رائحة الخمور والمجون والألم

 

" مياسة .. مياسة .. أرجوكِ " أخذ عمر يحثها بلهفة دون لمسها وقد خاف بأي لمسة غير مدروسة منه أن يزيد حالتها تدهورًا

دمعت عيناه وهو يكرر يكاد أن ينفطر عليها " مياسة أتوسل إليك انظري لي .. أرجوكِ أرجوكِ "

" اصرخي يا مياسة ، أعشق صوت صراخك "

انطلقت منها صرخة مكتومة كأن حنجرتها قد أُحيطت بأصابع قاسية فاستندت على الأرض بكفها تحسها تتحطم من تحتها مهددة بأن تبتلعها بجوف نيرانها

دنا عمر أكثر ولا زال يتحاشى لمستها مناديا بتوسل " مياسة .. مياسة .. حبيبتي .. انظري لي أرجوكِ "

لم ترد ولا زالت منكمشة متشنجة وقلبها لا يهدأ من تخبطه الجنوني لكنه ثابر " حبيبتي .. افتحي عينيكِ مياسة .. أنا معك .. أنا هنا .. لا بأس .. أنتِ معي الآن .. افتحي عينيكِ وانظري لي .. تنفسي على مهلك .. اهدئي .. مياسة .. مياسة "

لهثت بشدة وملامحها المتعرقة تضطرب فزحف بكفه على الأرض نحو كفها ببطء حريص يمس أصابعها في خفة ناعمة " مياسة .. انظري لعينيّ يا مياسة .. أنا هنا معك "

تقلقلت أجفانها ولا زالت ارتعاشاتها مستمرة حتى فرقتهما تجفل صارخة بلمسة أنامله لطرف أصابعها المتقلصة فهتف بسرعة " حبيبتي .. انظري لي .. لا بأس .. تنفسي .. لا بأس .. إنه أنا عمر .. عمر "

شهقت عدة مرات متتالية تتيه وترتعد والهلع مستمر إلا أنها رفعت وجهها الذي فقد كل رونقه وألقه ولم يبق فيه إلا الدمع وخطوط واعرة حفرتها سكاكين الذكريات

تلقف أحداقها على الفور وأرشدها بعينين يكادا أن ينزفا الدمع وجعًا لأجلها " نعم .. انظري لي .. أنا عمر .. أنتِ آمنة معي .. مضى .. انتهى .. يكفي .. اهدئي .. كل شيء بخير .. تنفسي .. تنفسي بعمق وازفري "

نفذت ما يمليه عليها تسحب شهيقًا قويًا وتزفره بارتعاش بينما الدقائق تنقضي ببطء ثقيل وذعرها يخمد بتقاعس أهلك أعصابهما سويًا، لكنه لم يفقد تواصل عينيه مع عينيها يربطها بالواقع بعزم عبر ثبات نظراته ملاحظا ارتجافها فزحف لها قليلا على ركبتيه يهمس بلين " نعم حبيبتي .. انتهى .. أنتِ معي .. أحسنتِ .. تنفسي .. برفق .. برفق .. على مهلك "

ارتعشت شفتيها وقطعت ترابط نظراتهما الطويل تهبط نحو كفه القريب منها ليقوم عندئذ بتغطية يدها بتمهل لا يجفلها واستمر في مهادنتها " لا تخافي يا مياسة ، اهدئي .. تنفسي ببطء "

سلمت له كفها المثلج فمد يده طامعًا بكفها الآخر المفرود فوق صدرها المهتز لتمنحه له كذلك باستسلام منهك خائف

أطبق بيديه عليهما مدلكًا بحرارة بعثت فيهما بعض الدفء وهو يطالع عمق عينيها الباكيتين مختنقًا معها

 

مرت الدقائق أكثر وأطول قرأ هدوئها خلالهم يزداد ولا زالا جالسين متقابلين حتى طلب فجأة بلطف " تعالي لحضني .. لا تجفلي .. بشرفي لن يمسك أدنى سوء وأنا هنا .. تعالي "

رمشت عدة مرات تطالعه بتشنج ووجل كان شفافًا جدا في عينيها مما زاده ألمًا، إلا أنه مال لها بعناية يجذبها لصدره ولف ذراعيه حول جذعها المتصلب مغمغما بتحشرج بجانب أذنها " شششش كل شيء انتهى الآن .. لا بأس .. استرخي .. أنا هنا .. زوجك معك وأنتِ بخير "

شعرت بكفه يربت على خصلاتها الحرة مع كل كلمة ينطقها مهدهدا والآخر أخذ يمسد ظهرها صعودًا وهبوطًا يبث فيها السكينة وقد بدأ في قراءة سور قصيرة من القرآن حتى أغمضت عينيها على صوته عقب لحظات تعدل رأسها لتدفن أنفها في رقبته متنفسة رائحته القوية عدة مرات والتي أعادت ربطها بالواقع أكثر .. إلى أن مدت يديها تتشبث به بإدراك واثق جعله يزفر بقوة مشددًا من احتضانها وقد عرف أنه استعادها كاملة الآن ليهمس بعمق وارتياع " أنا أحبك .. أحبك جدا "

شهقت تنخرط في نشيج حزين داخل حضنه الرحب فأكد بصدق طمأنها " أحبك بشدة يا مياسة ، وآسف ، آسف أني لم أكن موجودًا "

ظلت تبكي دون كلمة حتى شعرت به يتحرك قليلا قبل أن يبدأ بحملها برفق بين ذراعيه " الأرض قاسية .. تعالي حبيبتي "

لفت ذراعيها حول رقبته تاركة نفسها كليا لاقتياده وقد استهلكت كل قواها

جلس على الأريكة بشكل جانبي يضعها في حضنه دون افلات مستندا على المسند ثم أراح رأسها فوق موضع قلبه الهادر بصخب غضبه المكبوت

استكانت لما يفعله تستمع له يردد الآيات القرآنية بهدوء حتى تنهدت تذرف دموعًا صامتة شاعرة به يقبل جبينها مرة بعد أخرى ويربت عليها ممتصًا كل اضطرابها بتهدئة لينة رقيقة رغم أن لهاثه قوي ودرجة حرارته العالية تشع منه بشكل مخيف وملحوظ

مر وقت كان قد ظنها غفت من شدة السكون الذي لفهما على الإضاءة الخافتة في الشقة

حتى غلبت توقعه عندما همست فجأة بحس مسجون " أقسم أني .. قاومته "

تقلصت عضلاته أسفل رأسها المرتاح فأكملت بتهدج وإرهاق " أقسم بالله أني قاومته رغم كل الألم والصراخ والنزيف "

أغمض عينيه وقد شد بكفيه فوقها يضمها أكثر فأطلقت شهقة خافتة مأسورة بصدره وتابعت بدفاع " كنت أتمسك بالوعي رغم خيوطه البالية، كنت أتحدى عذابًا أشبه بجحيم لم أعش مثله يومًا، إلا أني قاومت وحاربت لدرجة لم تزيدني إلا أوجاعًا "

صمتت تتعرقل الكلمات بغصتها فشدت نفسًا لرئتيها تسيل مزيد من العبرات التي تُسطر من الحزن عبارات ..

وهمست بتقطع " حتى كنت أنفصل عن واقعي رغمًا عني وقد نزفت كثيرا وكان مخمورا لم يلحظ حتى أني قد أموت أسفله، كان يرتمي عليّ بجسده الثقيل يمنحني شعورًا لا يوصف بالقذارة، أذكر بأني آخر ما تمنيته حينها أن أموت محترقة كي لا أحمل منه أي أثر تلوث ي.. "

" كفى يا مياسة " قاطعها وهو يجاهد في تمسكه بأعصابه المثارة كما لم يفعل مع نفسه من قبل، إلا أنها بدت غير منصتة له فهذرت من بين بكائها الناعم " قاومت حتى تخدرت أطرافي، لكني كنت ضعيفة وكان ثقيلا جدًا على جسدي، ثقيلا وعاريًا و.. "

" كفى " صرخ بعنف أجفلها فشهقت يرتد رأسها في رهبة للخلف

تنفس عمر متخبطًا يحرك رأسه بلا معنى ململما شتاته وقال بارتعاش عصبي واضح " كفى .. كفى .. يكفي لهنا .. لا أريد سماع المزيد بعد "

كثرت دموعها وهي ترمق خيط الدم الذي سال من إحدى فتحتي أنفه فهمس مترجيًا بألم رجولي صلد " يكفي .. رحمةً بكِ وبي يكفي "

أغمضت جفنيها فانسكبت دمعتيها وارتعشت شفتيها بوهن هامسة بتلعثم وذنب " آ..سفة "

هز رأسه بغير هدف ولم يجد ردًا فنظرت له قائلة ببحة " لا أسرد هذا لإيلامك .. أنا فقط .. "

قاطعها وهو يبعد وجهه عنها ماسحًا الدم النازف بظاهر يده بحدة يردد متخشبًا " نعم .. نعم .. يكفي .. لقد فهمت "

مالت عيناها المتورمتان بأسى وهمست شاردة " هل حقا فهمت ؟ .. فأنا أحيانا لا أفهم "

عقد حاجبيه يعاود مطالعتها ولا زالت جالسة بحضنه ضعيفة منزوية لترفع مقلتيها له مكملة بإصرار رغم المعاناة النابضة " دومًا منعت نفسي من البحث والفهم، خشية تأكيد قاسٍ يدمرني "

هز رأسه بعدم فهم واضطراب لتنكس رأسها تسرد مجددًا بذات نبرتها " كنت أقاومه للنهاية حتى بدأت قواي تخور رغمًا عني أمام ثقل وزنه وقد انكب عليّ عازمًا على قهري للنهاية بعفتي .. "

" مياسة " نطق عمر من بين أسنانه وعضلاته تتحجر متقبضًا يرجوها أن تعفيه من إتمام مهمة الاستماع العسيرة، إلا أنها لم تستجب مكملة بدموع لا تتوقف " كان يسحق جسدي واختنقت منه كل أنفاسي، حتى .. حتى .. رُفع وزنه فجأة عني، لم أعرف تمامًا ما إن كنت توهمت موتي وتحرري حينذاك من قيوده، ولا أذكر ما حصل لحد هذه اللحظة، فقد كنت شبه غائبة عن الوعي أتخبط في مقاومة طير ذُبح وانتهى أمره، وصراخي كان عاليا جدا فلم أسمع غيره، لكن .. آخر ما تذكرته هو ضربة، ضربة قوية على رأسي، كانت القشة التي جعلتني أغيب كليا عن الوعي مستسلمة لتخطيط القدر رغمًا عني "

أنهت سردها الطويل وصمتت للحظات سارحة في ظلمة خاصة إلى أن رفعت وجهها لعمر الذي توترت ملامحه وهمست " حتى استيقظت في صباح متأخر لليوم التالي، فوق سرير بغرفة غريبة، أرتدي ملابس رجالية جهلت هوية صاحبها عندئذٍ "

قطب عمر ببطء يفطن دون شرح للهوية المجهولة لتومئ مياسة مؤكدة بحسها المختنق " نعم، كان هو .. مليك "

 

...................................

 

في ليلة صيفية حارة

ومنذ وقت غروب الشمس الوهاجة

كان قد انسحب معتزلًا ضجيج المدينة ، يصحب نفسه حيث البعد والوحدة

وعلى أطراف المدينة ، في طريق نائي خالي من الصخب

لا يتخلله إلا هدوء الطبيعة، بين الأراضي الزراعية الممتدة حول منه والسماء الصافية من فوقه وقد انسدل الليل مرصعًا بنجوم ساطعة تتلألأ ببريق أخاذ

 

كان قد ركن سيارته الصغيرة عشوائيا وسط الطريق الزراعي

مستمتعا بدجنة الليل وحتى أضواء السيارة أغلقها بانعزال تام

يمدد فقط فوق سقف السيارة يغني تارة ويصمت تارة ولا يكف عن التأمل والتمتع بعالمه المنفرد

كم هو مريح للأعصاب الابتعاد عن جنون البشر !

 

رن هاتفه يقطع عليه خلوته فأغمض عينيه يسب وقد انقطعت حالة الانسجام التي تلفه مما جعله يتأفف مستاءً من ملاحقات البشر المتعنتة له

 

" أين أنت "

كان سؤالًا غاضبًا بادر به صاحب المكالمة يهاجم بمجرد انفتاح الخط رغم هدوء نبرته

كبت زفرته يدور بعينيه في الفراغ الساكن ورد ببساطة متجاهلا ذبذبات الحنق الواضحة " في الطريق لخارج المدينة "

" خارج المدينة " كرر على الطرف الآخر باستهجان مغتاظ وأردف " وماذا تفعل خارج المدينة ؟ ، والليلة بالذات يا مليك ! "

مط مليك شفتيه بلا مبالاة وجلس متربعا فوق سيارته يجيب باستفزاز ولهجة عربية ممطوطة " فُسحة "

" مليك " هتف ساخطًا على الناحية الأخرى وقد نفذ صبره فتأفف مليك يرد ببرود " ماذا هناك يا نوح ؟ ، ما مشكلتك ؟ .. اذهب أينما رغبت على راحتي، هل أنا طفل وأنت وصيه ؟ "

قرعه نوح من بين أسنانه " بل مجرد مراهق مستفز "

كاد مليك أن ينهي المكالمة بلا اهتمام ناهيًا الحوار إلى أن أوقفه صوت جراي الذي تدخل بلين " اعطني الهاتف يا نوح بعد إذنك "

بدا نوح ساخطًا رافضًا لوهلة حتى استسلم يترك الهاتف ليصدر صوت جراي بشوشًا " مليك، أين أنت ؟ "

بملل رد مليك " لن نخلص في هذه الليلة الخانقة، قلت في الخارج "

" أين بالضبط  ؟ " سأل جراي باهتمام فرد مليك هادئًا " لا أعرف تماما، أنا فقط أقضي بضع ساعات في الخارج، تغيير جو "

زفر جراي يهز رأسه مشفقًا " ولماذا الآن طيب ؟ ، كنت تنتظر بعد التجمع العائلي الليلة وذهبنا معا "

صمت مليك للحظات فاترة كانت كافية كجواب صادق لجراي الذي لم يعقب إلى أن رد مليك بمراوغة ساخرة " عادي، ضربت في رأسي فجأة أن أفعلها الآن، قدري يناديني "

أومأ جراي مجاريًا " والله أحسنت، أصلا التجمع سخيف الليلة، أين أنت الآن وأنا سأراوغ معهم وآتيك "

عبس مليك برفض متهكم " لا داعي، لا ينقصني إلا اتهامهم لي أني أشجعك على التمرد "

ضحك جراي بمرح " وكأنك تهتم باتهامهم لك "

ابتسم مليك قليلا ولم يرد لكنه قال " حقا لا تأتِ، أنا لن أتأخر أصلا "

قطب جراي يتذمر " ولكن.. "

قاطعه مليك بضجر " يا عم لا أريدك، أنت علقة حياتي أم ماذا .. أنا .. "

 

توقف وهو من مسافة بعيدة يلمح إحدى البيوت البازغة بسبب اضاءتها وسط اتساع دكنة الليل، ليرى سيارة تركن ويخرج منها رجل وامرأة تقريبا على حد تمييزه

يتحدثان مع شخصين على البوابة قبل أن يدلفا للبيت

وما أن غاب الرجل مع المرأة بالداخل حتى كان الشخصين يتدافعان بتمازح خشن ثم توجها لسيارة كانت مركونة بالقرب منهما يصعدانها وينطلقان في الطريق مختفيين

آه .. ليلة صيفية تناسب اجتماعات عشاق ملتهبة !!

 

" مليك .. أنت يا بني ؟ " تنبه لنداء جراي على الطرف الآخر فردد " ها .. معك "

تعجب جراي سكوته " أين ذهبت "

لم يرد مليك وهو يعاود الانشغال بتأمل السماء بلا مبالاة فقلق جراي " هل أنت بخير ؟ "

تنهد مليك يمسح رقبته قليلا وهمس فجأة بتردد " هل كان الكل حاضرين الليلة ؟ "

سكت جراي للحظات فتوضحت الأصوات المتداخلة القريبة منه والنقاشات الدائرة الممزوجة بضحكات دافئة تتعالى ليتنهد مليك منغلقًا بتجهم " حسنا، أنا سأذهب "

عاجله جراي سريعًا " طيب قل لي أين أنت ؟ .. أنا سآتيك "

هز مليك رأسه معاندًا " لا تأتِ يا بارد، لا أريدك، أنا لا أهرب إلا منك أصلا "

ضحك جراي بمزاح يشاكسه " هل تقسم على ذلك ؟ .. هل تستطيع العيش بدوني أساسًا ! "

ابتسم مليك إلا ذلك لم يظهر على صوته المتأفف " لا أتوق إلا لإنهاء دراستي فقط ثم قطع علاقتي بك كليا .. كرهت حياتي بسببك "

عاد جراي يضحك بسماجة لتتسع ابتسامة مليك يائسا بينما يسمعه يصر " طيب .. قل لي حقا أين أنت؟ .. سأجلب طعامًا وآتيك "

هز مليك رأسه حانقًا " أنت لا تفكر إلا بالأكل ، لا أريد منك شيئا .. أنت فقط اتركني بحالي وأنا س .. "

عادت كلماته تتقطع بينما يقطب ببطء رافعًا وجهه للفراغ الخالي مغمغما من العدم " صراخ ! "

" ماذا ؟ " ببلاهة ردد جراي فأبعد مليك الهاتف عن أذنه يرهف السمع ويغمض عينيه مركزا حواسه

" مليك ؟ .. مليك ! .. أنت بخير " نادى جراي بقلق عدة مرات فعاد الصراخ يغزو مسامع مليك وقد بدت الأصوات مكتومة بعيدة تأتي من مكان ما مجهول ففتح جفنيه بحدة مستنفرًا

عاد جراي يناديه فتنبه مليك قائلا بعجل " جراي، أحادثك لاحقا "

اتسعت عينا جراي يستوقفه بتوتر " لا، انتظر .. ما الذي يحدث م.. "

قاطعه مليك بانغلاق " فيما بعد أخي، سلام "

أغلق المكالمة غير مهتم بنداءات جراي ووضع الهاتف في جيب بنطاله قافزًا من فوق السيارة ليبدأ بالتحرك عشوائيا يدور حول نفسه باختلاط

سار يجاهد لتتبع الأصوات بتخبط ورهبة زادها سكون الليل في المكان الخالي المقفر

حتى أدرك..

الصراخ يأتي من البيت الذي دخلته فتاة ما بصحبة رجل

فرغم ابتعاد المسافة إلا أن خلو المكان يتيح له فرصة التقصي

ابتلع مليك ريقه متوترًا وقد بدأت خطواته تتسارع مع اكتشاف جديد مرعب

 

لقد كان الصوت يعود لأنثى !

 

تحولت خطواته لركض متعجل وهو يقطع المساحات الخضراء مدمرا العشب بلا اهتمام بينما يدب في قلبه القلق قويًا إلى أن دنا بحرص من البيت الوحيد المسكون وسط خلو المنطقة النائية

 

عقد حاجبيه يفغر شفتيه والصوت يأتيه واضحًا الآن .. وقد كانت فتاة كأنها محتجزة وتعاني

ابتلع ريقه الجاف مرتبكًا يتلفت حول منه بحثًا عن أي مساعدة

إلا أن أمله قد خاب فعاد يتراجع خطوتين يرغب بالعودة لسيارته والرحيل من هنا دون تدخل فيما لا يعنيه

إلا أن الصوت الذي لا ينقطع عاد يسمره ورغم الخوف التلقائي من الموقف المجهول إلا أن فضوله المعتاد ثار لاهثًا نحو الظلمة المبهمة يبغي استكشافًا يرضيه

اتسعت عسليتاه وهو يهتز قليلا كاهتزازات الهاتف في جيبه بمكالمات قلقة ملحة من جراي

مسح عرق بارد عن جبينه وهو مجددًا يدنو من البيت حيث بوابته المغلقة بإحكام وسوره العالي

أخذ يفتش بعينيه عن طريقة للدخول والصراخ لا يعطيه فرصة لأي تباطؤ جبان وقد بدأ قلبه يتقافز بجنون

شرع يدور ببحث سريع حول البيت حتى وجد شجرة ذابلة ضخمة لا يتم الاهتمام بها

تردد للحظة واحدة فقط حتى ارتج جسده وصوت الأنثى المستغيثة يزعق بهستيريا " أبييييييي "

عندها قتل كل تردده وحمية الجانب الشرقي تشتعل بجانب الفضول المستفحل فزاد تحفزًا يثب على الشجرة يصعد بحذر وعيناه تدوران بحدة في المكان خشية تنبه أي شخص له

نظر لما خلف السور أولا باستكشاف فلم يجد أحدًا، مما شجعه على القفز من الشجرة إلى السور العالي ثم بقفزة أخرى سريعة وصل للأرض يسقط على ركبتيه متأوهًا بتألم وقد جُرح من علو الارتفاع

لهث قليلا يبتلع تألمه وهو يستقيم متعثرًا يطالع ما يحيط به بخوف حقيقي

قطع المسافة نحو الباب الداخلي الخشبي المغلق يحاول فتحه دون جدوى، وخشى إن تسبب في كسره أن ينتبه له من في البيت

استمع لصوت الصرخات الأنثوية وقد اندمجت بضحكات رجولية مقبضة جعلت عيناه تتسعان بإدراك وعقب تحليل سريع استطاع معرفة أن ما يجري بالداخل هو أبشع ما قد تتعرض له أنثى على الإطلاق

جحظت عيناه في هلع وهو يبتعد عن الباب راكضًا لجانب البيت في تفتيش مرتعب سريع عن مكان مناسب للدخول

عثر على نافذة صغيرة وبتفحصها علم أنها تطل على المطبخ

ولم يتردد حينها في فتحها بقوة مضطر ثم عاد يترقب ظهور أي أحد للحظات قصيرة

لكن الأصوات التي لم تتوقف جعلته يعرف أن لا أحدًا انتبه لكسره النافذة في غمرة جنون ما يحصل

لذا قفز يعبر للداخل بحركة سريعة قاطعًا المسافة بقلق نحو الداخل متتبعًا الصراخ الذي ينبع من إحدى الغرف

توقف يستند على الحائط للحظة مغمضًا عينيه يلهث وقد شعر بقلبه سينفجر من شدة التوتر الذي يعيشه في موقف كهذا وهو مجرد مراهق وحيد لا يدرك أبعاد الموقف كاملة

لكنه انتفض بصرخة كانت أعلى صدرت من الأنثى المعذبة في الداخل جعلت عيناه تنفرجان بقوة فهجم على الغرفة صارعًا تردده وعندها رأى أقسى وأبشع المناظر التي قد يتعرض لها إنسان

فتجمد مكانه يشحب كليًا ولولا اللا منطقية لأقسم أن قلبه توقف عن العمل لثوانٍ

 

كانت أنثى ما ممددة على الأرض غارقة في بركة دم

عارية، تقاوم، تصرخ وتدافع

وتموت !

وفوقها يحتجزها جسد رجل أقرب لثور ثقيل هائج يبغي نهشها، يحاول السيطرة عليها وتكتيف ساقيها بينما هي تضربه بهما بلا توقف حتى أخذ يصفعها بغضب جنوني هستيري كاد أن يقتلها حرفيًا

كلها لحظات قصيرة رآها ولا أحد يحس به، قبل أن يتخلص من قسوة الصدمة وهو يهب مطلقًا سبة قوية ويهجم على الرجل يرفعه عن الفتاة العارية التي توشك على مفارقة الحياة

والتي لم تتوقف عن الجهاد مع المجهول ولا زالت مغمضة عينيها تضرب وترفس غير واعية لما يحصل في الغرفة

 

رفع رمزي وجهه المصدوم للمقتحم الغريب فيرى مجرد شاب يافع لم يمنحه فرصة للاستيعاب وهو يشتبك معه بضراوة

ليفيق رمزي على ما يحدث من مشهد غير مفهوم ، فيقلب مليك عنه بسهولة ويبدأ بتسديد اللكمات له وهتافه يعلو من بين صرخات مياسة الهستيرية " من أنت يا **** من أنت وكيف دخلت لهنا "

حاول مليك مقاومته وضربه لكن رمزي كان الأكبر عمرًا وخبرة ففشلت محاولاته يتلقى ضربات قوية متتابعة حتى تفجرت الدماء في فمه

جحظت عيناه ما أن قام رمزي بوعي مغيب وحقد عارم بالقبض على رقبته وضغطها بشدة

ظل مليك يحاول دفعه عنه والوصول لوجهه كي يضربه دون فائدة

حتى كان يختنق وعروقه تبرز مسلوب الأنفاس وقد كان رمزي قاصدًا قتله دون تردد أو تفكير

عندها قام مليك بتحريك ساقه بحركة سريعة ليضربه بركبته حتى أطلق رمزي خوارا أشبه بخوار حيوان وخفت قبضته قليلا ليستغل مليك الفرصة ويمد ذراعه جانبًا ملتقطا زجاجة خمر ودون تردد رفعها فورا يصدمها برأس رمزي حتى تفجرت الزجاجة بمحتوياتها عليه عندها اتسعت عينا رمزي مصدومًا قبل أن يرتمي عنه جانبا مغشيًا عليه

 

شهق مليك منتفضًا يسعل بعنف وقد احمر وجهه الخمري بشدة مقطوع النفس

يا إلهي .. كاد أن يعانق الموت للأبد

استمر ينهج ويتعرق حتى أحس بصدره يتجرح من جنون لهاثه فتقوس على نفسه يتلوى فوق الأرض بمشقة

 رفع وجهه بعد لحظات ينظر لرمزي فيرى خيط الدم الذي سال أسفل رأسه

عندها فغر شفتيه واحمراره يزول بالشحوب المريع الذي باغته فزحف للخلف مرددا بهلع واضطراب " يا إلهي .. هل مات .. هل قتلته .. يا ربي .. يا ربي "

أخذ يهذي مرتعبا رغمًا عنه ولم يُخرجه من تجمده المصدوم إلا صرخات الفتاة التي لا زالت تضرب بذراعيها وساقيها الهواء بتلقائية كأن عقلها أسير لحظة الاعتداء عليها ، فيأمر جسدها بالمقاومة دون هوادة

زحف نحوها على ركبتيه المجروحتين فضربته عشوائيا ليتأوه متراجعًا قبل أن يصرخ بقسوة  وقد ارتعب من كل الوضع " كفى .. كفى "

قام بضرب رأسها بحركة غير مؤذية مدروسة إلا أنها كانت كافية لينكتم صراخها أخيرا وتخمد كليا ثقيلة الأنفاس نازفة الفخذ

 

نهض مليك متعثرا متسع العينين فينقل نظراته بين الاثنين اللذين بديا كجثتين هامدتين ليردد بذعر وهو يغطي رأسه بيديه الملطختين بالدماء " يا ربي .. هل مات كلاهما .. يا إلهي .. ماذا فعلت .. ماذا فعلت "

كاد أن يسقط في حالة متدهورة من الخوف وحده فتراجع للحائط ملتصقًا ينهج ويشحب ويتألم قلبه

أغمض عينيه يحاول التفكير برشد غائب حتى فكر لو يهرب من المكان برمته تاركًا كل شيء خلفه

عاد يفتح عينيه ينظر لجسد مياسة الهامد ودمائها الجارية فشعر بقلبه ينتفض بالأسى على منظرها المريع

إن ترك هذه الفتاة أكثر بلا عناية فستموت لا محال

 

حرك رأسه يهمس بتشجيع مضطرب سعيًا لتمالك أعصابه " فكر يا مليك .. اهدأ .. اهدأ .. لا تكن غبيًا .. فنحن لا نحب الغباء "

سحب نفسًا جديدًا يدعم به وقفته المتقلقلة وعاد يعتدل متمهلا يعتمد على نفسه في حل الوضع الكارثي الذي أوقع نفسه فيه متتبعًا فضوله الحارق

ومجرد ثوان بطيئة انقضت في التفكير قبل أن يبدأ بالتفتيش بنظراته ثم انكب على قميص الفتاة الممزق ليقوم بلفه بقوة حول ساقها النازف بغلظة ليوقف الدماء

متمنيًا بارتعاب ألا تكون إصابة حساسة فيقع في مصيبة

بينما قلبه يلهج بدعوات يحفظها عن ظهر قلب وآيات قرآنية دائما ما أعانته في تجاوز المِحن

أنهى إيقاف الدماء ثم بدأ يخلع قميصه الخاص واقفًا بفانلته الداخلية، ليلبسها إياه بتعجل ورغم أنه كان نحيلا فكان قميصه ضيقًا عليها إلا أنه طويل ستر مفاتنها على الأقل

عاد يلهث متعبًا بشدة لكنه لم يجد متسعًا من الوقت ليرتاح

لذا نهض يرفعها بعناء كي يرميها على كتفه متأوهًا يخرج بها غير مهتم بالبائس الآخر

وصل للباب يفتحه بصعوبة وقد كان موصدًا، بينما يوازن من حمله لها إلى أن خرج يعرج قليلا وهو يقطع الحديقة الصغيرة المهملة ثم البيت كله وبدأ يمشي سريعا بين المساحات الخضراء عائدا لسيارته يضعها بداخلها مهذبا من هيئتها كي تبدو وكأنها مجرد نائمة حتى يشتم بعنف متذمرًا " اللعنة على الوزن الزائد، لطالما كنت أقدر الأجساد الممتلئة لكن الآن لااا "

أغلق الباب عليها أخيرا بحركة حادة ثم انحنى يسند كفيه على ركبتيه يشهق ويسعل ملتقطًا أنفاسه

لحظات قصيرة فقط حتى صعد يحتل مقعد القيادة منطلقا بسرعة عائدا حيث شقته الخاصة

قبل أن يرمق الفاقدة للوعي بجوارها معاينًا شكلها ويركز قليلا على فخذها المجروح فيعود للطريق يضحك قليلا بذهول أعين متسعة غير مصدق لما يعيشه من مغامرة مجنونة " ستحتاج لرعاية طبية سرية ، اللعنة على فضولي الأسود ماذا سأفعل بهذه المصيبة الآن !! "

 
.

........................

توقفت عن السرد وقد لهثت ينال منها التعب ولا زالت قابعة بحضنه محتمية بصدره مغمضة الجفنين بحثًا عن بعض الأمان

حل الصمت لفترة لم يقطعه هو بأي تعليق على ما قصت

حتى هب جسدها بحركة لا إرادية تفتح عينيها بوثبة تحفز ما أن أحست بكفه فوق فخذها

تفصحت ما يفعله لبرهة ثم شهقت بعد استيعاب بطيء تتشنج وتضم ساقيها متوسلة بخزي " لا أرجوك "

لم يرد وأصابعه تتصلب قليلا حتى همس بنبرة جافة " لا بأس ، يمكنك مشاركتي هذا "

هزت رأسها ببطء تدمع عيناها من جديد وتذرف العبرات مكررة " لا أرجوك .. لا "

لم يجبرها بإلحاح لكنه لم يتنازل في المقابل عن مطلبه .. بل سكن بارتقاب يمنحها وقتها فمرت دقائق كانت خلالهم تبكي على صدره وتهز رأسها برفض واهن لا يتوقف

إلا أنها أحست بمدى رغبته الحقيقة لمشاركتها كل الحمل رغم مدى ثقل هذا عليه كرجل حار الدماء

لذا أخذت تشهق وهي تدفع نفسها بقسوة كي تتخلى لأجله عن تخشبها فتحس بأصابعه على بشرتها السمراء وهو يحاول رفع الفستان كاشفًا

إلى أن أذعنت بانكسار راضخ تسمح له برؤية الجرح في باطن فخذها على الاضاءة الضعيفة

تعقدت صفحته وصدر عنه أنين متحشرج زاخر بالوجع لتدفن وجهها بكتفه مختبئة تاركة أنامله تسرح فوق علامة الجرح الواضحة

 

شهقت بعد لحظات بغير تحمل وعاودت ضم ساقيها تهمس بهزال ولهاث متقطع " كفى يا .. عمر .. فأنا .. "

رفع كفه يضغط رأسها إليه في الحال وقاطعها محتويًا وشفتاه فوق جبينها " نعم .. اهدئي، يكفي لهنا، تنفسي يا مياسة، اهدئي "

بكت بنعومة لدقائق طويلة إلى أن أخذت تتبع توجيهاته كي لا تنساق خلف حالة متجددة من الاضطراب

فأغمضت عينيها تنبش أظافرها فيه بتمسك قوي به وبالحاضر

كان جسدها بارد بوضوح فقبل جبهتها وأكمل " أنتِ بحاجة لراحة ودفء، تحتاجين للنوم "

زوت حاجبيها بتشتت فوق عينيها المغمضين وغمغمت بصعوبة " أشعر .. بآلام متفرقة "

أومأ يلف ذراعيه حول جذعها معتمدًا على شعورها بالأمان معه فلن تجفل ورد " لقد أرهقتِ نفسك، استرخي، لا تتشنجي هكذا "

سعت في التجاوب معه فشعرت به يتحرك قليلا كي يحملها ولم تهتم أين سيأخذها

حتى حط بها فوق فراش ناعم فأدركت أنها فوق سريره الصغير، هزت رأسها بوهن تحاول التحدث لكن حلقها خانها فهمس مراعيًا " اهدئي، أنا معك، أنتِ بأمان حبيبتي، أنا دائما هنا "

تنهدت تتعلق به فأسندت وجهها في رقبته ليضمها هامسا قرب أذنها " نامي، ارتاحي يا مياسة "

تنفست بتثاقل وخدر تردد  " و.. أبي "

مسد على خصلاتها الحرة يدعمها متريثًا " أنا هنا، لا تحملي هم شيء، أنتِ نامي فقط وأنا هنا "

زفرت بارتعاش وهي تؤمن به تمامًا فتمنحه كل المفاتيح

وقد رغب عقلها بشدة في بعض الهرب المريح فكان هذا خير دافع لتسقط في نوم أقرب إلى إغماء عميق عقب هذه الاستعادة القاسية للذكريات المريرة

 

حينها تحرك عمر يخلع حذائها العالي ثم دثرها جيدا دون إقلاقها وابتعد إلى النافذة يرتعش جسده بانفعال بالغ سبب له ارتفاعا محسوسا بضغط دمه

هز رأسه ينفض عنه أفكارًا تصبغت بدموية عمياء

سحب عدة أنفاس يستعيد بعض جأشه وأخرج هاتفه يعبث به قليلا حتى رفعه لأذنه

وصله صوت نورين المتلهف " أخي، طمئنني عنك وعن مياسة، كيف الوضع ؟ "

التفت عمر نحو النائمة يرمقها مشفقًا ثم قال دون منحها جواب مطمئن " نورين .. أحتاج لمياسة معي الليلة "

احمر وجه نورين على الجانب الآخر فتنحنحت تستأذن من الجلسة التي لا زالت تضم حسن وفجر وليل وتوجهت للمطبخ تلحق بها الأخيرة وقد غمزتها

" كيف يعني تحتاجها معك الليلة ؟ " استوضحت نورين بحرج غير فاهمة فزفر عمر يجيب بخفوت " إنها نائمة ولن تقدر على العودة للبيت "

اتسعت عينا نورين بقلق تفيض عليه بسيول أسئلة متتالية " أنا لا أفهم منك شيئا، ماذا بها أختي وكيف نامت عندك بالضبط وكيف لن تقدر على العودة للبيت ؟، بماذا سنبرر ذلك "

اقتربت ليل متكتفة تستفهم بصمت مستمعة للحوار الجاري وقال عمر ببعض العصبية الغير مفهومة " ليس وقته يا نورين، هل ستحققين معي .. نامت وانتهى .. فهل ستساعدينني أم لا "

عضت نورين على شفتيها وقد زاد قلقها حول أختها خاصة ونبرة عمر بدت غريبة تحمل كبتًا عجيبًا

لقد خططت كي يتفاجأ بوجود مياسة وتحاول الأخيرة مراضاته

لكن النتيجة الآن مبهمة .. هل هي سلبية أم إيجابية !

لولا ثقتها العمياء بعمر لظنت أن الفستان الأحمر المختار جعل الوضع يتطور لدرجة اللا عودة ووقع بينهما شيء خاص

لكن عمر لا يفعل هذا ، كما أن صوته لا يشي بذلك ومياسة لن تجاريه في كل حال

إذن ماذا !

 

أجفلت على الهاتف يُسحب منها فالتفتت بقلق لليل التي بادرت عمر برزانة " ماذا تريد يا عمر ؟ .. ماذا حصل "

تعرف عمر على صوتها فطلب مباشرة " مياسة متعبة، لن تقدر على العودة للبيت، وأنا لن اتركها "

سكتت ليل مفكرة واستفهمت بفطنة " وبماذا سنخبر عمي تاج ؟ .. هو أصلا يتوقع أن مقابلتكما ستكون في هنا في شقة حسن بيننا وأننا نسعى لإصلاح الأمور بينكما "

زفر عمر يدلك جبينه بجهل وعجز " لا أعرف يا ليل، لا أعرف إلا أن مياسة ستحتاجني أنا الليلة فقط ولو حتى سأتوسل عمي تاج ليتركها "

سكتت ليل تحس بالألم بحسه وأخذت تقلب الوضع سريعا بدماغها قبل أن تجيب " حتى توسلك لن يجدي نفعًا ، مستحيل أن يسمح بأن تبيتا معا قبل الزواج الرسمي يا عمر "

سكت عمر وبدا الوضع معقدًا مرهقًا إلا أنه رغم ذلك لن يتنازل، مما زاد من توتر نورين المتسائلة

عندها ليل تبرعت بهدوء " لا بأس يا عمر، اتركها لي ولنورين "

عقد عمر حاجبيه بتساؤل " ماذا ستفعلين "

هزت رأسها تخبره بسلام " أنت فقط اهتم بخطيبتك ونحن سنتصرف "

تنبه لضغطها على لفظ خطيبتك لا زوجتك وكأنها تُلمح له من بعيد مهددة أن يلتزم حده حتى وإن كان سيبيت معها

مما جعله يبتسم قليلا رغم كارثية حاله المتردي ، لكنه طاوعها راضيًا لتبلغه أنها ستشرح له برسالة وطمأنته ثم أغلقت الخط

 

طأطأ رأسه المتألم قليلا يترك الأمر لها معترفًا بانعدام أي قدرة له على التفكير الصائب الآن

على الأقل الليلة

طاقاته مستنزفة جدا وسيحتاج لبعض من لملمة شتاته أولا

إلا أنه بنفس الوقت لن يجرؤ على ترك مياسة تعود لبيتها في حال كهذا

حال ستحتاج معه لتبرير وشرح

وهي لن تملك أدنى تبرير أو قِبل على مجرد حديث أصلا

هي فقط ستحتاج للنوم بين ذراعيه الآمنين ليهديها بعض السكينة

لذا لا بأس، ليل يثق بأنها ستجيد التصرف هي ونورين

 

تنهد بتعب تمكن منه وبان على تهدل خطوطه الشاحبة فسار يخلع الحذاء وينضم للسرير نائما على جانبه معها حيث يواجه وجهها الهزيل الملطخ الفاقد لبريقه

كانت تفغر شفتيها وملامحها ترتعش بينما تئن وتشهق بخفوت .. قبل أن يزداد تخبطها وتغمغم بما كانت تصرخ به أثناء كابوس ما يستطيع الآن فهم أبعاده

فكانت تركض فيه وتهرب بلا جدوى

ليميل لها يربت عليها ويهدهدها بالكلمات الحانية حتى بدأت تبكي أثناء نومها وتهمس بتوسلات غير مفهومة الأحرف

ليضمها له برفق يحتويها مغلقا عينيه بعجز مقيت " يا رب ساعدني على هذا .. أرجوك "

 

...................................
 


لوحت نورين قائلة بقلق " أفكر أن نسلك الطريق المباشر وانتهينا ، أنا سأكلم أبي وأطلب أن يترك مياسة مع عمر الليلة "

اتسعت عينا ليل من الاقتراح الأحمق واستنكرت " يا لكِ من ساذجة يا نورين ؟ ، وماذا تتوقعين نهاية الطريق المباشر ؟ "

تهكمت تردف " هل تتوقعينه سيخبرك .. آه احرجتني يا صغيرة .. موافق لأجل جمال عيونك ! "

عبست نورين تغمغم بغير رضا " ماذا ؟ .. ألن يوافق لأجل جمال عيوني فعلا ! "

" يا إلهي " ذهلت ليل تهز رأسها وتابعت " أنتِ حمقاء يا بنتي أم ماذا ؟ .. سيقتلع عيونك نفسها إن عرف بخطتك أصلا وأن مياسة ذهبت لعمر حيث شقته وحدها ؟ .. وربما نمنحه فكرة عن شكل الفستان مثلا .. سيفخر جدا ببناته "

تأففت نورين ساخطة بفم ملوي " وما دخلي الآن .. الحق عليّ أني أحل أزمة ، ثم أني لا أفضل المراوغات جدا "

مطت ليل شفتيها متبرعة بترحاب " أنا أفضلها .. اتركيها لي "

" وماذا ستفعلين ؟ " استفهمت نورين بفضول ففكرت ليل قليلا قبل أن تقول بترتيب وجدية " سنخبر عمي تاج أن الوضع كان سيئا قليلا بين عمر ومياسة ، وأنكِ تمسكتِ بمياسة لتبيت معك الليلة أما حسن فذهب ليبيت مع عمر لتليين رأسه "

عقدت نورين حاجبيها بتخوف " وماذا إن أتى لي ولم يجدها "

" لن يأتي " قالت ليل بتركيز وأكدت " إن أخبرنا عالية فلن تسمحه له ليأتي "

ضيقت نورين عينيها " هل سنخبر عالية ؟ "

أومأت ليل بذكاء " عالية يمكنها التفهم أم تاج فلا ، وعالية ستكون خير معين في ذلك .. لا يجب إخفاء شيء عن عالية .. هذا صعب "

أومأت نورين وهمست " يصعب عليّ أبي من الأفعال التي نفعلها من ورائه "

ابتسمت ليل ساخرة " لا يصعب عليكِ غالي يا أختي "

هزت نورين رأسها مستهجنة " هل أنتِ متأكدة أنكِ ابنة قصور ؟ "

ضحكت ليل دون تعليق حتى تنبها لدخول حسن وفجر للمطبخ والأخير يقول غامزًا لليل " ماذا يحدث بالضبط ؟ .. إلى أي مصيبة تخططين لها ! "

اتسعت عينا ليل ببراءة زائفة تشير لنفسها " أنا أخطط لمصيبة .. أنا ! "

ارتفع حاجبا كل من حسن ونورين والأول قال لصاحبه متوجسًا " أنا خفت من البراءة التي ارتسمت على ملامحها فجأة .. هل هذا طبيعي "

ضحك فجر يجيب بخفة بينما احمرت ليل قليلا مبتسمة " طبيعي يا صاحبي، أقل ما عندها، تسرق روحك وتجعلك تقسم أنك من تبرعت بها قانعًا ! "

 

..............................

 

" لو كنا أتينا بالسيارة لكنا تجنبنا هذا البرد الآن " تذمر معاتبًا وهو يخرج معها من العقار بعد أن ودعا حسن ونورين فيحس في الحال بلسعات البرد للأجواء المتقلبة

التفت لها وهي تسير بجانبه متقاعسة الخطى بينما ترفع عينيها للسماء الملبدة وردت ببساطة " السيارة تقطع المسافات بسرعة، وأنا أحب التلكؤ بالوقت معك "

ارتفع حاجباه بما قالته قليلا قبل أن يبتسم ذائبًا " غلبتِني "

شبكت ذراعها بذراعه تبتسم فسأل " تشعرين بالبرد ؟ "

أجابت بهدوء " قليلا، لكن عادي "

" ليس عاديًا " رفض بحزم وهو يتوقف خالعًا معطفه الطويل الأنيق فمانعت " لا يا فجر، أنت ستبرد "

لم يهتم وهو يساعدها في ارتدائه لتستسلم له بينما تراقبه وهو يثني كمي المعطف لإظهار كفيها

تنهدت أثناء تأملها لحرارة أفعاله وقالت " يا لحظ ابنتك عندما تأتي "

ابتسم يرفع فجريتيه لها مدللا " أنتِ ابنتي "

ابتسمت وهزت رأسها نفيا " هي أشد حظًا، ستكون أباها منذ أولى لحظاتها في الحياة .. يمكنني تخيل كيف ستعاملها "

ضحك بخفة يناغشها " هل ستحسدين ابنتنا قبل قدومها حتى، أخشى أن تتعاركا عليّ "

ارتعشت شفتاها تمسد على بطنها تلقائيا بحركة شاردة " لا والله، هي فقط تأتي وكل الدنيا تهون لأجلها "

عقد فجر حاجبيه ملاحظًا غيوم الشجن التي ظللت خلجاتها بغتة ممزوجة بأعاصير شكوك وخوف

عادت تستأنف سيرها معه وهي تدفن كفيها في جيبي المعطف ليسأل برقة " ما سر هذا الحزن المفاجئ "

هزت رأسها ولم ترد فكرر بطول صبر " قولي لي "

طأطأت رأسها ومجددا لم ترد بينما هو أخذ يتمعن فيها بقوة حتى لف ذراعه حول كتفيها يقربها منه وقال بعناية " أخبريني عن تلك الفترة "

قطبت ترمقه بحيرة فابتسم بحنان " شاركيني هذا الألم "

توترت أمام عينيه تهمس بتوجس " ماذا "

مد يده الأخرى نحو بطنها المسطح قائلا برفق " كيف علمتِ بحملك مني وكيف فقدتِه "

تأوهت فجأة دون صوت وقد اختنقت يغزو الدمع عينيها في الحال

شدد من لف ذراعه حولها بعناية ودعم محفز جعلها ترمش مبعدة وجهها عنه " لماذا تسأل "

ابتسم وقال بلطف " ألا تريدين مني أن أكون معك "

سكتت دون رد ولم يثقل عليها بإلحاح، حتى تنهدت هي تقص بنبرة مخنوقة " علمت منذ أول طلاقنا، كنت أمر بمعالم واضحة جعلتني أشك مصدومة من امكانية حدوث هذا، حتى تأكدت بنفسي "

هز رأسه مستفهمًا " وماذا فعلتِ حينها ؟ "

أجابت شاردة بحزن " تبدلت كل مخططاتي من نوايا الانتقام إلى فقط الحفاظ عليه .. كنت سأستميت في المحافظة عليه صدقني .. ولكن للأسف خسرته ذات ليلة رغمًا عني، تخلى عن رحمي بسهولة كأنه رفض أن يسكن جسد أنثى مثلي "

" ما هذا الكلام يا ليل ! " نهرها وهو يتوقف أمامها فصمتت ممتقعة ليقول " الجنين وُجد في وقت قاسٍ ضاغط عليكِ ، جسدك لم يتحمله وهذه مشيئة الله فقط "

أومأت باهتزاز فقطب وقال متشككًا " هل لا زلتِ تفكرين بذات الطريقة الغبية ؟ "

عضت على شفتيها للحظة قبل أن ترفع وجهها إليه معترفة بأسى " أحيانا أفكر .. أنه مات بذنب الأول الذي قتلته بيدي .. أحيانا أظن .. بأني لا استحق الأمومة .. وبأني لن أكون أمًا أبدا "

عادت تدمع عيناها وفرت عبرة وهي تتوسل مضطربة " وأنا أريد أن أكون أمًا لطفلك بشدة يا فجر .. أخشى ان يعاقبني الله بسبب .. "

" كفى يا ليل .. كفى " قاطعها بغير تحمل ذاهلا وتابع " ما هذه الحماقة وكيف تفكرين أنتِ ؟ .. وأين حُسن الظن بالله ! "

حاولت الدفاع عن نفسها قائلة " أنا فقط .. "

" لا تقولي شيئا " زجرها وأكمل بسخط " لقد ظننتكِ أكبر عقلا وإيمانا يا ليل، خاصة وأنتِ مؤخرا أكثر قربًا من الله والتزامًا، فكيف لا تؤمني أن الله أكثر رحمة ورأفة بعباده "

أمسك كتفيها بيديه يضغطها بقوة غير غليظة وأضاف بحنو " كلنا نخطئ .. ولكننا بفضل الله نتوب ونتحسن ونسعى للتغيير نحو الأفضل .. ترفقي بقلبك يا حبيبي "

أومأت بقوة تعتذر ودموعها تخونها " حاضر .. أنا فقط استسلم لوساوس شيطاني أحيانا فأخاف "

ابتسم وهو يرفع يديه ماسحًا عن خديها الدموع بحنان " لا تبكي حبيبي ، لا تقسي على حالك "

هزت رأسها إيجابا كي لا تُحزنه فتأمل عيناها الرطبتين يشبك أصابع يديه بين أصابع يديها وقال مناغشًا " ستكونين أحلى أم، وسأتقن تقديم كل الرعاية لكِ في حملك وتدليلك حتى تتمتعي أنتِ والطفل بصحة جيدة ولن أثقل عليكِ أبدا "

شاكسها غامزًا يردف " إلا في بعض الأمور ستكون استثناءً "

ضحكت بين خجل وجرأة تغرق في عينيه الجميلتين حتى عادا مستكملين طريقهما وذراعه فوق كتفيها بينما تلف ذراعها خلف ظهره متمسكة وقالت فجأة " هل كنت تتوقع حدوث حمل من ليلة "

" خططت لهذا أصلا " وضح لها مبتسمًا فضحكت " توقعت ذلك، أتمنى أن تجيد التخطيط مستقبلا "

" أنا سأخطط تخطيطًا " قال بشقاوة حارة وأكمل بمزاح " سأخطط وارسم وأنفذ، سأكون مهندس عصري وأواني "

ضحكت بقوة حتى تردد صدى ضحكتها في الشارع فعبس قليلا بغير رضا لتتنحنح قائلة بتنهد " لم يعد يؤلمك الحديث عن الماضي "

ابتسم يخبرها بهدوء نفس " الماضي جزء مني، لولاه لما كنت هنا الآن "

نظر لها يقول بفلسفة اكتسبها بمرور الوقت " يجب ألا ننسى الماضي .. نندم على أخطائه نعم لكن يجب أن نتقبل فكرة أننا أخطأنا فنحن بشر ، وتذكرنا للأخطاء يفتح لنا المجال لطلب التوبة والتحسين المستمر .. الماضي هو خير حافز كي نعتصم .. كي نجاهد لعدم الوقوع مرة أخرى .. أليس كذلك "

ابتسمت مشدوهة وأقرت " يا إلهي كم نضجت ! "

أومأ مؤيدًا " نعم .. كلنا نضجنا وتغيرنا، هذا تأثير تجارب الماضي "

" وماذا لو عاد الزمن ؟ " سألت بغتة وشرحت " هل كنت سترتكب ذات الخطأ "

اتسعت عيناه ينفي بصدق في الحال " لا .. يشهد الله أني ما كنت ارتكبت خطأ في حق ديني ومبادئي أبدا "

عقدت حاجبيها تضيف " حتى وإن كان هو السبيل الوحيد لجمعنا ؟ "

ابتسم لها يقربها منه قائلا بنضج " ربما يكون أقصر الطرق في الوصول هو الحرام ، ولكن الأشد متانة هو طريق يرضى عنه الله فيباركه "

رفع كفه لوجهها يتحسسه وأردف " نحن مقدران لبعض يا ليل، مهما ابتعدنا لكننا معا في النهاية، لذا أنا متأكد بأننا كنا سنلتقي .. كنت سأحارب لأجدك ، وحينها كنت سأحسن تجنب الكثير مما نالنا وأجيد الحفاظ عليكِ .. أنا متأكد من ذلك حبيبي "

أومأت تؤيد فكرته بيقين كلي ودعم تام " صح ، أنت معك حق .. نحن مقدران لبعض فعلا يا فجر "

غمزها بمرح فأخذت تتأمله بملامح جادة حتى قالت بجدية " أنت رجل ثلاثيني ناضج ومثير جدا "

ارتفع حاجباه يستمع لتحرشها اللفظي به فبدأ يجاريها " وأنتِ أنثى ثلاثينية مكتملة وتُغري للغاية "

أطبقت شفتيها تبتلع ريقها وأفكارها تهورت واشتعلت فحذرها متوجسًا يبعد وجهه قليلا عنها " للتذكير .. نحن في الشارع "

ابتسمت قليلا باهتزاز وهمست تستميله " فجر "

همهم بترقب فأخبرته مغوية بخبث " لا زال عرضي قائمًا بشأن استضافتك بغرفتي "

اتسعت فضيتاه بتفاجؤ حتى ارتد رأسه في قهقهة عالية دفعتها للتبسم بهيام ليهز رأسه قائلا " كان اللي في عون عمي تاج .. هل سيجدها منك أم من مياسة أم من الصغيرة نورين صاحبة الخطط الجهنمية .. أقل ما قد يصاب به هذا الرجل هو جلطة من أفعالكن الوقحة "

مطت شفتيها ممتعضة وغمغمت " ابتعد عن قلبه الشر يا رب "

تبرمت بعدها حانقة " لكن لماذا مياسة تبيت مع عمر وأنا لا "

تنحنح ينهي الحوار بحزم " ما بين عمر ومياسة يختلف وغير قابل للنقاش بيننا .. دعينا في نفسينا "

" طيب " رضخت على مضض واقترحت مستعطفة " امنحني قبلة حتى "

وضع يديه في جيبي بنطاله معارضًا بتماسك خارجي " نحن في الشارع قلت "

قلبت شفتها السفلى وسألت بيأس " طيب متى سنتزوج ؟ "

تنهد قائلا ببرود يستفزها " هانت "

" فجر " صرخت نافذة الصبر فضحك رغمًا عنه لتهز رأسها " لقد قلتها من قبل .. أنت لا تحبني وإلا كنت لتصبح متلهفًا "

رمقها بعينين شغوفتين جدا حتى تنهد بحرارة كانت كافية " هانت يا ليل .. هانت "

وكان يخبرها بنظراته أن رده على اتهامها الطائش لن يكون الآن

بل عندما ينالها كاملة

سيخبرها جيدًا إلى أي درجة يتلهف

ارتجفت بتأثر واشتياق حتى تنبه فجر باستنفار عابس " سقطت قطرة ماء على رأسي "

شهقت بغباء متسائلة " قطرة ماء أم ربما فضلات طير ! "

نزل بعينيه لها مستنكرا " فضلات ماذا يا مقرفة "

ضحكت بتسلي على شكله فرفع وجهه للسماء في الوقت الذي زادت القطرات ببطء " هل تمطر ! "

شهقت ليل وكان جواب السؤال يداهمهما سريعًا والسماء تفتح أبوابها لسيول قطرات انهمرت على رأسيهما بقوة

فصرخت تجذبه وتركض للاحتماء معه من المطر الغزير " سنغرق يا فجر "

هز فجر رأسه مستاءً " عشت هنا بقدر ما عشت ولم أفهم هذا الطقس المتقلب بعد "

ضحكت تراقب القطرات القوية قبل أن تمد ذراعها لتستقبل فوق راحتها الأمطار وتنهدت تهمس " أحب قطرات المطر جدا، أحس بها تنظف القلوب من همومها "

التفت يرنو لها للحظات وقال " أنا أحب السماء الصافية أكثر "

ابتسمت دون مطالعته ولا زالت مأخوذة بملمس الأمطار على كفها حد الانشداه وكأنها أول مرة ترى أمطارًا ..

حتى أحست بيده تبعد خصلاتها الحرة عن وجهها وهمس مبهورًا بصفاء عينيها اللامعتين " لكن أقسم بأن سحر جلاء عينيكِ الأشد جاذبية وابهارًا .. أنتِ تتجبرين على قلبي "

حدقت به في ارتباك خجول وهمست مرتجفة " فجر ! "

ابتسم لها باتساع ومال بأنفه يداعب جانب وجهها حتى تخلى بغتة عن أمان وقفته بوثبة سريعة لتكسوه الأمطار فتشهق هي منبهة " ستبرد يا فجر "

رفع وجهه للسماء مستقبلا الأمطار ثم حاول دعوتها برفق " كيف تحبين الأمطار ولا تعانقينها "

عادت تشهق رافضة وتكرر بضحك " سنغرق حقا يا فجر "

هز رأسه مستمتعا ومشجعا " لا مشكلة ببعض الغرق .. نجف لاحقًا .. تعالي "

ضحكت أقوى ترضخ له مترددة حتى بالفعل كانت تلفها الأمطار بتهليل لترفع وجهها للسماء مستمتعة بضربات المطر كأنها تُقبِل ملامحها

 

ابتسمت باتساع حالم وهي تشعر بذراعي فجر يحيطان بها ليبدأ بالتحرك والدوران معها بتمايل رقيق

نظرت لعينيه متتبعة خطواته وطلبت " غنِّ لي أغنيتنا الخاصة "

ابتسم مستغلا ولا زال يراقصها " وكم تدفعين "

اتسعت عيناها تغريه بمرح " قلبي، كل قلبي أهديه لك "

ابتسم لها بعمق وتجعدت زوايا عينيه يهمس " سلم الله لي قلبك، يا سابية كل قلبي ! "

 

.............................

 

صباحًا ..

 

كان واقفا أمام النافذة يرمق الشارع أمامه بشرود أثناء تدخين سيجارته

أحس بتقلباتها من ورائه فالتفت يرمقها تتخبط أثناء النوم كما دأبت تفعل طوال الليلة الصعبة التي انقضت في صرخات دفينة وبكاء لا ارادي

تنهد عمر وهو يعيد خصلاته المتناثرة للخلف ببعض القوة ثم عاد للنظر نحو السماء بوجه مظلم متصلب المعالم

لم يغمض له جفن ولو للحظة ، صدره يغلي كمرجل زئير غضبه المحجم يزيد من وضعه سوءًا

لم يأخذ الأمر كثرة تفكير منه حتى عثر على سبيل راحته

هو فقط شيء واحد دموي وبشع

إلا أنه يتوق لتحقيقه بشدة

ولن يرتاح باله حتى ينفذه !

 

عادت مياسة من ورائه تتململ فتنبه لها فورا وقد ارتفع بعض صراخها المختنق

عندها تخلص من سيجارته متوجهًا لها وهو يقرر أن يكفيها نوم معذب لحد الآن

لذا جلس بجوارها يحاول ايقاظها بينما أخذت تتخبط وتضربه فأمسك بذراعيها مناديا بقوة " مياسة .. استيقظي .. افتحي عينيكِ .. مياسة "

شهقت تفتح عينيها مطلقة صرخة رعب أعلى فهتف يرشد وعيها المضبب ناحيته بحزم " مياسة .. انظري لي .. مياسة "

نهجت بتسارع وريق جاف قبل أن تطالعه مشوشة الذهن فمسد على جانب وجهها برأفة " لا بأس .. صباح الخير .. استيقظتِ أخيرا "

فغرت شفتيها تنظر حول منها بلا تركيز قبل أن تعتدل بعد لحظات متأوهة تتحسس جانب رأسها ثم تلامس الغطاء الناعم فوقها

نظرت لنور الشمس بذهول دون نطق فاستدرك بهدوء " لا زال الوقت مبكرًا "

عقدت حاجبيها تهز رأسها باهتزاز وهي ترنو له فتدبر ابتسامة قال بها " كيف تشعرين .. افزعتِ قلبي ألف مرة طوال الليل "

لم ترد تميل بعينيها وقد غطاهما الحزن والخوف ما أن استذكرت الكوابيس التي كانت تهرب منها طوال ساعات لكنها للأسف لم تفلح في البلوغ لأي نجاة

نكست رأسها بشعور أسى على حالها لتحس به يميل مقبلا خصلاتها " ستكونين بخير "

سكنت فابتعد قائلا " أنتِ بحاجة للاستحمام وتبديل ملابسك لما كنتِ ترتدينه قبل الفستان "

استمر صمتها الشارد فكبت زفرة ينهض مشجعًا " هيا يا مياسة "

لم تستجب مباشرة ولا زالت منكسة رأسها وتضم الغطاء لصدرها فسكن يمنحها وقتها

إلى أن بدأت تنهض ببطء تلملم الفستان حول منها وتتحرك حافية ساهية نحو الحمام الموجود بالغرفة فطلب بهدوء " لا تغلقي الباب بقفل من الداخل "

توقفت توليه ظهرها المتشنج قبل أن تلتفت له فأردف بصبر " أنا سأطلب افطارا وسأنتظرك بالصالة "

لم ترد عليه وهي تعاود اكمال طريقها نحو الحمام تغلق الباب دون قفل ملبية

عندها تنهد هو يمسح فوق وجهه قبل أن يخرج إلى الصالة ما أن استمع لصوت الماء يجري

 

كانت هي بالداخل قد فتحت رذاذ الماء البارد ترمقه دون أن ملامسته

وجهها هزيل متورم وعيناها غائرتان متقرحتان بشدة

ارتجفت شفتاها تمد كفها المرتجف إلى الماء البارد فتغمض عينيها مرتعدة بهجوم ذكرى عودتها للبيت

بعد تلك الليلة المهينة بكل أحداثها

عندما استقبل والداها المرتعبين من غيابهما طوال الليل ظهورها مع الشاب الغريب بمظهر لا يحمل إلا معنى واحد

معنى جعل أباها يترنح في وقفته مخرسًا محطمًا ، وأمها تكتم صرختها المرتاعة بكفها

 

بينما هي لم تنطق بحرف ولم تمنح أي تعليل يريحهما .. بل ركضت مباشرة لغرفتها يلاحقها شياطين الخزي وغابت في حمامها تخلع عنها ما ترتدي من ملابس لا تخصها

ووقفت تحت رذاذ الماء تبكي وتلطم وتنظر لجسدها المكدوم المنتهك حتى بدأت تصرخ بجنون وصدمة إلى أن تأذت من عنف حركاتها وضرباتها لنفسها

ولم تشعر إلا وعالية تقتحم الحمام مصعوقة مما رأت على بشرة ابنتها

فسحبتها لحضنها أسفل الماء الجاري وانفجرت معها في بكاء مرير مدركة أن ابنتها تعرضت لشيء .. بشع جدا

لدرجة أنها لن تعود لما كانت عليه من صفاء بعد الآن

 

شهقت مياسة وهي تفتح عينيها متقدمة نحو الماء المنهمر دون خلع فستانها لتقف أسفله متكتفة فتخذلها ساقاها وتنحني على نفسها داخل حوض الاستحمام ودون مقدمات انخرطت في عويل عالٍ بينما تتوسل الزمن لو يعود

لو فقط يعود فيتغير كل شيء

فقط تريد حماية نفسها والحفاظ عليها ..

ظلت تشهق وتبكي بانفجار مدوٍ حتى سمعها عمر بالخارج والذي انتفض عائدا للغرفة يطرق باب الحمام مناديا بذعر

إلا أنها لم ترد وهي تبكي بقسوة وتنتفض وهو يهتف " مياسة .. ردي علي أرجوكِ .. أنا سأدخل .. مياسة سأدخل "

عندما لم تتجاوب أو يسكن صوت نواحها كان لا يملك إلا اقتحام الحمام بلهفة ليراها مبهوتًا وهي تتوسط حوض الاستحمام تضم نفسها ووجهها مدفون بين ركبتيها المرفوعتين

تأوه وجعًا يهب ناحيتها غير مهتم بغرقه بالماء معها بينما يسحبها لحضنه قائلا بتمزق وقد انزلقت من عينيه دمعة قهر " لا بأس .. ابكي قليلا .. انهاري وأنا موجود عنكِ .. لا بأس حبيبتي .. لا بأس "

 

بعد وقت كانا جالسين على طاولة صغيرة وطعام الافطار أمامهما

كانت قد أنهت وصلة الانهيار وتحممت ثم ارتدت ملابسها ولفت شعرها بمنشفة خاصة به

تعابيرها أكثر سكونًا وهو بجوارها يرمقها بحزن حتى مد كفه ليدها يُخرجها من سهوها إليه لتنظر لغرابة نظراته حتى سأل فجأة بعد لحظات " أين هو الآن "

ارتعد جسدها بقوة تبعد يدها إلا أنه بدا على حافة الجنون الذي يكبته بصعوبة وكرر مشددًا " ما اسمه وأين أجده يا مياسة ؟ "

فغرت شفتيها الجافتين تبتلع ريقها بعسر وهمست " لمَ تسأل ؟ "

توعرت خطوط وجهه وأعاد بصلابة " أين هو يا مياسة .. قولي لي ولو فقط اسمه كاملا "

عقدت حاجبيها تلعق شفتيها " لماذا "

ضرب على الطاولة بغل حتى انتفضت هي كالأطباق المتراصة أمامهما " هل حقا تسألينني ؟ "

لهثت قليلا وأومأت " نعم .. لماذا يا عمر "

هب عن جلسته ودنا يميل نحو وجهها قائلا من بين أسنانه بقسوة شيطانية " لأني سأقتله .. هنا .. أسفل قدميك سأذبحه كخنزير "

قالها يشير بسبابته نحو قدميها فأسبلت أهدابها تهمس بحسرة " وتضيع نفسك لأجلي "

ضحك بعصبية وهو يعتدل قائلا " أقسم لكِ بحق لا إله إلا الله أني ما أن أحصل عليه فسأذبحه .. وعند قدميكِ .. فقط قولي أين هو "

لم ترد مباشرة ترفع بصرها إليه وارتجف ثغرها في محاولة تبسم متشققة هامسة " هذا شعور .. رائع .. أقدره منك جدا "

زمجر غاضبا وهو يبتعد عنها بانفعال محتدم " أنا لا استعرض كي تقدرين هذا "

التفت لها لاهثا يشير لصدره " هنا .. هنا نار مجنونة تلتهمني .. أتوسل إليك فقط قولي لي .. لأنكِ حتى لو لم تفعلي فسأصل له ولو اختبأ مني تحت الأرض "

دمعت عيناها تهمس بأسى وتمني المستحيل " ليتني عرفتك منذ سنين يا عمر "

هز رأسه بضيق وعدم افصاحها يخنقه فصرخ بغير صبر " كفى يا مياسة .. قولي لي أين أجده "

نفت بإشارة ضعيفة تخبره بوهن " للأسف .. لن تجده يا عمر "

اتسعت عيناه بغيظ عارم احتشد في صدره فدفع كرسي بساقه وضرب الطاولة " سأجده يا مياسة .. ولو لم تقولي سأجده "

كررت حركتها مؤكدة بخدر " لن تجده "

استفزت أعصابه فأقسم باندفاع " أقسم بالله أن أجده ولن يثنيني عن قتله إلا الموت "

" لن تجده "

" سأجده يا.. "

قاطعته بصراخ عنيف فجأة " لن تجده يا عمر .. لأنه بالفعل مات "

تجمد فجأة محله يرمقها بفراغ مفاجئ وهي تلهث قبالته لينفي بغير تصديق " تكذبين .. هل تريدين حمايته مني ؟ "

أغلقت جفنيها بإرهاق وهمست " حقا من الرائع هذا الشعور بالحمية منك عليّ ، أقسم بأنه يكفيني "

أوقف كلماتها بجنون صياحه " أنتِ كاذبة "

فتحت عينيها الدامعتين إليه تكرر " مات .. مات يا عمر "

نظر لها يتقصى الصدق في ملامحها حتى همد جسده الفائر فجأة كأن ماءً مثلجًا لسعه بغتة فانهار يجلس على الكرسي بينما مياسة تكمل " مات .. أقسم بالله مات "

هز رأسه برفض غير راضٍ بنهاية كهذه يردد حاقدًا " لا .. لا .. ليس عدلا موته .. ليس عدلا ألا يموت على يديّ أنا "

غطى وجهه بكفيه وكأن ثأره انتهى قبل البدء مما أثقل كاهله يردد " ليس عدلا ألا تبرد ناري بسخونة دمائه .. ابن الكلب .. ابن الحرام عديم الشرف ال **** ابن الكلب "

ظلت مياسة صامتة تراقبه كمن تم تقييده فجأة .. مما جعلها تتمنى لو تستطع اراحته بأي سبيل

رفع وجهه إليها يمسح أنفه ويقول آسفا " لقد تأخرت جدا "

انزلقت من زاوية عينها دمعة لتهمس بضعف " كم ألوم أبي أن لم يرشدني منذ زمن على بيت العز الذي تربت فيه نورين .. ليت كان لي من عز قلبك نصيب أنا أيضا "

دمعت عيناه بدوره وأسند رأسه على كفيه فوق الطاولة مطرقا وصمت

فلفهما السكون المشبع بأمنيات غير ممكنة وحسرات ثقيلة

حتى أنهاه جرس الباب الذي ضرب فانتفضت قليلا لكنه لم يتحرك مباشرة ليعود الطرق قويا، رفع وجهه مضطرا يهمس باختناق " إنها نورين "

راقبته وهو ينهض بتثاقل لاستقبال أختهما والتي بزغت تهتف بقلق " صباح الخير أخي ، أين مياسة وكيف حالها "

وقعت نظراتها عليها مع آخر الكلمات فتأوهت وهي ترمق وجهها المنتفخ بصدمة قبل أن تتحرك سريعا نحوها ودون مقدمات احتضنتها بقوة دون أي سؤال أو ضغط غير مرغوب

فقط عناق أختين ممتد جعل عينيّ كل منهما تدمع ومياسة أحست بغصة وهي تستسلم لحنان أختها الأصغر التي قالت بصدق " ارتعبت عليكِ بشدة ، أردت القدوم لكني علمت أنكِ احتجتِ لعمر أكثر "

حاولت مياسة التبسم بشفتيها الذابلتين فلم تستطع لتمسد نورين على وجنتيها الجافة تطمئنها " أعتقد بأن كل شيء سيكون بخير الآن .. حدسي يخبرني أن السوء انتهى "

أومأت مياسة بغير معنى فدنا عمر قائلا ببعض التحشرج وضياعه ظاهر " أنا سأنزل لحسن .. سننتظركما .. انتهيا على مهل والحقا بنا "

ابتسمت نورين تتحكم في قلقها عليه وأومأت ليكمل منبها " اطعميها فلم تأكل "

أخبرته نورين برقة " لا تحمل همًا .. هل أكلت أنت "

لوح بلا اكتراث يلقي نظرة أخيرة على مياسة التي تعلقت مقلتاها به وكأنها تمنت لو لا يبتعد

لكنه ابتسم قليلا ثم استدار عنها وعندها انهارت كل تعابير الصلابة فيطفح الوجع والارتياع

ليترك نورين تتعامل نفسها مستديرة لأختها الأكبر قائلة بمرح يخفف الأجواء " لقد جلبت مجفف الشعر معي .. كنت أعلم بأنكِ ستحتاجينه .. لكن أولا سنتناول افطارنا معا .. فطفلتي جاعت "

 

.............................

 

" صباح الخير " استقبلته عند البوابة بلهفة ترى وجهه الوسيم يطل عليها فيطلع النهار على دنياها

ابتسم يلامس جانب وجهها بحنان أبوي خالص " صباح الخير حبيبي، كيف حالك اليوم، إياكِ أن تكوني مرضتِ بعد جنون الأمس "

ضحكت بخفة وهي تحتفظ بيده " لا بالعكس، كان نومي هانئًا جدا "

" لتكن أيامك كلها هناءً يا كل الهناء " همس لها بلطف فتنهدت حتى قاطعهما خروج تاج مرحبا ليعتدل فجر بتهذيب " كيف حالك يا عمي "

ابتسم له تاج بترحاب ثم استفسر " ألم تر عمر ؟ "

رد فجر بهدوء دون تقلقل " كلمت حسن ما أن استيقظت وكان عمر لا زال نائمًا "

أومأ تاج يقول " أفكر بالذهاب لنورين .. أريد الاطمئنان عليها وعلى مياسة "

ظهرت عالية قائلة بتريث " لا داعي يا تاج ، نورين أخبرتني أن مياسة رغبت بالعودة وهم جميعا في الطريق الآن .. سنفطر معا "

نظرت بعدها نحو فجر وليل تعرض " أنتما ابقيا معنا أيضا لتناول الافطار "

رد فجر بهدوء " لا داعي يا عالية هانم سنفطر أنا وليل خارجًا فنحن سنتولى بعض الأمور في العمل بدلا عن عمر ومياسة اليوم ونريد كسب اليوم من بدايته "

ما أن انتهت كلماته المهذبة حتى لاحت سيارة حسن تقترب إلى أن ركنت أمامهم يترجل منها هو وعمر ومن الخلف نورين ثم مياسة

والأخيرة أكثر من تم التركيز عليه بملامحها البالية المنتفخة بوضوح فتبرعت نورين تلقي تحية مرحة تلهيهم بها لتبادر عالية " لو لم تأتيا يا نورين كنا قادمين أنا وتاج .. هيا لنتناول الافطار "

قالت نورين بهدوء " استيقظت مبكرا وتناولته أنا ومياسة معا "

انتقلت النظرات نحو مياسة والتي كانت مكتفة سارحة إلى أن رفعت وجهها صوب أبيها الذي ابتسم قائلا " كيف حالك يا مياسة "

اهتزت ملامحها لوهلة حتى دنت منه ترفع ذراعيها لتعانقه فجأة قائلة بهمس مكتوم " سامحني يا بابا "

اتسعت ابتسامته الحزينة وهو يحيط بها بذراعيه مغمغما قرب أذنها " حبيبة بابا أنتِ وأول فرحته "

تأثرت الأعين المراقبة لهذه المشاعر الصافية النادرة الخروج من شخصية صلدة كمياسة

 

أحست ليل بلمسة فجر على كفها فرمشت تطالعه لتراه يبتسم بحنان ثم اقترح " هل نذهب نحن ؟ "

تنبهت عالية تؤكد " هل أنتما متأكدان ؟ .. كنتما تفطران معا ثم اذهبا "

أصر فجر بهدوء فاستسلمت لما يفضله إلى أن تخلى عمر الساكن مستندا على سيارة حسن عن طول صمته مستوقفًا فجأة " انتظر يا فجر .. كنت أريدك أنت وليل في أمر ما "

اهتم الجميع بفضول فحول عمر نظراته إلى تاج الذي يلف ذراعه حول جذع ابنته الساكنة بحضنه وقال " عمي تاج .. لو لم يكن لديك مانعًا .. أنا أرغب بضم زفافي مع زفاف فجر "

اتسعت النظرات بتفاجؤ من الاقتراح ورفعت مياسة وجهها بحدة مصدومة ترمقه بعدم فهم

رمقها عمر لثوانٍ ثم التفت لفجر وليل منتظرا ليقول الثاني ببساطة " فكرة جيدة .. لا مشكلة أبدا "

نظروا لليل والتي ابتسمت مرحبة ببشاشة " ستكون الفرحة مضاعفة بكل تأكيد "

استقرت الأوجه على مياسة التي تكورت شفتاها وتقلصت أصابعها قليلا ليتحدث تاج " أنتِ ما رأيك يا مياسة "

ازدادت احداقها اتساعا غائرا بتخبط وخوف التقطه عمر الذي أومأ لها ببطء دافعًا قلبها كي يثق ويستكين

ابتلعت ريقها تتنفس بقوة إلى أن أطرقت تهمس بتقطع متردد رغما عنها " موا..فقة "

تعالت الزُفر بارتياح وسعادة قبل أن تندفع نورين " يا ويلي .. سأزغرد "

همت لتفعل لينكتم احتفالها الخاص ما أن هجمت أصابع حسن تحيط بجانبي فمها حتى أصبح شكلها مضحكا بشفتيها المضمومتين من الجانبين ومفتوحة قليلا بينما يحذرها " لسنا في الحارة .. ستفضحيننا يا شعبية الأصل "

تأوهت ساخطة تتحرر منه مغمغمة " يا مفسد المتعة هل أنستك أوربا أصلك .. رحم الله كرة الجوارب "

ارتفعت بعض الضحكات عليهما فلم تستسلم نورين تماما تقفز كطفلة لا أنثى حامل بمولود قادم

تدنو من مياسة المنكمشة بوجل قائلة بفرح غامر وهي تعانقها " مبارك يا مياسة .. أخيرا "

لم ترد مياسة وهي ترنو لعمر بأعين متسائلة خائفة إلا أنه ابتسم لها واثقا بما قرره رغم الشحوب المريع المحيط بتعابيره
 


ابتعدت نورين تهتف بثقة " ألم أقل لكِ .. أقسم بالله حدسي أبلغني أن السوء انتهى والقادم كله سعادة "

مع انتهاء كلماتها المتفاخرة كان رنين هاتف عالية وليل يدقان بتتابع في رسائل متوالية

أخرجت كل منهما هاتفها تقرأ ما وصلها

والتعابير اختلفت بين وجهيهما

فكانت عالية تُصدم لوهلة قبل أن تتسع نظراتها بشيء شيطاني ماكر وارتجف ثغرها بتبسم شامت مذهول

أما ليل ..

فشحبت تفغر شفتاها غير مصدقة وتجمدت بأرضها لدرجة استجلبت الأنظار لتسأل نورين وقد بهت وجهها قليلا " ليل .. ماذا حدث "

لم ترد ليل ولم ترمش وهي ترفع نظراتها لعالية التي لم تستطع طمر ملامح الحقد عن وجهها

ليسحب فجر الهاتف حينها وقد اشتعل فضوله وقلقه يقرأ ما وصلها

قبل أن تتسع نظراته ليهتف عمر بعصبية " لينطق أحد "

رفع فجر وجهه يقلب بصره بين الوجوه ثم أعلن " نادر المنصوري .. انقلبت سيارته ونشبت بها النيران "

تعالت الشهقات بينما نكست ليل رأسها بشعور فراغ عميق وهو يردف بتوضيح كامل " وكان هو بداخلها "

 

عم الصمت على الجميع والأعين تتناقل من ليل إلى تاج الذي تجهم وجهه صامتًا

فكانت عالية أول من بتر الصمت تعبث بالهاتف قبل أن ترفعه باتصال ما حتى قالت بهدوء " أريدك أن تبحثي لي عن أقرب تذاكر طيران للوطن .. أريدها الليلة إن أمكن .. نعم .. ثلاث تذاكر "

ما أن أغلقت الخط حتى سألت نورين بالتباس " ثلاثة لمن ؟ "

التفتت عالية نحو تاج الذي زفر يقول " أنا وعالية وليل "

لم تعقب ليل المتجمدة ليكمل تاج وهو يرمق مياسة " على عيني تركك الآن .. أختك ستجيد الاعتناء بكِ حتى نعود .. ولن نتأخر "

أومأت مياسة بعدم فهم لتكسر ليل طول صمتها هامسة بتشتت " أنا .. سأصعد لغرفتي "

قالتها وانسحبت دون تلكؤ تحت نظرات فجر المراقب عاجزًا عن قول شيء وقد باغته هول الصدمة

إلى أن تنحنحت مياسة تنسحب بدورها تلحقها عالية لتقول نورين باهتزاز " هل خانني حدسي هذه المرة ! "

رفع تاج نظراته لها وتدبر ابتسامة حانية يقول " بالعكس طفلتي .. السوء فعلا ينتهي بانتهاء الظالمين "

لم تعقب نورين فنظر حسن لفجر سائلا بحيرة " وماذا ستفعل أنت "

هز فجر رأسه جاهلا يردد " لا أعرف يا حسن .. لا أعرف "

 

.................................

 

رجل تجرد من السُلطة بإفلاسه للمال

فكان أشبه بمن تعرى أمام الناس وتخبط ذعرًا بغير بصيرة يستر نفسه ولو تمرغًا في الوحل

أقرب إلى كلب مسعور تأخرت حالته ، يهاجم بعداء غبي غير مدروس

فيأكل ولو من القمامة، وينهش ولو بلحمه

فقط يترنح خائفًا

يركض نحو نهاية نفق مظلم بغير إدراك أن نورها ما هو إلا وهج جحيم اتقد له خصيصًا بطول صبر وتخطيط

يغريه بدفء يشع من البعيد

حتى إذا ما اقترب من الحافة .. استعرت الهاوية

والتهمته في قعرها

وتلك .. مجرد بداية لنهاية ظالم تجبر طويلا !

 

خطة مُحكمة

ظن من خلالها مغيبًا أن يفلح في تحقيق مبتغاه واتخاذ خطوة حقيقية نحو مجده الضائع

فكان الفشل محققًا

وافق نادر المنصوري على الصفقة المربحة .. خطط طويلا ونفذ كل شيء بشكل ذكي أو هكذا اعتقد

دون أن يعلم أنه مجرد لعبة غبية خيوطها في أنامل غيره

دخلت الصفقة الضخمة للبلاد فلهث يكاد أن يحتفي بنصره القريب والأرباح الكبيرة

فكانت الطامة أكبر

عندما تم كشف الأمر الذي ظنه سريًا من الجهات المسؤولة

والتي كانت تملك خلفية مسبقة

وأصبح نادر المنصوري .. مطلوبا من العدالة !!

جُن صارخا يفقد عقله ما أن وصله الخبر الصاعق وتخلى عنه الجميع

أخذ يبكي ويلطم مولولا كما لم يفعل حتى في خسارته الأولى

يلهث وتتسع عيناه ينظر حول منه متوقعًا هجوم الشرطة عليه في أي لحظة وقيادته نحو مصير لا مفر من قبضته

مصير يلوح له بحبل مشنقة !

لكنه هب مرتعبًا وقرر الهرب

نعم .. سيهرب

وسيعيد حساب كل شيء

لن يجدونه

أبدا لن تكون نهاية نادر المنصوري سجنًا واعدامًا !

نزل من شقته في الوقت الذي حضرت قوات أمن لاقتياده

فر منهم يرتجف ويتخبط متوجهًا لسيارته فيراوغ هربًا منهم

يركض ويلاحقونه كظلاله بينما يقطع السبل والطرق عشوائيا متسع العينين يلهث ويصرخ

وقد كان محاصرا من كل صوب ولا يعرف كيف يتمكنون من الوصول له بهذه الكثافة

كأنما أحدًا تعمد حفر كل هذه الأخاديد المشتعلة له

أخذ يصرخ .. لا

لن يسمح لهم أبدا

دموعه تسيل وهو يرى صور ماضٍ بعيد كان فيه سيدًا لزمانه لا يعلو شأنه شأن

 

وصل نحو هضبة عالية يصعدها بسيارته مراوغا الشرطة حتى بدأ يفقد التحكم في القيادة وينعدم تركيز بتوقف عقله تدريجيًا وقد أحس أنها النهاية حقًا

وكان ختامًا جنونيًا يليق بمتجبر مثله .. يستحق نار الدنيا والآخرة

ورآها تلوح له ما أن اختل توازنه بالسيارة الثقيلة فينحرف بها بقوة لم يستطع تمالكها

وآخر ما تذكره كان صراخًا هستيريًا يعج من حنجرته، بينما السيارة تطير حرفيا في الهواء وتنقلب مرة وأخرى إلى أن استقرت عند الهاوية متدمرة تماما

وآخر ما لمحه كانت نارا عارمة اضطرمت في السيارة وهبت ركضًا تجاهه

ومهما صرخ

لم تتوقف عن التهام لحمه أبدا
 


...............................

 

لا .. لا يوجد فرصة نجاة

الحروق وصلت لكامل الطبقات حتى دمرت العضلات وقتلت الأعصاب

وامتدت عميقًا لمعظم الأنحاء

لذا .. لا مجال لأي شفاء !

كانت كلمات الطبيب آسفة إلا أنها حازمة تبتر أي أمل مما جعل ليل تهز رأسها وتهمس بصوت باهت " حتى لو .. سافرنا به لتلقي العلاج "

قاطعها الطبيب بهدوء يُسمعها ويُسمع عالية المجاورة لها " هذا لن يزيده إلا عذابًا .. في حالته .. لا يوجد ما نقدمه إلا منحه بعض السلام في أوقاته الأخيرة "

" الأخيرة " رددت ليل بذات النبرة الخالية من الشعور فأومأ الطبيب بعملية لتتدخل عالية بهدوء " شكرا لك حضرة الطبيب "

رد برسمية ثم تحرك مغادرا من أمام غرفة العناية المشددة يتركهما لتهمس ليل باهتزاز " أود رؤيته "

ربتت على كتفها عالية قائلة " سندخل له "

قطبت ليل بتشوش .. هل ستدخل معها

التفتت عالية نحو تاج الجالس على أحد الكراسي بالقرب منهما ساندا وجهه على عكازه مطرقا بصمت يجاوره حارس

لتعود عالية لليل مؤكدة بثقة " نعم .. اتفقت مع الطبيب وسمح لنا أن ندلف له .. هل أنتِ مستعدة لرؤيته "

اختنقت ليل ترمقها بصمت للحظات حتى استفهمت بصوت فاتر " لمَ أتيتِ معي يا خالتي "

نظرت لها عالية للحظات بسكون حتى أقرت دون حرج " لأشمت به "

أسدلت ليل أهدابها ولم تجد ردًا فشددت عالية من الضغط فوق كتفها قائلة بقوة دون أن يرف لها جفن " ليل .. أنتِ ابنتي أنا .. فلا تحسي بالأسى تجاهه "

رفعت ليل نظراتها لها قائلة بتهكم مر " الأسى الحقيقي هو أني لا أشعر بالأسى أصلا .. لا تقلقي "

" سيدة عالية "

نادتها إحداهن فالتفتتا للممرضة التي أشارت لهما " سنجهزكما قبل الدخول .. تفضلا معي "

 

..............................

 

بخطوات بطيئة .. كانت تتقدم لحظة وتقف الأخرى

بينما عالية بجوارها تمنحها كامل الوقت الذي تحتاجه إلى أن سحبت ليل نفسا تقوي به قلبها ثم دلفت للغرفة الباردة

انقبض قلبها بشدة وارتعشت ونظراتها تقع فورا عليه ممددا فوق سريره

ملفوف بالكامل لا يظهر منه إلا بعض وجهه فشهقت أسفل الكمامة تغمض عينيها بفظاعة وتخشبت بمكانها مصعوقة

دفعتها عالية قليلا كي تتقدم .. وتوقفت بجوارها تنظر له بصدمة من شكله الذي لا يمكن وصفه

أقل ما يقال أن ملامحه ذابت وسط اللهب فلا تتعرف عليه الآن

تململ يفتح عينيه وهو لا يشعر بأي شيء وجسده بالكامل متخدر

وزع نظراته الزائغة في الفراغ حتى وقعت عليهما

وعندها تقسم عالية أن توهمت انتفاضة جسده مأخوذا برؤيتها قريبة منه

أخذ يحاول الغمغمة بكلمات متداخلة غير واضحة ولسانه يثقل

حتى تخلت عالية عن طول سكونها ودنت منه تترك ليل خلفها متجمدة منقبضة

إلى أن وقفت على بعد منه كأنها تنفر من الاقتراب وقالت " والله زمن يا نادر "

ارتعش ثغره ووجهه المحترق يزداد سوادا وقلبه ينبض ويضطرب فتضج الأجهزة الموصلة به قليلا إلا أن أحدا لم يهتم وهي قبالته تتكتف قائلة بتشدق " أخبرني .. ما رأيك في النهاية "

اهتزت مقلتاه لا ينطق بشيء وهي تضيف " فخمة .. تليق بك .. لم أقبل بما هو أقل لك "

فغر شفتيه الناشفتين وكأنه يحلل بصعوبة ما يصله

لتغمزه عالية مؤكدة باعتراف ساخر  " لقد أتيت اليوم بنفسي كي اتأكد من اكتمال نضج ما طهوته .. لكن .. يبدو أن النار العالية أحرقته "

دمعت عيناه وأخذت شفتاه تتحركان دون وضوح لتقاطعه " لا تقل شيئا يا رجل .. لم أفعل شيئا صدقني "

صمتت وهو استمر يرنو لها بعجز وألم شديد ينخر بقلبه فيتسع ثقب اللا رضا فيه

إلى أن فرج شفتيه من جديد يجاهد للنطق فقال بخفوت صعب " كله كا..ن.. لأ..ني.. أح..بك "

تعكرت ملامح عالية بنفور جعل دموعه تطفر أكثر حتى قالت من علوها البعيد عن متناوله " هل تعرف ما أكثر ما ندمت عليه يا نادر فعلا "

رغم علمه بأنها ستقول ما يؤذيه لكنه كمهووس تمنى أمنية أخيرة مجنونة لو تخبره أن ندمت على حرمانه من فرصة تاق لها طوال عمره


لكنها انحنت له قليلا قائلة بصلابة شرسة وقاسية ولا تريحه بمراده " أعض أصابعي ندمًا .. أني أمهلتك كل هذه السنين تعيث في الحياة فسادًا .. أنت كلب مسعور يا منصوري .. لم تكن لتهمد إلا بالقتل "

شهق بغور واضطرب بعنف حتى عادت الأجهزة تصرخ والمؤشرات الحيوية تتدهور فاستقامت بهدوء ترمقه مزدرية " لا أراحك الله يا نادر .. إن لم يكن بذنب الناس الأغراب فبذنب ابنتك اليتيمة .. حسبي الله ونعم الوكيل فيك "

دمعت عيناه وأخذ يحاول ندائها إلى أن فُتح الباب يطل من ورائه تاج الذي يبدو قرر متأخرا أن يدخل

ومجرد لحظة طالع فيها شكل نادر حتى ارتعد يردد مبهوتًا " اللهم أجرنا عذاب جهنم .. لا حول ولا قوة الا بالله "

لم يتوقف نادر عن محاولة ندائها يتمنى منها ولو نظرة واحدة بها سماح ورحمة ثم ليموت راحلا للجحيم إلى الأبد

إلا أنها مطلقا لم تريحه بما رغب

بل وصله صوت عدوه ينادي بحزم " عالية "

قطعت حينها تواصل النظرات الكارهة منها ترمق تاج بوداعة فورية ليأمرها " يكفي .. يكفي يا عالية .. ليرحمه الله "

لم ترد بآمين فتابع بصرامة " اخرجي يا عالية .. يكفي "

زمت شفتيها لبرهة قبل أن تزفر مغمغمة بهدوء " حاضر "

ثم أمام نظرات نادر الملتاعة والذي أخذ يصرخ ويهذي بحس مبحوح خرجت مع تاج لتبقى فقط ليل الواقفة في زاوية الغرفة تراقب ما يحصل من بعيد وكأن لا شيء يعنيها في المشهد الدرامي المأسوي

إلى أن نهج وارتعش بينما هي دنت حينها منه فتنبه لها متأخرا

لتقف أمامه منادية بلا معنى " أبي "

أخذ يلهث أكثر وتتدهور حالته مما استرعى حضور الأطباء له يحاولون دفعها للخروج بحسم

لكنه أخذ يحاول التكلم معها بشيء غامض فمالت إليه تلقائيا " ماذا قلت "

لهث للحظة ونظراته تنقلب كأن الروح تفارقه .. حتى عاد ينظر لها وهمس بأنفاس حاقدة ورائحة حروق قلبه تطغى على حروق جسده " أنا .. أكر..هك "

خمد جسدها ترمقه بفراغ كبير بينما تستسلم أخيرا لدفع الأطباء لها كي تخرج من الغرفة بخطوات أشبه بطفو متأرجح غير ثابت

وانزوت على نفسها جالسة فوق الأرض النظيفة دون أن يلاحظها أحد تتعامل مع شعور رهيب بالبرد قصف قلبها

 

وعلى بعد خطوات كانت هوليا تقترب ركضًا ما أن رأت عالية أمام غرفة زوجها فصرخت بجنون " أيتها الحقيرة .. ماذا تفعلين هنا .. هل تشمتين .. هل تشمتييييين "

بدأ الوضع يتطور والعاملون يتجمعون حولهم لفض نية الاشتباك الواضحة والتي منعها الحارس بإبعاد هوليا مزمجرا بتهديد

لكنها لم تسكن تسب وتصرخ بأعين تبرق بغير تحمل لوجودها هنا بينما الأطباء يتوافدون على غرفة نادر فتحول الوضع بالمشفى لكارثة بشرية متشابكة وغير مفهومة

 

إلى أن أنهت الصراخ العنيف عالية

بتقدمها من أختها ورفعت كفها وبقسوة هبطت به تلطمها في صفعة مباغتة تأخرت سنوات طويلة

رن صداها في الأرجاء حتى تعالت الشهقات وتجمدت الأوجه تخرس بذهول وترقب

خاصة هوليا التي تصلبت ترنو لعالية مصدومة ويدها على خدها المصفوع الأحمر

لم تمنحها عالية فرصة التمرد وهي تجذبها من شعرها بقسوة وقد طفح كيل الصبر وزعق ، فلا أحد بقادر على ردعها هذه اللحظة بينما تزمجر بعنف وتجبر قاسٍ " ورحمة أبي الذي لم يُحسن تربيتك .. لولاه هو فقط .. لوأدْتُكِ في أرضك دون حتى كفن "

صرخت هوليا تحاول التملص فدفعتها عالية بقوة مشمئزة لترتطم بالحائط وتسقط أرضا رافعة وجهها الذليل لأختها العالية التي جلجلت تشهر سبابتها " منذ هذه اللحظة أخبرك .. لن أحتمل منكِ ولو نفسًا يزعجني أنا أو ليل .. أقسم لكِ بالله ثلاثة يا هوليا .. أفنيكِ كأنكِ لم تكوني إلا حفنة تراب .. وحتى والدانا لن أحسب لهما حسابًا "

أنهت كلماتها المتوعدة تبصق عليها أمام المتفرجين فتدخل تاج أخيرا بوجه كئيب " يكفي يا عالية .. يكفي لهنا "

لهثت عالية راضخة ولا زالت ترمق أختها المنكبة على الأرض دون أن يحاول أحد مساعدتها وقالت " لأجلك فقط سأكتفي .. ولكن المرة القادمة لن يمنعني عنها إلا موتها "

شهقت هوليا عدة مرات تجاهد لابتلاع دموع اهانتها فلم تقدر لتنسكب جهرا بعار

وليل لا زالت في الركن البعيد منفصلة عما يجري

إلى أن أنهى المشهد المسرحي خروج أحد الأطباء يلهث ويخلع كمامته بأسى معلنا " البقاء لله .. لم نستطع تقديم المزيد .. فقد المريض حياته "

تجمد المشهد لوهلة برهبة

إلى أن انكسرت اللحظة بالصرخة العارمة التي أطلقتها هوليا في الوقت الذي رن هاتف ليل لتستقبل اتصال فجر مبادرة بصوت لا حياة فيه " فجر .. لقد مات المنصوري .. وآخر ما نطق به .. أنه يكرهني "

 

......................................

 

" صدق الله العظيم .. الفاتحة " أنهى الشيخ تلاوة القرآن فارتقت الأيادي بقراءة لسورة الفاتحة للمرحوم الذي تم مواراة جسده أسفل الثرى للتو راحلا لمثواه الأخير

مسحت ليل على وجهها بعد أن انتهت من القراءة وقد بدأ بعض الأفراد القلائل الذين حضروا الدفن يقدمون لها التعازي المقتضبة ثم يرحلون

لتبقى هي وحدها مع أمها التي تقف قرب القبر منعزلة

ومن خلفهما عن بعد قصير يتواجد أمير الفارسي

احتضنت ليل نفسها وهي ترنو للقبر بأعين يسكنها الخواء وملامح هزيلة خالية من أي تعبير

زفرت تغمض عينيها تثقلها الوحدة فتمنت لو أنها لم تدفع خالتها مع تاج الحكيم ليسبقاها في العودة لأوربا

ولكن للأسف ..

وجودهما لم يكن له أي معنى وفي كل حال لم يكونا ليأتيا المدافن كي يقدما التعازي مثلا

فتحت عينيها تنتبه لأمها التي رفعت وجهها إليها قبل أن تستقيم من جلوسها قرب القبر وتقدمت منها هامسة بغل " هل ارتحتِ يا ليل "

لم ترد ليل عليها بينما هوليا تكمل ببغض غريب " ها هو مات وتركني بمفردي .. فهل ارتحتِ "

مجددا لم تتجاوب ليل إلى أن رفعت نظارة سوداء تحجب بها برود عينيها الصلبتين وهمست " أنا سأسافر غدا صباحا .. وداعا أمي "

هزت هوليا رأسها فانتفضت خصلاتها تنظر لها بحدة وكره ثم هجمت عليها تهزها وتهتف " ليتكِ متِ .. ليتكِ متِ منذ لحظة ولادتك .. أيتها العار الكريهة كم كرهناكِ أنا وهو "

" كفى يا هوليا " هتف أمير وهو يتخلى عن تباعده فيفصلهما عن بعض مبعدا هوليا بثبات عن ليل التي لم تفقد جمودها وإنما رمقت أمها بلا حياة أسفل دكنة النظارات ثم استدارت بهدوء ترحل متجاهلة ظاهريا الهتافات والصياح والسباب الجنوني المرتفع " كله منكِ يا حقيرة .. كله منكِ يا كلبة .. عسى الله أن يحرق قلبك "

 

" ليل " ناداها أمير فتصلبت للحظة حتى التفتت له بذات هيئتها الجامدة ليتأملها للحظات قبل أن يقول بلا هدف " كيف حالك "

رنت إليه لثوان قبل أن تعاود النظر نحو القبر الذي سقطت أمامه أمها تنوح وتصرخ وحدها

ثم عادت لأمير مجيبة " انتهى السوء من حياتي اليوم "

أومأ لها يؤيدها " نعم .. انطوت صفحات الألم أخيرا "

صححت له بهدوء " بل تمزق كل الكتاب اليوم "

مالت شفتاه وهو يشملها بنظرات لم يخف الشجن فيهم وقال " هنيئا لكِ إذن "

عقدت حاجبيها قليلا فابتسم أكثر بغباء وبدا الوضع شاذا وهو يهديها التهاني في يوم موت أبيها

لتتمسك هي بحقيبتها بكلتا يديها وبهدوء استدارت عنه بينما يراقبها من مكانه .. حتى عادت تتوقف متلكئة قبل أن تلتفت له قائلة " لم اشكرك لليوم "

عبس قليلا ولم يقاطعها فأردفت مطرقة " لقد أنقذت حياتي عندما كنت سببا في إنقاذ فجر "

عادت تنظر له من أسفل الحاجز الأسود وأكملت بصدق " شكرا لك حقًا يا أمير "

رمقها بأسى ثم تحدث باحتياج " هل .. سامحتني "

سكتت لفترة إلى أن ابتسمت ببطء بشبح تبسم ضعيف تهديه ما رغب بنفس صافية رغم التعكر الداخلي " سامحتك .. وأتمنى أن تجد يوما ما يجعلك تسامح نفسك أيضا "

فردت كفها تلوح له بسلام أخير هادئ " تستحق السلام .. فسلام عليك أمير "

رفع يده يودعها بحنين " وداعا يا ليل "

استدارت عنه أخيرا تكمل طريقها نحو الخارج وهو اتبعها بنظراته حتى خرجت عن المكان فنكس رأسه صامتًا

 

بينما هي سارت تتمسك بحقيبتها ناظرة للأرض بسهو حتى كانت روحها تُنادى .. فرفعت وجهها بتلبية تراه على الجانب الآخر من الطريق

يقف بجوار سيارة حديثة مستندا على مقدمتها وينظر لها مباشرة وقد كان بانتظار ظهورها

فغرت ليل شفتيها مرددة بذهول " فجر "

ابتسم لها عن بعد فشهقت تهب فيها الطاقة لتعدو تجاهه فورا

بينما أحضانه تستقبلها بقوة وترحاب مشتاق وهي تتعلق به وبلا مقدمات كانت تنفجر في البكاء فوق صدره ليهدهدها كطفلة وهي تشكوه بهذيان " لحد آخر لحظة .. كنت أميل له متلهفة أن يخبرني ولو لمرة فقط أنه آسف وأنه حقا أحبني .. إلا أن آخر ما نطق به هو أنه يكرهني .. لن أسامحه .. لن أسامحه أبدا يا فجر "

ضمها له بقوة ملامحه تنعصر كقلبه عليها وقال مهدئا " أنا أحبك بدلا عنه وعن كل الدنيا .. قلبي يحبك عن كل قلوب الناس .. أنا هنا لأسد بمحبتي كل جحود آلمك .. أنا آسف يا حبيبي .. أنا آسف .. لا تحزني "

ظلت تبكي وترفع وجهها قائلة " أشعر بفراغ كبير .. أنا حزينة لأني لست حزينة .. تمنيت جدا لو أحزن عليه ولو للحظة .. كم يؤلمني أني سعيدة أن مات "

" أنتِ بشر يا ليل " همس مخففا عنها برفق فشهقت من بين بكائها " لا .. مشاعري تجاهه شيطانية لا تعرف إنسانية .. بسببه "

تأوه يحيط وجهها بين يديه " اسكتي يا حمقاء .. أقسم بأنكِ تملكين نقاءً أنا نفسي لا أملكه ومهما سعوا لإبادته لم يفلحوا "

أغمضت عينيها تهز رأسها نفيا فأخذ يمسح دمعاتها بإبهامه وهمس " هل تعلمين ماذا ؟ .. كوني شيطانًا حتى .. أنا أيضًا أحبك .. أحبك في كل حالاتك .. شيطانًا كنتِ أم ملاكًا .. أنا أحبك مهما يكن "

نظرت له تتشرب أراضيها بعذوبة عيونه المتفجرة فترتوي وهو يشدها لحضنه من جديد " لا تبكي حبيبي .. أبدا لا تبكي .. انتهى زمن البكاء يا ليل .. انتهى "

أومأت له واستندت عند رقبته للحظات طويلة تنهي كل ما بصدرها من بكاء مختزن

حرك وجهه يقبل رأسها مراضيًا ثم رفع عينيه عرضيًا نحو المقابر فتصلب جسده

حيث كان أمير على الطرف الثاني يقف مراقبًا بوجه شاحب وذاهل

تلتقي نظراته الزرقاء بعيني فجر الرماديتين وقد تحولت مقلتاه لبرودة مفاجئة تحمل قبس تحدي جنوني بينما يشمخ بأنفه عاليا

ها هو فجر يعود للأرض التي نُفي منها ، لكنه لم يعد مثلما خرج

كان آخر .. ويظهر هذا ليس فقط على ملابسه الأنيقة ولا السيارة الحديثة بجواره

بل حتى بنظراته وتعابيره الصلبة ..

فحتى وإن كان أمير الفارسي لا زال الأقوى .. لكن فجر الرمادي لم يعد لقمة سائغة يسهل ابتلاعها

 

ظل فجر متحفزا مرتقبًا حتى ليل شعرت بتشنج عضلاته .. لكن أمير بدوره كان قد اختلف

وفي اللحظة التي رأى فيها ليل تركض لحضن آخر

كان يعترف بإيمان لا انكار فيه بعد الآن

أنه لم تُخلق ليل إلا لشخص واحد .. وهو فجر الرمادي

وما كانت حياتها إلا رحلة بحث شاقة عنه

 

لذا بهدوء تام كان هو من ينسحب من المعركة الخاسرة منذ بدايتها .. فيضع نظاراته الحاجبة على عينيه ويتحرك مبتعدا نحو سيارته يلقي نظرة أخيرة على المنظر الذي بدا انسيابيا جدا وليل في أحضان زوجها الذي أحبت واختارت

وكان آخر ما فكر به قبل أن ينطلق مبتعدا عنهما

أن الزمن لو عاد بهم .. لما تجبر حاجبًا الفجر عن ليله أبدا !

 

....................................

 

كانت مياسة في حديقة بيت الحكيم جالسة على كرسي ترفع ساقيها لها ساهية حتى عن أمها الواقفة من ورائها تمشط خصلاتها الشقراء وتثرثر بشيء ما لم تركز فيه أبدا

كان لا زال وجهها واهنًا وتعابيرها تائهة مشوشة .. نومها طوال الليالي معذب جدا حتى أن نورين كانت تقضيهم بجانبها إلى أن عاد تاج وعالية والأخيرة هي من أصرت على مشاركة النوم مع ابنتها وترك نورين لتعود لشقتها حيث زوجها

 

" إن شاء الله سنخطط ما أن تعود ليل غدا .. ما رأيك ؟ " تنبهت بعدم فهم على قول أمها والتي ابتسمت تكرر بلا ضجر " كنت أقول عن الزفاف .. ستحدد ليل ما أن تأتي إن كانت ستقضي فترة حداد "

لم تهتم مياسة وهي تميل فتسند ذقنها على ركبتيها متسائلة بداخلها عن هذا الزفاف الغريب الذي طالب به

وهي التي لم تره منذ آخر مرة

بعد تلك الليلة التي قضتها في حضنه تشرح له تفاصيلا لم يدركها بشر غيره

اختفى تماما وكان يكتفي بسؤال نورين عنها بالهاتف

ولم يظهر في أي مكان بل حتى العمل لم يذهب إليه والتزم فقط بشقته..

مما جعلها تفكر بخيبة مريعة إن كان يعيد حساباته مترددًا

وهل ستعذره إن تراجع ؟

لا .. والله لن تسامحه إن تراجع حتى وإن كان من حقه القرار

لن تغفر له أبدا تلك الجراح التي تفتحت لأجله والكوابيس التي عادت بسببه

لن تغفر له الثقة التي سكبتها بين يديه دون حساب إن لم يهتم وأراقها أرضا

لن تسامحه مطلقا

 

" مياسة .. هل سمعتِ أي مما قلت " سألتها أمها وهو تعاود التوقف عن تمشيطها فرمشت مياسة لكنها لم ترفع وجهها أو ترد بشيء

فقط الصمت والتباعد البارد هو كل ما يصدر منها كالعادة لدرجة أنها لم تشاركها حتى ما حدث بينها وبين عمر إلى الآن

 

على ذكر عمر ..

 كانت البوابة الشبه مفتوحة تتحرك فرفعت عالية عينيها باستكشاف لهوية الزائر

ليطل وجه عمر يبحث بعينيه في الحديقة حتى استقر بصره على مياسة دون غيرها

ابتسمت عالية باتساع قائلة بتنبيه " إنه عمر "

انتفض جسد مياسة تخرج عن شرودها وهي توجه له عينين غامتا في الحال بعتاب وألم وشكوى هامسة لا شعوريًا " عُمْر "

فما كان منه إلا أن ابتسم عن بُعد باعتذار صامت وظل مكانه منتظرا أن تخطو هي إليه

حتى هبت عندها من جلستها تشهق باختناق وتجري إليه المسافة القصيرة بغير تفكير مكتشفة هذا الشوق الذي تفجر بجانب خوف فظيع من خسارته لو ابتعد

لترتمي عليه بتعلق قوي جعله يرتد للخلف خطوة قبل أن يتمالك نفسه فيلف ذراعيه فوريا حول جذعها متأوها " اشتقت لكِ "

أحس بحركة صدرها وقد شهقت بكتمان وغمغمت " ظننتك لن تعود يا عمر "

ابتسم بحنين يرد " كل طرق المجرم تؤدي لأسر سجونك .. مربوط بكِ يا سفاحة "

شددت من ذراعيها حول رقبته دون أن تنزاح أبدا وقالت " لقد انتظرتك وأنت تأخرت يا عُمْر "

مال يقبل كتفها مستمرا في عناقها وقد انسحبت عالية من أول لحظة وأجاب " احتجت فقط بعض التوازن لآتيكِ صافيًا .. وأنا هنا الآن .. منذ اللحظة وحتى آخر العُمْر "

ابتعدت تنظر لعينيه بحثًا عن رؤية الصدق وسألت دامعة " هل تعدني "

ابتسم يومئ بتأكيد " أعدك وعد رجل حر .. ووعد الحر دين عليه "

هزت رأسها إيجابا وذرفت دمعة تقول " أنا أنثى لا تترك دينًا لها "

ضحك بخفة وهو يعاود معانقتها قائلا بثقة " وأنا رجل أمين يُحسن سداد ديونه "

تعلقت به من جديد وهي تسمح لارتجاف المخاوف بالطفو بعد كبت الترقب لظهوره أيام طالت بطيئة

فظل يمسد ويربت على ظهرها مرددا " اشتقت لكِ يا مياسة "

 

" يبدو أنها أخبرته " قال تاج وهو واقف عند نافذة مكتبه مراقبا بعبوس عناقهما فابتسمت عالية تدنو ساندة وجهها على كتفه من الخلف وأجابت " هل تغار أن شاركته ما لم تشاركك أنت به "

أطرق تاج متنهدا يجيب " بل أنا معجب بأنه استطاع السماع "

نظر لعالية يقول براحة " هل الدنيا تضحك لنا أخيرا يا عالية ؟ "

" اضحك للدنيا تضحك لك يا تجاتيجو " أتى صوت نورين الشقي والتي اقتحمت غرفة المكتب تظهر من العدم فاتسعت عينا تاج مصدوما " تجا.. ماذا ؟؟ "

ضحكت بمرح تلاعب له حاجبيها فهز رأسه يستنكر ليزم شفتيه وهو يستدير للنافذة مجددا فيرى عمر يهمس بشيء ما لمياسة حتى جعلها تضحك رغما عنها فتأفف " ما انعدام التربية هذه .. بنت يا نورين .. اخرجي لعديم التربية المجرم هذا أخبريه أن يترك البنت أو والله حرمته من رؤيتها من هنا حتى موعد الزفاف "

التفت لعالية يكمل هتافه الساخط " وأنتِ اتصلي بليل أريد التحدث معها .. لم يكد يصدق هذا البغل الثاني فسافر لها مباشرة بتشجيع من أمه .. ما قلة الأدب هذه ؟ .. هل أنا كيس جوافة ؟ "

قالها وتحرك مغادرا المكتب بخطى عصبية تطفح غيرة فمطت نورين شفتيها قائلة بتمرد " أتصدق أنك رجل يستحق أفعالنا الوقحة من ورائه "

شهقت عالية تضربها بخفة على ذراعها ونهرتها " بنت يا قليلة الأدب كأخيكِ "

 

...............................

 

في نهاية النهار المشحون كانت السيارة الحديثة التي اتخذها منذ وصل للوطن هذا الصباح تركن أمام العقار الذي فيه شقة تاج الحكيم حيث ستقضي ليل ساعاتها الأخيرة بالوطن قبل التحرك للمطار في صباح الغد القريب

كان فجر قد أحاطها باهتمامه فأصر على اطعامها وقضاء الوقت كاملا معها فلا يفلتها لفراغها الحزين

تنهدت ليل تلتفت بوجهها إليه فابتسم قائلا " مؤكد تعبتِ، تحتاجين للنوم "

أومأت بتراخٍ هامسة " أنت الأكثر تعبًا، فلم تنم ويظهر هذا على وجهك "

ظل على تبسمه يرد " لا بالعكس، لن يتعبني قضاء الساعات معك يا ليل "

مالت شفتاها وتراجع رأسها بكسل وأخذت تحدق به توشك على اقتراح شيء ما ، فمنعها بفهم " لن أبيت معك يا ليل .. أعرف باحتياجك لهذا لكنه غير لائق "

زفرت بيأس متبرمة من عناده وتحركت تترجل بغيظ فاتبعها واقفًا قبالتها وداعبها " أنتِ أصلا مرهقة وبمجرد دخولك للسرير ستنامين كدجاجة بيضاء "

كتمت تأففها المنزعج وأومأت مجبرة ثم عادت تبتسم بامتنان صادق " شكرا لك أن أتيت رغم صعوبة هذا على نفسك .. لم أعرف كم كنت أحتاجك قربي إلا وأنا في حضنك ، شكرا لأن هذا اليوم لم يكن باردًا فارغًا ، شكرا يا فجر ، كان هذا غاليًا ودافئًا بشدة "

تأمل ملامحها الجميلة والحزينة ومسد على ذراعيها من فوق الملابس يقول باختصار وافٍ " أنتِ أهم ما لدي في الحياة يا ليل "

تأثرت بكلماته تلمع عيناها فجذبها نحو العقار يوجهها بحسم " هيا للنوم .. يوم الغد طويل "

رفعت وجهها تستدرك " كنت أريد الاطمئنان على أمي شروق مرة أخرى "

سايرها بهدوء ومراعاة " لقد حادثتِها وأخبرتك أنها بخير .. كما أن نورين اهتمت بها وحسن أبلغني أنها نامت بالفعل ترقبًا لعودتنا ، غدا تقضين الوقت معها إن شاء الله فهي أصلا منشغلة البال عليكِ "

انحنت شفتاها للأسفل وعادت تقول مشفقة " بالكاد وصلت اليوم وستسافر غدا .. هذا مرهق لك بشدة يا فجر "

ضحك يهز رأسه بفقدان أمل وتجاهلها مقبلا جبينها بقوة ثم دفعها بلطف نحو البوابة آمرًا " هيا للنوم يا ثرثارة "

تلكأت تنظر له فشجعها بعطف " اتصلي بي بمجرد أن تحتاجي لأي شيء .. أعدك أني خلال لحظات سأكون عندك "

ارتفع حاجبها تكرر بتهكم " لحظات!! "

أومأ بثقة مُعيدًا " لحظات وحياتك "

ضحكت من بين تكدر ملامحها ثم زفرت تلوح له بطاعة وتستدير متثاقلة تلقي التحية على الحارس حتى غابت داخل المصعد متوجهة فورا للشقة

تحممت تزيل آثار اليوم وبدلت ملابسها السوداء لأخرى بيتية ثم انضمت للسرير وتعبها لم يمنحها فرصة للتفكير السلبي أكثر من لحظتين فقط

وبعدهما غفت سريعا تلحق بنوم عميق لم تسكنه حتى الكوابيس

حتى أنها استيقظت عند الشروق تصلي وتنظر للوقت فتجد أنه لا زال هناك متسع قبل موعد الطائرة

فما كان منها إلا أن قررت سريعا بعزم أن تذهب لفجر رافضة قضاء الوقت وحدها حتى وإن غضب منها

لذا بدلت ملابسها وسارعت تجمع أغراضها في حقيبة ملابسها الصغيرة

قبل أن تعلقها على كتفها وتتحرك مغادرة مغلقة الباب بالمفتاح جيدا ونزلت على السلالم ركضًا بلهفة

 

خرجت من العقار تسير خطوتين بعجل .. إلى أن تسمرت محلها وهلة قبل أن تستدير بحركة بطيئة مصدومة بينما ترى فجر يجاور البواب اللطيف الذي يحكي له بمزاج رائق وهو يلتهم بعض لقيمات الطعام " آه والله كما أقول لك، هذا الشارع قبل عشرين سنة كان عبارة عن ترعة، وهذه المنطقة العمرانية كانت أصلا أراضي زراعية يملكها فلاح كبير ، وكلها بهائم لا مؤاخذة لا تُعد، لكن الله يرحمه مات مديونًا .. أخذ الشر وذهب "

بغباء كان يرمقه فجر مستمعًا يائسًا يومئ له عدة مرات كأحمق

حتى تنبه على وقوف ليل المخشبة فاغرة فمها بمنظر أبله

ابتسم حينها يشرق وجهه في الحال ولوح بدهشة " ليل .. استيقظتِ مبكرا !! "

بعدم فهم اقتربت منه دون نطق فبادر البواب بترحاب " صباح الخير يا ست ليل .. تعالي اجلسي الطعمية ساخنة بسم الله "

كررت بتخلف عقلي مفاجئ " طعمية ! "

نقلت مقلتيها لفجر بتساؤل " لماذا أتيت مبكرا هكذا "

تدخل البوابة نيابة ببشاشة مفرطة " أتي أين .. هو لم يذهب أصلا .. لقد سهرنا هنا طوال الليل .. آه والله "

بصدمة رددت " حقا "

رفع فجر وجهه وقد تضاعف فيه الارهاق وجاوب بمغزى " ألم أخبرك أن أكون قربك خلال لحظات وأنتِ من تهكم !! "

شهقت تتأمله منبهرة حتى دمعت عيناها وهي تنزلق جالسة على المصطبة جواره تلف ذراعيها حول ذراعه " فجر .. أحبك جدا يا فجر .. أحبك جدا "

ابتسم يرمق ملامحها الذابلة وأعينها المحمرة بمحبة ورحمة ورد " وأنا أحبك بشدة "

تدخل البواب فجأة مبتسما بسذاجة وقد احمر وجهه " يا سلام ! .. أدام الله المحبة يا أولاد .. ذكرتماني بأم عبير "

التفتا له بجهل فسأل فجر متوجسًا " من أم عبير ؟ "

التهم الرجل قطعة طعمية مقرمشة وتنهد بحنين يسرد " إنها الحب القديم "

بفضول استفهمت ليل " وأين هي الآن ؟ .. ألم تتزوجها "

مط شفتيه بأسف يجيب " لا .. لقد تزوجت من رجل غني طمعًا في عزه .. هذا الفلاح الذي أخبرتك عنه للتو يا فجر بِك يا بني "

 ارتفع حاجبا فجر باستغراب مهتمًا " احلف ؟ .. الذي مات مديونا "

أومأ الرجل إيجابا بينما ليل تستمع كمغفلة بالمنتصف ليكمل الرجل وهو يرتشف بعض الشاي " الله يرحمه .. مات مديونا متحسرا من كثرة دعائي عليه وعلى زوجته "

زم فجر شفتيه يكتم ضحكته الغبية لتشده ليل سائلة بقلق سرًا " هل قضيت كل الليل مع هذا الرجل حقا ؟ "

" أكل رأسي أقسم بالله ، قص عليّ حكايا قريته والقرى المجاورة " اشتكي ببؤس من أسنانه فعاد البواب يضحك ببساطة لوحده عارضًا بحبور " لماذا لا تأكلا .. تناولا الإفطار هيا .. الطعمية ساخنة"

التفت فجر له يبتسم بقنوط " منور يا حاج عبد الصمد "

ضحك الرجل باتساع يقول وهو يلتهم آخر قطعة طعمية ساخنة ناسيا أن عرض للتو عليهما الأكل " بنورك يا أستاذ فجر بِك يا بني "

قهقهت ليل أخيرا ينجلي الهم عن محياها وتطفلت " صحيح .. وماذا حدث لأم عبير بعد ذلك يا حاج عبد الصمد ؟ "

تحمس الرجل يخبرها وهو يعتدل متربعا بجلوسه " لا شيء ، أخذت ابنتها عبير وهربت من دائني زوجها .. هذه آخرة الطمع "

 

.................................

 

ليلا ..

 

في فيلا أمير الفارسي

كان مضطجعًا في جناحه فوق السرير يغط في نوم عميق لم يبدده إلا رنين الهاتف

تململ يرمش عدة مرات ثم انقلب على ظهره ينظر للساعة بعبوس ليجدها وقد تعدت منتصف الليل

اعتدل يرفع جذعه جالسًا ونال الهاتف يقرأ الرقم الغريب قبل أن يتنحنح بخشونة " مرحبا "

عم السكون إلا من أنفاس متحشرجة ثقيلة

عقد حاجبيه يكرر بهدوء " مرحبا .. من معي ؟ "

لم يأتيه الرد مباشرة حتى أوشك أن يغلق المكالمة بلا مبالاة

لكن أحال دون ذلك في اللحظة الأخيرة اسمه يُنطق " أمير "

وكانت النبرة الأنثوية ضعيفة مختنقة .. ومألوفة

لم يرد للحظات محللًا فكررت " أمير .. هذا أنا "

اتسعت عيناه أسفل حاجبيه المرتفعين بينما يتعرف عليها ذاهلا " مارينا ! "

.....................

انتهى الفصل
وحشتوني جدا 💖😍😍
مننساش الفوت وهنتظر آرائكم جدا بقصة ومياسة ورد فعل عمر 🙈🙈
قراءة ممتعة يا لآلئ

Continue Reading

You'll Also Like

99.3K 5.6K 45
Covered by: BatO_ot النهايه ليست دائما سعيده... بل يمكن ان تكون مؤلمه .... صادمه.... حزينه.. لكن اعلم دائما ان كل نهايه لقصه ماا... تكون بدايه لقصه ا...
1.7M 62.4K 47
#كاملة زينة فتاه جميلة تحب مصطفي مهوسه به، قصة حب دامت لخمسة سنوات منهما عامين في الخطبة و حينما أوشكت علي إختيار فستان زفافها اخبرها ان " كل شي نص...
321K 7.4K 31
للعشق نشوة، فهو جميل لذيذ في بعض الأحيان مؤذي مؤلم في أحيانا اخرى، فعالمه خفي لا يدركه سوى من عاشه وتذوقه بكل الأحيان عشقي لك أصبح ادمان، لن أستطع ا...