الفجر الثامن والأربعون

4.7K 214 40
                                    

وحشتووووووني 🥺💖
عاملين ايه يا لآلئ ؟
الفوت بيقل ليه 😭😭💖

.................

هز رأسه وقد استفزته عبارتها فصرخ بفزع " هل تعين معنى كلامك .. طلاقنا يا نورين يعني ألا تعيشي معي بعد الآن "
 
سكتت لا تعقب على كلامه إلا بفيض جديد من الدموع ونظرة كانت كفيلة بالإجابة ..
وما أن التقطها حتى تصلب أمامها حد أن حُشرت أنفاسه بصدرة خشية الترجمة .. فعقد حاجبيه يهمس متخوفا " نورين "
حركت رأسها في إشارة مجهولة بلا هدف ثم عثرت على صوتها تقول بقطع جرحها قبله " عمر .. لقد قررت .. أنا سأسافر مع مياسة "
 
ارتد خطوة للخلف وكأنها لكمته على حين غرة وقد كان وقع الكلمات صريحة له مفعول أعنف وأشد قسوة على خافقه الذي أحس به كأنما توقف كتوقف الزمن ..
 
قبل أن ينظر من حوله وكأنه يبحث عن شيء ما في فراغ البيت ليعود خائبا خالي الوفاض مستقرا بنظراته فوقها رافعا كفه يشير لنفسه هامسا بصدمة وشحوب " هل ستتركينني أنتِ أيضا ؟ "
 
شهقت باختناق ممزوج بلوعتها فأغمضت عينيها متهربة من قراءة الألم الحي فوق صفحته
 
بينما كلها يهتف صادقا بوجع ( أترك روحي ولا أتركك يا أخي )
 
إلا أنها عبارة خاطئة لا محل لها من الإعراب في هذا الموقف الذي يحتاج لبتر نهائي للمرض العضال الذي أخذ يستفحل بعلاقتهما الطاهرة ..
موقفها يحتاج لثبات و .. قسوة !
 
لهذا فتحت عينيها الحمراوين متجاهلة فيض دموعها الحارة وقالت بهدوء " سامحني .. أنا مجبورة "
عقد حاجبيه ببطء يكرر بغير تصديق " مجبورة ! "
ازدردت ريقها بثقل تومئ بتأكيد وأعادت ببأس كانت أبعد ما تكون عنه بداخلها " نعم .. ومن فضلك طلقني سريعا يا عمر .. هذا آخر كلام عندي "
اتسعت عيناه من استمرارها في الوقاحة فاشتعل رأسه جنونا لينقض يمسك ذراعها بعنف صارخا بصدمة " اخرسي يا نورين .. أي وقاحة امتلكتها .. هل هي من بثت فيكِ صفاقتها أم كانت في جيناتك ولا أعلم بها "
 
شهقت متوجعة لكنه لم يكترث هذه المرة مردفا بغضب ناتج عن ذعره " بأي حق تطالبين بالرحيل .. بعد أن صرفنا وكبرنا وعلمنا وتعبنا لسنوات في تربيتك .. منذ اللحظة التي أتيتِ فيها لهذا البيت أصبحتِ ملكه .. بل منذ اللحظة التي عرضتكِ أمك على أبي بعد أن لفظكِ أبوكِ .. هذا البيت وحده من حماكِ من غدر زمن لم تأبه عائلتك الحقيرة بحمايتكِ منه "
" عمر " همست بتهدج وقد أخذت ترتجف من غلظة ما يعايرها به لأول مرة في حياته
لكنه كان غاضبا .. متعبا وأعمى البصيرة من شدة خوفه
علّ الحقائق المؤلمة تعيدها إليه !
 
" حتى أختكِ .. سيدة الأعمال العظيمة .. لم تعلم بكِ أصلا " أكمل بشراسة وأتمها " أم كان عرضها أكثر إغراءً يا نورين من تفويت الفرصة "
شهقت بألم أكبر فهزت رأسها بعجز حتى همست بتقطع " اترك ذراعي .. ستكسره يا أخي "
 
تنبه لقوة ضغطه فحرره ببطء يراقبها تدلكه منكسة رأسها بانكسار جعل الندم يهاجمه على كل ما رماه في وجهها ..
حتى أعادت وجهها إليه من جديد بعد فترة استجمعت فيها شتاتها لتقول بثقة رغم ارتعاش النبرة " إيلامك لي لن يغير الحقائق يا عمر .. ولن يثنيني عن قراري "
" قرارك " ردد بذهول وكل ندمه يتلاشى بقولها فيعود ناقما بتضاعف ..
ليهز رأسه مضيفا بعجرفة حادة " في هذا البيت لا قرار إلا قراري .. بل كل حياتك لا قرار فيها يعلو قراري يا نورين .. هل تفهمين قولي "
 
حركت وجهها الشاحب تهمس معترضة " لا .. لا أفهم .. لم أتعامل بتلك الطريقة يوما كي أفهمها يا عمر "
أثارت تحفزه أكثر فدفعها لتسقط على الكرسي شاهقة بتفاجؤ تسمعه يصرخ بحدة " هذا لأني دللتك أكثر مما لزم .. لكننا لا زلنا فيها يا نورين "
عقدت حاجبيها ترنو له بعدم فهم لينحني لها ملوحا بشراسة مكملا " لا أسهل عندي من أن أعاملك بهمجية .. أستطيع أن أقطع لسانك واكسر ساقيكِ ويديكِ فلا تخرجين خطوة من البيت مجددا .. أريكِ كيف يكون الظلم حقا يا نورين "
 
استقام بعدها متابعا بتمادي " أكون حقيرا يا نورين كما كان خالك مع أمك ذات يوم .. تركها وحيدة تسقط في زواج رجل مثل أبيكِ وأتت بابنة كان ليصبح مصيرها مثل أمها لولا بيتنا الذي تتبجح الآن أنها تريد تركه .. أنتِ مدينة لهذا البيت بحياتك .. كنا لكِ نعم الأهل .. لا تنسي أنتِ تلك الحقائق "
 
رفضت ضغطه عليها أكثر من ذلك فنفضت ضعفها في لحظة تنتفض أمامه هاتفة بثورة وعيناها تبرقان " وأنا كنت نعم الابنة يا عمر .. كنت دائما مصدر فخر واعتزاز لهذا البيت وصنته وصنت اسمه الذي حملته .. أما بالنسبة للحقائق فأنا لا أغفل عنها بعد الآن وهذا تحديدا ما يعذبني .. أنها أضحت واضحة وضوح الشمس حارقة كنارها "
 
عقد حاجبيه يرمقها دون تنازل فأضافت بحرقة " حقيقة أني لم أعد ابنة البيت بل كنته .. حقيقة كوني لم أعد أختك بل زوجتك .. والحقيقة الأكبر .. حبك المحرم لأختي يا عمر "
زمجر رافضا لكنها لم تمنحه فرصة لمقاطعتها فجابهت بشراسة " لا تعترض بحق الله .. من ينكر الحقائق الآن بيننا ! "
أدار وجهه عنها مستمرا في رفضه لهذه النوعية من الحقائق الفاصلة بينهما ..
 
فهزت رأسها تتحدث بسخرية " تريدها أكثر وضوحا يا عمر إذن "
نظر لها بوجه متخشب فتابعت بارتعاد داخلي ظهر على مخارج أحرفها " دعني أخبرك إذن عن نظرات الناس المتفحصة لهيئة جسدي .. تركيزهم على بطني تحديدا .. منذ تزوجنا .. لم أفهمها يوما ولم أهتم .. لكني الآن فسرت معناها "
شحب وجهه واهتزت خلجاته فأغمضت عينيها تطلق سراح دمعتين وهمست بخفوت " فسرتها منذ سؤال صديقاتي لي عن حملي منك .. سؤالهن المتحمس عن قبلتنا الأولى .. هل أخبرك أيضا بتشوشي الذي لفني عندها .. أم بشعوري كبنت منتهكة "
اشتدت خطوط وجهه مع تشنج عضلاته وهو يرتد خطوة للخلف غريزيا فلاحظت بغير معنى للحظات .. قبل أن تنفجر في الضحك فجأة دون مقدمات
 
لم يعلق عمر .. انتظرها حتى انتهت من الضحكات والشهقات المتتالية إلى أن قالت متنحنحة " انظر لنفسك .. أنت تبتعد عن مجالي خشية أن أصاب بالاشمئزاز فأتقيأ كما حدث مسبقا .. شيء لا يحدث بين الإخوة يا .. أخي ! "
" وهل هذا ذنبي أنا يا نورين " سألها بصوت مبحوح فنفت بدفاع حار مقتربة الخطوة التي ابتعدها ممسكة بكفيه قائلة " ليس ذنبك .. ولا ذنبي .. لكنه حدث وانتهى يا عمر .. لذا ساعدني أرجوك .. أنا بحاجة لاستعادة أخي .. لاستعادة نقاء علاقتنا "
أصدر حلقه صوت أنين متحشرج قال بعده " هل استعادتي تكون بفراقنا "
ذرفت دموعها تأثرا بكلامه الحزين فردت بعزم رغم خوفها " أنا اقتلع قلبي من صدري وأرميه لديك يا عمر .. لكن كلي يقين بأنك ستحمله وترده لي ذات يوم .. أعلم جيدا بأن الفراق مهما حاول مبارزتنا فسنسحقه ونطوي المسافات مهما كانت بيننا "
هز رأسه دون اقتناع وبضياع تام فتابعت " أنا متعبة جدا يا أخي .. خسرت كل شيء .. لم يظل لي هنا إلا الدمار ونتائجه .. كرهت دراستي وفارقت صديقاتي .. رأيتهن شريرات ورأينني كاذبة تخشى الحسد .. أرجوك ساعدني أرجوك .. أريد إيجاد نفسي يا عمر .. أخشى أن أكره حياتي كلها "
 
ابتلع ريقه بصعوبة وعيناه تتسعان وتنفسه يتعالى بتعثر فابتعد عنها غير مصدق أنها تقنعه بالمنطق أن فراقهما هو الحل الوحيد
بعد كل ما مر به وفعله يكون الحل في النهاية هو تركها بتلك البساطة
 
عادت نظراته تدور في المكان يبحث عن سراب كاذب .. قبل أن ينظر لها هامسا باختناق " هل هي من .. أقنعتك ب .. "
قاطعته بهدوء باكٍ " لم تفعل أي شيء .. صدقني .. أنا أستغل مياسة فقط لأنجو بعلاقتي بك "
مد يديه محيطا بهما رأسه وبدأ بفركه ببطء وقد توقف لسانه عن المجابهة أكثر ..
 
مجرد أنه يشعر الآن أن نورين لم تعد في صفه .. فقد خسر !
 
تعقدت ملامحه بشدة فتوجه مشوشا لغرفته ودلف دون كلمة للباكية من خلفه .. جلس على السرير ناظرا للأرض بعينين لا ترمشان
كيف ومتى فقد نورين بالضبط !
ما الخطأ الذي حدث !
لم يخسرها في مواقف أصعب من تلك .. كانت دائما تختاره وتعود له فما الذي استجد !
 
مياسة !
هل أتت لتسرق سلامه .. قلبه وأخته معا !
استطالت أنامله تتحسس الهاتف بجانبه بارتعاش حتى أخذه يرمقه بعينين مهتزتين وتلاعبت أصابعه به للحظات حتى رفعه على أذنه منتظرا غير آبه بالوقت المبكر والشمس التي بالكاد تشرق ..
لم يكن يفكر بأي منطق سليم ..
 
وصله صوتها متلهفا بعد فترة رنين قصيرة تهتف " عمر .. هل حدث شيء .. هل نورين بخير ؟ "
 
وجه عينيه لنورين الواقفة عند باب غرفته تشاهده من بين جفنيها المتورمين بتساؤل وعدم فهم ..
رآها تلك اللحظة نفس الطفلة المتطفلة التي كانت تنام على باب غرفته مستمدة الأمان !
 
ها هي الآن تريد أن تستمده من مكان آخر .. خالي منه
 
" عمر .. كلمني .. عمر " نادته مياسة وقد اشتعل قلبها قلقا من صمته
لماذا اتصل بها ؟ .. ماذا سيقول الآن
هل يتبجح ويخبرها بغرور وثقة أن تغادر بلا رجعة !
بأي حق !
نورين تركت يده ..
 
" اتركيها لي " وجد لسانه يتلفظ بصوت خفيض مترجٍ كاسرا أنف كبريائه
شهقت نورين ترفع كفها لفمها مذهولة بينما هو نهض واقفا مسترسلا وعيناه على نورين بتمسك ذليل " أنا كفيل بإصلاح كل شيء كما فعلت دوما .. فقط اتركيها لي وارحلي .. أنا أتوسل إليكِ .. أتوسلك مياسة .. لم أعد أملك إلا هي في حياتي كلها .. اتركيها لي "
" عمر لا " صرخت نورين داخلة الغرفة تنفض صدمتها مكملة بالتياع " توقف يا عمر .. توقف أرجوووووك "
 
على الجانب الآخر كانت مياسة ساكنة تماما بين صدمة والتباس
لكنها تمسكت بالصمت احتراما للجرح الغائر في صوته حتى خطفت نورين الهاتف قسرا وأغلقته في الحال .. ثم رفعت وجهها المقهور إليه تهتف بأسى " لماذا يا أخي .. لماذا فعلت ذلك "
 
لم يرد عليها متجمدا شاحبا منهزما .. فشهقت تنفجر في بكاء عنيف بينما تقف على طرف السرير كي تستطيل إليه وسحبت رأسه لحضنها تربت عليه باعتذار وبكاء .. وصمت موجع يلفهما
 
.......................
 
" صباح الخير يا أمي "
همست سارة بخفوت رقيق وهي تطل على أمها الجالسة بشرود في غرفة المعيشة ..
صوبت أم سلطان وجهها الساكن لها ثم تكلفت ابتسامة صغيرة وهي ترد التحية بهدوء يخلو من نشاطها المعتاد
عقدت سارة حاجبيها بقلق ودنت تبعد عنها حقيبة كتبها التي جهزتها توا استعدادا للجامعة وتساءلت " أمي .. ما بكِ .. هل أنتِ بخير ؟ "
تنهدت أمها طويلا ثم أجابت بفتور " بفضل ونعمة من الله "
جلست سارة بجوارها تكرر باهتمام " يا أمي كلميني .. هل حدث شيء "
ردت أمها بنفس الصوت الفاتر " يا ابنتي أنا بخير "
قطبت سارة تعترض بتذمر " ما بكِ إذن منذ الصباح "
حركت أم سلطان رأسها بخفة قائلة " لا شيء مهم حبيبتي .. فقط مللت من البقاء وحدي معظم اليوم "
زمت سارة شفتيها بتفكير ثم قالت معتذرة بذنب " حبيبتي .. فقط لأنها فترة امتحانات تكون ضاغطة تأخذ معظم وقتي .. حقك عليّ أنا "
قالتها تقبل رأسها بحنو فابتسمت أمها بحزن لم يرحل هامسة " يا حبيبتي وهل تعتقدين أني ألومك "
 
استمعت لها سارة بتركيز لتردف أمها وهي تتلاعب بسبحتها " حالكم غريب وأنا يبدو كبرت كفاية فأعجز عن ملاحقة تغيراتكم .. بينك وبين إخوتك وكل منكم في وادٍ .. أنتِ تغيرتِ مؤخرا .. منطوية على حالك ولا تقدم يُذكر في حياتك .. وسلطان لا علم لي بما بينه وبين زوجته لحد الآن ويتركها كل هذا الوقت في بيت أهلها .. أما حسن .. آه من حسن .. الناس خيبتها السبت والأحد وهو خيبته لم ترد على أحد "
 
ضحكت سارة دونا عنها فابتسمت أمها وحزنها يتبدد قليله وأضافت " لم أعد أعلم ما به .. وحتى لم أعد أره مع أصحابه .. هل تصدقين ! .. حتى أصحابه أنفسهم تغيروا .. سبحان الله "
 
ابتسمت سارة تناغشها " يا أمي .. هذا فقط لأنكِ تكثرين التفكير صدقيني .. تشغلين بالك جدا بكل من تهتمين بأمورهم "
 
أومأت أمها تتنهد من جديد وقالت " نعم .. يبدو أن غياب انتصار قد أثر عليّ .. كان البيت يمتلئ بوجودها من حولي في غيابكم .. نقضي الوقت في الثرثرة والطبخ .. منذ رحلت وأنا فاقدة للشغف حتى بإعداد كوب الشاي "
ربتت سارة على كتفها بلطف قائلة بمزاح " قد أغار يا فطوم انتبهي "
ضحكت أمها ترد بحنان " أنتِ مكانك لا يأخذه أي بشر "
قبلت سارة خدها بترضية ثم شردت قليلا قبل أن تسأل بحيرة " ولكن .. ألم يتكلم سلطان في شيء بعد "
هزت أمها رأسها نفيا بقنوط " لا هو يتكلم ولا هي تقول شيئا عندما تتواصل معي كل يوم .. والله أحيانا أفكر بأن أذهب وأجلبها دونا عنها .. لولا أخوكِ هو الحائل دون ذلك بغموضه المغيظ الذي ورثه عن أبيه .. رحمة الله عليه كان بطبع لا يعلم به إلا الله هو أيضا "
كتمت سارة ضحكتها فتأففت أمها تقول ببؤس " البيت خانق دون انتصار وابنتها .. حتى سلمى .. انظري للبنت "
حولت سارة نظراتها لسلمى تراقبها وهي جالسة تشاهد التلفاز بعينين هادئتين دون شغف الأطفال المعتاد .. بينما تستمع لأمها تكمل بقلة حيلة " لم أعد أر سلمى مرحة إلا بوجود مريم .. أصبحتا كتوأمٍ يكملان بعضيهما .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. هداك الله يا سلطان أنت وزوجتك "
 
بعد قليل كانت تنزل لجامعتها كي تلحق مواعيدها مضطرة لترك أمها وحيدة .. عقلها مشغول تماما بكل كلمة قالتها أمها ..
في الحقيقة لقد تشتتوا كثيرا عن أمهم .. وكانت انتصار هي الوحيدة التي تهتم بها وتراعيها وتراعي البيت خاصة في فترات انشغال سارة في دراستها ..
 
كانت انتصار ولا زالت نعم الكنة للبيت بعكس دنيا تماما ..
وكون أمها تركن كل حمائيتها المعتادة على أولادها جانبا وتعلن اشتياقها لكنتها وحزنها على غيابها فهذا يعني أن انتصار فازت بقلب أم سلطان للأبد واضحت الابنة الرابعة لها ..
 
كم تتمنى لو تقدر على فعل شيء .. يمحو هذا الهم عن أمها أو عن أخيها العنيد
سلطان أيضا يبدو حزينا وإن كان يكابر .. إلا أنها حتى لا تعلم أين المشكلة كي تساعد في إزالتها
ومنذ متى كانت تقدر على فعل شيء مفيد أصلا !
تنهدت سارة وهي تنظر في هاتفها فتقع نظراتها على صورة خلفية الهاتف التي تجمعها بأخويها وأمها ..
فركزت أحداقها على حسن ..
يا قلب أختك يا حسن .. كم أتمنى لو أمحو حزنك أنت أولا !
 
 
انقضى اليوم بها وقد أدت امتحانها وباقي ما لديها ..
 
ودعت صديقاتها ملوحة ثم خرجت منتظرة السائق الذي عينه سلطان لها بشكل دائم لكل تحركاتها بعد إهمال تكرر من حسن ..
فتهادت قليلا تتمشى فوق الرصيف شاردة في الفراغ وهي ترمي ساعتها بين لحظة وأخرى بترقب متململ ..
 
" مرحبا آنسة سارة "
أتى من خلفها صوت انتفضت خلاياها إثره بينما تتوقف متسمرة في محلها ..
صوت ميزته مؤجلة استنكارها لتمييزه في وقت لاحق
بينما اتسعت عيناها وهي تدعو أن تكون مجرد تخيلات ..
 
لكن رجاءها قد خاب وخطواته تقترب حتى استقر صاحبها أمامها فأصبحت معرضة لتلك الأشعة الخضراء الواضحة ..
 
احمر وجهها بشكل فوري وارتبكت وهي تعود خطوة للوراء فتجاهل هذا وهو يضيف بهدوء وابتسامة هادئة تخلو من خبثه الذي اعتادته منه " أتمنى أن تكوني  بخير .. هذه لكم "
عقدت حاجبيها وهي تنزل بنظراتها للكيس البلاستيكي الذي رفعه لها فلم تفهم .. ليوضح بصوت طبيعي " هذه الملابس تخص سلمى .. وقد أخذتها انتصار بالخطأ وترجتني كي أردها لكم .. فقد تحتاجها سلمى "
 
في الحقيقة هو كاذب .. فهو كان الفرد المترجي لكي يعيدها بنفسه
 
رمشت سارة عدة مرات دون أن تبادر بأخذ الكيس منه بل زادت من ضم كتبها إليها ..
 
سارة الجوهري تفضل احتضان كتبها دائما أثناء سيرها وحيدة وكأنها تتخفى خلفها ..
لقد أحب مراقبتها عدة مرات .. وعلم عاداتها جيدا ..
آه لو تعلم كم تبدو لطيفة شهية برقتها ولا تحتاج لأي اختباء !
 
تنحنح يجذب انتباهها فأسرعت بأخذ الكيس فورا حريصة على ألا تمسه وقد تشككت بنواياه ..
لكنه أراحها عندما ترك لها مساحتها الخاصة دون مضايقة ..
 
قال بعدها شارحا " أنا آسف لو ضايقتك .. لكنني تحرجت من الذهاب للبيت ففضلت أن آتي الجامعة لكِ "
نظرت له ببراءة دون أن يتبادر لعقلها المرتبك أنه كان يستطيع إعادتها لسلطان أو حسن في الشركة
 
لكنها قطبت بشك وقول رقيق " وكيف علمت مواعيدي "
شعر بالمحاصرة المداهمة لكنه تعامل بلا اهتزاز يدينه ويخيفها فقال " انتصار أخبرتني "
أومأت بتفهم دون تعقيب ليقول متحينا للفرص " و كيف حال سلمى "
رفعت نظراتها له ترد باقتضاب " الحمد لله "
أومأ صامتا فشعرت بالحرج لتستكمل مضطرة " ومريم .. لم أرها منذ آخر زيارة لي عندكم .. فقد شغلت بالدراسة "
ابتسم ابتسامة رزينة قائلا " إنها بخير .. لكن تبدو حزينة ومفتقدة جدا لوجود سلمى معها .. يبدو أنها تعلقت بها "
" نحن أيضا تعلقنا بها جدا " قالت بعفوية متأثرة بالموقف فتمسك باستجابتها يطرح سؤالا " ألم يتكلم سلطان في شيء "
اعتلى ملامحها البؤس وهي تهز رأسها نفيا ثم رنت له بفضول تمكن منها تستوضح " ماذا عن انتصار "
مط شفتيه بجهل حقيقي " تقول أنها تهتم بأمها فقط وترتاح قليلا لأجل حملها .. بما إنها في أواخر الشهور .. لكن هذا لا يبدو مقنعا ولا أحد يريد الضغط عليها "
زفرت بحنق مما يحدث فقال حازم بمكر داخلي لا يظهر على براءة قسماته " كان يمكنني التدخل وتليين عقل انتصار "
رمقته بلهفة تقول " لمَ لا تفعل "
حرك كتفيه يرد ببديهية " كيف أفعل بينما الطرف الآخر وهو سلطان .. لا يتقدم خطوة أصلا .. هل تعتقدين أني سأرمي أختي ! .. خاصة إن تبين أنه هو المخطئ في حقها .. فلن أتهاون حينها معه "
اتسعت عينا سارة بحمائية قائلة " وماذا ستفعل يعني .. سلطان أصلا ذهب لها مرتين بالفعل وأعتقد أنه حاول عقد صلح وعاد خائبا .. يعني هي المخطئة "
 
رفع حاجبه يستنكر " هل تدينين أختي لمجرد الدفاع عن أخيكِ .. صحيح أن المرأة هي العدوة الأولى للمرأة "
شهقت تدافع عن نفسها " أي عدوة .. أنا فقط لا أريدك أن تفسد الأمر .. فقد يكون مجرد سوء فهم وينتهي بهدوء .. أنت الذي يهدد لمجرد أنها أختك "
رفع حاجبيه يضع كفيه في جيبيه قائلا " بالطبع سأدافع .. أخوكِ أيضا هددني ألا أضايقك بعد أن رفضتني كزوج لكِ "
 
عاد لها الاحمرار على الفور وكل حيويتها تتلاشى فقالت بارتباك " هذا .. يختلف .. امممم "
قاطعها بقول هادئ " أعلم .. لا داعي للتوتر .. أقصد فقط أن حمائيتنا على بناتنا مبررة .. فهو أيضا هددني رغم خاطري المكسور "
 
رمشت بعينيها تنظر له مرددة وقد أُخذت بالكلمة " مكسور "
صمت واكتفى بمنحها نظرة صادقة في حزنها .. فتشتت وتعثرت بأفكارها ليهز رأسه نافضا اللحظة بذكاء وقال بهدوء " على كل حال لا أتمنى لكِ إلا كل الخير .. دعينا الآن في انتصار وسلطان "
تنحنحت وعادت تحتضن كتبها وهي تزداد توردا فتكلم " عموما أنا سأحاول أن أفتح الأمر مع انتصار .. فحالها يؤرقنا بسبب جهلنا لما يحصل .. وسأطلب منكِ طلبا .. إن أمكن "
أنصتت له باهتمام مترقب فأردف " حاولي بشكل ما أن تفهمي من سلطان أو على الأقل كلميه .. هل تفهمين قصدي .. يعني ربما نتعاون معا في حل الأمر بينهما .. في النهاية هو أخوكِ وقد يشكل تدخلك فارقا "
فكرت للحظة بخيبة إن كانت ستشكل فارقا بالفعل .. لكنها أومأت قائلة وهي تفكر بحال أمها " بالتأكيد .. موافقة طبعا "
ابتسم لها مشجعا ثم قال بصورة تلقائية " ويمكنني أن أتواصل معك إن توصلت لشيء يساعدنا "
اتسعت عيناها والشك يعاودها ناحيته فتابع " إن كنتِ غير موافقة لتواصلنا لا بأس .. ربما تجمعنا الصدف إذن .. لا داعي للذعر هكذا "
 
شعرت بالخجل من اضطراب هيئتها وقالت بانفعال غير مبرر " أنا لست مذعورة منك أو من غيرك "
تأمل لطفها دون رد فوضحت بحنق " أنا فقط أحافظ على الحدود .. أرفض التواصل مع شباب أغراب "
 
قال حانقا " أنا لست غريبا "
تأففت تلوح دون أن تلاحظ أنها لم تعد تحتمي بكتبها أمامه وقالت " لماذا تشعرني أنك أخي بالرضاعة لا أفهم "
 
نظر لها متفاجئا قبل أن يزم شفتيه كاتما للضحك يقول " اعتذر إن ضايقتك .. أردت فقط تقريب المسافات لإنهاء الخلاف بينهما .. عامةً كما شئتِ "
تنهدت بيأس ثم تنازلت بحرج " آسفة لانفعالي .. لم أقصد "
ابتسم متفهما ثم كرر " نتركها للصدف إذن كما قلت "
 
أومأت برأسها قليلا بتردد فازدادت ابتسامته وبدا محتويا جدا لهذا التردد ..
أسبلت أهدابها تعيد كتبها لمكانها المعتاد إلى أن أخرجها عن صمتها بعد فترة قوله الهادئ " لقد وصل السائق "
 
تنبهت ملتفتة للسيارة ثم لململت نفسها متحركة صوبها بتهرب دون قول وداع حتى ..
إلا أن ذراعه سبقتها وهي تفتح لها الباب فأذابها خجلا زهريا جميلا بينما تستقر بمقعدها وهو يغلق الباب بلطف ..
لتنطلق السيارة تحمل سارة .. وقلبه
 
.........................
 
بخطى سريعة عصبية كانت تقتحم المكتب الفخم دون أن تمنح فرصة للسكرتيرة بالاعتراض ..
التفت الجالسان أمام المكتب لها بحدة بينما هي تقدمت بهمجية هاتفة في وجه أمير بالتحديد " إن لم تكن بقدر مسئولية العمل .. فاترك المشروع للأجدر منك "
اتسعت عيناه مثل نادر وهما يراقبان هيئتها الغاضبة فنهض نادر قائلا بغضب " اخفضي صوتك .. ما الذي حدث "
رفعت كفها بصرامة تقول " أنا أتحدث كيفما شئت طالما أن عملي ومجهود أيام طويلة في السعي يخرب لمجرد استهتار من شخص مثله "
 
قطب نادر فلم تمنح أحدا الوقت وهي تقترب خطوة من أمير الذي لم يبرح كرسيه قائلة بغل " أنا جادة .. إن لم تقدر على الالتزام فاترك المشروع بالكامل لي .. أنا لست هنا للعب "
 
" أخبريني ما الذي حدث " قال نادر يلجم غضبه ليفهم أولا فتكتفت ليل تقول بعصبية " اجتماع العاشرة انتهى بفشل لمجرد أن الأستاذ لم يحضر على رأسه .. والشركة المسؤولة عن تصدير الخامات المطلوبة لنا قررت إعادة النظر بالعقد وتحديد بنوده لضمان الالتزام .. فإن كان السيد أمير غير ملتزم بالحضور أصلا فكيف سيتم الالتزام بتسديد الدفعات "
 
أغمض نادر عينيه يقول لأمير بسخط مكتوم " هل حقا لم تحضر .. يا للغباء "
لم يتزحزح أمير عن مكانه وهو يرد بعنجهية " أرفض العمل معها .. قلت ألف مرة .. ولكنك تبدو قد كبرت فتسلمها مكانك أحيانا لتنال قسطا من الراحة "
 
" لا لا .. " قاطعته ليل وتابعت ساخرة " بل لينال الملايين .. وأنت كذلك "
التفت لها أمير يراقب شموخها المصقل فتقول بحاجب مرفوع " لا أنت .. ولا هو ولا غيركما يستطيع إنكار مجهودي في تلك الفترة القصيرة .. كل مشروع وصفقة عقدتها .. تدر على حساباتكما البنكية بالفوائد نتيجة النجاحات المضمونة .. لهذ تحديدا يترك لي مكانه أحيانا رغم الثقة المنعدمة بين ثلاثتنا "
ابتسم نادر ببرود مؤيدا .. بينما ليل أكملت بكبرياء " لذا إن لم تشأ وجودي فلا مشكلة لدي .. ألف من يتمنى تقدير هذا " قالتها تشير بإصبعها نحو عقلها بغرور
 
حتى قاطعهم دخول السكرتيرة التي استأذنت بحرج من توتر الأجواء " سيد نادر .. يحتاجونك في قسم التوزيع "
 
مط نادر شفتيه يمنحها إذن الانصراف .. ثم سحب سترته قائلا بتلاعب " حاولا ألا تشعلا مكتبي حريقا من ورائي "
 
قالها وتحرك مغادرا المكتب لينهض أمير بظهر مستقيم ويديه في جيبيه مقتربا منها وهي تجابه دنوه بثبات
 
حتى فتح فمه قائلا بسخرية مبطنة " يبدو أنكِ أحببتِ المجال جداً "
رفعت حاجبيها بكبرياء دون رد فأكمل " نحن ونستفيد إذن .. ولكن ما هي تلك الفائدة العظيمة التي تجعلك شرسة هكذا عند الخسارة "
 
برقت عيناها المظلمتان بقوة غامضة بينما أجابت بخبث " لي نصيبي من الربح .. عمولتي ضخمة "
قال يصطنع الدهشة " وهل أصبح المال يهمك الآن "
غمزته ترد " يمنح السلطة "
استمع لها باهتمام يخفي انبهاره بها بينما هي مشت تلف حول المكان بخطى بطيئة " والسلطة يهابها الجميع .. وهذا تحديدا ما أدركت أني كنت أبحث عنه دائما "
لا زال واقفا في مكانه فالتفتت له تقول " صحيح أدركت متأخرا .. لكن هذا خير من ألا أدرك أبدا "
تقدمت واقفة أمامه باستقامة على كعبيها الرفيعين من جديد وقالت بجدية " لذا أنا جادة يا أمير .. إن لم تقدر على تجاوز الخلافات أثناء العمل .. فاتركه كاملا لي .. أنا وحدي كفيلة "
مالت شفتاه في سخرية يكرر " خلافات "
أسبلت أهدابها بقدرة تامة على التلون هامسة بصدق تجيد اختلاقه " أنا أريد التجاوز .. بالكاد وجدت نفسي .. وجدت خشية الناس واحترامهم لي مجبورين .. مكانتي واسمي .. لا أريد تضييع شيئا بل ولن أسمح لأحد بتهديد الأمان الذي أصنعه حول نفسي بجهد قاس "
 
تأملها فترة حتى تكلم " لا أكف عن التفاجؤ من تغيرك "
ابتسمت له بحزن قائلة برقة " لا شيء يبقى على حاله .. أنت أيضا تغيرت جدا "
 
أومأ متفقا يعترف برضوخ " نعم .. جدا .. يفاجئني هذا أيضا .. كان انتقامك مؤلما "
 
رفعت عينيها إليه تهمس " كنت تستحق .. كلانا نستحق "
لم يرد فنفضت رأسها تقول مجددا بتنهد مصطنع " الاجتماع سيتجدد عقب الغد بنفس الساعة .. من فضلك إن كنت ستستمر على موقفك فخذ قرارك غدا وأنا سأحل الأمر .. وإن كنت أتمنى حضورك "
رفع حاجبيه متعجبا بتهازؤ لتجيب " أنا صادقة .. إن عملنا سويا بحيادية نتائجه ستكون في صالحنا .. لكن في كل حال هذا يعود لك "
 
لم يعقب فتحركت منهية الحوار " أنا سأذهب لمكتبي .. فكر وكلمني "
عادت وتوقفت بعد خطوة توليه ظهرها مترددة قبل أن تعود إليه مرخية رموشها إلى أن تحدثت بتردد " بالمناسبة "
استمع لها بتركيز فولته نظراتها مكملة " لم يتثنى لي شكرك على إنقاذك لي ذلك اليوم "
 
أرسلت لخلايا عقله تنشيط مباغت فتعود له ذكراها غارقة بالماء حد العظام ترتجف ملتصقة به باحثة عن الدفء ..
 
ابتلع ريقه بشوق مضني كان ولا زال نقطة ضعفه الوحيدة .. فابتسمت ابتسامة ضعيفة قائلة " أنا حتى لا أعلم إن كان إنقاذك لي شيئا جيدا بالنسبة لي أم لا "
 
عقد حاجبيه فهزت رأسها عفويا ورفعت كفها تربت على صدره بشكر هادئ به مس من ضعف ليل القديم .. عندما كانت أرق من نسمة وهمست " على كل حال سأختار أنه جيد .. وأشكرك مضطرة .. شكرا لك أمير "
 
أنهت عبارتها تسحب كفها بتسارع مستدركة بارتباك .. قبل أن تتشوش ناظرة لوهلة إلى شفتيه ثم ابتعدت خطوة عن مجاله الذي بدا يشكل على أنوثتها خطرا ..
لمحة ضعف تثبت أن ليل لا زالت بالداخل تحتاج فقط لرجل يبثها الاهتمام والشوق وتدليل أنوثتها ..
 
فاستدارت عنه تقول بتعجل متوتر " سأنتظر قرارك بشأن العمل .. بالإذن "
 
وغادرت تترك قلبه المتقافز مشتاقا لليلة جامحة تشبع رجولته .. وأدرك وهو يسقط جالسا على الكرسي من خلفه .. أن هذا الجموح لم يكن ليشبعه إلا أحضان ليل وفقط
ضعفها ورقتها واستسلامها القوي له ..
 
زفر عندئذ معذبا .. كيف السبيل للعودة للماضي وتحاشي كل هذا الخراب الذي جناه على حياته
 
بينما في الخارج ما أن دخلت مكتبها واستقرت فوق كرسيها مستعيدة تلك اللحظات المسروقة ..
حتى كانت تنفجر ضاحكة بهستيريا شريرة
 
..........................
 
طرقت على الباب بتناغم رقيق ثم فتحته فورا تطل برأسها مبتسمة تقول " هل سأقاطع شيئا مهما "
رفع وجهه العابس من فوق الحاسوب الذي يعمل عليه وخطت الدهشة محياه فاستقام عن كرسيه قائلا وهو يقترب منها " سارة .. مفاجأة غير متوقعة أبدا "
ابتسمت برقة ودخلت تغلق الباب من ورائها مستقبلة احتضانه الحاني قائلة " المهم ان تكون مفاجأة سارة "
ابتسم بحنو يرد " تذكري اسمك وستعلمين أنكِ سارة في كل وقت ومكان "
 
أحاط كتفيها بعدها ممازحا " لكن غريب .. لم تفعليها وتأتي للشركة من قبل .. أي رياح أتت بكِ "
هزت كتفيها تصرح " السائق كان يحتاج القدوم للشركة أولا آخذا متعلقات تخصه ففضلت لو أمر عليك وقد أخبرت أمي كي لا تقلق "
 
جلس على أريكة جانبية معها وقال بقلق " لكن أمك الآن ستبقى وحدها طويلا "
تنهدت مستغلة الفرصة بذكاء " وجودي لم يعد ينفع لشيء لانشغالي بالدراسة .. كانت انتصار من تبقى معها أصلا "
لم يعقب وملامحه تتعكر همًا فسألت بحذر " متى ستعود للبيت "
رد باقتضاب " قريبا بإذن الله "
مطت شفتيها ساخرة " كل مرة تقول قريبا .. ولا قريب يأتي "
 
هز رأسها بضجر يقول " هل أنتِ مسلطة من أمك أم ماذا .. لا تبدأي أنتِ أيضا "
 
تأففت تخبره بأعذارها المنطقية " ولكن الحال غريب .. حسنا أعلم بأني لا يحق لي التدخل ولكن أمك فعلا حزينة .. وسلمى حزينة لغياب مريم عنها .. لا أريد أن أعرف ما الذي حصل ولكن على الأقل حله سريعا .. أنت سلطان الجوهري يا أخي .. هل يستعصى عليك الاهتمام بمشكلة تخص امرأتك حقا "
سخر بامتعاض يقول " يبدو أن لا نصيب لي في النساء بحياتي الخاصة "
 
ارتفع حاجباها بدهشة حقيقية صائحة باحتجاج " لا أصدق أنك قلت هذا حقا .. هل تشبه انتصار بدنيا "
استهجن عبارته على الفور فقال بخفوت وهو شارد " وهل أقارن نجمة في السماء بمجرد .. دنيا "
 
ابتسمت سارة واقتربت ملتصقة به تقول بمكر " نعم يا أخي .. انتصار عسل والله .. أشعرها كأختٍ لي .. كما أنه لا يجب أن تنسى حملها وحساسية وضعها .. تحتاجك جدا في هذه الفترة يا أخي .. وأمك تريد عودتها بشدة .. البيت باهت بدونها هي ومريم أقسم بالله "
 
ابتسم سلطان وهو يستمع لكلماتها ونظر لها قائلا " ليت كل أخوات الأزواج مثلك يا سارة .. لطيفات مع الكنات "
بادلته التبسم بخجل هامسة " صدقني هذا لمصلحتك أولا .. وجودها يفرق معك .. كلنا لاحظنا ذلك "
 
لم يرد وأطرق أرضا بصمت فحاولت تغيير الموضوع كي لا تضغط عليه " أليس لديك سكرتيرة .. وجدت المكتب الخارجي فارغ "
امتعض وجه سلطان على ذكرها فأجاب " لدي .. لكنها في وقت الراحة تختفي "
ارتفع حاجبيها تتساءل بفضول " أين تختفي "
 
مط شفتيه بقرف بغمغم بخفوت " وأين يعني .. بجواره طبعا "
لم تفهم سارة قوله فنظر لها مكملا " تعالي لنرى حسن .. سيكون بمكتبه .. لنتناول شيئا "
أشارت له وهي تثب واقفة " لا داعي سأذهب له بنفسي .. أنت ابق بعملك .. أراك لاحقا "
قالتها وخرجت متلمسة طريقها بحرج تتساءل عن مكان مكتب حسن كي تسنح الفرصة لسلطان كي يفكر
 
في الحقيقة كلام حازم شجعها بعد أن ظنت أن وجودها أو كلامها لن يشكل فارقا في حل المشاكل ..
لكن يكفيها أن دفعت مجرد خطوة .. صحيح !
 
أما سلطان فنهض يقترب من مرآة جانبية يتفحص هيئته الكلية ..
كان عاديا بملابس مرتبة فأخته وأمه لم يتركاه .. لكن لمستها قد اختفت
اختيارها وذوقها ..
اختفى شعوره بتربيتها الحاني على كتفيه وهي تساعده في ارتداء السترة ..
 
بيته الخالي من وجودها وهي تتحرك هنا وهناك بهمة ونشاط أو تركض وراء مريم متوعدة بالخف البيتي ..
 
نكهة طعامها .. رائحة البيت المميزة بها أو دفء أحضانها اللينة ..
حتى كوب الشاي لم يهنأ له من بعدها ..
 
أيام تمر في غيابها الأنيق تعذبه معلنة رفضها لغرور تعامله واتهامه الجائر ..
 
تهور وتكبر فكانت النتيجة بؤس حاله .. يقسم أن اهتمامها بابنته سلمى .. لم يره حتى من دنيا نفسها وهي الأم !
 
آه .. دنيا !
وكأنها أقسمت أن تتلذذ بتخريب حياته .. لقد أرسل لها علنا مع محامي أنه قرر أخذ حضانة الطفلة محذرا ..
وتركها لتضرب رأسها في الحائط ..
 
لكنه الآن بحاجة لأن يعيد انتصار .. إنه يقف ويحل كل المشاكل لمن حوله ويخصونه بينما يترك مشاكله للنهاية كغبي لا يتعلم درسه
 
رغم أنه ذهب لها مرتين .. وفي المرتين طلب منها بهدوء أن تعود للبيت فرفضت ليرحل غاضبا كأحمق
ومع طول الأيام البطيئة .. يزداد شوقه لطيفها الناعم ..
 
اللعنة ..
تنهد يغمغم وهو يبحث بين صوره على الهاتف على واحدة تخصها التقطها لها دون تنبه منها " هل كانت تنقصني كلماتك يا سارة .. أنا ملتاع أصلا "
 
.......................
 
كما فعلت مع سلطان كانت تفعل ما أن وصلت لمكتب حسن بعد أن أرشدتها إحداهن ..
فطرقت بتناغم ثم فتحت الباب تطل برأسها منادية بضحك ..
 
لكنها توقفت وهي ترى أخيها واقفا بجانب فتاة ما يتضاحكان حول شيء في هاتف الأخيرة تجهله من مكانها ..
ارتفع حاجبا حسن بذهول وهو يرى أخته فدعاها " سارة .. تعالي "
ابتسمت بوجه متورد وهي تدنو منهما .. متسائلة في سرها عن هوية تلك الفتاة التي يمازحها حسن ويقف قربها ببساطة لم ترها عليه من قبل !!
 
" كيف حالك حسن " قالت مبتسمة فأحاط جذعها الصغير يرد " بخير حبيبتي .. مفاجأة جميلة جدا رؤيتك .. كيف أتيتِ "
هزت كتفيها تشرح له عن وجودها فأومأ سعيدا منشغلا عن منار التي تكتفت بوجه مقلوب وهي تراقب تلك الأريحية بينهما غافلة عن الشبه ..
 
تنحنحت سارة تبادر بحرج " ألن تعرفنا "
" آه " تذكر وجود منار ثم قال مشيرا لسارة " منار أعرفك تلك سارة أميرة آل جوهري .. أختي "
تهللت أسارير منار على الفور والراحة تغزوها وهي تسلم عليها فورا بأناقة وحبور بينما حسن يكمل " وهذه منار .. صديقتي "
 
اتسعت عينا سارة تنظر له بغباء قائلة " منذ متى تصادق فتيات "
زجرها بعينيه كي تخرس فتحرجت بينما منار تصنعت ضحكة واثقة تقول " منذ أن عرفني .. نحن صديقان مقربان أيضا "
 
أومأت سارة ببلاهة وعدم راحة مغمغمة " ما شاء الله .. واضح "
 
أدار حسن دفة الحوار فقال مغيرا الموضوع " هل تناولتِ شيئا "
ابتسمت تجيب بمزاح " كنت عند سلطان .. لكنه لم يطلب لي شيئا .. فسكرتيرته قال أنها تختفي وقت الراحة في  مكان ما "
 
قالتها تضحك قليلا لكن الضحكة بهتت بنظرة حسن الذي رفع عينيه للأعلى بفقدان صبر فسألت سارة بخفوت متشكك " هل الآنسة منار .. تعمل هنا "
 
تكتفت منار وهي ترفع ذقنها قائلة بمرح ساخر " أنا السكرتيرة المختفية .. ومكتب أخيكِ تحديدا مكان اختفائي "
 
امتقع وجه سارة فلم ترد بينما منار بدت غير مهتمة تتحرك قائلة " سأطلب لكِ مشروبا معنا إذن يا صغيرة "
 
لوت سارة شفتيها من لقب صغيرة الذي بدا مقصودا ..
وما أن استدارت عنهما منار كانت سارة تستطيل على أذن أخيها هامسة بتوعد " أمي إن علمت أنك تصادق البنات .. فستنفخك "
" نعم يا أختي " قال مستنكرا فهزت كتفيها بمعنى أنه لا دخل لها ..
فزم شفتيه غاضبا
 
........................
 
كان اليوم طويلا وهي جالسة منذ اشراقة شمسه في شقتها تتحرك دون هدف ..
بعد أن استيقظت على المكالمة المفزعة لها من عمر وقد ظنت لوهلة أن مكروها قد وقع
 
فهو لا يتصل بها في هذا الوقت عادة .. هذا إن اتصل أصلا !
 
لكنه كلامه الغريب لم يريحها .. لم تستطع تفسيره بوضوح تام
 
إلا أنها لا تنفك عن تذكر توسله الغير متوقع بشأن ما يخص نورين بالذات
كان دائما واثقا بفوزه ملوحا بأن كفته رابحة لا محال عند أخته
 
فما الذي حصل !
هذا الألم الذي تشبع به صوته المهتز .. كان يتوسلها حرفيا أن تتركها وكأنها ..
وكأنها تملكها وقد نالتها منه
وهذا منحها نتيجة واحدة .. نورين قررت تركه والقدوم معها !
 
لكن كيف !
في لقائهما الأخير لم تمنحها نورين أي ما يشير لرغبتها بالسفر ..
وهي – مياسة – كانت أكثر صدقا من أي استغلال ولم تشأ إلا تحسين العلاقة قبل السفر
حتى أنها قد حجزت التذكرة وموعد سفرها بعد يومين ..
 
لكن قبل قليل قد قررت أن تلغي كل هذا مؤقتا .. من جديد تمنح أملها فرصة
لغت الحجز مترقبة القادم أو أي إشارة من نورين بالموافقة
 
تنهدت مياسة وهي تتفحص هاتفها ومجددا دون جدوى ..
لقد فضلت ألا تتصل بنورين أو عمر كي لا تشكل أي ضغط على أحد بعد هذا الموقف الحساس ..
فاكتفت ان ترسل رسالة نورين تتساءل إن كان كل شيء بخير
رأتها نورين ولم ترد ..
 
وها هي جالسة هنا بعجزها المقيت .. كم تلاعبت بها الأيام منذ أن أتت للوطن فأصبحت مجرد يائسة عاجزة ..
 
لكن لا بأس ..
أملها قوي .. رغم أن شيئا يضايقها كلما تذكرت نبرة عمر ..
لكن نورين الأهم الآن ..
فرصة أخيرة نجاحها وشيك !
 
...........................
 
بعد أيام ..
 
قال حازم بنفاذ صبر وهو يدخل ورائها الغرفة بينما تحمل صينية فوقها أكواب الشاي " ما معنى هذا .. مجددا تصرين أنه لا شيء حدث بينك وبين زوجك .. ورغم ذلك تمر الأيام وأنتِ جالسة هنا بلا معنى "
 
وضعت الصينية على الطاولة بحدة فانسكب بعض من محتويات الأكواب المتراصة لكنها لم تهتم وهي تستقيم يسبقها بطنها المنتفخ قائلة بحدة وهرمونات متفجرة " هل أجلس فوق رأسك أم ماذا .. أم أصبحت ثقيلة بابنتي في بيت أبي "
تأفف والدها محوقلا فنظرت له متذمرة " ماذا يا أبي .. ألا تستمع لكلامه وكأنه يعايرني بينما أنت صامت "
اعتدل والدها قائلا بحنق " توقفي عن التلاعب بالكلمات يا انتصار .. تعلمين قصد أخيكِ جيدا لكنكِ تعاندين .. وهو محق .. إن كان لا خصام بينك وبين زوجك فارحلي لبيتك إذن هو أولى بكِ .. عشت عمري كله لم تغضب أمك خارج البيت ليلة واحدة .. أليس كذلك يا حاجة "
أومأت أمها بضمير زائد ترد " نعم والله .. كنت أحضر له حقيبة ملابسه فيأخذها ويغضب هو عند أمه "
استنكر الرجل يهتف " اصمتي يا حاجة .. صمتك أفضل ليتني ما سألتك "
 
زم حازم شفتيه يقول بصبيانية " ما هذا يا عمي .. ظننتك أكثر صرامة "
" اخرس يا ولد " هتف عمه بينما انفجرت ابتسام وميادة ضحكا على ما يسمعانه ..
 
فقال الحاج عبد الله من جديد بتريث " نعم .. كنت أترك أنا البيت .. فهذا بيتها قبلي والمرأة لا تترك بيت زوجها خاصة وإن كانت ترفض سرد أسباب مبررة لهذا الفعل .. بالإضافة أن الرجل أتى مرتين ورحل بدونها "
 
تكتفت انتصار تتأفف ساخرة " كثر خيره والله أتعبناه بقدومه "
حدجها والدها بنظرة ساخطة حتى ارتفع رنين هاتفه الصغير ..
 
أخرجه يقرأ الاسم ثم رد على الاتصال قائلا بهدوء " مرحبا يا ولدي .. كيف حالك .. نعم .. نعم .. أهلا بك .. بانتظارك "
أغلق المكالمة يرفع نظراته موضحا لانتصار " زوجك قادم لمقابلتك "
زمت شفتيها ثم تحركت لغرفتها غاضبة من ذكر اسمه ..
المتعجرف .. يأتي ويذهب ويضعها في موقف محرج بينما هو لم يتكلف لقول آسف على الأقل !
 
قال الحاج عبد الله موليا اهتمامه لابتسام وميادة " انهضا أنتما هيا لتعدان أي شيء للرجل "
ناظراه في تبلد دون رد فعل حتى قالت ابتسام ممتعضة " كل مرة يرفض تناول أي شيء إلا كوب الشاي ومن انتصار تحديدا "
 
أغاظهما حازم قائلا " بصراحة أنتما لا تفلحان لشيء "
تدخلت ميادة بسماجة " تركنا لك أنت وأختك الفلاح "
 
دلفت غرفتها مبدلة ملابسها لفستان بيتي آخر محتشم مناسب للحمل بحركات عصبية شاعرة بجسدها يفور بالحرارة ..
 
وقفت تعدل من شعرها وترفعه في عقدة فوق رأسها ليدق الباب وتسمح للطارق بالدخول ..
 
دلفت أمها لها فبادرت انتصار " أمي بالله عليكِ .. لا تضغطي عليّ "
ابتسمت أمها وهي تدخل لها مغلقة الباب وجلست على السرير تربت بجانبها في دعوة ..
 
رضخت انتصار تدنو من أمها التي ابتسمت قائلة " قد أبدو كمجرد أم تريد الاطمئنان على ابنتها والتخلص من همها .. لكن يشهد الله يا ابنتي أني لا أريد إلا راحتك .. ولو رأيت في علاقتك بزوجك ما يؤذيكِ حقا لكنت أول من طالبت بإنهاء العلاقة "
اتسعت عينا انتصار تقول شاهقة " ليس لدرجة إنهاء يا أمي "
أومأت أمها ترد بتفهم " أعلم .. أعلم حبيبتي "
" لكنه أغضبك بتصرف ما " قالتها أمها مسترسلة وأضافت " لكن وأي رجل هذا الذي لا يضايق زوجته ! .. أبوك .. هذا الرجل الحكيم الهادئ .. أقسم بالله لحد الآن أكاد أشد شعري الأبيض غيظا من بعض تصرفاته .. لكن إن غاب عني ساعة لا أرتاح أبدا "
ابتسمت انتصار بلطف فتابعت أمها " الرجل طفل .. أو على الأقل سلطان طفل .. أستطيع أن أعلم أنه يكاد يجن الآن في فراقك "
مطت انتصار شفتيها بسخرية فغمزتها أمها مصرة " يا ابنتي .. أي رجل يملك ذرة عقل سيفتقد وجودك ما أن تغيبي يوما .. أنتِ امرأة بكل النساء ولا أقولها لأنكِ ابنتي .. لدي ابتسام وميادة .. لا أكف عن الدعاء لزوجيهما بالصبر على جنونهما .. بينما أنتِ نسمة في بيت رجلها يا حبيبة أمك "
 
أسبلت انتصار أهدابها وبدت حقا حزينة فباحت لأمها باختناق " لقد اتهمني في وجهي أني أهملت ابنته يا أمي .. بينما أنا أشعلت أصابعي العشرة شموعا لها "
 
ربتت الأم على ذراع ابنتها مستمعة لكل كلمة بتركيز وقالت بحكمة " لا يحق له .. لكن اعذريه .. إنها ابنته .. قطعة من روحه .. تخيلي مريم لا قدر الله مشتتة مثل المسكينة ابنته هكذا .. كنتِ لتصبحين حساسة تجاهها "
هزت انتصار رأسها تعترض " لا تدافعي عنه يا أمي "
قالت أمها بصدق " والله يا ابنتي لا أدافع عنه بقدر ما أنا مشفقة على الطفلة التي لا ذنب لها في هذا التشتت .. أنا أرى سلمى وهي تبدو رقيقة جدا على ما تعيشه .. والرجل مهما كان لن يكون مثل الأم ولا مكانها .. تظل الأم أما .. ومن مثل سلطان أصلا لا يستطيع أن يقوم بدور الأم .. وربما هذا ما يقهره على ابنته .. شعوره أنه بحاجة ليعوضها .. خاصة وأنت تقولين أن أمها امرأة مهملة قبل حتى أن تتزوجيه .. أليس كذلك "
 
أومأت انتصار بقنوط فابتسمت أمها تربت على فكها مكملة " لن أمنحك النصائح الآن في التعامل مع زوجك .. فأنت خير من يعرفه ويقدر الوضع .. سأخبرك أن تهادني فقط ولكن مع حفظ كرامتك طبعا .. زوجك على ما تُعوديه .. حافظي على بيتك يا حبيبتي بالطريقة الأنسب .. حاوطي على زوجك وتوصلي للعلة جيدا .. طالما أن زوجك شخص جيد لا مشكلة فيه يعني كل شيء قابل للحل فقط بالهدوء والحكمة وطول البال .. الرجال معظمهم يرفعون الضغط أقسم بالله .. لكن ومن يخلو من العيوب .. لأجل تلك المسكينة سلمى الأشبه باليتيمة .. ليحفظ الله لكِ ابنتك ما عند الله لا يضيع "
 
تنهدت انتصار تومئ بهدوء فنهضت أمها تربت على شعرها وهمست " هيا حبيبتي .. إنه في الطريق .. فكري بطريقة ما للتعامل معه .. سأتركك لتستعدي "
 
...........................
 
كان جالسا مع والدها منذ وصوله يثرثران حول أي شيء دون تطرق لما بينه وبين انتصار
فقد سأله عبد الله في الزيارة الأولى عما حصل بينه وبين ابنته فاكتفى سلطان بالصمت وقد احترم الرجل رغبته بعدم مناقشة هذا الأمر ..
 
دخلت عليهما انتصار بعد فترة تحمل كوب الشاي الذي تعلم مسبقا أنه يتوق لارتشافه من قبل حتى قدومه ..
 
رفع عينيه لها يشملها وقد بدلت فستانها المحتشم لآخر رقيق .. بلون أزرق داكن مناقض لبشرتها ..
يغطي كاحليها ولديه كمين منتفخين بالكاد يغطيان جزءا بسيطان من الذراعين ..
 
تقدمت ببطء تضع الصينية وجلست قرب والدها الذي بقى قليلا ثم استأذن يتركهما مغلقا الباب خلفه ..
 
حول سلطان عينيه لها قائلا " مرحبا يا انتصار "
مسدت على بطنها بعفوية ترد " الحمد لله .. بخير "
زم شفتيه ممتعضا " نعم .. يبدو لي أنكِ بخير فعلا "
رفعت حاجبها الأسود تنظر له بسكون ثم همست " فضل من الله "
 
أمسك كوب الشاي يرتشف منه بجشع داخلي نحو مذاقه ..
حتى تركه بعد وقت فارغا يستعيد القليل من ضبط مزاجه ثم شبك أصابعه مستهلا " ألم تنتهي فترة راحتك هنا وحان الوقت للعودة لبيت زوجك "
 
رمقته للحظات بغيظ إلى أن أجابت " أنا لست في فترة راحة .. أنا غاضبة يا سلطان "
لوح بكفيه يقول بلا مبالاة " أيا كان المسمى .. متى تعودين لبيتك "
اهتاجت أعصابها المتحفزة ناحيته فانتفضت " لن أعود "
تبعها بالوقوف يرد بعصبية " هل تعلمين ماذا .. أنا هو المخطئ أني آتيكِ "
 
إنذار .. ليس هذا ما خططتِ له
 
تكتفت ترميه بعينيه غاضبتين وقالت " كثر خيرك والله .. عذبناك أنت وسيارتك في قطع المسافة الضخمة "
تخصر سلطان مجابها " لا تتهكمي .. هذه المرة الثالثة التي آتي لهنا وأخرج بدونك .. لا أضغط عليكِ فقط لأجل حملك "
 
احتضنت بطنها وأدارت ظهرها إليه قائلة " ربما أصلا لا تأتي إلا لأجل الطفل .. تؤدي واجبك "
أغمض عينيه للحظة نافذ الصبر وقال بغضب " انتصار كُفي عن حماقة النساء .. لقد أتيتك أكثر من مرة .. هل تريديني أن أرجوكِ يعني "
التفتت له تقول بخفوت متلاعب " ولماذا لا تفعل .. ألا أستحق أن ترجوني لأرضى "
 
تأملها برهة أجاب بعدها منهكا " بلى .. تستحقين وأكثر .. أنا فقط من أعجز عن الترجي لإبقاء أحد "
ابتسمت بسخرية تقول " نعم .. كما تعجز عن تقديم اعتذار مناسب "
زوى حاجبيه فأضافت " هل لاحظت اصلا أنك لم تعتذر عما بدر منك حتى الآن "
فرد كفيه ببديهية " أليس قدومي لهنا يعد اعتذارا "
اتسعت عيناها مستنكرة " لا .. بل يعد مجرد احتياج لي في حياتك لترتيبها "
نظر لها بعدم فهم قائلا " ألا يعني احتياجي لكِ شيئا "
عادت توليه ظهرها متكتفة " لا أريد رجلا يحتاجني في حياته كي تستقر وفقط .. أريد رجلا يريدني أنا فقط "
تأملها ببلادة ذكورية برهة ثم ندت عنه ضحكة ساخرة " هذا أغبى مبدأ سمعته بحياتي يا انتصار "
" هذا مبدأي " قالت بعناد فتحرك ناحيتها يقول " يا غبية .. أنا احتاجك .. اريدك .. هل هذا ما تريدين سماعه "
لم ترد عليه فأحاط وجهها يردف بغضب وهو يضغط عليه " وأنا أعتذر .. أنا آسف لقد كنت مخطئا .. عودي معي لبيتك .. هل هذا كافي "
 
عاتبته بعينيها تهمس برقة " هل كان من الصعب قولها لهذه الدرجة "
هز رأسه يقول بإرهاق " تلك مشكلة لدي .. مشكلتي أنا .. لكن يمكنك توجيهي .. لا أستطيع الاستغناء عنكِ يا انتصار .. روحي متعلقة بروحك .. افهميني حبا بالله دون قول "
 
انتفض قلبها بقوة تأثرا وظهر في عينيها اللامعتين صوبه فبادر بأن انحنى ببطء متلذذ إلى ثغرها الناعم دون منحها فرصة أكثر ..
فقبلها برقة رغم خشونة التوق ..
بينما كفه تتحسس بطنها باشتياق وكأنه يرسل التحية للطفل بينهما ..
 
في منتصف الشوق ابتعدت عنه تتركه يلهث بعذاب مقصود منها
 
بينما تهمس بتقطع " لن تُحل المشكلة بتلك الطريقة يا سلطان "
توسعت عيناه يناظرها مذهولا حتى هتف " نعم ؟ "
" ماذا " قالت بحنق فلوح يكمل بحدة من بين أسنانه " انتصار لا تزيدي .. هذا الأمر طال بيننا "
تخصرت تقول " لقد قلت لتوك أني استحق أكثر "
شتم في سره ثم قال " وماذا بيدي لأفعل .. هذا أقصى ما يقدمه الرجل يا انتصار .. لقد اعتذرت وانتهى "
حركت كتفها تقول بدلع مقصود " لقد غادرت بمزاجي .. ولن أعود إلا بمزاجي "
رمقها غير مصدق فقال منفعلا " ومتى يحين مزاج سموك "
 
مطت شفتيها تتصنع التفكير ثم أجابت " غدا "
" بمعنى " سأل بعدم فهم فتحركت تقترب منه معدلة من هيئة سترته تربت على كتفيه عفويا فيختلج قلبه احتياجا بينما يسمعها تتدلل " غدا .. تأتيني بنفسك مع عائلتك .. والدتك وأخوك وأختك .. تسترضيني أمامهم وأمام أهلي .. عندها أعود "
 
رمقها بجمود لفترة وقال " أنت تمزحين .. لا أحد منهم يعرف بما بيننا أصلا "
لوحت تقول بهدوء " ولا عندي يعرفون .. لكن الجميع أصبح متأكدا من أني غاضبة وحزينة منك .. لذا قدومك أمام الجميع يعني أنك تراضيني .. راضيني كي أراضيك يا سلطاني "
 
ضغط فكيه بعنف قائلا " أنت تتلاعبين بي يا انتصار "
اقتربت أكثر قائلة " أنا أمارس حقي كأنثى مكسورة الخاطر من زوجها القاسي .. بالمناسبة .. اجلب معك باقة ضخمة من الزهور البيضاء .. أحبها "
 
اتسعت عيناه وأوشك أن يتلفظ بقول غاضب .. فاستدركت بمكر أنثوي وهي تبادر هذه المرة بقبلة ناعمة لم تشبع فيه جوعا بل زادته غرقا ورغبة في عودتها لحياته ..
 
لتبتعد بعد لحظات قصيرة تراقب اختلاجاته التي سيطر عليها مبتعدا يعدل من هيئته بنزق .. ثم تكلم محتجا " ابقي في بيت والدك يا انتصار .. اشبعي غضبا إذن "
تحرك بعدها للمغادرة فأرسلت له ضحكة رقيعة بصوت خفيض تحكمت فيه ..
فشتم وهو يرحل مغمغما بسلام سريع لأهلها المتفاجئين ..
 
فنهضت أختيها تسألان بحنق عن سبب رحيله المفاجئ وحده
 
فابتسمت وهي تتحرك لغرفتها هامسة بثقة " سيعود غدا بإذن الله "
 
........................
 
كانت الأيام تمر خالية ..
لم يثنيها عن قرارها شيئا ولم يمنحها هو موافقة .. وكذلك لم تتواصل مع مياسة المنتظرة بصبر تُحسد عليه دون أي تدخل غير مرغوب ..
 
بدل عمر ملابسه بعد أن أنهى صلاة العشاء التي قضاها في غرفته ..
سحب علبة التبغ وهاتفه وخرج مقابلا نورين التي كانت جالسة وحدها في الصالة دون أن تفعل شيء ..
لا كتاب بيدها ولا حتى تشاهد التلفاز
 
مجرد سكون يشبه حياتها الحالية
بينما تجلس منتظرة تحديد محطتها القادمة المجهولة ..
 
رفعت عينيها إليه تتأمل شحوب هيئته ثم همست " هل سترحل "
أومأ قائلا بتوضيح " أشعر بالاختناق .. سأجلس بالشارع قليلا "
 
وافقته ترد بوهن " نعم .. الجو أصبح خانقا في البيت "
 
تعكرت صفحته لكنه لم يعلق بل سحب نفسه خارجا من البيت كله ..
 
فيقف بالشارع ساحبا أنفاسه دون جدوى .. الاختناق لا يبارحه
 
اقترب يرتمي على إحدى المصاطب يجلس وحيدا شاردا في حاله مع أخته ..
دون حتى أن يلحظ الظل الذي اقتحم جلسته بعد وقت إلى أن تكلم الصوت المألوف جاذبا انتباهه " عمر .. لماذا تجلس وحيدا "
رفع عمر عينيه حتى ابتسم ساخرا " والله زمن يا أبا علي "
 
جلس حسن بجانبه دون تعليق على كلمته وكرر " لماذا تجلس وحدك "
نظر له عمر بصمت ثم قال " لم يعد عندي من أجالسه "
قطب حسن ممتقع الوجه فتكلم بهدوء " نعم .. الحياة مشاغل "
 
ابتسم عمر بسخرية جديدة لكنه لم يعلق هذه المرة ..
لفهما صمت غير مستساغ بينهما .. وكأن الكلام نفسه قد ارتبك في حضرة التلاقي بعد غياب ..
 
إلى أن حاول حسن التحدث فسأل " هل أنت بخير "
 
" وهل هذه هيئة شخص بخير ؟ "
تدخل صوت ثالث يكملهما .. فالتفتا لفجر الذي نزل لتوه من شقته وارتمى على الناحية الأخرى لعمر وقال موجها كلامه للأخير " تبدو كرجل أشبعوه ضربا بالأحذية بالفعل "
 
ضحك عمر قليلا يجاريه " على أساس هيئتك تختلف "
اعترض فجر بفتور " أنا مضروب بالقباقيب نفسها "
عاد عمر يضحك إلى أن عاد واستكان والصمت يعود بهيبته ..
 
فتكلم فجر من جديد " أخشى أن أسأل عن حال أي منكما .. بما أن كل منا أصبح يداري على شمعته كي تشتعل "
علق حسن دون مرح حقيقي " أكثر من هذا اشتعال وسننفجر أقسم بالله "
 
ضحك الثلاثة بخفوت ثم عادوا للسكوت الأطول هذه المرة الذي قطعه عمر بعد أن ضاق صدره بما احتواه " نورين طلبت الطلاق "
ارتد رأس حسن كرد فعل عنيف وهو يلتفت لعمر هامسا بصدمة " ماذا "
تنبه فجر لانفعال حسن المفضوح فقال متفاجئا يلفت اهتمام عمر له " حقا ؟ "
لم يرد عمر مباشرة وهو منشغل بإخراج سيجارته وأخذ وقته في إشعالها ينفث دخانها بحرية ثم أعلن دون تراجع " كما أني معجب بأختها .. مياسة .. وكلتاهما تعلمان "
 
" ماذا " همس حسن مرة أخرى كغبي بينما لم يتفاجأ فجر جدا وإنما انفجر ضحكا بشكل مباغت ..
نظرا له صاحبيه بفتور ينتظرانه حتى توقف عن الضحك الساخر حد أن دمعت عيناه بينما قال عمر " أعلم .. يا لسخرية القدر .. لقد سقطتُ مع ابنة خالتها في النهاية "
نظر له فجر بعينيه الباهتتين المشقوقتين بجرح لا يندمل ..
 
حتى تنازل يتكلم بلا معنى واضح " صدق أو لا .. لكن مياسة تختلف "
ضحك عمر باستياء قائلا بتهازؤ " هذا بما أنك فهيم جدا بالبشر "
 
أطرق فجر أرضا للحظات ثم أشار إيجابا يجيب " نعم .. أستطيع تمييزهم بعد الآن .. هي ليست نزيهة تماما .. لكنها ليست سامة مثلها "
 
عاد ونظر لعمر ثم ستكمل " لولا ذلك لما تركت أمي في بلدها وتقبلت مساعدتها "
 
هز عمر رأسه كارها .. فالتفت لحسن الذي كان ينظر للفراغ متسع العينين غارقا في فكره المبعثر شاعرا بالذهول ..
 
" أنت لماذا صامت " سأل عمر مهتما فنظر له حسن يتأمله بنظرات مهتزة ثم سأل " لماذا تطلب نورين الطلاق الآن "
تنهد عمر يرفع وجهه للسماء السوداء و رد " نورين تريد تركي .. سترحل مع مياسة للأبد "
ضحك حسن ضحكة غبية يكرر " للأبد "
 
أومأ عمر مؤكدا " نعم .. لست غبيا .. فإن تركتها لمياسة مرة .. فلن أنالها مجددا أبدا "
 
سأل فجر مشوشا على حال حسن " ولماذا الآن فجأة "
تعقدت ملامح عمر بقسوة فابتلع ريقه معترفا " لقد تألمت .. تألمت ونزفت كثيرا مما عشناه مؤخرا .. وهي أصغر من تحمل كل هذا أكثر .. لم يرحمها البشر يا فجر "
 
ابتسم فجر قائلا بسواد نظرته " الرحمة فقط عند الله يا عمر "
زفر عمر واختناقه يزداد فأكمل فجر " تتكلم وكأنك متيقن بأنها بحاجة لترحل عنك "
انتفض عمر يصرخ " لا أستطيع .. لا أقدر على تركها يا فجر "
شتم عمر بعدها ودار حول نفسه يتنفس بقوة ..
 
فنظر فجر لحسن الجالس دون رد فعل إلا من صدمة يخفيها جيدا ..
 
حتى حسن لن يكون جديرا بمعالجة نورين .. ليس بعد ما صار لها
 
عاد فجر ينظر لانهيار عمر الصامت فقال " هل تريد رأيي "
لم يرد عمر متشنجا وكان صوت فجر يحمل ما لن يحبه عمر ..
 
لكن فجر لم يأبه بمراعاة وقال " بيتك أصبح كقفص خانق ونورين طير مجروح بداخله .. فحررها يا عمر لتتعالج "
 
" أنت من تقول هذا " همس عمر مصدوما فأومأ فجر يجيب " أجل .. أنا خير من يقول .. أنا نفسي اترقب فرصة تحريري من هنا .. هذه البيئة أصبحت ملوثة بما تحمله من ذكريات سيئة لن تستوي فيها حياة الصغيرة يا عمر .. تقبل هذا لمصلحتها "
 
هز عمر رأسه شاحبا فأكمل فجر بقسوة رغم صوته الفاتر " كنت أنت مرحلة وانتهت .. بعض الناس مقدر لهم أن يكونوا مجرد مرحلة .. مياسة هي الأجدر بها الآن .. ليس لأنك ربيتها فستحتكر حياتها على حساب سعادتها "
 
" كفى يا فجر " صرخ عمر منفعلا بحدة لكن فجر أكمل متعنتا بخبث " كما أنك بالفعل تميل لأختها .. رغم أنها تبدو بعيدة المنال جدا عن أمثالك .. لكن على الأقل ستحاول كبائس دون وجود حائل الحرام "
 
" أنا المخطئ اني كلمتك يا **** " صرخ عمر بعنف وهو ينوي الهجوم عليه فرفع فجر كفيه مستسلما في الحال يقول بتحذير " لا تلمسني .. أنا لا آكل ولا أنام تقريبا وإن عطست في وجهي فسأسقط أرضا دون مقاومة "
 
توقف عمر لاهثا فأشار فجر ناحية حسن المتخشب ليقترح " تعارك مع حسن .. يبدو مستعدا لهذا "
 
ما أن أنهى كلامه حتى كان حسن يخلع ساعة معصمه الأنيقة بهدوء ثم تركها جانبا ..
وفي لحظة انتفض ينظر لعمر بغل دفين دفعه للاقتراب منه يطلق سبة خادشة للحياء ..
فضرب عمر الذي تفاجأ فسقطا معا يتبادلان اللكمات والسباب مخرجان ما بداخلهما من ألم خاص ..
 
بينما فجر بنفس جلسته .. سحب سيجارة وأشعلها مراقبا العراك الجنوني أمامه الذي أقلق المارة
 
ليتمتم مع نفسه بفتور مستهزئ " من يريد خلفا .. يأتي ويرى الخيبة التي نحن فيها "
 
......................
 
صباح اليوم التالي ..
 
قضى ليلته بلا نوم .. عانى من الكثير من الجروح فقد كان حسن مغلولا بشدة ونال نصيبه هو الآخر
وحده فجر من صعد بيته ليلة الأمس بخير .. ظاهريا على الأقل !
 
اكتفى بقضاء اليوم في بيته .. جالسا على الأريكة يراقب سكون تحركاتها ..
تأكل بشكل بسيط تشرب القليل ثم تعود جالسة بشرودها بجوار النافذة ..
 
لم يتبادل معها كلمات إلا في آخر النهار .. عندما بدل ملابسه وخرج ينظر لحالتها ..
 
وقتها دنا يلفت انتباهها فيسألها " هل لا زلتِ تعتبرين رحيلك حلا "
تأملته بنظرات شاحبة تحت رقائق دموع ضعيفة كهزال شكلها ..
لكنها عندما تكلمت كانت باترة بقولها " ورفضك ظلمًا لن أسامحك عليه يا أخي .. سامحني "
 
تلك العبارة بالذات هزته ..
نعم .. قد يتبجح بقدرته على أذيتها .. ظلمها واهدار حريتها
لكنها تظل كلمات لن يقوى على تنفيذها معها بالذات
 
يظلم نفسه ولا يظلم نورين !
 
بعد جملتها وجد نفسه يخرج .. يحاسب نفسه ويراجع كل الأحداث
يفكر فتغلبه العاطفة ..
يرى نفسه كمجرد إنسان بارد بدونها .. شعلة روحه !
 
بيته أصبح قفصا لها .. بعد أن كان لها عالما فسيحا
وعليه أن يفتح لها الباب ويحررها لتُشفى !
 
" ماذا كنت ستفعل لو كنت هنا يا أبا عمر " سأل الفراغ أمامه وهو جالس على جانب طريق صحراوي مستندا على دراجته يراقب الغروب ..
 
نكس رأسه بعد فترة تفكير يصارعه .. ثم تحرك يصعد دراجته من جديد ويقودها نحو طريق يحفظه ..
 
وقف أمام البناية وترجل ينظر للأعلى نحو شرفة إحدى الشقق ..
 
قلبه كان ينتفض بقوة معترضا .. لكنه يعود ويتساءل عن مصير فتاة ظلمتها الدنيا كلها وتحتاج لفرصتها في الحياة ..
 
مر أمام الحارس والذي رد تحيته بينما يشرب الشاي ببساطة .. مثيرا في نفسه الامتعاض ذاته ككل مرة
 
قطع درجات السلم نحو شقتها .. وقف أمامها مرتجفا .. وكأنه على مفترق طرق
ليس وكأنه .. لقد كان بالفعل
يتخذ القرار الأصعب في حياته !
 
فازدرد ريقه وشجع قلبه الهاوي .. ثم طرق الباب عدة مرات منتظرا .. يستمع لصوت خطواتها الهادئة تضرب الأرض بأناقة ..
فتحت الباب فحد التفاجؤ ملامحها ..
لم تتوقع قدومه هذا الوقت
 
لم تتكلم ولم يبادر بتحية .. وإنما اكتفى بتأملها مستكشفا اشتياقه لها كغبي بائس ..
 
" عمر " بادرت بعد أن ملت السكون .. فوجه عينيه لعسليتيها بتركيز حتى تقدم يدلف الشقة بأريحية دون أخذ إذن ..
 
بدت متململة رافضة لوجوده بعد آخر مرة بينهما هنا ..
لكنها لا تخشى شيئا بالفعل .. لذا فأغلقت الباب من جديد وتقدمت من وقفته بمنتصف الصالة وهو يرنو لصورة أبيها دون معنى ..
 
" ما الذي أتى بك يا عمر "
سألته بهدوء فأسبل أهدابه حتى استدار لها ببطء ولا زال ساكتا
 
حينها تكتفت بغير صبر فنظر لها قائلا " لم تسافري بعد ! "
نظرت له للحظات ثم قالت بهدوء " جد طارئ "
" حقا " سخر فلم تلتفت قائلة " ماذا تريد يا عمر .. هل أتيت لتتبجح مجددا .. انت حتى لم تعد ترى وجهي .. وأنا لم أعد أتواصل مع نورين .. فماذا تريد بعد "
 
طرح سؤالا هادئا " هل بقيتِ بعد مكالمتي ذلك اليوم .. ألن تسأليني عن معنى كلامي "
هزت رأسها نفيا تقول بصدق " لن أفعل .. ولهذا بقيت .. لأفهم المعنى دون سؤال غير مرغوب مني "
مالت شفتاه باستهزاء وقال " ماذا .. هل تخبرينني أنكِ تراعين كبريائي الآن .. بعد أن سحقته بنفسك بما فعلتِه مؤخرا "
 
لم ترد ولكنها لم تنزل عينيها عنه في نزال شرس رغم صمته فتكلم من جديد " هل إن طلبت منك الرحيل مجددا ستفعلي ؟ "
لم تهتز وتحدثت بثقة " مكالمتك منحتني أملا يا عمر كنت بالفعل قد فقدته .. لذا سأخبرك بأني آسفة لست آسفة على أخذ نورين والرحيل بها عن هنا "
 
" حتى وإن أخبرتك أنها آخر ما تبقى لي " سألها كورقة أخيرة فرفعت حاجبها تخبره ببساطة " أخبرتك من قبل .. لا أفكر بعاطفة تضعفني يا عمر "
 
مط شفتيه قائلا " لكني أفكر بعاطفة "
حركت كفيها مفرودين تقول " هذه مشكلتك إذن "
أومأ لها مؤيدا كلامها ..
 
أدار عينيه في الشقة من حوله حتى عاد وركز على ملامحها بوجه بدا مهتزا قلقا يسأل " هل أنتِ قادرة على حمايتها فعلا يا مياسة "
 
اتسعت عيناها بتوجس إلا أنها أجابت دون تردد " بروحي .. أحميها بروحي "
 
ابتلع ريقه ولاحظت أن تنفسه غير مستقر وكأنه يعاني داخليا ..
لكنها تمسكت بطرف الخيط تقول بتلهف وهي تتمسك بساعده فتشجعه بقوة " اتركها لي يا عمر .. صدقني هذا في مصلحتها "
 
نزل بعينيه لكفها الأسمر .. فوجد نفسه يمد يده الأخرى محيطا بيدها متلمسا صدقها ..
رفع وجهه لها يتأمل توجسها ناحية ما يفعله ..
فصعد بكفها ناحية صدره الذي يهدر أسفل أناملها بعنف تسبب لها لرعشة طفيفة داهمتها ..
بينما استمعت لقوله الهادئ الغريب " نورين كانت ولا زالت أختي .. وميل قلبي لكِ كان أطهر من تشويهك له يا مياسة "
 
اتسعت عيناها من قوله الصريح فأبعدت كفها عنه كملسوعة تضحك بعصبية قائلة " ما الذي تتفوه به يا عمر "
قطع نحوها خطوة أقرب .. فزادت توجسا حياله ليقول " ماذا ؟ .. هل صدمتك بمشاعري نحوك .. أنت بنفسك من كشفتِ الستار عنها .. بل أنتِ من نبهتِ قلبي لها .. فلمَ أخفيها بعد اليوم "
ارتدت خطوة للوراء قائلة بعصبية وقد استفزها بوقاحته " هل أنت أحمق .. هل تعتقد أن نورين هي الحائل بيننا .. أفق يا بني آدم وانظر لاختلافنا .. لطباعك التي لا أستطيع التعايش معها ولو ليوم واحد "
مط شفتيه قائلا بهدوء " أنا عكسك .. أرى تناسبنا .. النار تهوى الجليد الآن .. ألا يكملان بعض .. أستطيع بث بعض الحيوية في حياتك الباردة .. بينما تخففين قليلا من حرارتي "
 
" أنت معتوه " قالت مذهولة من منطقه ثم هتفت بعدم ثقة " أنت لماذا أتيت بالضبط "
رفع حاجبيه يشرح " لسرد الحقائق "
صمتت تترصد القادم فأكمل ثابت " أنتِ تريدين نورين .. وأنا أريدك "
حركت رأسها بعنف " أنت مجرد غبي يا عمر .. تافه لا ترى أبعد من أنفك "
قالتها وتمادت في جرحه مشيرة إليه " أنت .. أنت مختلف عن عالمي تماما يا عمر .. طرقنا لا تتلاقى "
" لكنها تلاقت بالفعل " جابهها بقوة فلوحت بأنفة " خطأ .. هذه مجرد صدفة .. كصدف كونية نادرة الحدوث .. أفق يا عمر .. أنا مياسة هانم الحكيم "
 
عاد رأسه للخلف قليلا وقطب قائلا " بمعنى ؟"
ابتسمت بقسوة تدفعه عنها دون تردد " بمعنى ما قلته .. أنا مياسة هانم الحكيم .. سيدة أعمال استثمارية معروفة بمجالي .. بينما أنت .. أنت عمر المنسي .. موظف سابق .. عاطل عن العمل حاليا "
 
اتسعت عيناه وهي تجرح دون أن ترف بجفنها حتى ..
لكنه سيطر على خلجاته بعد لحظات مبتلعا قسوة غصته فقال " لست مصدوما جدا .. أتوقع منكِ ما هو أكثر "
تكتفت تقول بجأش " أنا أمنحك صفعة الإفاقة .. تؤلم لكنها تفيد .. توقف عن الأحلام يا عمر .. وانظر بقدر استطاعتك .. ما بيننا فقط نورين .. وأعدك بأني سأحافظ عليها بيننا .. أكثر من ذلك تكون غبيا حقا ولا ذنب لي في تفاهتك "
 
صمت عمر يرنو لها بعينين داكنتين بجرح شفاف الظهور .. لكنها كانت شامخة أمامه تنهي كل ما يعيقها ..
لديها البتر خير علاج لما يؤرقها !
 
بعد قليل كانت يده تتحرك لجيب بنطاله الخلفي .. راقبته بحذر وهو يخرج حقيبة جلدية صغيرة تأملها طويلا بوجه باهت ..
 
إلى أن صوب وجهه لها قائلا بحشرجة ميزتها " هذه الحقيبة .. فيها ما تحتاجينه لأوراق نورين .. جهزيها للسفر "
 
فغرت فمها بعدم تصديق تهمس " حقا "
ابتسم قليلا بشجن يقول " تبدين فاقدة للأمل "
هتفت بعنف " لا تتلاعب معي بالألفاظ .. هل ستتركها تسافر حقا "
 
هز رأسه يقول " بعكس ما تعتقدينه بأن العاطفة تُضعف صاحبها يا مياسة .. فعاطفتي تجاه نورين هي من تدفعني الآن كي أحررها نحو الأفضل .. قاتلا قلبي أنا "
 
بهت وجهها بينما هو تحرك يترك الحقيبة الصغيرة فوق الطاولة ..
ثم استقام وقال " خذيها .. حتى حين "
قطبت بعدم فهم فأردف بتركيز وهو يبصرها دون حياد " ستظل ابنة المنسي .. وسأستردها كأخت للأبد .. واحذري ماذا "
 
تحفزت للقادم فتابع بتشديد " سأستردك معها "
اتسعت عيناها بصدمة قبل أن تهتف " أنت لم تسمع أي مما قلته "
قاطعها بثبات " بلى .. سمعت جيدا .. بكل قلبي وعقلي .. ولهذا تحديدا سأخبرك بكل ثقة .. "
توقف للحظة يسترعي اهتمامها فأضاف وهو يحيط بمعصميها برفق مناقض لعنف قوله " أقسم بشرفي .. ألا يحمل أولادي إلا رحمك "
تجمدت أمامه عاجزة عن المجاراة أمام كل تلك الحرائق المجنونة في عينيه .. فحررها بسلام وهو ينظر لشفتيها فعادت للخلف خطوة .. ليبتسم ساخرا يطمئنها " لا تخافي .. فأنتِ محقة بكونك أخت زوجتي يا مياسة .. لكني سأطلقها .. وعندها .. "
 
لم يكمل عبارته بل ألقاها بعينيه متحديا ..
هزت رأسها بذهول تهمس " أنت لا تتعب "
ابتسم قائلا بثقة " لم أفعل شيئا بعد كي أتعب "
 
سار ناحية الباب ينوي الرحيل محملا بكبرياء مهتز لكن صاحبه لا زال يرسم الثبات جيدا فوقف عن الباب قائلا وهو يشير لأذنه " اسمعي .. طبول جولتنا قد قرعت .. تغذي جيدا أريد أطفالا أشداء مستقبلا .. وقولي المجرم قالها .. سلام مياسة هانم "
 
ثم فتح الباب ورحل دون زيادة ..
يسمح لهيئته أن تنهار قليلا ما أن غاب عنها ..
أمامه طريق طويله
 
بدايته فراق نورين ووحدة صعبة ستقتات عليه طويلا !
لكنه سينهض .. ابن أبيه لا يهزمه إلا الله !
 
رحل بعدها عن البناية كلها يعود لبيته .. يتركها وحدها بالأعلى تنظر للحقيبة الصغيرة بارتجاف داخلي أجادت إخفاءه ..
 
عمر المنسي بدا هذه اللحظة كرجل لا يُلقي وعدا إلا ونفذه .. لدرجة آلمت بطنها فاكتشفت لاحقا أنه موعد دورتها الشهرية
 
وكأن رحمها نفسه قد اهتز قلقا من نيران توعده !

انتهى الفصل
قراءة ممتعة .. مننساش إن الفوت والآراء بتشجع ع التنزيل أسرع
يارب الفصل يعجبكم 😍💖

فجري أنت ، بقلم آلاء منيرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن