فجري أنت ، بقلم آلاء منير

AlaaMounir201 द्वारा

650K 22.8K 6.3K

ماذا يحدث عندما تتلاقى سمو المبادئ مع دنيا الرغبات ! عندما تضعك الحياة بين اختيارين أحلاهما علقم .. عندما تُخ... अधिक

تواقيع الأبطال
المقدمة
الفجر الأول
الفجر الثاني
الفجر الثالث
الفجر الرابع
الفجر الخامس
الفجر السادس
الفجر السابع
الفجر الثامن
الفجر العاشر
الفجر الحادي عشر
الفجر الثاني عشر
الفجر الثالث عشر
الفجر الرابع عشر
الفجر الخامس عشر
الفجر السادس عشر
عودة 💫
الفجر السابع عشر
الفجر الثامن عشر
الفجر التاسع عشر
تنويه 😍
الفجر العشرون
الفجر الواحد والعشرون
الفجر الثاني والعشرون
الفجر الثالث والعشرون
الفجر الرابع والعشرون
الفجر الخامس والعشرون
الفجر السادس والعشرون
الفجر السابع والعشرون
الفجر الثامن والعشرون
الفجر التاسع والعشرون
الفجر الثلاثون
الفجر الواحد و الثلاثون
الفجر الثاني و الثلاثون
الفجر الثالث و الثلاثون
الفجر الرابع و الثلاثون
الفجر الخامس و الثلاثون
الفجر السادس و الثلاثون
الفجر السابع و الثلاثون
الفجر الثامن و الثلاثون
الفجر التاسع و الثلاثون
الفجر الأربعون
الفجر الواحد و الأربعون
الفجر الثاني والأربعون
الفجر الثالث و الأربعون
تابع الفجر الثالث و الأربعون
الفجر الرابع و الأربعون
الفجر الخامس و الأربعون
الفجر السادس والأربعون
الفجر السابع و الأربعون
الفجر الثامن والأربعون
الفجر التاسع والأربعون
الفجر الخمسون
الفجر الواحد والخمسون
الفجر الثاني والخمسون
الفجر الثالث والخمسون
الفجر الرابع والخمسون
الفجر الخامس والخمسون
مهم 💖
وحشتوني 💖
الفصل السادس والخمسون
الفجر السابع والخمسون
الفجر الثامن والخمسون
الفجر التاسع والخمسون
الفجر الستون
الفجر الواحد والستون
الفجر الثاني والستون
الفجر الثالث والستون
الفجر الرابع والستون
الفجر الخامس والستون
الفجر السادس والستون
الفجر السابع والستون
الفجر الثامن والستون
الفجر التاسع والستون
الفجر السبعون
الفجر الواحد والسبعون
الفجر الثاني والسبعون
مهم جدا
الفجر الثالث والسبعون
الفجر الرابع والسبعون
الفجر الخامس والسبعون
الفجر السادس والسبعون
الفجر السابع والسبعون
الفجر الثامن والسبعون
الفجر التاسع والسبعون
الفجر الثمانون
الفجر الواحد والثمانون
الفجر الثاني والثمانون
الفجر الثالث والثمانون
الفجر الرابع والثمانون
الفجر الخامس والثمانون
الفجر السادس والثمانون
الفجر السابع والثمانون
الفجر الثامن والثمانون
عيد ميلاد 👑🎂
موعد عودة 💖
الفجر التاسع والثمانون ( والأخير )
ختام الفجر ضي

الفجر التاسع

6.3K 201 41
AlaaMounir201 द्वारा

ماذا يفعل هنا ؟

لا يعرف !..

 

حتى أن نظراته المتسعة ترتفع للمبنى الضخم أمامه ذهولا من نفسه ومن تلك الخطوة التي اتخذها في لحظة لا يتذكر أبعادها بشكل تام أو حتى كيف قررها ..

 

لكنه أتى بملء إرادته رغم كل شيء

أتى للشركة بعد أن أخبره نادر المنصوري بنفسه أن يتقابلا هناك بعد انتهاء الدوام ورحيل الموظفين .. وقد لبى .. ها هو لبى ووصل مترجلا من سيارة الأجرة قبل قليل يبتلع ريقه بصعوبة والتردد ينتابه مجددا بعد أن نجح في قتله بعد مصارعة معه لساعات طالت .. ساعات أنهكته .. لا يذكر يوما أنه أرهق نفسه في الصراع مع فكرة مثلما فعل اليوم .. لتفز صورة المرآة ببشاعتها أخيرا مخرسة أي صور عداها ..

 

أغمض فجر عينيه يضم قبضتيه ..

قراره خطأ ؟ .. نعم هو خطأ وجارح له بل قاتل .. لكن على الأقل هو يقدم شيئا ليأخذ المقابل .. ليست صدقة من أحد وإنما صفقة .. مجرد صفقة بشعة منفرة لكنها تظل صفقة ..

 

وعند الخاطرة الأخيرة صرع تردده الذي يحول بينه وبين صعوده من جديد بشيطانه .. فاتخذ أولى الخطوات داخلا الشركة يصعد حيث مكتب المنصوري .. امتدت يده للأخرى المضمدة يتحسسها متذكرا بشكل ضبابي كيف كان جالسا على الأرض ينظر للدماء النازفة من يده المجروحة بضربة المرآة فيمد الأخرى السليمة بشكل آلي بعدم تفكير لهاتفه يطلب نفس الرقم الذي طلبه بالأمس .. ليأتي صوت نادر غامضا " كنت في انتظارك "

وكأنه متأكد من موافقته بديهيا !

وقد وافق فجر وهو يخبره بصوت مبحوح به كسرة نفسه " أين أقابلك ؟ "

 

وها هو هنا .. أمام مكتبه يطرق الباب وقد رحلت السكرتيرة أيضا كما الأمس ..

 

كان نادر واقفا أمام الشرفة الزجاجية العريضة مراقبا الشوارع بالأسفل .. يوجه ظهره لفجر فزم الأخير شفتيه وهو يدرك بفطنة أن نادر يعطي له صورة أنه المسيطر هنا صاحب الكلمة .. فابتسم ساخرا بداخله .. غبي إن اعتقد أنه سيعطيه شعورا بكون فجر محتاجا .. بل هي صفقة لا يعلوه شأنا فيها أحد !

أليس تلك أحد أسباب قبوله ببيع نفسه .. ألا يخضع لأحد !

 

وهكذا كان صامتا خافيا توتره تحت قشرة باردة تساعده ملامحه ذات الوسامة الباردة برسمها جيدا .. خاصة مع عينيه الثلجيتين لونا ومضمونا .. فكانتا جامدتين بلا أي معنى وقد قتل صاحبهما كل الحياة فيهما بما يقدم عليه ..

 

التفت نادر له .. وابتسم بنظرة تحدي قائلا ببرود " لقد أتيت في النهاية "

مط فجر شفتيه ببطء قائلا " لمَ لا .. فرصة ذهبية غبي من يضيعها هاتفا بشعارات زائفة لا تجلب لقمة عيش "

" ذكي يا فجر " قالها نادر معترفا ثم أردف " الفرصة تأتي مرة لمن بمثل ظروفك .. وقليل من يحسن استغلالها "

اقترب فجر يجلس دون أن ينتظر إذنا منه وقال بفتور " من الجيد أني من القلائل "

أسبل نادر أهدابه للحظة وهو يستقبل ردود أفعال فجر بفهم .. إنه يخبره ببساطة أنه لن يكسر عينه .. حسنا وهو لا يريد كسر عينه هو يريد في صفقة لتنقضي وينتهي الأمر بانتهاء مدتها !

 

اقترب نادر يجلس وراء مكتبه قائلا بهدوء " لندخل في حديثنا مباشرة "

قاطعه فجر يقول " قبل أي شئ .. المبلغ الذي أريده هو (*****) " قالها مضيفا زيادة المصاريف التي طُلبت فوق تكاليف العملية بجرأة .. فإن كان سيفعلها حقا ليأخذ كل ما يريده ولتذهب مبادئه للجحيم ..

 

رد نادر بعد صمت للحظات " موافق "

" وسأستلمه الآن " قال فجر فابتسم نادر مجيبا " موافق "

قال فجر مجددا " وسنؤجل كل شئ حتى اطمئن على أمي وعودتها للبيت كذلك .. ثم نتكلم في التفاصيل .. فأنا لن أكون في كامل تركيزي لأي شيء في هذا الوقت "

رد نادر بصبر " أيضا موافق "

ثم رفع نظراته له سائلا " هل تريد شيئا آخر "

أجاب فجر ببرود صقيعي كان نابعا من قلبه " لا .. لا شئ حتى الآن "

أومأ نادر له بابتسامة ثعبانية ثم ركز على وجه فجر قائلا ببساطة " ستمضي على شيك بالمبلغ "

عقد فجر حاجبيه برفض مستنكرا فيبادر نادر يقول ساخرا " عفوا .. ولكن هل تعتقدني سأعطيك المبلغ الآن هكذا ببساطة .. دون أي ضمانات .. خاصة وأن كل شئ سيتم بعد الاطمئنان على والدتك "

زم فجر شفتيه بصمت مدركا صحة ما يقول لكنه سأل مقارعا " وما يجعلني أضمنك فأمضي على مبلغ كهذا "

رفع نادر حاجبيه يقول بنفس السخرية " هل تعتقد بأني قد أبتزك مثلا أو أوقع بك بالشيك ؟ .. كنت أشيد قبل دقائق بذكائك !! "

صمت فجر مرة أخرى يعرف بغباء ما يتفوه به .. لكن هل ينكر بأنه .. خائف ؟

لا لن ينكر .. لكنه سيجازف لأجل أمه بأي شئ ..

 

وقد فعل وهو يهمس باستسلام محارب رفع رايته بخزي " وأنا .. موافق "
 


......................

رنين جرس الباب المتواصل الذي تزامن معه ضربات عنيفة على باب الشقة كادت أن تكسر قفله جعلته يرفع وجهه عن الحقيبة التي كان يرتب بداخلها ملابس لأمه وقد تبدد شروده في الساعات الماضية وما حدث فيها ..

زفر فجر بتشنج وهو يجلس على السرير وقد شعر بساقيه تخذلانه .. إنه عمر يستطيع معرفة ذلك ..

 

ليس مستعدا لأي مواجهة أو محاسبة .. لقد جرح نفسه بما فعل ولا يأمن ألا يجرح صاحبيه خاصة عمر !

 

" افتح يا فجر .. أعلم أنك بالداخل ولن أفكر مرتين قبل كسر الباب على رأسك "

 

صوت عمر الصارخ وصله فأغمض عينيه للحظة قبل أن ينتفض برفض متحركا للباب يفتحه وستار من البرود مسدل على ملامحه أشعل ذلك الذي تدور في عينيه حلقات من نيران .. ورغم إدراك فجر بالعاصفة الهوجاء التي ستقابله لكنه لم يحسب حسابا للقبضة الطائشة التي ضربت فكه جعلته يترنح حتى اعتقد لوهلة أن فكه السفلي طار في الهواء .. لدرجة أن حركه يمينا ويسارا يتأكد من وجوده وهو يرفع وجهه لذلك الهمجي الواقف أمامه والذي لم يتوانى عن الهجوم عليه ممسكا بتلابيبه يدفعه للحائط حتى اصطدم رأسه صارخا بعروق منتفخة " من أين حصلت على المبلغ بتلك السرعة .. تكلم يا فجر قبل قتلك "

 

وصل حسن قاطعا السلم لاهثا يرى عدد من الجيران الذين بدأوا في التجمهر وقد قارب الأمر أن يتحول لفضيحة مدوية ستؤذي فجر قطعا .. لذا وبصرامة تدخل يبعد عمر بخشونة أسقطته على الأريكة هاتفا بحدة " ابتلع لسانك يا عمر .. تمالك نفسك حالا "

تنفس عمر باهتياج ووجه احمر بشدة بينما التفت حسن للجيران مكملا بحزم " كلٌ لداخل شقته .. هيا صلح الله أحوالكم " ثم وبجلافة ليست من طباعه الودودة كان يقفل الباب الخشبي في وجوههم بغير اكتراث ..

 

ران الصمت للحظات وأحد لم يتكلم بين ثلاثتهم حتى همس حسن برجاء غاضب " انفِ الأمر يا فجر .. قل لم تفعل حبا بالله ! "

رفع فجر وجهه له للحظات قبل أن يجد نفسه تلقائيا يبتسم بشكل هزلي وكأنه يسخر من مدى ثقة حسن به !!

 

انتفض عمر ما أن رأى تلك البسمة يسحبه بعنف يدفعه من جديد للحائط قائلا من بين أسنانه " قل لم تفعل .. أو لن أرحمك يا **** "

 

اتسعت ابتسامة فجر أكثر أمام عيني عمر الواسعتين بصدمة والأول يقول بنبرة غريبة وكأنه يستلذ بعذابه " بلى .. لقد فعلت .. وافقت على عرض نادر المنصوري .. وأخذت المال الذي أحتاجه بزيادة رهيبة برقم تفغر له الأفواه .. بعت نفسي في زواج تحليل .. فلا ترحمني إذن يا سبع الرجال "

 

بفقدان صواب يزداد كان عمر يفجر قبضته في وجه فجر فانفجرت معه الدماء وهو مستسلم دون رد فعل أمام ضربات عمر التي انهالت عليه وقد جن جنونه تماما فاقدا سيطرته بذلك الطبع الغير مهذب الذي لا يستطيع أحد لجمه إذا فقد هو زمام أموره ..

 

اندفع حسن يتشبث بعمر وبقسوة دفعه عنه بعد صراع صائحا " كفى .. توقف .. ارفع يديك عنه "

 

زمجر عمر بممانعة وهو يريد الانقضاض على فجر الذي سقط أرضا وقد خارت قواه تماما فهتف حسن بشراسة وقد برقتا عينيه بشدة " إن لمسته مجددا أنا من سأتصدى لك يا عمر .. ابتعد عنه حالا "

التفت عمر إليه يصرخ فيه وهو يهجم عليه بدلا منه " هل تعرف ماذا فعل .. هل تعي بما ألقى نفسه .. إنه قرف .. قرف "

 

أبعده حسن مدافعا عن فجر للنهاية يجهر بصوته " توقف قلت لك .. انظر إليه .. إنه ليس في حالة طبيعية "

 

توقف عمر لاهثا ينظر لفجر وحسن لا زال محيطا به يلجمه .. فتتسع الأعين بمزيد من الصدمة والذهول وهما يرمقان فجر ممددا على الأرض غارقا في الضحكات الدامية الهستيرية و .. الدموع !!

 

تجمد الاثنان بينما فجر يستند على الأرض وبتعثر كان ينهض رافعا يده يمسح الدماء النافذة عن وجهه فينتبه كلاهما كذلك ليده المربوطة .. كان في حالة يرثى لها بشكل غير مسبوق .. خاصة وهو يرفع عينيه المبللتين إليهما قائلا بصوت بارد علقت به مزيد من الضحكات الأليمة التي قطعت أحرفه " ياللمثالية ! .. أشعر وكأني شيطانا وأنا أراكما على هذه الهيئة الرافضة "

 

اندفع عمر إليه وقد خلص نفسه من حسن هاتفا وهو يكيل إليه مزيدا من الضربات قبل أن يمسك به ناظرا لعيني فجر المغيبتين هاتفا بحرقة " أيها البائس .. لسنوات قهرتنا معك وأنت تدعي كرامة أنت أصلا عديمها .. أين المبادئ والأخلاق وكل تلك الشعارات الرنانة .. بعت نفسك .. بعتها يا فجر "

 

كان فجر قد بدأ يشعر بالدوار والصورة أمامه تشوشت لكن هذا لم يمنعه من الابتسام الدامي الذي كان منفرا بشدة لا يشبهه في عيون صاحبيه المصدومين وهو يقول " نعم بعتها .. ماذا لك عندي ؟؟ .. أنا حر نفسي .. نعم بعتها وتبا لك وللكرامة لا أريدها "

عُقد لسان عمر وهو يشعر بصعقة شلته فلا يجد رد فعل يقوله فتقدم حسن يخلص فجر منه هامسا بصلابة " اتركه يا عمر .. إنه ليس بخير "

 

تركه عمر بعد أن أجبره حسن مستخدما قوته العضلية بينما فجر يصرخ بصوت مبحوح بمزيد من الدم والدموع والكثير من كسرة النفس " نعم بعتها .. بعتها حتى أستطيع النوم يوما براحة دون حمل الهم بماذا سيحمل لي الغد .. بعتها لأني أريد الراحة .. نعم بعتها لأني أكاد أفقد الشعور بساقي من كثرة الوقوف عليهما لساعات وساعات واللف هنا وهناك .. بعتها حتى أتوقف قليلا عن العمل الشاق الذي فقدت فيه روحي .. بعتها حتى أشتري أمي .. بعتها يا عمر .. بعتها ومن كان منكما ملاكا فليحاسبني !!! "

 

فغر حسن فاهه بألم من حال صديقه بينما عمر ضم قبضتيه ومشاعر عدة تموج بداخله لا يستطيع ترجمتها .. فرفع قبضة طاحت بوجه فجر الذي لم يتمالك نفسه فسقط على الأرض شاعرا بالدنيا تدور من حوله بشكل أسرع ..

 

انتفض حسن لاكما عمر بقوة صارخا " لا تمد يدك عليه قلت .. كفى "

 

 

توقفوا جميعا لاهثين وشحنات الجنون تلبست ثلاثتهم .. لينهض فجر من جديد مترنحا ثم نظر لعمر قائلا بتشديد " حسنا يكفي يا عمر .. لا تُراهن كثيرا .. فأنا نفسي بعتها كما أخبرتك .. ولن تكون عندي أغلى منها .. أخرج من بيتي "

 

عقد عمر حاجبيه بشيء من الألم وقد شحب وجهه ليهز رأسه إيماءا قائلا بصوت واجم مقتضب " تلقيت الأمر جيدا يا رمادي .. لا تلزمني صداقتك بعد ذلك أصلا "

وبعنف دفع عنه حسن وقد أصاب الأخير الجمود مما يحدث ليتحرك عمر بخطوات ثائرة للباب مغادرا يصفعه ورائه ..

 

نكس فجر رأسه بتوجع وقليل من الأسى يظهر في مقلتيه قاتلا برودتهما الكاذبة وأنين متحشرج يخرج من بين شفتيه كحيوان جريح يحتضر ..

أهي أعراض قتل الكرامة أم جرحه لصاحب عمره ؟

 

جلس على الأريكة دافنا وجهه في يديه هامسا بصوت متباعد " اخرج أنت أيضا يا حسن .. لست بحاجة لمحاضرة دينية وأخلاقية .. الحق به "

 

عم الصمت لفترة قبل أن يشعر فجر بيد حسن ترفع رأسه قائلا بصوت مكتوم تخلله حزن " ارفع رأسك يا صاحبي .. دعني أحاول تنظيف وجهك "

 
.

............................

كطلقة رصاصية طائشة كان يندفع من العقار يفكر إن كان يتحرك لبيته أم يبتعد بدراجته قليلا حتى لا يتصادم مع أحد وهو في هذا المزاج الجنوني وقد كان يرى عفاريت تتقافز أمام وجهه ..

 

من بعيد لمح نورين واقفة بوجه متجهم عند أحد المحلات تشتري أشياءا يحتاجها البيت على ما يبدو .. اقترب يراها تمد يدها تحمل الأشياء وذلك الـ شريف يرمقها بدقة ونظراته فاضت بشيء لم يعجبه ونورين تبدو متحفزة ..

 

وصل لأخته يقول فجأة بحدة " ماذا تفعلين هنا ؟ "

التفتت نورين ببعض الشحوب المفاجئ الذي جعل عمر يضيق عينيه وحدسه ينبأ بشيء خاطئ .. تنحنحت نورين قائلة بصوت هادئ متزن " أشتري شيء عاجل لأمي "

 

سأل عمر وهو ينقل نظراته بينهما " لماذا لم تنزل أمك بنفسها ؟ "

ردت باختصار " إنها متعبة قليلا .. لا داعي لتنزل بنفسها "

ثم استدارت تحمل ما أشترت وتحركت مغادرة تحت نظرات عمر الذي راقبها حتى اختفت بداخل بيتهم ليستدير ببطء بعدها للآخر قائلا بصوت خافت " شريف .. كيف الحال "

 

رد شريف بغرور وتحدي " بخير "

استند عمر على الحاجز الخشبي الفاصل بينهما وأشار بيده خلفه في اشارة لنورين التي رحلت وقال بنبرة عادية " من هذه التي رحلت ؟ "

 

قطب شريف بغباء ليجيب بترقب " نورين "

سأل عمر مجددا " نورين ماذا ؟؟ .. من تكون يعني ! "

 

بمزيد من الغباء والكثير من الترقب الذي اخترقه التوتر " نورين المنسي .. أختك "

 

بغير مقدمات كان ذراع عمر يمتد لمقدمة ملابس شريف يجذبه منها حتى اختنق فيشهق مجفلا والأول يقول بنبرة خافتة شديدة الخطورة شعت بالوعيد " ما دمت تعرف أنها أخت عمر المنسي يا *** .. لمَ ترفع عينيك فيها .. هل أنت مستغني عن نور بصرك .. أخبرني حتى أخلصك منه "

 

تحرك شريف بعنف يحاول تخليص نفسه صائحا " هل أنت مجنون .. ابتعد قبل أن أضربك "

ابتسامة متهكمة شرسة زادت من حقد الآخر احتلت شفتي عمر ليشدد من قبضته هامسا له وهو لا زال محاصرا بمزاجه العنيف " نورين المنسي تمر من أمامك تغض بصرك يا *** .. لا أريد التصادم معك يا وحيد والديك حتى لا يحزنا عليك !! "

 

ثم دفعه فاتكا به ليتعثر بصناديق ورائه فسقط أرضا يرفع نظراته الحاقدة لعمر الذي أشعل سيجارته ثم تحرك لدراجته مغادرا الحي كله تاركا الآخر ينفض ملابسه يتمتم بكلمات كثيرة كلها تهديد مغلول

 

 
...................................

" هل يمكنك شرح ما حدث اليوم بالمشفى "

سأل سلطان حال دخوله لغرفة حسن الذي تهرب بنظراته لا يعلم هل من المفترض أن يشرح له أم لا .. فهو لم يتحدث مع فجر في أي تفاصيل قبل أن يغادر الأخير للمشفى عائدا لأمه ..

نظر حسن لسلطان قائلا بحرج " أعذرني يا سلطان .. لا أعلم هل أخبرك أم لا .. صدقا لا أفهم أي شئ وأشعر بالضياع .. لنؤجل الأمر "

أومأ سلطان بهدوء متفهما يجيبه " على الرغم من الموقف المحرج الذي وُضعت فيه .. لكن لا بأس .. سأفهم لاحقا .. فالعملية بعد يومين فقط ولا وقت لأي عتب ونقاش " صمت قليلا يسأل بعدها " هل أذى نفسه مقابل المال ؟ "

 

أطرق حسن برأسه دون إجابة ليتمتم سلطان " تصبح على خير يا حسن .. سترها الله علينا جميعا "

غمغم حسن بكلمات صغيرة فغادر سلطان الغرفة متوجها حيث غرفته .. وترك حسن يتمدد على سريره يشعث شعره بشرود والضيق يحكم طوقه من حوله .. ما حدث أشبه بعاصفة ضربت ثلاثتهم اليوم .. لا أحد يفهم أي تفاصيل ولا حتى فجر نفسه !!

 

لمَ تدنت حياة فجر لتلك المرحلة من البؤس !!

إنه حتى الآن لا يصدق موافقة فجر فيبيع نفسه !!

 

صدر رنين قصير عن هاتفه خاص برسائل إحدى التطبيقات فالتفت يتناول هاتفه يفتح الرسالة ليجدها من نورين تكتب فيها ( ما به عمر ؟ )

عقد حاجبيه باهتمام يرد كاتبا ( كالعادة إنه عصبي المزاج )

( لقد أحال البيت جحيما من كثرة نزقه ) وصلته الكلمات فابتسم لها متخيلا شكل وجهها وهي حانقة بطفولية فيكاد يقهقه رغم توتر الأجواء يجيب ( تحمليه يا حلوى القطن .. كما نتحمله نحن )

أرسلت له وجوها ضاحكة بدموع فابتسم ثم كتب بعد لحظة بتردد ( كيف حالك نورين .. لم تكلميني منذ وقت طال )

لم ترد فسب نفسه وتورد وجهه بين ذنب وحرج .. لكنه بعد فترة لاحظ أنها تكتب قائلة ببساطة ( انشغلت بالدراسة .. تعلم الدراسات العليا صعبة )

عقد حاجبيه يكتب مكررا ( دراسات عليا ! )

فوصلته وجوها ضاحكة أولا اتبعتها بالقول المكتوب ( طبعاااا .. وهل يوجد أعلى من الثانوية العامة في هذه البلد ) واتبعتها بوجه ممتعض فابتسم ابتسامة واسعة وسيمة وهو يسترخي أخيرا بعد يوم عصيب ولكن قبل أن يتكلم وصلته رسالة أخرى تقول فيها ( حسنا .. سأذهب الآن حتى لا أصيبك بالصداع من تفاهاتي .. وداعا )

 

لا لا .. صيبيني أرجوكِ .. اقتليني بالصداع حتى فقط إبقي !

يكاد يكتب عباراته التي تمر بخاطره فعلا ضاربا بكل شيء عرض الحائط !!

 

لكنه ودعها محبطا متمالكا نفسه ثم ترك هاتفه هامسا " لا أعرف كيف السبيل للشبع منكِ يا حلوى القطن .. متى تكبرين .. فترينني ! "

 
..........................

قبّل سلطان خدي ابنته وهو يتلاعب بمناغشة بضفيرتيها المرتاحتين على أعلى كتفيها بدلال قائلا " هذه هي الضفيرة إذن "

أومأت له الصغيرة بمرح وقالت تتلمسهما " إنها من صنع المِس انتصار كما أخبرتك .. تجيد صنعهما " ثم أشارت لزهرات صغيرة ملونة معلقة بالضفائر وأكملت " انظر .. علقت فيهما ورود أيضا "

 

ابتسم لها بحنان وهو يمد يديه ليفكهما فتذمرت رافضة ليبرر برفق " عليكِ أن تمشطي شعرك حبيبتي "

هزت كتفيها تقول " ولكنك ستتركه حرا .. وماما ترفض هذا "

على ذكرى ( ماما ) كان هاتف الصغيرة يرتفع برنين رسالة على الواتساب فاندفعت تأخذ هاتفها تصيح بفرح " تلك أكيد ماما "

ثم ابتسمت باتساع وهي تفتح الصور بتركيز طفولي والتي أرسلتها لها دنيا بتعمد .. كانت بسمة الصغيرة متسعة جدا وهي تشاهد صور أمها حتى عبست بغير رضا فجأة فعقد سلطان حاجبيه يسأل " ما بكِ طفلتي ؟ "

ناولته الهاتف لينظر فيه حيث الصورة المفتوحة والتي كانت بها خطيب دنيا فادي وهو منحني الظهر قليلا ودنيا فوق ظهره متشبثة بعنقه رافعة قدميها عن الأرض والاثنان يضحكان بصخب ..

تحركت عضلة في خد سلطان وأظلمت عيناه ليأتيه صوت الصغيرة حزينا فيزيده نارا على ناره " لا أحب هذا الرجل .. لقد أخذ ماما "

 

قال سلطان بصوت مشتد " هل آذاكِ أو أزعجك "

هزت الطفلة رأسها نفيا ببراءة وقالت " بالعكس .. إنه يحبني لكني لا أحبه .. أنا أحبك أنت "

 

ابتسم من بين ضجيج مشاعره العنيفة التي يحاول التعامل معها داخليا حتى لا تظهر أمام ابنته

 

يكفيه ظهرت مرة كادت أن تضيع منه ابنته بسببها للأبد !!

 

همس لها بحب كبير صادق " تعلمين أن ماما تحبك .. أليس كذلك "

رفعت نظراتها له ثم قالت " أجل .. فقط كنت أتمنى أن نعيش سويا .. ككل صاحباتي "

" سامحيني حبيبتي .. لكن هذا لم يعد ممكنا " قالها بألم لا يعلم كيف يمكن التعامل مع الوضع .. لتحتضنه سلمى قائلة بصوت مخنوق " أعلم .. ماما أخبرتني .. أنا فقط أخبرك شعوري بابا .. أنا آسفة لا تحزن "

ضمها إليه ولم يجد ما يقوله .. فقط اكتفى بتقبيل وجهها ثم أبعدها يفك ضفيرتيها واضعا الوردات الصغيرة جانبا وبهدوء كان يمشط بنفسه شعرها مترفقا .. مدللا إياها بالكلمات وبعض المزاح الذي تشاركاه .. حتى سقطت الصغيرة نائمة بحضنه

تاركة إياه في سعيره وهو يعاود النظر للصورة الخاصة بدنيا وخطيبها .. عليه أن ينبهها محذرا ألا ترسل تلك السخافات والميوعة للطفلة .. أي تربية هذه ؟

 

ركز حينها على صورة خطيبها بالذات فيجده ما هو إلا شاب بنفس عمرها في الثامنة والعشرين .. يحمل عنجهية شاب طائش وتلاعب لم يكن سلطان يملكه .. ويبدو أن هذا كان عيبا .. لسلطان نفسه !!
 


........................

وصلت مياسة ..

ها هو واقف بالبهو ينتظرها ببرود حتى دخلت الفيلا وتوقفت للحظة وهي تجده أمامها ..

عقدت حاجبيها تقول ساخرة " ماذا ؟ .. هل تستقبلني بنفسك يا منصوري "

لم يرد .. بينما اقترب منها بكل هيئته الوسيمة رغم عمره لكنها تحمل خطرا وخبثا يجعلان من أمامه لا يرتاح معه .. وقف أمامها هامسا وهو يمسح ملامحها بعينيه " هل تعلمين مياسة .. لمَ أسمح لكِ بالدخول لبيتي في أي وقت .. رغم أني يمكنني منعك ببساطة "

أمالت وجهها تقول ببرود متهكم " تساءلت كثيرا بصراحة "

عندها نظر لها نظرة فجة فكادت أن تنكمش حول نفسها برد فعل تلقائي لكنها تماسكت بتجبر وهي تطالعه بذهول متفجر وهو يرد بشرود " لأنكِ بهجة للنظر .. من تأتيه فرصة لقياك ويرفضها .. رغم مقتي الكبير لشخصيتك الكريهة .. لكنك أنتِ تشبهين أمك جدا " ثم عبس مركزا في عمق عسليتيها يقول بنبرة رافضة " لكن عينيك ! .. عسليتيكِ من تاج الحكيم لا غيره كما غمازتيك السخيفتين كذلك ! "

 

تعكرت ملامحها نفورا وبقوة جبارة سيطرت على نفسها حتى لا ترجع خطوة للوراء مبتعدة عن مجاله بينما هو يردف بحسرة " أعترف بأني تمنيت مرارا لو كانت ليل تحمل القليل من صفاتك .. روحا و .. شكلا !! "

صمتت صمتا بارد حتى ردت أخيرا " احمد ربك أنها مميزة باختلافها عني .. فلو كانت أنا ربما قتلتك منذ زمن ! "

ابتسم فزاد نفورها منه وقال " أحب عنفوانك مياسة .. لم ينكسر رغم كل ما مررت به من .. تجارب قاسية "

رفعت حاجبيها قائلة بذات عنفوانها الذي يتغنى به " التجارب تبني يا منصوري .. وشكرا لاعترافك بإعجابك بعنفواني ..  هذا مثير للاهتمام حقا "

 

ثم وبهدوء كانت تتحرك ناوية الصعود لليل متحكمة في رغبتها بالقيء .. ليأتيها صوته قائلا بخبث وشماتة " هل ستودعيها الآن " قالها مدركا نية الشقراء الذهبية في تصميمها على رحيل ليل معها .. وبالفعل التفتت له تقول " ليل ستسافر وأنت قطعا تدرك ذلك .. اتركها يا نادر .. فلم تعد ذات فائدة لكم "

هز كتفيه ببرود يجيبه " مممم .. عفوا ولكن .. سامحيني لهدم مخططاتك بشأن بناء ليل .. فليل ستتزوج عما قريب .. وقد وافقت بنفسها "

اتسعت عيناها لوهلة .. هل وافقت بالفعل وأخبرته بموافقتها !!!!!

لقد تخلصت من جنينها فلمَ الموافقة .. أيعقل أنها تخطط فعلا لما قالته لها مسبقا ؟

" كاذب " همستها بحدة فاتسعت ابتسامته ثم تحرك يوليها ظهره قائلا يلوح بيده برقي " هي عندك .. اسأليها "

 

تنفست مياسة بعشوائية وهي واقفة مكانها للحظات قبل أن تستدير متحركة فورا صاعدة لليل ..

لا يمكن أن تكون فعلا صممت على مخططها الكارثي .. لا يمكن

 

 
..............................

كانت ليل بجناحها جالسة في كرسي على الشرفة تتطلع في السماء الصافية من فوقها .. تكاد تعد نجومها نجمة نجمة من شدة التركيز .. أجل إنها مستفيقة تماما الآن .. واعية لكل ما يحدث وجاهزة ..

اليوم قبل ساعات قليلة أتاها أبوها يخبرها بأنه دفع المبلغ .. للشاري !

ابتسمت ساخرة .. لم تُظهر رد فعل فقط أومأت باستسلام فغادر بينما هي ظلت تفكر بمرارة أن أباها تاجر ولكن تغيرت الأوضاع فدفع التاجر المال لأقرب شاري !!

 

أي بخس هذا !

هي لا تعلم علام يخططون بالضبط

هي فقط منتظرة لتدرك التفاصيل بهدوء في الوقت الذي يحددونه

 

أجفلت من تركيزها على صوت الباب الخارجي للجناح يُفتح فتساءلت للحظة إن كان أباها .. فالخدم رحلوا ولم يبق إلا الحراس والبواب

 

لكن الإجابة وصلتها بعنف انفتاح باب غرفتها وطلت من ورائه مياسة غاضبة بشكل مثير للدهشة .. فمياسة نادرا ما تظهر غضبا ناريا بل تفضل الغضب البارد وتراه أكثر قوة وفتكا بمن أمامها !

 

اقتربت مياسة واقفة أمامها تسأل بنبرة غريبة " هل ستسافرين معي غدا "

نظرت لها ليل بصمت ثم نهضت من مكانها واقفة أمامها تجيب بتراخٍ بارد " بسؤالك هذا فأنتِ تدركين الإجابة "

اتسعت عينا مياسة وتشبثت بكتفي ليل تهزها قائلة " ما معنى هذا .. هل وافقتهم على ما ينوونه .. هل ستبيعين نفسك يا ليل حقا .. بعد كل حربك للنجاة .. لماذا تفعلين لماذا ؟ "

أبعدت ليل يداها عنها ثم دخلت لغرفتها قائلة " لقد أخبرتك قبلا لمَ التعجب !! "

هتفت مياسة باستنكار تدخل ورائها " لقد اعتقدتك تمرين بحالة غضب وتفكيرك كان غير سوي بالمرة .. لم أعتقد أبدا أنك قد تقدمين على هذا الجنون مطلقا .. تبيعين نفسك وبإرادتك .. بعد قتلك لابنك !! "

ردت ليل بخفوت رغم الألم الذي عصف لوهلة على وجهها على ذكرى اجهاضها " آسفة أن خذلتك .. لكن صدقيني بعض البشر نصيبهم في الحياة حروبا لا تنتهي .. وفوزها لا يكون إلا بموتهم "

" كفى شعارات بالله عليك " صرخت مياسة بجنون لتلتفت لها ليل قائلة بألم " أنتِ لن تفهمي .. لا أحد يفهمني .. لن يفهمني إلا من قُهر مثلي .. إلى متى سأظل أحارب .. ومن سأحارب .. لا أحد بجواري إلاكِ .. هل تعين أني أحارب أهلي يا مياسة .. الأهل الذين من المفترض أن يحموني هم من يحاربوني "

اندفعت لها مياسة قائلة برجاء " ليل أرجوكِ .. أنتِ تعذبين نفسك .. حاربي أكثر فأنا أرى نجاحك قريبا .. اسمعي مني يا ليل .. أنتِ تحتاجين للبحث عن نفسك بعيدا عنهم "

تملصت منها ليل بعنف مبتعدة توليها ظهرها متكتفة قائلة بجمود " توقفي مياسة فأنا أكره نفسي بكلامك أكثر .. إن كنتِ لا تعلمين فأبي اتفق مع الشاب الذي سيفعلها بل ودفع له مالا .. لا مجال للرجوع "

شحب وجه مياسة وهي واقفة ورائها مبهوتة من السرعة الجنونية لأحداث أكثر جنونا لا تستطيع حتى استيعابها حتى تواكبها بالحلول

التفتت لها ليل مردفة بنبرة شعت باليأس و البأس معا " ارحلي عن هنا مياسة .. عودي لعملك وحياتك فقد ابتعدتِ عنه كثيرا لأجل قضية خاسرة .. ولا تعودي لهنا مرة أخرى .. فهذا مكان موحل .. وحاولي مسامحتي "

 

صمتت مياسة تحاول البحث عن مخرج لكن العزم المتألم على وجه الأخرى جعلها تدرك بأنها فعلا .. قضية خاسرة !

فقالت لها بصوت متباعد به الكثير من خيبة الأمل " أتمنى فقط أن يأتي يوم تسامحين فيه أنتِ نفسك .. و تجدين فيه راحتك "

نكست ليل رأسها بذل تمكن منها فتحركت مياسة بخطوات بطيئة للباب قبل أن تتوقف ناظرة لليل تستكمل " أنا آسفة جدا .. لم أكن نعم السند لكِ ربما .. لتسامحني جدتي على هذا " ثم فتحت الباب مغادرة .. دون حتى وداع تاركة ليل ترتجف مكانها بوحدة استشعرتها ما أن ابتعدت .. لتركض رغما عنها للشرفة تراقب رحيلها عنها ..

 

بينما في الأسفل اشتعلت مياسة وهي ترى نادر يقف على الباب الداخلي يستقبل أمير المترجل من سيارته وما أن لاحظها حتى ابتسم قائلا بسخرية " فلتصحبك السلامة مياسة .. سلامى لعالية "

التفتت له مياسة تحدجه بنظرات لو كانت تقتل لمات فورا .. ثم غادرت بخطوات عنيفة يقابلها أمير فتهتف همسا بشعور خسارتها " أتمنى أن تشتعل قريبا بالنيران التي ألقيت بها المسكينة .. مرة بعد مرة " ثم أردفت بغل " وأرى هذا قريب الحدوث يا فارسي "

ثم باندفاع توجهت لسيارتها لكن ليس قبل أن تُلقي بنظرة على ليل التي تراقبها من الشرفة

نظرات طالت .. تبادلا فيها العتاب والألم ..

وقلة الحيلة والغضب ..

والوداع !

ثم ركبت سيارتها وانطلقت .. وكلتاهما تمسح دمعة تسللت من العيون ..

وقد بدا لهم أنه رحيل أبدي !

 

وأمير يراقب بقلب تجمد فيه الشعور ..

ولأول مرة لا يجد الرد على مياسة إلا بانقباض قلبه بقسوة

 

 
......................

آخر الليل ..

 

نائمة في غرفتها التي لا يقطع ظلامها إلا إنارة الشوارع الخافتة في هذا الوقت المتأخر من الليل ..

قطع رتابة تنفسها التململ الذي أحدثته إثر كابوس مزعج مخيف .. تعقدت ملامحها وقطرات العرق أخذت تتجمع على وجهها الذي أخذت تحركه وهمسات متحشرجة تخرج منها بأنين مكتوم ..

 

كانت تنازع !

وكأنها تحارب أحدهم .. حتى أن تململها زاد فكاد أن يتحول لمصارعة والاختناق يحاصر أنفاسها !

 

" لا " همستها برفض شرس وهي لا زالت أسيرة كابوس غير واضح المعالم لكنها تعرفه جيدا .. تعرفه وتحفظه وقد عاشته يوما ..

 

شهقة مرتعبة صدرت عنها تبعتها بصرخة قصيرة وهي تهب من نومها الغير مريح ملابسها ملتصقة عليها من العرق .. فتفتح عينين متسعتين بهلع غريب ليس من شيمها .. قبل أن تنتفض من سريرها في الظلام الذي أرهبها على نحو مفاجئ وقد رأت فيه أشباحا وهمية ..

لقد أغلقت الإنارة .. كيف نسيت وأغلقتها قبل نومها !

 

ركضت للشرفة تفتحها بقوة متشبثة بالسور بحماية وهي تشهق من جديد بأنفاس متسارعة ..

 

مرت بها الدقائق الطويلة حتى استعادت فيها أنفاسها وزمام السيطرة على نفسها .. لترفع يدا لا زالت ترتجف تتخلل شعرها الأشقر الذي تشعث فتبعده عن وجهها قبل أن ترفع نظراتها للسماء هامسة " يا إلهي .. منذ متى لم تنتابني الكوابيس .. لمَ عادت الآن ! "

 

بسبب ليل ؟

بسبب ما تمر به .. أو ما ستمر به من انتهاك !

 

أغمضت مياسة عينيها تحتضن نفسها شاعرة بالحزن .. ماذا تفعل ؟ .. ماذا بيدها لتفعل ؟ .. هل تتركها هكذا ببساطة .. إنها لا تعرف لأي شيء تريد أن تُعرض نفسها .. ولكن هل ستلومها .. لن تفعل ولا أحد يملك صلاحية الحكم عليها وهو لم يعش بما عاشته وتعيشه !!

 

همست بحيرة " ماذا أفعل .. ماذا ! "

 

التفتت للداخل حيث الغرفة المظلمة تنوي الدخول .. وللحظة ترددت .. تردد جعلها تتصلب ببعض الصدمة من نفسها أن شعورا مثل هذا تسمح له بمهاجتمها ولو للحظة ..

إنه شعور الخوف !!

 

لذا وبقوة امرأة لا تُهزم دخلت للغرفة بتحدي من شبح هزمته وانتهت منه منذ زمن .. فتشعل الإضاءة بالغرفة فورا وباسترخاء تدربت عليها لسنوات وسنوات تحركت تبحث عن هاتفها حتى وجدته لتعبث فيه قليلا قبل أن ترفعه لأذنها منتظرة انتهاء الرنين بنفاذ صبر ..

حتى انتهى بالصوت الرجولي الساخر الذي آتاها قائلا " حقا ؟؟ .. هل بقائك بالوطن جعلك لا تميزي الوقت جيدا فتدركين بأني سأكون نائما ! "

 

لم ترد مباشرة ثم قالت بالانجليزية دون أن تهتم بما يقول من سخرية معتادة " كيف الحال "

هذه المرة هو من لم يرد مباشرة حتى قطع الصمت يسأل " ماذا تريدين ؟ "

 

ردت بحيرة حزينة " أريد العودة لحياتي .. لكني لا أستطيع .. كيف أترك ما أتيت لأجله دون أن أحله بشكل مرضي ؟ "

سألها " هل قدمتِ ما عليكِ ؟ "

أجابت بتخاذل " نعم .. تقريبا "

 

رد بهدوء " إذن عودي لحياتك "

" ولكن .. " قالت بتردد فقاطعها " طالما قدمتِ ما عليكِ عودي مياسة !! "

ابتسمت بغصة تقول " غريب ! .. دائما ما كنت تكره الاستسلام فماذا تغير ؟ "

 

رد ببديهية " لقد أخبرتني قبل سفرك أنه أمر يخص شخص غالي عليك دون تفاصيل .. أليس كذلك ؟ "

ردت بهدوء " أجل "

فأتاها صوته جادا " إذن تقدمين ما باستطاعتك .. لكن لا أحد .. أي أحد .. بقادر على إجبار آخر على ما لا يريد مياسة .. أنتِ للآخرين تقدمين فقط نصيحة ومساعدة .. لكن في النهاية كل شخص حر باختيار طريقه "

 

نكست مياسة رأسها الأشقر إبتئاسا تهمس بشرود " نعم .. صحيح .. كلٌ يختار طريقه .. وهي اختارت طريقها "

 

آتاها صوته من جديد " لتشقه إذن .. وعودي أنتِ لطريقك "

أومأت وكأنه أمامها قبل أن تبتسم قائلة " شكرا يا صاحب .. دائما ما كنت هنا "

 

تلون صوته بالسخرية من جديد " عودي يا ذهبية لمشاغلك وحياتك .. وارحلي عني هيا فأنا أريد النوم !! "

 

مجددا ابتسمت قائلة بنعومة " لا بأس تصبح على خير يا صاحبي "

رد عليها بتكاسل بالاسم الذي يناديها به " إلى اللقاء غدا في المطار ميا "
 


............................

بجسدها النحيل المتشح بالسواد كله و شعرها الذي لفته بغطاء رأس متراخي أسود .. ونظارة سوداء حجبت عيناها والنظرة المتألمة فيهما ..

ترجلت ليل من السيارة في هذا الوقت المبكر من اليوم وقد اشرقت الشمس للتو ..

 

أشار لها السائق الذي لازمها بأمر من نادر المنصوري بأنه سينتظرها هنا .. خطت برهبة إلى داخل المكان الساكن بمن فيه من أموات رحلوا عن الدنيا ..

 

بخطوات تحفظ طريقها جيدا دخلت المقابر وحدها حتى وصلت للمكان المقصود ..

 

برجفة اجتاحت جسدها احتضنت نفسها شاعرة بالبرد النابع من داخلها .. وبدمعة هطلت من عينها حتى عبرت حدود النظارة إلى أن جفت على بشرتها الباهتة .. همست " السلام عليكم .. لم أزرك منذ مدة .. آسفة "

نكست رأسها مكملة " لقد غرقت في حياتي حتى لم أعد أذكر نفسي "

 

رفعت نظراتها للقبر قائلة " أتيت لأخبرك .. أنا سأتزوج .. مجددا "

ابتسمت بوجع مردفة " باعني أبي .. مجددا أيضا ! .. ودون ربح هذه المرة بل هو من دفع "

 

هطلت مزيد من الدموع لتقول بعدها بتهدج " لكني وافقت .. لقد وافقتهم هذه المرة "

شهقت شهقة مجروحة وقالت بعدها باحتياج " تمنيت لو كنت موجودا .. لم يكن ليحدث كل هذا "

رفعت يديها تمسح وجهها ثم قالت بصوت متقطع " أم .. هل كنت ستشبههم ؟ .. فتتحول لنادر منصوري آخر "

 

عادت تهز رأسها نفيا " ولكن لا .. أنت لم تكن لتشبه أحدا .. كنت دائما نجم سمائي المعتمة كما وعدتني "

 

رفعت يدها المهتزة تمسد على الشاهد الذي يحمل الاسم تقول بألم " ليتك بقيت .. ليت الزمن يعود بنا .. ليتك بقيت يا نجم " شهقت بالمزيد فتقول من بين الشهقات " لم أرَ يوما سعيدا بعد غيابك يا نجمي "

أسندت رأسها على الشاهد فتقول مكلومة " لم أرَ يوما سعيدا من بعدك .. هذا ذنبي .. أنا آسفة .. سامحني أرجوك .. منذ رحلت أنا أُعاقب على رحيلك كل يوم "

 

استمرت الدقائق تبكي فيها الحمل الذي كسر هامتها من ثقله وتابعت " لقد انهزمت وانتهى الأمر .. ربما آتيك قريبا من يعلم ؟ .. "

 

نهضت بعدها بتعب تجفف دموعها .. ثم مدت يدها تمسد على اسمه هامسة " سامحني .. لم أجلب معي ورود هذه المرة .. فكل ورودي قد ذبلت يا نجم " ثم رفعت يدها التي مسدت بها اسمه تقبلها مكملة باختناق " عيد ميلادك سعيد في الجنة .. إنه عيد ميلادك السابعة والعشرين "

 

ثم بهدوء تحركت بقلب متألم كاتمة رغبتها بالمزيد من البكاء والحزن علّها تفرغ من ذنبها القاتل لها منذ سنوات..

 

مغادرة القبر الذي حمل على شاهده اسم ( الطفل نجم الدين نادر المنصوري )

 
.........................

بعد يومين .. موعد العملية

 

بدموع حبيسة بين الجفنين كان منحنيا يترك لشفتيه حرية تقبيل يديها مرة بعد الأخرى .. باطنها وظاهرها .. ثم يعاود الارتفاع مقبلا رأسها وعينيها الحبيبتين ويحتضنها برفق فتتسلل دمعة غادرة تُدفن بين أحضانها الدافئة

وجد صوته فيهمس بتهدج طفل مذعور من فقد أمه " تعودين لي بالسلامة يا أمي .. سأنتظرك .. لا تتأخري أرجوكِ "

قبلت خديه بنعومة قائلة له وهي ترفع وجهه عنها " استحلفتك بالله يا ولدي أن تصمد .. وحد ربك حبيبي .. لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا "

أومأ لها قائلا " ونعم بالله .. ونعم بالله حبيبتي .. لكن لأجلي أنا عودي لي أمي "

ابتسمت له تربت على وجنته فتنحنح الطبيب قاطعا اللحظة وهو يقول " حسنا .. علينا التحرك الآن يا حاجة شروق "

ابتعد فجر عنها وقد كانت جالسة بزي المشفى الأزرق على كرسي متحرك سيأخذونها به لغرفة العمليات .. كانت شاحبة كما الحال مؤخرا .. مبتسمة راضية بما يكتبه عليها الله وفجر يتشبث بيدها بيديه الباردتين كطفل ضائع ..

تحركت الممرضة بعد أن أمرها الطبيب فتبدأ بتحريك الكرسي بأم فجر وهو لا زال متشبثا بيدها

 

خرجوا من الغرفة الخاصة بها فتجد أمامها من أتوا للدعم والوقوف بجوارها هي وابنها .. حيث سلطان وطارق المنسي وزوجته وأم سلطان بنفسها تتسند على ابنها حسن ومعهم إحدى الجارات الطيبات وإمام المسجد .. بينما عمر يقف بالجوار متجهم الوجه وقد كانت هذه أول مرة يراه فجر بعد ما حدث بينهما قبل يومين ..

 

تحرك الكرسي يحمل أم فجر تلاحقها الدعوات الصادقة المحبة ويلاحقها ابنها يكاد يركض ورائها باكيا متشبثا ومع كل خطوة يفقد فيها قطعة من قلبه .. فأوقفه طارق المنسي قائلا " بإذن الله تعود بألف سلامة .. توكل على الله يا بني "

فوقف فجر متابعا بصمت وعيناه واسعتان لا ترمشان بخوف والطبيب يقول قبل أن يغادر " العملية بسيطة صدقني .. هذا المجال فيه تقدم كبير ونسبة نجاحه دائما عالية .. ادع لها "

 

لم يجد صوته ليرد عليه .. بل اكتفى بمراقبتها حتى اختفت أمه فهبط قلبه أرضا تماما عندها .. ولسان قلبه يلهج بالدعاء وقد زادت برودة جسده إلى أن شعر بيدين دافئتين كل واحدة على كتف تربتان عليه ..

فنظر لصاحبيه الداعمين له بصمت .. وقد سحباه بلطف ليجلس وكل من الموجودين بين داعٍ وقارئ في القرآن منتظرين بقلق .. وأمل

 

 
..............................

" اعتقدتك لن تأتي " همسها فجر يريد تبديد الصمت من حوله أو ربما يُخرس ضجيج روحه المذعورة .. وجهه ينظر للأعلى حيث السقف الأبيض شاحب الملامح تماما بشكل مخيف ..

التفت له عمر وقد وصلته همسته ليرد بهمس خشن ممتعض " لم آتي لك "

شبح ابتسامة ارتعشت على زاوية شفتيه انمحت سريعا تحت ضغط ما يشعر .. بينما ينظر للساعة بطرف عينه قائلا بنفس الهمس بنبرة أعنف " تبا .. لماذا لم يخرجوا حتى الآن "

ربت حسن على ساقه بهدوء قبل أن يعاود إكمال القراءة في القرآن بخشوع ..

 

نظر فجر ليديه المرتجفتين فقبض عليهما هامسا " ماذا لو لم تخرج .. ماذا لو عاقبني الله بأن .. "

" شششش " قال عمر يخرسه عابسا ثم تابع " هدئ من روعك يا صاحبي .. ستكون بخير ثق بالله "

أومأ فجر باهتزاز ثم صمت مكملا الدعاء والقرآن ..

 

حتى انقضت الساعات البطيئة بطء سلحفاة وخرج الطبيب أخيرا فانتفضوا جميعا وفجر يسبقهم هاتفا بصوت متداعي " طمئني أرجوك "

ابتسم الطبيب قائلا بعملية " الحمد لله تمت العملية بنجاح .. سيتم نقل الحاجة لقسم العناية المركزة الآن لمراقبتها لفترة يومين لثلاثة حسب الحالة .. ادع لها أن تنتهي الفترة القادمة على خير بكل مخاطرها .. وحمدا لله على سلامتها حتى الآن "

 

بابتسامة مرتعشة بزغت أخيرا على شفتيه شكره بكلمات متسارعة لم يفهمها الطبيب الذي ابتسم له ثم تحرك يتركه ..

استدار فجر يريد أن يشارك فرحته مع أحد والذي لم يكن إلا عمر وهو من كان ملاصقا له .. فاحتضنه فجر تلقائيا وهو يضحك دامع العينين فعبس عمر متفاجئا قبل أن يربت عليه بحرج أمام نظرات حسن الضاحكة !

 

 

................................................

 

 

زمت شفتيها بغيظ وهي تودع المرأة الأكبر عمرا بعد أن انتهت من عملها في التنظيف الكامل وقد خلى المكان من كل الأطفال والمسئولين إلا منها هي وطفلتين منهما الصغيرة سلمى التي تكاد تسقط في النوم وهي جالسة على الكرسي تؤرجح ساقيها بملل ..

 

التفتت انتصار تعاود الدخول بعد أن رحلت المرأة العاملة متحرجة أن تبقى - انتصار - بنفسها لكن الأخيرة عذرتها حيث قد تأخرت عن موعدها بالفعل وهي لديها أطفال تتركهم في البيت وحدهم فأذنت لها أن ترحل وستبقى هي بنفسها حتى يأتي من يأخذ سلمى ..

 

رفعت عن وجهها النقاب ثم تناولت هاتفها ترفعه لأذنها تستنع للرنين وهي تتأفف حتى انتهى دون أن يأتيها رد فتتقبض وهي تشعر بالضيق من كمية الاستهتار التي تقابلها ..

 

حاولت أن ترسم الاسترخاء على ملامحها ثم توجهت لسلمى التي رفعت وجهها لها بملامح حزينة خائفة تهمس " لماذا ماما لم تأتي حتى الآن .. لقد قال لي بابا أني سأعود معها مجددا اليوم "

جلست بجوارها انتصار تمسد على خصلاتها الناعمة قائلة بحنو أمومي فطري " اعذريها حبيبتي .. ربما علقت في الزحام .. أنا هنا معك لا تقلقي "

أومأت لها الصغيرة لتفتح فمها ثم عادت تغلقه بارتباك وهي تبعد نظراتها بتهرب .. عقدت انتصار حاجبيها وهي تلاحظ توتر الطفلة التي تتلاعب بأصابعها ووجنتاها تحمران !

 

ظلت ترمقها بعينين خبريتين قبل أن تقول بلطف وادراك " هل تعلمين .. أنا جائعة .. ما رأيك أن نأكل معا "

رفعت سلمى نظراتها ترمقها بارتباك تجيب " لا لقد تناولت طعامي قبل وقت .. لست جائعة "

طالعتها بعطف ثم قالت " لكني لا أحب الأكل وحدي .. شاركيني "

لم ترد الصغيرة شاعرة بالحرج فتضرج وجهها بالمزيد من الحمرة .. نهضت انتصار حيث مكتبها غابت فيه للحظات لتعود بعدها تحمل أطباقا مغلقة خاصة بالطعام فتحتها ثم بهدوء كانت تجلس بجوار سلمى وتبدأ في اطعامها بنفسها برفق .. والصغيرة تأكل بجوع كاد أن يجلب سُبة من انتصار مُوجهة إلى والديها !

 

ارتفع رنين هاتفها بعد وقت كانت فيه انتهت من اطعام سلمى فأخذت هاتفها تقرأ الاسم ثم وبهدوء كانت تجيب كاتمة غيظها " مرحبا سيدة دنيا "

آتاها صوت دنيا ناعسا يحمل اللهفة " آه يا إلهي لم أشعر بالوقت وقد عدت فجرا من السفر .. أين سلمى "

ردت انتصار باقتضاب " موجودة .. هل تدركين يا سيدة أني بالفعل تأخرت لمدة ساعة ونصف عن موعد عودتي للبيت حتى ابقى مع الصغيرة "

ردت دنيا بصوت يحمل الحنق " لقد أخبرتك بأنه دون ارادتي .. سأتصل بوالدها سلطان بِك ليأتي بنفسه ويأخذها .. شكرا على وقتك سيدة انتصار "

ثم أغلقت الخط ففغرت انتصار شفتيها الرقيقتين بغير تصديق قبل أن تسحب نفسا وهي لا تُعلق حتى .. لقد اعتادت على كل أصناف البشر وتقبلت التعامل معهم .. برقي !

 

على جانب آخر حيث المستشفى التي بها أم فجر وقد انتقلت للعناية المركزة والمعظم غادروا ولم يبق إلا سلطان والثلاثة أصدقاء .. كان رنين هاتف الأول يرتفع فيرد " نعم دنيا "

 

ردت عليه بتوتر " سلطان .. هل يمكنك الذهاب لسلمى من فضلك "

عقد حاجبيه وهو يبتعد عن الشباب قائلا بعدم فهم " الذهاب إليها ؟ .. أين ؟ "

تنحنحت وهي تجيبه " الروضة "

ارتفع حاجباه وهو يرفع يده الأخرى ناظرا لساعة معصمه يجيب ببديهية " روضة !! .. هل تأخرت اليوم هناك لقد تأخرت لساعتين تقريبا "

لم ترد عليه فلمعت عيناه بالغضب يقول " ألم تذهبي إليها حتى الآن "

أجابته بصلف مهاجمة " لقد وصلت فجرا ولم أستطع الاستيقاظ على موعدها "

كاد أن ينفجر فيها بأعلى صوته لكن وجوده بالمشفى لجم لسانه فقال من بين أسنانه وهو يبدأ في التحرك فورا خارجا من المشفى " أيتها العديمة المسؤولية .. لمَ صممتِ إذن على أن تأخذيها اليوم بنفسك وألا تبيت عندي .. اذهبي قبل أن انفجر فيكِ " ثم أغلق الخط وهو يصعد لسيارته بعنف جعلها تهتز وانطلق حافرا بإطاراتها الأرض تاركا الأخرى على الجانب الآخر تسب وتلعن حظها العثر الذي جعلها تسمع توبيخا من هذا الهمجي عديم الذوق

 

 

.....................................

 

 

في داخل المشفى .. كان فجر لا زال واقفا أمام العناية المشددة بتصميم رغم اعتراض كل خلايا جسده التي بدأت تئن تعبا .. فتحرك حسن له يقول " هيا يا فجر .. لنذهب "

ألقاه بنظرة رافضة مستنكرة فتدخل عمر يقول برفق غريب عليه احتراما للوضع " لا تعاند يا فجر .. لن تدخل إليها وستبقى ليومين فهل ستظل واقفا هنا أمام الباب "

أومأ حسن يردف وهو يسحب فجر المتصلب من ساعده " تحتاج للراحة والأكل وتغيير ملابسك .. هيا يا فجر "

بتململ ونظرات متشبثة بالباب المغلق كان يتحرك مستجيبا لسحب صديقه على مضض .. تاركا في غرفة العناية قلبه ساهرا على قلب غاليته العليل !

 

وصلوا ثلاثتهم للحي صاعدين حيث شقة فجر وعمر وحسن يردان نيابة عن فجر الصامت على كلمات الجيران المتسائلين بقلق وفضول عن حال الست شروق ..

دخل فجر للحمام يزيل عنه عناء تعب الأيام السابقة التي لم ينم فيها بشكل جيد .. ودونا عنه لم يشعر إلا بدموع ساخنة تهطل من عينيه بعجز قلب لم يتوقف عن تسارع نبضاته هلعا .. يبتلع في حلقه غصة مسننة تفتك به ..

 

دق الباب في الخارج فنهض حسن يفتح فيبتسم في وجه الفتاتين اللتين دخلتا تحملان كل منهما صينية مغطاة عليها طعام ..

 

تكلمت سارة أولا قائلة بخجل عفوي يميزها " لقد جلبنا طعاما لكم .. وإن احتجتم لشيء آخر أخبرونا فورا "

فقالت نورين بعدها " أين فجر .. كيف حاله "

رد حسن عليها وهو يغلق الباب " سيكون بخير .. لا تقلقا "

خرج فجر من الحمام مرتديا ملابسه كاملة بعد أن سمع صوت الفتاتين لتستقبله نورين بابتسامتها المواسية قائلة " حمدا لله على إتمام العملية .. بإذن الله تعود في القريب العاجل لتنير البيت وتنير الحي كله "

رسم فجر ابتسامة مغصوبة يشكرها بخفوت فتقول سارة متنحنحة " ربي يطمئنك عليها يا فجر " ثم مدت يدها تسحب نورين قائلة " هيا يا نورين .. لقد تأخرنا "

قالت نورين بسرعة لثالثهم الذي لم ينطق مكتفيا بتنفيث السجائر " عمر .. تناول طعامك .. فأنت لم تأكل جيدا منذ يومين "

رفع عمر بنيتيه لها ثم غمزها بمشاكسة مبتسما لتلوح له بعطف ثم تحركتا مغادرتين الشقة تاركين مهمة اطعام فجر للشابين ..

وسارة تكاد من فرط جمال الغمزة تذوب ..

يا بنت المحظوظة يا نورين !

 

 

......................................

 

 

ركن سيارته أمام المكان ونزل وهو كابحا غضبه وقلقه على طفلته التي لا يعرف كيف قضت الساعتين ومع من .. بينما لم يتوقف عن سب دنيا ومنع نفسه من معاودة الاتصال بها وتوبيخها بغضب بسبب استهتارها ..

 

دخل المكان باندفاع ليستقبله وجه صغيرته المحمولة بين ذراعي تلك التي التفتت له وقد كانت واقفة في الشباك المفتوح تترقب وصوله ترمقه باستنكار أظهرته نظراتها الواضحة من نقاب وجهها لتبادره بالقول " مبكر ؟ "

عقد حاجبيه للحظة ثم تحرك يمد يديه دون أن يلمسها فيحمل الصغيرة التي رمشت بعينيها وقد كانت غارقة في النوم تهمس بنعاس " بابا .. لماذا تأخرت ! "

ذاب قلبه عطفا وهو يلصقها بأحضانه يرد مبررا لتلك الغاضبة أمامه وإن لم يظهر هذا عليها " أمها أخبرتني متأخرا "

لوت شفتيها من تحت نقابها بتهكم لم تظهره عينيها لكنها توجهت حيث هاتفها قائلة بهدوء " أعطني رقم حضرتك من فضلك "

طالعها بصمت للحظات فرفعت نظراتها تقول بصرامة معلمة صغيرة " رقم هاتفك يا والد الطفلة .. حتى يتم الاتصال بك من الروضة عند الضرورة "

شبح ابتسامة غبية لا معنى له ظهر على جانب شفتيه فاتسعت عيناها واستعرت نظرات محذرة بشكل غريب !!

جعله يرتاب وهي بمثل هذا التحفز !

لكنه بهدوء أملاها الرقم فلم تعقب وهي تستدير قائلة " يمكنك الذهاب "

" ألا يوجد غيرك هنا " سأل بتعجب بنية الشفقة أن تعبت كل هذا الوقت .. بينما يلتفت من حوله لترد ببرود " لا .. يمكنك الرحيل سيد سلطان فأحتاج لإغلاق المكان لقد تأخرت جدا على بيتي "

بحرج وبعض الغيظ كان يتحرك حاملا ابنته التي عادت للنوم وهو حتى بعناد لم يشكرها

 

وضع الطفلة بجواره وهي لا زالت نائمة وربط حزام الأمان من حولها يمسد على وجنتها بنعومة وبعض الاعتذار

أغلق باب السيارة فتوقف مكانه للحظة قبل أن يعاود الدخول للروضة هامسا لنفسه " الحقيبة لقد نسيتها "

أغلق السيارة على ابنته احترازا ثم دخل يتنحنح يبحث عن تلك التي اختفت .. لكنها خرجت له من مكتبها تحمل حقيبة ابنته قائلة " لقد نسيتها .. تفضل "

 

ابتسم يأخذها ثم رفع خضراويه قائلا ببطء " شكرا لكِ .. انتصار "

عقدت حاجبيها استهجانا من اسمها المجرد الذي خرج منه بتلك البساطة .. ولكن قبل أن تُعقب كانت طفلة ثانية صغيرة تخرج من المكتب تفرك في عينيها بنعاس ثم ترفع عينيها ترمقهما باستغراب فقال سلطان بدهشة " كم طفل تأخر عليه أهله "

لكن كلماته قطعت والصغيرة تهمس متشبثة بفستان انتصار الفضفاض " ماما .. ماما .. متى سنعود للبيت "

 

صدمة ألجمت سلطان وتلبد مفاجئ انتابه جعل الخرس يتمكن منه بينما يرمق بلا تعبير انتصار وهي تنحني تحمل الصغيرة تجيبها " حالا حبيبة ماما .. لنذهب مريم " ثم تناولت حقيبتها من المكتب وتحركت بهدوء ترمق سلطان الواقف بتساؤل فيتمتم بالشكر ثم يغادر المكان وهي تلحقه تقفل الروضة بالمفتاح ..

 

لتوقف سيارة أجرة وتتحرك مغادرة بين أحضانها تقبع .. طفلتها !

 

 
............................

" دفعت أيضا ! " قالها بشحوب وهو يرتمي بجسده على الأريكة ليقول نادر له " أجل .. دفعت .. كان عليّ الدفع وربط هذا الشاب بنا فهو الأنسب "

ابتلع أمير ريقه يحاول لململة شتات نفسه فقال مذلولا " هل تضمنه .. جيدا ! "

أومأ نادر وهو يجيب " رغم أن الأمر لا يحتمل أبدا أي رهان خاسر .. لكن الوضع كله متوتر فلا نملك إلا الرهان على أحدهم .. وهو الأنسب "

نظر له الآخر وقال بتوتر " لكنك قلت أن لديه أصدقاء ويعلمون .. ومن المفترض ألا يخرج الأمر عن دائرتنا فقط "

أجابه نادر بما يعلمه " اسمعني أمير .. أخبرتك مسبقا بأن هذا الشاب من هؤلاء المكافحين الذين يهتمون بسمعتهم ولديهم حس عالي من المسئولية والأخلاق .. وحتى أصدقاؤه باختلاف طباعهم لكنهم يتشابهون في تلك الجوانب .. وهم متقاربون لدرجة تجعلهم يخشون من فضحه حتى لا تتم أذيته "

" ما أسمائهم " سأل أمير باقتضاب وهو من جهة ينوي البحث أيضا فأجاب نادر " فجر منير الرمادي وهو المقصود .. عمر طارق المنسي وهو أيضا موظف عندنا بنفس مكتب الأول و .. حسن نور الدين الجوهري "

 

مع الاسم الأخير كان يستجلب اهتمام أمير الذي تشنج بعد لحظات يهتف وهو يقفز من مكانه " نور الدين الجوهري !! .. هل يعرف سلطان الجوهري رجل الأعمال "

أومأ نادر يرد " إنه أخوه الأصغر "

اتسعت عينا أمير صارخا بهياج " هل جننت يا منصوري ! .. إن أخاه قطعا سيعلم .. وهو رغم عدم معرفتنا به لكنه رجل أعمال سيكون له علاقات كثيرة مع العديد ممن نعرفهم !! "

رفع نادر حاجبيه يجيب ساخرا " هل تعتقد بأن هذا قد يفوتني ! "

سأل أمير بخشونة كابتا انفعاله " ماذا تعني ؟ "

رد نادر وهو ينهض من جلسته يقف أمامه شارحا " سلطان الجوهري .. شريك مياسة في بلادها الأوربية ومن قبلها أبيها "

عقد أمير حاجبيه فيكمل نادر ملوحا " أي أن سلطان قطعا لن يخسر شريكته بفضح ابنة خالتها الغالية .. وأيضا علاقته بفجر قوية جدا يعامله كأخ أصغر " ثم وضع يديه في جيبي بنطاله الغالي مردفا بتهكم " كما أن التقصي عن أخبار سلطان الجوهري مدهشة .. فهو رغم مكانته في سوق الأعمال التي لا بأس بها إلا أنه بعيدا كل البعد عن الطبقة المخملية .. حتى أنه لا زال يعيش في حيه الشعبي القديم مع عائلته .. لا قلق من سلطان أبدا .. ثق بي "

صمت قليلا عيناه تشردان للحظات قبل أن يقول بتصميم " هذا الولد هو الأنسب .. بفقر حاله الذي سيعرض لليل في أي حال فرطت .. وكرامته العزيزة التي بسهولة يمكن الضغط عليها عند اللزوم "

بتشتت وذل وشعور بغيض بالقمر صمت أمير ملجما ..

وقد هربت منه كلماته وحججه .. فقط بقى بداخله الغضب الشديد .. والسخط على حاله وما فعله بنفسه

 

 

..............................................

 

 

في إحدى دول أوربا ..

 

كانت واقفة في شرفة مكتبها الخاص في الشركة ناظرة للشارع الحي في العاصمة الأوربية التي لا تخلو من البشر .. لديها الكثير من العمل نظرا لتخلفها لفترة طويلة في وطنها العربي الأم لكنها غير قادرة على تجميع تركيزها بشكل يناسب العمل الكثير .. برغم من أن وقت العمل بالفعل انتهى منذ ساعة تقريبا ..

 

ابتسمت متهكمة وهي تفكر بأن طول غيابها لأيام لم يحقق أي نجاح يذكر .. لقد كانت قضية خاسرة فعلا كما قالت لها ليل في آخر لقاء لهما ..

منذ تلك الليلة لم تحدثها مجددا .. حتى بعد وصولها بالأمس لم ترد على مكالماتها أو رسائلها الكثيرة التي طالبتها فيها ليل أن تطمئنها على الأقل أنها وصلت بالسلامة ..

لكنها لم ولن تفعل تاركة المهمة لأمها التي حتى الآن لا تعرف الأمر بشكل كامل .. لا تنوي إخبارها فهي مدركة لحب أمها لليل جدا وتمنيها لو تستطع تقديم شيء .. فقط أخبرتها أنها فشلت في إقناع أهلها وليل كالعادة استسلمت بسلبية ..

إنها حتى لم تتكلم كثيرا مع أمها التي بدت غريبة وهي تسألها أسئلة كثيرة غير مفهومة المقصد لم تركز عليها مياسة ..

 

زفرت مياسة رافعة وجهها للسماء الرمادية بغيومها الكثيفة كما حال الطقس في البلاد غالبا .. وهي تشعر بالبرد والخواء بداخلها يتشابه بطريقة ما مع هذا الطقس .. ويناسبها في شخصيتها الباردة ..

 

كم هي تتناقض مع شكلها .. فتبدو مشعة دافئة ذهبية خارجيا .. صقيعية الروح والأفكار من الداخل ..

هي لا تُعاقب ليل ببرودها معها .. هي فقط لا تجد ما تقوله .. هل من المفترض أن تشجعها على خططها المثيرة للنفور تلك ؟؟!

 

سحبت مياسة نفسا باردا أحمرت له أنفها ووجنتيها السمراوتين بحلاوة تحاول التحكم في الغثيان بداخلها وهي تستذكر مخططها الذي تنتويه .. وشعرت بالهلع من الفكرة ..

هل يمكن أن تفعلها .. أتسلم نفسها لآخر لمجرد إيلام أمير وفضح أبيها ؟!

هل تدنت لتلك المرحلة حقا ..

هل تألمت جدا لدرجة جعلتها لا تكترث لأي ألم آخر وكأن مشاعرها وجسدها قد تخدرا كفاية لتفعل أي شيء ..

 

ارتعش جسدها بحركة تلقائية لم تسيطر عليها خاصة وهي وحدها لا أحد يراقب اختلاجاتها فتتركها بحرية .. حرية زادت من ارتعاشها فتدخل من الشرفة لاهثة تغلقها بحدة وهي تجلس على كرسي مكتبها تحاول تجميع شتات نفسها ..

 

شهيق .. زفير ..

غضب حارق نتج عن ذكريات سيئة قتل قشرتها الباردة مذيبا سدها الثلجي فتصرخ بعنف وهي تنتفض ضاربة المكتب فتتطاير ما عليه من أوراق " تبا .. تبا لكل الرجال .. مقرفون .. إنهم مقرفون وحيوانات !! "

 

لتتوقف بعدها تلهث بعشوائية .. سامحة للغضب أن يخرج كاملا مستغلة وحدتها بالمكتب وقد فرغت الشركة من معظم الموظفين ..

 

وبعدها تحتاج لبناء سدها الثلجي الذي سمحت له في وقت مستقطع بالذوبان ..

 

 

................................

 

 

بعد أيام ..

 

لقد خرجت من غرفة العناية لغرفة أخرى عادية .. وكان هو لا يتوقف عن توزيع الابتسامات بالمجان على كل الوجوه منذ اللحظة الأولى لخروجها منها بالسلامة .. ابتساماته لم تتوقف للحظة بمرور الأيام .. بل تزداد عمقا واتساعا ..

بدا حتى أصغر من سنه منتعشا تماما ووسيم بشكل ملفت أدهش الممرضات اللاتي اعتقدنه رجل غريب الأطوار بارد في البداية ..

 

ينهض يفعل هذا وذاك ثم يعود هابطا ليديها مقبلا لهما بهوس رافعا وجهه بإشراق وعيناه تلمعان كماستين براقتين ..

بدا كمن رُدت له روحه ..

قلبه يقيم الاحتفالات الصاخبة راقصا لسلامة قلبها هي ..

 

أغلق فجر باب الغرفة بعد أن أخذ طعام الغداء من الممرضة التي أهدته ابتسامة جميلة وهي التي كانت لا تطيقه قبل أيام فقط .. ثم تقدم يجلس بجوار أمه وبتدليل يُذهب العقل من مدى جماله ولطفه وحنانه كان يقوم بإطعامها بنفسه برفق منفذا كل التعليمات بدقة ..

ابتسمت أمه تهمس له بخفوت وهي تتطلع في وجهه السعيد " لقد .. حلقت لحيتك وقصصت شعرك الذي استطال مؤخرا "

تألقت ابتسامته بأسنانه البيضاء وهو يرد بينما يمرر يده على خصلاته فاحمة السواد " طبعا .. فأنتِ تحبين هذا .. حتى تزهر عيناي بإشراقة الفجر يا شروق قلبي أنتِ "

ضحكت أمه بإنهاك وهو مستمر في اطعامها لتسأله بعدها " ما به عمر .. هل أنتما على خلاف "

تجهمت ملامح قليلا وبهتت ابتسامته لكنه تنحنح يقول وعيناه تركزان في ما يفعله بالطعام بتهرب واضح " لا بالتأكيد .. هل نحن صبية حتى نختلف ..  إنه فقط عمر عصبي دائما "

عقدت أمه حاجبيها تراقب انفعالاته بتمعن قبل أن ترفع يدها برفق ممسكة بذقنه لترمقه بنظراتها سائلة بتعجب " ولدي .. هل هناك شيء حدث ؟ .. أخبرني "

ابتسم لها فجر وهو يتمسك بيدها فيرفعها لشفتيه هامسا " لا شيء أمي .. كوني على ثقة بأن شيئا لم يحدث يستوجب قلقك "

ضجت ملامحها بالقلق الكبير حينها ليقرأه بوضوح لكنه بادرها قائلا بمزاح يصطنع التنهد " متى يأتي يوم خروجك من المشفى .. فتشرقي مجددا في بيتك يا سيدة النساء أنتِ "

ابتسمت له تتحكم في قلقها .. ستعلم كل شئ في وقته .. هي تثق بكلمة ابنها لها .

 

 
..........................

 

خرج من الغرفة يستقبل مكالمة عمر الذي سأله مباشرة دون مقدمات " كيف حال الحاجة اليوم .. لقد انتهى عملي وسآتي بعد قليل مع حسن .. هل تحتاج لشيء "

أجابه فجر بهدوء " إنها بخير .. لا نحتاج لشيء "

رد عمر على الجانب الآخر باقتضاب " حسنا "

" متى ستصلان " سأله فجر فيقول له " سأتصل بحسن الآن ليمر عليّ في الشركة .. سلام "

ثم أغلق الخط ليزفر فجر بتعب وملامحه بعد اشراق طال لأيام فرحا عادت لتتعكر ..

لقد تذكر ما تناساه .. تذكر قيده الذي وافق بنفسه أن يلفه حول عنقه باستسلام فداءا لأمه

 

مسد على ذقنه الحليقة بشرود طال قطعه عليه رنين هاتفه الذي ما أن نظر له حتى تجهم وجهه تماما حينها بقرائته للاسم .. لكنه وبنفس الاستسلام كان يرد بهدوء فيأتيه صوت نادر المنصوري يقول " حمدا لله على سلامة الوالدة .. لقد أرسلت لك باقة ورد تهنئة بسلامتها في طريقها إليك "

عقد فجر حاجبيه متحكما في ضيقه واختناقه بالقيد الوهمي حول رقبته .. ليجيب بهدوء ثلجي " أتعبت نفسك .. لا داعي لهذا "

ليرد نادر بنبرة فاحت بالسخرية " كيف هذا .. نحن في حكم الشريكين في العمل "

زم فجر شفتيه بنفور من هذا الرجل الذي يبدو أنه كريه بشكل يتناقض مع شكله ووضعه المرسومين بإتقان !!

 

لم يرد فجر فورا لكنه قال بعدها ينال منه " بل في حكم .. نسيبين .. ألست صهرك المستقبلي "

 

عم الصمت من جهة نادر المنصوري فابتسم فجر بفوز حقير لكنه مناسب للوضع ليقول نادر بعدها " لمَ لا نبدأ بطريقة سليمة أكثر .. في النهاية نحن مجبوران على التعامل لفترة .. لنضع فيها الحدود لذلك " ثم صمت قليلا ليردف بعدها بصرامة " متى سنتقابل .. فأمك قد اطمئننت عليها كما اتفقنا "

 

قال فجر له مذعنا " متى تريد .. أنا جاهز للنقاش "

 

 

...................................

 

 

أغلق المكالمة وهو عابس .. محياه لم يلن منذ ما فعله فجر .. يشعر بأن غضبه وصل للذروة ولا سبيل له للتنفيث عنه .. فمن ناحية هو لا يقبل أبدا بهذا القرار الذي سيؤذي صديقه فلا يجد قدرة كافية لدعمه مهما كانت الظروف كما اعتادوا دائما في الصواب وحتى الخطأ ..

ومن ناحية أخرى .. لا يجد طريقة للتعبير عن غضبه أبدا فهو مدرك لحساسية الوضع ويحاول تفهم شعور فجر فلن يضع المزيد من الحطب على ناره وأذيته بغباء ..

لذا هو يكتفي بأن يكون موجودا حتى لو كان وجودا جافا غير معتاد بينهما ..

 

تأفف عمر وهو ينهض عن كرسيه مغلقا الملف الذي كان يعمل عليه بذهن مشغول .. يلملم أغراضه الخاصة ينوي الاتصال بحسن ليتقابلا ويذهبا للمشفى كما يفعلا كل يوم ..

 

" هل أنت راحل "

 

رفع وجهه القطوب ناظرا لتلك الحمراء السخيفة التي كاد أن ينسى وجودها فعلا خاصة وهو لا يتعامل معها إلا في حدود معينة وهي بدت متباعدة هادئة بشكل مريب لكنه لم يشغله على كل حال ..

لم يرد لتقول بإصرار خفي " هل ستذهب لفجر .. كيف حاله .. لقد طالت اجازته من العمل "

أيضا لم يرد فنهضت تقترب منه مردفة " علمت أن أمه قد قامت من العملية بخير .. أود الاتصال به وزيارته "

أجاب حينها ببرود " لا داعي لذلك .. هو بخير شكرا لكِ "

ابتسمت برقة لتقول بنبرة تشبه ابتسامتها تلك " كل ما أريده تقديم الدعم له يا عمر "

صمت يرمق ملامحها الفاتنة بهدوء لتهز كتفها وهي تفتعل الحزن ثم تحركت تلملم أغراضها لتقف عند الباب ناظرة له هامسة " بالمناسبة .. سأرتقي بوظيفتي بعد أيام .. أي أغادر المكتب أخيرا .. سلام عمر " ثم تركت المكتب بهدوء تاركة عمر يمط شفتيه قائلا " هل تحاول أن تثير في العطف مثلا ؟ هل أبكي حزنا على فراقها أم ما المطلوب يعني "

 

بينما هي في الخارج كانت تسير بخطوات عصبية .. من جديد لم تنجح في سرقة اهتمام ذلك البغيض مهما حاولت .. تبا له إنها تقرأ بوضوح إعجابه بجمالها السخي لكنه لا يُظهر ذلك .. بل يتعامل مع الأمر وكأنها جميلة وفقط !

كأي إمرأة أخرى جميلة لا مميز فيها .. البغيض ابن المستويات المتدنية !

 

رفعت الهاتف على أذنها ما أن استقرت في سيارتها .. لتقول بعذوبة ما أن سمعت صوت نادر " مرحبا نادر .. كيف حالك .. وكيف حال الوضع عندك ؟ "

 

 

......................................

 

 

" إلى أين ؟ " سأل حسن متعجبا لفجر الذي أخبرهما أن وراءه مشوار ما عاجل فرد فجر بصوت متصلب " سأذهب لنادر المنصوري "

كلمة مكتومة خرجت من بين شفتي عمر هي بالتأكيد سُبة ما ويداه تتقبضان بانفعال لكنه لم يتكلم .. فتجاهل فجر رد فعله وهو يقول مكملا كلامه لحسن بشجاعة " عليّ معرفة ما سأفعله تحديدا .. لقد مرت الفترة الحرجة على خير لأمي كما اتفقت معه "

ارتسمت ملامح الأسف على وجه حسن الذي اقترب منه يقول بيأس " فجر أرجوك .. انس هذا الاتفاق المشبوه .. صدقني أرى فيه ألمك "

أدار فجر وجهه الناحية الأخرى بتهرب ليقول بنبرة ميتة " في كل الأحوال تألمت وانتهى الأمر "

زفر حسن يقول له بتجهم " افعل ما تريد "

رفع فجر وجهه مواجها عمر عندها والذي بادله النظرات بحفيظة دون أن يتنازل متكلما ليحرك فجر وجهه بلا معنى ثم تمتم بكلمات غير مفهومة وهو يتحرك متوجها لمصيره .. تاركا صديقيه ورائه بين حزين وغاضب حد الرغبة في دق عنق فجر !

 

 

...................................

 

 

رفعت ليل شعرها الناعم في ربطة فوق رأسها ثم مدت يدها للهاتف تبحث فيه عن أي إشارة من مياسة .. لكنها ابتئست وهي تجد الهاتف خاويا منها فتنهدت تتحرك على الكرسي ناظرة للسماء في جلستها المفضلة تراقب الخيوط السوداء لليل تقضي على آخر شعاع نور أبيض للنهاية ..

إنه الغروب الذي تكرهه والذي يقبض قلبها دائما ..

 

استدارت منتبهة لمنى التي دخلت تثرثر بكلمات ما وتخبرها أن العمل انتهى وأن السيد نادر أذن لباقي الخدم بالرحيل اليوم مبكرا .. عقدت حاجبيها بتعجب لكنها لم تعقب وهي تراقب منى التي تنظم ملابس ليل في خزانتها قبل أن تتوقف قليلا ثم تمد يدها داخل الخزانة فتخرج سُترة جلدية مُلقاة بإهمال هناك وكانت ممزقة بعض الشيء ..

 

التفتت منى لليل تسأل مشيرة للسترة " ليل .. لمن هذه "

ضيقت ليل عينيها بتدقيق دون أن تدرك لمن ثم نهضت تقترب من منى التي تابعت كلامها " إنها سترة رجالية .. ممزقة انظري "

نظرت لليل للسترة تأخذها منها تفردها تحاول التعرف عليها وكيف وصلت لخزانتها ..

سألت منى " هل هي للسيد أمير "

أجابت ليل باختصار " لا .. ليست له إنها سترة عادية رخيصة الثمن غير ماركة "

 

ببطء رفعتها لأنفها تشمها بحذر ..

فتهاجمها بقايا رائحة عطر رجولي هادئ بدا دافئا نوعا ما ..

 

عقدت حاجبيها مكملة همسا " ليس لأمير قطعا .. فأمير عطوره حسية جدا ! "

 

سألت منى " بماذا تغمغمين "

لم ترد ليل فقالت منى ببساطة " حسنا هاتي لأرميها "

لم تجبها ليل مجددا وهي تنظر للسترة ..

لحظة ..

إنها تعرفها .. كيف لا وهذا التمزق الذي فيها ناتج عن جلدات أبيها بالحزام على جسدها .. فتلقتها السترة عنها تخفف من وطئة الألم ولو بقليل وكأنها تحميها ..

 

نعم تذكرها .. لكن لا تذكر لمن هي !

جل ما تذكره أنها لشخص ما قابلها وهي تائهة .. نعم ..

شخص ما لم يتوقف عن سؤالها إن كانت بخير ؟ .. وأنه يمكنه المساعدة وأعطاها السترة والتي ساعدتها بالفعل بقدر ضئيل غير محسوس إلا لها في تلقي الضربات بالحزام !

 

" ليل .. أعطني إياها "

 

رفعت ليل رأسها تنفض الذكرى الضبابية .. هي حتى لا تذكر شكل الشخص هذا .. فضمت السترة إليها هامسة " اتركيها منى .. اذهبي أنتِ "

 

ارتفع حاجبا منى لكنها أومأت موافقة تسألها إن أرادت شيئا آخر .. فأجابتها بالنفي تشكرها لتتحرك منى مغادرة ..

 

وليل واقفة تنظر للسترة ..

 
.............................

وصل فجر إلى فيلا المنصوري حيث طلب منه نادر أن يقابله هناك وقد استدار إلى باب خلفي وصفه له نادر ليدخل منه بسرية بعيدا عن أعين الحراس ..

 

ورغم أن هذا فيه جرحا له لكنه أراحه حتى لا يختلط بأحد ويُحجب عن الأعين بهوانه ..

 

رفع وجهه للسماء التي تزينت بألوان متعددة تناقضت مع رمادية نفسه .. قالت له أمه يوما أن المرء يحمل من اسمه نصيبا .. ويبدو أنه حمل من الرمادي لا فجر !

 

فُتحت البوابة الخلفية أمامه فاستقبله أحدا ما ضخم الجثة خشن المنظر ويبدو أنه يعلم بقدومه .. ابتلع فجر ريقه و دخل بحذر يقطع المسافة بخطوات متثاقلة بعكس المرة الأولى التي أتى فيها مسبقا في صدفة ما .. كان يتلفت حوله حينها ببعض الانبهار متمنيا في أعماقه يوما يصل فيه لتلك المكانة .. وغادر وقتها بيقين تام أن طرقه لن تتقاطع مع هذا المكان مطلقا ..

 

لكن ومن يعلم قدره ويثق به ؟

إنه الشئ الوحيد الذي لا قدرة للإنسان على تغييره أو توقعه .. فقط ننتظره ونتعامل معه بكل ما يحمل .. بخيره وشره سيمر .. تاركا لحظات سعيدة تكون كذكرى لأيام قادمة أو يغادرنا أحيانا تاركا الندب التي لن تزول أبدا .. كتلك الندبة التي على وشك حفرها بروحه .. هل قد ينجح يوما بنسيانها ؟

ابتسم متهكما .. هل ينسى الإنسان يوما أنه باع نفسه بنفسه !

 

حانت منه التفاتة شاردة في الحديقة الواسعة لتقع عيناه على تلك الأرجوحة في الزاوية .. ووسط ما يعيشه من غيوم مر شهاب ذكرى مضت منذ فترة لفتاة حزينة باكية على تلك الأرجوحة ..

إنها ليل !

 

أجل لا زال يذكرها رغم أنه لم يقابلها إلا مرتين .. وعند تلك الخاطرة توقفت خطواته وعقد حاجبيه وهو يفكر بنفس الأمر الذي فكر فيه بعد عرض نادر عندما سأل حسن نفس السؤال .. هل المرأة التي سيعقد عليها تلك هي .. ليل ؟

أم لديه ابنة أخرى !!

 

" هل أعجبتك الحديقة "

خرج فجر من سهوه على كلمات نادر الذي يبدو أنه رآه من داخل مكتبه وخرج له عندما تلكأ هو بالدخول .. تنحنح يجيبه متثاقلا كما خطاه " إنها .. رائعة  "

لم يهتم نادر بما قاله وإنما تحرك لداخل البيت يقول آمرا " تعال "

 

تقبض فجر وارتعشت نظراته للحظة بتردد .. وكأنه فعليا يُسحب لفخ ما !

لكن لم يعد هناك مجال للتراجع فسحب نفسا ملأ به صدره وتحرك يتبعه للداخل فاستقبله المكان الهادئ تماما الفارغ من أي شخص .. ولم يكن في حالة تسمح له بتأمل المكان الذي يدل على الثراء وبذخ ينبض به كل ركن وزاوية في الفيلا ..

 

دخل للمكتب يلحق نادر الذي جلس وراء مكتبه الفخم وجلس فجر أمامه بصمت فيبادر الأول " لا يوجد ما أقدمه لك كشراب .. لقد رحل الخدم جميعا وفرغ المكان تماما "

لم يجبه فجر ولم يكن نادر ينتظر منه ردا أصلا ليكمل مباشرة " إذن .. لنتحدث بشأن الصفقة "

" أنا أسمع " همس فجر هادئا بزيف فقال الآخر " الزواج صوري .. سيدوم لأشهر .. ستختفي فيه ابنتي عن أنظار الوسط مدعين أنها سافرت للخارج بعد ما حدث بينها وبين زوجها "

 

ظل فجر على فتوره وبرودة تعابيره وهو يقول " فهمت .. الزواج صوري طبعا أعلم ذلك "

رفع نادر حاجبيه قائلا " لم تسألني أين ستختفي ابنتي تلك الأشهر "

عقد فجر حاجبيه يجيب بريبة " هنا ؟ .. في الفيلا ! "

ابتسم نادر بسخرية يقول " لقد اعتبرتك ذكيا يا فجر .. فكيف تعتقد بذكائك ذاك أنها ستختفي عن الأنظار هنا ! .. في مكان لا تتوقف فيه زوجتي على إقامة الحفلات واحدة تلو الأخرى "

طالعه فجر بغير فهم فيقول نادر ببرود حازم " ابنتي ستبقى عندك .. في بيتك "

اتسعت عيناه الفجريتين بدهشة يكرر " عفوا ؟ .. ولكن أليس زواجا صوريا ! .. فقط مجرد عقود أوقعها ؟ .. فكيف تعيش معي "

صمت نادر صمتا طال ثم نهض من مكانه يستدير حول المكتب ليجلس في الكرسي المقابل لفجر قائلا بتعالي " ابنتي يجب أن تبقى في البلاد هنا لذا لن أستطيع ضمان سفرها .. وبنفس الوقت عليها أن تغيب حتى عندما تعود بعد انتهاء المدة نكون قد أعلنا فعلا زواجها من أحدهم في الغربة ثم وقع الطلاق لتتمكن من العودة لأمير بشكل سليم .. واختفائها عن وسطنا سيكون بتواجدها في وسطك الشعبي .. حيث لا مكان فيه لأمثالنا من الطبقة المخملية ليتعرفوا عليها .. هل أوضحت بما يكفي ؟ "

 

كانت ملامح فجر جامدة يداه على ركبتيه متقبضتين بشدة .. شفتاه مزمومتان بغضب مكتوم ليعبر عنه بالقول الصارم " أولا .. حتى نكون على وفاق في هذا الزواج .. علينا أن نضع الحدود أيضا للتعامل سيد نادر .. فطريقتك بالتقليل من شأني أنا وطبقتي الشعبية بداية غير مبشرة إطلاقا .. ثانيا .. أنا هنا موقعي في تلك الصفقة يتساوى معك .. فحتى لو دفعت لي مالا فأنا أعطي ابنتك اسمي .. أي أقدم كما آخذ ولا فضل لأحد عليّ في هذا .. هل أوضحت أنا أيضا بما يكفي ؟ "

عاد نادر بظهره للوراء مستندا على المقعد شابكا يديه الاثنتين معا ثم .. ابتسم

ابتسم بإعجاب وهو يرمق فجر يقول له " تعجبني شخصيتك يا فجر .. أعتقد لولا ظروفك كنت ستحظى بمكانة أعلى من مكانتك "

قاطعه فجر فورا " أنا مكانتي عالية بالفعل .. ولا أنتظر من يخبرني عنها "

تجهمت ملامح نادر بعض الشيء بغير تقبل لطريقة فجر .. لكنها بطريقة ما ستفيده ففجر يبدو شخصا معتدا بنفسه رغم ظروفه وهذا يجعله يشعر بالارتياح أن يبقى الأمر بينهما سرا حتى لو علم المقربون منه .. فهو وهم قطعا لن يقدموا على فضح شيئا يجرح كرامته الغالية ويؤذيه بوصمة العار .. أليس كذلك ؟

 

ابتسم نادر مجددا ليقول بعدها " إذن هل اتفقنا ؟ "

رد فجر بعد صمته لبرهة " ليس بعد " ثم عاود الصمت للحظتين ليقول بعدها " كم المدة "

" ستة أشهر " أجابه نادر فقال فجر " مدة مناسبة بما إنها ستعيش معي "

ثم رفع نظراته يقول بقوة " ستكون زوجتي أمام أمي .. والحي الشعبي الذي أسكن فيه أيضا .. ولن يعرفها أحد فيه لا تقلق "

" أعرف كل شئ عن حيّك .. وأوافق "

 

صمت فجر مجددا وعقله يدور بسرعة جنونية لدراسة كل النقاط ليقول بعدها " ولكن .. سلطان الجوهري .. إنه رجل أعمال و .. "

قاطعه نادر بحركة من يده وقال بنبرة ذات مغزى " أعرف ظروف سلطان .. هو شريك لابنة أخت زوجتي بالمناسبة .. واعتقد أنه يودك كفاية حتى لا يتكلم في الأمر "

 

أومأ فجر ببطء يجيب " سأخبر سلطان و .. هو لن يتكلم ولا يخصه "

" جيد لنا " قالها نادر مبتسما ملوحا بيديه وأردف " هل هناك المزيد ؟ "

 

عاود فجر النظر له قبل أن يقول ببطء مشددا " هناك الشيء الأهم .. هو ما أتنازل لأجله عن أي شئ .. أمي .. أمي لا تعلم بشيء أبدا .. لن يتم جرحها ولو بكلمة من ابنتك .. أو أنت أو غيرك .. أمي هي الخط الأحمر في تلك القصة الذي لن يتم الاقتراب منه .. ولو حدث فأنا أقلب الدنيا فوق الكل "

 

تمسك نادر بابتسامته الباردة وهو يجيبه " اهدئ يا رجل .. لن يفيدني أن تعرف أصلا .. بل هذا أفضل لي "

صمت فجر لفترة يرتب أفكاره المبعثرة ليقول بعدها بصعوبة " إذن .. سأخبر أمي قريبا بزواجي من .. إحداهن .. أقصد سأخبرها أنها فتاة ما يتيمة الأبوين .. سأختلق قصة ما .. لا أعرف .. لكن ستلتزم بها ابنتك .. أمي تثق بي " همس الكلمات الأخيرة بتخاذل مفكرا بأمه ..

يا إلهي أمه تثق به وهو يطعنها في ظهرها بغير رحمة !

 

نهض نادر من مكانه يقول بمرح سخيف " أوافق أيضا .. اختلق ما تريد واستخدم ما لديك من قدرة على تأليف إحدى الحبكات "

 

لم يبدِ فجر رد فعل غارقا بذنبه ليتحرك الآخر عائدا لوراء مكتبه جالسا بارتياح ثم قال بنبرة فاضت تحذيرا شعت به الأحرف " أما أنا .. فشرطي الأهم .. أن يبقى الأمر سرا .. لو حدث وأفشيته أنت أو من معك فلن يُؤذى غيرك يا فجر " قالها وصمت وكأنه يعطيه وقته لاستيعاب الكلمات ثم استرسل " والشرط الثاني .. ابنتي .. ستعيش عندك نعم .. لكن عليك أن تعلم بأنها دفعت الكثير لتلك الاقامة .. لن تقترب منها .. لن ترفع عينيك فيها .. لن تطمع في شئ لأن ابنتي بالذات لن تقبل بالنزول لهذا المستوى وهو ما يطمئني .. وإن حدث منك أدنى خطأ .. " صمت صمتا طويلا خانقا ليلوح بيده بعدها متابعا بسخرية كريهة " ادخل على الانترنت وأكتب اسم زوجها .. أمير الفارسي .. سيكون حينها عندك صورة واضحة لما قد يحدث معك منه و .. مني أيضا "

ازدرد فجر ريقه الجاف ليس خوفا وإنما توترا من الوضع الرهيب .. لقد كان الأمر الآن وكأنه يسير على حد سيف .. سيجرحه حتما ويدميه لكن السقوط من فوقه سيكون بموته كما هو واضح بالصورة التي أوصلها له للتو !!

 

أومأ فجر قائلا متحليا بشجاعة كاذبة لا يشعرها الآن " لا داعي للتهديد .. الأمر لا يعنيني فيه سوى أمي "

عادت الابتسامة الباردة تأخذ ميلها على وجه نادر الذي قال " أعلم .. هي فقط شروط .. وما أوله شرط آخره نور أليس كذلك ؟ "

وافق فجر مجددا دون كلمات هذه المرة فقال نادر " الآن سننتظر عودة أمك لبيتها والاطمئنان عليها للنهاية وتمهد لها الأمر .. حتى موعد أحدده لك سيتم فيه عقد القران .. عقد قران سليم تماما لكنه سري من شخص أعتمد عليه سيسجل الزواج بنفسه رسميا بأمان .. العقد لن يُكتب فيه أي شروط .. لكنك ستوقع على ورقة جديدة بمبلغ كبير .. لضمان انتهاء الصفقة دون مشاكل .. تُلقي يمين الطلاق حينها .. تأخذ الورقة وباقي المبلغ المتفق عليه لتبدأ طريقك المهني بنجاح .. بعيدا عن شركتي طبعا "

 

ثم نهض واقفا ناهيا الحوار بكلمة منه " الآن يمكنك الذهاب وترتيب أمورك حتى ذلك الحين .. أراك قريبا "

وبهدوء نهض فجر وطعم الخزي يفور بحلقه .. خارجا فيغادر المكان كمن تلاحقه الشياطين ..

 

غافل عن تلك التي كانت تستمع للحوار منذ بدايته وهي قد رأت وصوله من شرفتها التي كانت تجلس فيها لتنزل تتصنت على الاتفاق الدنيء ..

راقبت ليل انصرافه من إحدى الزوايا الخفية فتهمس ساخرة بتقزز " أهلا بك .. لقد أوقعت نفسك في شباك عنكبوت قذر  .. ولكن لمَ العجب تظل رجلا ككل الرجال دنيء .. ياللمرح الذي ستحظى به ليل المنصوري في النهاية ! "

 

 

بينما في يدها كانت لا زالت متشبثة بسترة المساعد المجهول الذي احتمت بها يوما من الضربات .. دون إدراك أن خيطها الأسود تلاقى بالقدر مع .. الخيط الأبيض لنفس المساعد المجهول !!

 

 
انتهى الفصل
فوووووت بقى 🥳🥳🥳💖

पढ़ना जारी रखें

आपको ये भी पसंदे आएँगी

7.2M 355K 71
" سَــتَتركينَ الـدِراسة مِــن الــغدِ.. لَــقد سَـحبتُ مـلفاتكِ مِــن الـجامعةِ بـالفعل ..! " " مـالذي تَــهذي به..!؟ " " هــذا مــا لَـدي... لاتَ...
367K 17.5K 30
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
16.3K 721 24
ممثلة مشهورة في مواجهة الموت كل فنية والآخرى لسببٌ مجهول، ومن قاتل مجهول.. فمَ اقترفته؟ وما الذي جنته؟ وذات مرة ينقذها سائق سيارة متدين، وتدعي الم...
33.2K 1K 182
جميعنا عالقون بين اليابسة والبحر في ذاك الجزء الفاصل بينهما ذاك الشريط الرفيع بين سعادة مرجوة ..أو هلاك محتمل تلك الحافة التي تفصلنا بين ما نرتضيه...