فجري أنت ، بقلم آلاء منير

By AlaaMounir201

649K 22.7K 6.3K

ماذا يحدث عندما تتلاقى سمو المبادئ مع دنيا الرغبات ! عندما تضعك الحياة بين اختيارين أحلاهما علقم .. عندما تُخ... More

تواقيع الأبطال
المقدمة
الفجر الأول
الفجر الثاني
الفجر الثالث
الفجر الرابع
الفجر الخامس
الفجر السابع
الفجر الثامن
الفجر التاسع
الفجر العاشر
الفجر الحادي عشر
الفجر الثاني عشر
الفجر الثالث عشر
الفجر الرابع عشر
الفجر الخامس عشر
الفجر السادس عشر
عودة 💫
الفجر السابع عشر
الفجر الثامن عشر
الفجر التاسع عشر
تنويه 😍
الفجر العشرون
الفجر الواحد والعشرون
الفجر الثاني والعشرون
الفجر الثالث والعشرون
الفجر الرابع والعشرون
الفجر الخامس والعشرون
الفجر السادس والعشرون
الفجر السابع والعشرون
الفجر الثامن والعشرون
الفجر التاسع والعشرون
الفجر الثلاثون
الفجر الواحد و الثلاثون
الفجر الثاني و الثلاثون
الفجر الثالث و الثلاثون
الفجر الرابع و الثلاثون
الفجر الخامس و الثلاثون
الفجر السادس و الثلاثون
الفجر السابع و الثلاثون
الفجر الثامن و الثلاثون
الفجر التاسع و الثلاثون
الفجر الأربعون
الفجر الواحد و الأربعون
الفجر الثاني والأربعون
الفجر الثالث و الأربعون
تابع الفجر الثالث و الأربعون
الفجر الرابع و الأربعون
الفجر الخامس و الأربعون
الفجر السادس والأربعون
الفجر السابع و الأربعون
الفجر الثامن والأربعون
الفجر التاسع والأربعون
الفجر الخمسون
الفجر الواحد والخمسون
الفجر الثاني والخمسون
الفجر الثالث والخمسون
الفجر الرابع والخمسون
الفجر الخامس والخمسون
مهم 💖
وحشتوني 💖
الفصل السادس والخمسون
الفجر السابع والخمسون
الفجر الثامن والخمسون
الفجر التاسع والخمسون
الفجر الستون
الفجر الواحد والستون
الفجر الثاني والستون
الفجر الثالث والستون
الفجر الرابع والستون
الفجر الخامس والستون
الفجر السادس والستون
الفجر السابع والستون
الفجر الثامن والستون
الفجر التاسع والستون
الفجر السبعون
الفجر الواحد والسبعون
الفجر الثاني والسبعون
مهم جدا
الفجر الثالث والسبعون
الفجر الرابع والسبعون
الفجر الخامس والسبعون
الفجر السادس والسبعون
الفجر السابع والسبعون
الفجر الثامن والسبعون
الفجر التاسع والسبعون
الفجر الثمانون
الفجر الواحد والثمانون
الفجر الثاني والثمانون
الفجر الثالث والثمانون
الفجر الرابع والثمانون
الفجر الخامس والثمانون
الفجر السادس والثمانون
الفجر السابع والثمانون
الفجر الثامن والثمانون
عيد ميلاد 👑🎂
موعد عودة 💖
الفجر التاسع والثمانون ( والأخير )
ختام الفجر ضي

الفجر السادس

7.8K 204 32
By AlaaMounir201

سقط فجر يُلقي بنفسه على أحد الكراسي بالمشفى منهكا خائر القوى وقد عجزت ساقاه عن حمله أكثر تعبا وجزعا يرجع رأسه للوراء ناظرا للسقف بصدمة لم تزل أثارها بعد ..

 

تلك اللحظات المرعبة التي عاشها وهو ينظر لجسد أمه الممدد على الأرض فاقدا كل معالم الحياة تماما بشكل كاد أن يفقده هو الآخر معالمها .. قبل أن يثب من تسمره مقتربا منها يتحسسها بارتعاش صارخا باسمها بذعر ملاحظا همود جسدها كحال الأموات .. ولوهلة اعتقدها ميتة فعلا ..

 

لكنه سرعان ما تمالك نفسه وبأيد غير مستقرة كان يقوم بإسعافات يحفظها عن ظهر قلب بعد أن استكشف في ثوان قصيرة عدم تنفسها بشكل طبيعي .. فدلك الموضع الصحيح في صدرها عدة مرات ثم هبط يمدها من أنفاسه معدلا من شكل رأسها سامحا للهواء بالدخول عله ينجح في محاولة إنقاذها ..

لا بل هو سينجح .. سينجح حتما لا مجال لفشله في إنقاذ أمه ..

بينما لم يتوقف عن الصراخ للحظة على صديقيه بالأسفل اللذين سرعان ما سمعاه يصعدان له في لحظات وهو يهتف بارتياع مستمرا في تدليك موضع قلبها حتى تعرق جبينه " الإسعاف .. مساعدة طبية فورااااااا "

ثم هبط يعطيها من أنفاسه ويرفع نفسه بعدها معاودا التدليك هامسا من بين أسنانه " أمي .. أمييييي هيا هيااا .. أرجوكِ أرجوووكِ "

وأردف صارخا في صاحبيه " الإسعاااااااااااااف "

 

كل شئ مر بسرعة بعدها .. وقد حضر المسعفون أخيرا في وقت قياسي لم يتوقف فيه عن محاولة إسعافها بنفسه لاهثا مجهدا لكن دون توقف للحظة ..

 

كادت تموت !

ربما لو تأخر لدقائق فقط .. لماتت !

هكذا فكر بصدمة تتسع وملامحه تشحب بهلع طفل أوشك على فقدان أمه التي ليس له سواها ..

أغمض فجر عينيه بألم يسند رأسه بين كفيه منتظرا خارج الغرفة التي يسعفون فيها والدته هامسا برعب " يا إلهي .. يا ربي أرجوك .. يا رب .. يا رب "

 

في بداية الرواق كان سلطان مع عمر وحسن يدخلون بخطوات متعجلة وقد لحقوا به في سيارة الأول بعد أن تحرك فجر مع الإسعاف ..

" كيف هي .. هل طمأنك أحد " سأل عمر وهو يتطلع في الغرفة بقلق فلم يرد فجر الذي لم يتوقف عن قول يا رب بنفس تعابيره الذي يحدها الخوف ..

 

قال سلطان يحاول طمأنته " إن شاء الله خير .. وحد الله "

رن هاتفه فرفعه يرد على أمه القلقة مبتعدا عن الشباب " نعم أم سلطان .. أجل وصلنا للتو .. يا حاجة لا داعي لقدومك الآن .. أنا سأتصل بكِ " إلا إنه استسلم أمام إصرارها وهي تخبره أنها في طريقها للمشفى الخاص الذين نقلوها فيه مع والدي عمر وإمام المسجد بالحي ..

فزفر يستسلم لها وقد كانت ملتاعة كما حال أهل الحي وهم يشاهدون بقلق السيارة تحمل بداخلها أم فجر الهامدة ..

 

بعد وقت كان يمر ببطء سلحفاة كان الطبيب يخرج فانتفض فجر يكاد يترنح فاقدا قواه يسأله بصوت مبحوح متقطع وأعين متسعة " طمئني .. أرجوك "

ابتسم له الطبيب المتابع لحالتها وقال " الحمد لله .. استطعنا السيطرة على الأزمة .. ستكون بخير وسنتركها بالطبع تحت الملاحظة .. إسعافك الذكي أفادها "

زفر فجر نفسا مرتجفا براحة والجميع يتمتم بالحمد حتى سأل حسن " ولكن لماذا حدثت تلك الأزمة لها الآن فجأة ؟ "

أجاب الطبيب بعملية معدلا من نظارته " من الواضح أنها لم تلتزم بالتعليمات والدواء للأسف مما عرضها للخطر المحتوم "

 

عقد فجر حاجبيه يفكر بما قاله قبل أن يغمض عينيه ضاغطا على أسنانه بقهر مستوعبا .. لقد نفذ دواؤها ولم تخبره .. لماذا يا أمي !!

 

قاطع الطبيب أفكاره الحزينة وهو يقول له بجدية " ولكن يا أستاذ .. "

تنبه له فجر ليردف الطبيب " التدخل الجراحي .. هذه المرة لا مفر منه .. الحالة لم تعد مستقرة ومتقدمة للأسف .. لا علاج للقلب في حالتها إلا بالتدخل الجراحي .. وبأقرب وقت "

انحسرت آخر قطرة دماء عن وجهه الباهت بالفعل والطبيب استرسل بعملية مباشرة " إن خرجت من المشفى فلا أضمن لك أبدا حالتها .. شفاها الله " ثم ربت على ذراعه وتحرك منصرفا ..

 

استند فجر بظهره على الحائط الأبيض من ورائه مبتلعا ريقه الجاف ومعه غصة عجز جرحت حلقه بمدى قسوتها .. زفر بعدها ثم تحرك يعاود الجلوس بجواره الثلاثة الآخرين وسلطان يقول بهدوء " حمدا لله على سلامتها الآن .. لقد ترأف بنا الله "

أيضا لم يرد فجر وربما لم يسمعه أصلا بينما انتبه حسن لمن أتوا قائلا " لقد وصلوا " ثم نهض إليهم وسلطان اتبعه ذاهبا لأمه التي تتسند على أم عمر تلهث قليلا بتعب فيقول لها برفق معاتب ساندا إياها بنفسه " يا أم سلطان .. لقد أتعبتِ نفسك وأنتِ لا تقدرين على المجهود المفاجئ هذا "

 

وعمر ظل بجوار صاحبه يضرب كتفه بكتف فجر يهمس له بدعم قبل أن يصلوا إليهم " لا تحمل هما يا رفيق .. محلولة بإذن الله .. نحن هنا يا رمادي لا تحزن "

قاطعتهما أم سلطان التي جلست بجوار فجر تربت على صدره بعطف هامسة " حمدا لله لحقناها يا ولدي .. لا تقلق يا حبيبي .. الحمد لله "

 

فسأل طارق المنسي والد عمر باهتمام قلق " أخبرونا .. ماذا قال الطبيب ؟ "
 


..........................

خرجت من الحمام متوجهة لمنضدة الزينة بغرفتها تبدأ في تجفيف شعرها جيدا مهتمة به برفق لكنه لا يمنع تساقطه كذلك .. ثم تمد يدها لاستخدام بعض مستحضرات العناية تجبر نفسها عليها وتدلل نفسها كما أمرتها مياسة مرارا بالأيام التي بقيتها عندها ..

انتهت ترفع نظرات كان الفتور يرسمها رغما عنها لشعرها الأسود الخفيف الناعم تمسد عليه بتقييم شارد قبل أن يتبدد هذا الفتور الملازم لها بشيء يشبه لمعة أمل وليد يلوح في أفق العتمة ..

فتفكر لو تقص شعرها قليلا وربما تصبغه بلون آخر ملائم يكسر تعويذة السواد فيه !

تبتره تماما كما بترت ماضيها ..

 

الماضي .. وهل بترت الماضي يا ليل ؟

سؤال سألته وفكرت فيه للحظات طويلة ..

لحظات كانت تتأرجح لمعة عينيها الوليدة بين أن تظهر على استحياء من بعيد وبين أن تخبو وراء سُحب الفتور الحزين أو تتشتت في عواصف الخوف من القادم المتربصة بها ..

 

هزت رأسها بعنف ويدها تتقبض بحزم ..

لا عواصف خوف تستطيع هزيمتها فهي أصلا لا يوجد لديها ما تُهزم بخسارته ..

ولا فتور حزين قد يتمكن منها بعد الآن فهي ذاقت كل أنواع المشاعر الأليمة وقطعا لن تسمح عندما تركن حياتها في النهاية تكون على مشاعر باردة باهتة لا معنى لها ..

 

ستبقى لمعة الأمل .. ستُبقي عينيها عليها مهما ابتعدت ..

ستُنميها .. ستُنمي تلك اللمعة لتكبر وتكبر حتى تتحول لنور يُغرق أبصارها من مدى جماله !

 

قلبها تشبث بقوة بهذه الصورة المرسومة بعيني خيالها المتعثر بنهوضه .. يغض الطرف بقصد عن العقل الذي يرسم صورا مناقضة تماما بريشة عتمة مستقبل مجهول ..

 

أما الجسد !

فرسم صورة أخرى أكثر ثبوتا وتحديا .. رسم رحما حمل بداخله بذرة تتحدى كل شيء وتقف بثقة ساخرة من أي خطط وآمال وهمية ..

 

سقطت عينا ليل على بطنها المسطح فأغمضتهما ..

إنها تتألم الآن .. هذا هو شعورها الطاغي والذي أنهى أي شعور آخر عداه ..

هي فقط تتألم ألم أنثى قُتلت فيها أمومتها بشكل قاس لا تستطيع التعامل معه ..

هي أنثى لسنوات رأت نفسها ناقصة ليس فقط كامرأة باهتة غير كافية لرجلها .. بل رأت أنها عاقر لم يهبها الله قدرة أن تتزين أنوثتها بالأمومة ..

 

وها هي الآن .. حامل

لكن لا شيء إلا المرارة والرفض طفحا بداخل أنوثتها تلك .. القهر .. الكثير من القهر وهي تنبذ قطعة من روحها لمجرد أنها تشاركت فيها مع آخر تمقته ..

فحمل ذنبا ليس بذنبه !..

 

" كفى .. كفى "

همست تتعكر ملامحها منكمشة ويداها ارتفعتا فتضغطان على جانبي رأسها بينما تردف " كفى صراع يقتات على روحي لقد تعبت .. أريد أن أستكين .. أريد الراحة "

سقطت رأسها بعدها بمشاعر مضنية قبل أن يقاطعها طرق الباب اتبعه دخول ( منى ) تبتسم لها بلطف ..

أجبرت ليل نفسها على رفع وجهها ورسم ابتسامة تحدت فيها بعنفوان كل ألمها المشتعل بصدرها فاقتربت منى تحمل كوبا من العصير الطازج قائلة بعطف " اشربي هذا .. لقد أوصتني أمي ألا أتزعزع من الغرفة إلا والكوب فارغ "

 

نظرت ليل للكوب ثم وعلى نحو مفاجئ رضخت ببساطة تمد يدها وتشربه بهدوء تشكرها ..

لم تستطع منى كتم نظرات الدهشة تقول " حسنا .. لم أتوقع أن ترضخي بسهولة هكذا .. فأنتِ عنيدة جدا في كل ما يتعلق بالأكل والشرب ! "

 

عادت ليل تبتسم مجددا ابتسامة صغيرة تهمس بتلعثم طفل غير متأكد من قدرته على النهوض والسير " لن أرفض مجددا .. أريد أن أعيد بعض التورد لوجهي الذابل هذا " قالتها وهي ترفع يدها لوجهها تتحسسه ..

اتسعت ابتسامة منى تقول فورا تشجعها " يليق التورد بكِ جدا يا جميلة الجميلات "

أسبلت ليل أهدابها والابتسامة تتكسر على شواطئ السخرية .. لكنها لم ترد وهي تعيد لها الكوب فارغا تماما بالفعل فقالت منى " هل تحتاجين لشيء آخر حبيبتي .. فأنا وأمي سنرحل انتهى عملنا "

" شكرا لكِ " همست بعذوبة فودعتها منى راحلة تاركة ليل ترفع وجهها مجددا للمرآة أمامها .. وبعينين مقيمتين كالعادة رمقت وجهها النحيل ..

لقد ازداد نحولا وتحيط الغابات السوداء تحت عينيها .. وكأنها ينقصها سوادا !

بينما الشحوب يرفض التراجع بإصرار مغيظ ..

همست لنفسها بلهجة متداعية خفيضة وكأنها غير متأكدة تماما " لا بأس .. كل هذا يمكن معالجته .. سأفعل ذلك "

 

هزت رأسها مرة أخيرة ثم تحركت من مكانها متوجهة للسرير الواسع البارد تسكن هناك تحت الغطاء الناعم ..

تعود لخوض حروب نفسية تحاول الفوز فيها فتفعل تارة وتستسلم للهزيمة أخرى ..

 

حتى قاطعتها رسالة بهاتفها فتحتها لتجدها من مياسة تسأل " هل نمتِ "

ردت بلا ليأتي الرد سريعا على هيئة اتصال مرئي فتحته لتجد صورة مياسة وهي ممددة على سريرها تقول مباشرة بجدية " ليل .. لا أستطيع النوم .. أفكر في شئ هام يشغلني جدا ويسرق النوم من عيني "

عقدت ليل حاجبيها تنام على جانبها تسأل باهتمام " أي شئ ؟ "

لترد مياسة بملامح معذبة " يا ترى أي الطرق يجب علي أن أتبعها لنسف آثار الجريمة "

اتسعت عينا ليل بعدم فهم تسأل من جديد بتوجس " أي جريمة "

لترد مياسة فورا بهلع مضحك " جريمة عزيمة أم سلطان .. لقد أكلت هناك ما يُزيدني خمس كيلو جرامات على الأقل ! .. يا الله لن تُصدقي .. لقد أطعمتني قسرا من المحشي والرقاق .. والعديد من الأكلات التي ضعفت أمامها بينما شريكي يجلس مكتفيا بكتم ضحكاته على شكلي يصطنع رزانة .. أنا انتهيت .. لقد انتهت مياسة تاج الحكيم .. ليشمت الأعداء "

 

ظلت ليل تستمع لكلماتها بحاجبين مرفوعين بغباء قبل أن تقول بتلبد " اجعلي تلك المرأة تُرسل لي طعاما من فضلك .. فأنا في أشد الحاجة لنصف كيلو جرام حتى من الذين تتبطرين عليهم ! "

زمت مياسة شفتيها بغير رضا ثم سرعان ما انفجرت ضحكا تتبعها ضحكات ليل الصافية أخيرا !

 
..........................

بشفتيها المغويتين نفخت الدخان الرمادي للسيجارة الرفيعة في يدها وعيناها مسلطتان على زجاج النافذة المغلقة حيث الليل المنير بأضواء المدينة خارج شقتها الفاخرة في الحي الراقي ..

لكنها كانت شاردة تماما في البعيد غارقة في بئر ذكريات أبت بنفسها إلا أن تُحبس فيها باختيارها .. سحبت نفسا آخر ونفخته لكنه كان معبأ بالشوق أكثر ..

 

الشوق الطويل جدا .. لسنتين لم تره إلا عبر صوره فقط من خلال الشاشات .. تلعق جراحها بنفسها دون أن تجد القدرة على ما تفعله وقد كانت أضعف من أن تسمح لنفسها بنسيانه رغم كل النبذ !

 

وعندما عادت قبل فترة قصيرة لم تترك لنفسها العنان فلو فعلت لخرجت من المطار إليه فورا سامحة لقلبها أن يتكسر من جديد عند قدميه وهو لن يتوانى عن استخدامهما في سحقه ..

لكنها ألجمت نفسها .. واكتفت بالمراقبة وتتبع الأخبار كمدمنة .. وقبل أن تفكر بأي خطوة تجاهه كان كل شيء يأتي لها على طبق من ذهب !

 

لقد طلق أمير الفارسي ليل وعاد حرا ..

ترى أيمكن استعادته ؟

 

أغمضت عينيها بأنةِ أسى تعض على نواجذها .. وكأنه كان مربوطا !

أمير الفارسي لم يتمكن أحد من ربطه أصلا سواء متزوج أم لا حتى تفرح الآن بكونه عاد حرا !!

 

حتى هي لم تتمكن من ربطه وقد ركضت يوما وراء السراب بعقلية فتاة صغيرة ساذجة قرأت كثيرا عن الحب الذي يتمكن من تغيير الإنسان .. عن تلك الفتاة المميزة التي يتوب على يديها أعبث الرجال وأشدهم وقاحة ..

فتخيلت أن تكون منهن .. وتوقعت أنها ستنجح بأسره بسحرها الملفت ..

لكن سحرها لم يكن كفاية لأسره .. خاصة وهي مجرد عذراء لم تُكمل العشرين من عمرها

وأمير الفارسي لا يُفسد حياة عذراوات !

سحبت نفسا آخر وزفرته ببطء حسي هذه المرة بينما تفكر ببعض الفوز المَرَضي بأنها على الأقل أحرزت تميزا مختلفا وكانت أول عذراء في حياته .. بل وأطول علاقة مر بها .. حيث كانت علاقتهما أقرب لارتباط بين ثنائي حتى لو أنكر ذلك ..

وكم أنكر واستنكر !

 

قطع أفكارها جرس الباب الذي أجفلها .. فتشنجت بعض الشيء تشنجا لم يدم إلا لحظتين لتتحرك تسحق السيجارة في منفضة بجوارها ثم تتوجه للباب تفتحه راسمة ابتسامة جميلة ملتوية على شفتيها ناظرة للواقف هناك تهمس بنعومة " العم نادر .. مرحبا "

 

نظر لها نادر نظرة باردة بلا معنى قبل أن يدخل مغلقا الباب ورائه مجيبا " سأريك من العم ! "

ثم هجم على شفتيها مقبلا بشهوة ينفث بها عن غضبه بحدث الطلاق المدوي ..

ورغم انكماشها اللحظي والنفور الذي ماجت به نفسها إلا أنها سيطرت عليه باعتياد تام ترفع ذراعيها تحيط رقبته تعطيه كل ما يريد وأكثر ..

 

نادر المنصوري رجل لا يمكن خسارته فمصالحهما كثيرة .. إن أرادها فلينلها .. لا بأس ببعض المتعة التي تقتل برودة وحدتها حتى لو متعة مؤقتة !

 

خاصة أنه والد الإنسانة الأبغض على قلبها !

تفعل أي شيء لكسرها ..

أي شيء ..

 
...........................

مد عمر يده بالعصير لفجر الجالس على الكرسي " خذ .. تناول هذا على الأقل "

أدار فجر وجهه برفض فزفر عمر منه ليقول سلطان بهدوء وقد رحلوا الجميع وحسن يوصلهم للحي بنفسه " فجر لا تحمل الهم بهذا الشكل .. فقط كُل واشرب شيئا واترك الغد لربك "

أطرق فجر يتمتم مجهدا " ونعم بالله " فأصر عمر أن يناوله العصير فأخذه فجر بآلية يتناوله فقط ليصمد مواجها ذلك الغد المجهول ..

 

هل يعترف بأنه عاش السنوات القليلة المنصرمة في مرض أمه يحمل هم تلك اللحظة .. يشهد الله أنه حاول دائما في كل يوم تأمين تلك العملية .. لكنه فشل وعجز بعجز شاب في مقتبل العمر لا يملك إلا قوت يومه كحال الكثيرين في هذا الزمن الذي سحق الشباب بكثرة ضغوطه ..

 

كل يوم في تلك السنوات كان يدور في ساقية الحياة دون أن يشتكي من التعب .. آملا أن يجد الحل يوما

لكن ومن منا يضمن الحياة ؟ ..

من يضمن مستقبله ويأمن سوءه !

 

وها هو ما خاف منه أتى لا محال .. وهو !

هو لا زال عند نقطة الصفر .. لا جديد طرأ عليه سوى روحه التي يشعر بها اللحظة وكأنها شابت في عز الشباب !

روح شاب لا تتمنى أكثر من الاستسلام والسقوط رافعا راية محارب انهزم بقهر الرجال ...

 

" يا رب " همسها فخرجت من بين شفتيه بتنهيدة حارقة قبل أن يحاول لملمة شتات نفسه التي تبعثرت تماما في الساعات الماضية التي أكلت من عمره سنوات بما عاشه فيها .. رفع وجهه ناظرا لعمر وسلطان قائلا " اذهبا أنتما .. لا فائدة من وجودكما على أي حال "

رد عمر بهدوء " أنا لن أذهب لمكان "

نظر له فجر ليقاطعه عمر بملل نزق قبل أن يتحدث " سأبقى يا فجر لا تجادل "

 

أحسوا بعودة حسن الذي اقترب يُلقي السلام ليسأله فجر منهكا " لمَ عدت أنت أيضا ؟ "

ارتفع حاجبا حسن مستغربا سؤاله ليجيبه ببساطة " سأبقى معك بالطبع .. هل سنتركك وحدك في هذا ! "

همس فجر لهما بضيق " ماذا ستفعلان معي هل أنا في مدينة الألعاب "

ناظراه صديقاه في بلادة دون رد ليبتسم سلطان ابتسامة صغيرة وهو ينهض قائلا " سيكون من الأفضل فعلا أن يبقيا معك .. وأنا سأذهب حتى لا تبقى أمي وسارة وحدهما وسآتي غدا "

ربت بعدها على كتف فجر ضاغطا وقال بنبرة ذات مغزى مقصود " غدا بإذن الله سآتي لنتكلم بشأن عملية الحاجة "

عقد فجر حاجبيه برفض لتلميحه لكن الأخير تجاهل رفضه المتوقع وهو يُلقي السلام مغادرا بهدوء

 

بعد قليل كانوا ثلاثتهم في مطعم بسيط قريب من المشفى وقد اشتد الجو في الخارج والسماء تغيم معلنة عن أمطار مفاجئة بطقس متقلب .. فأصبح الجو كئيبا كمزاج فجر المستند على شباك زجاجي بجواره ينظر للشارع الرئيسي في الخارج وقد فرغ من معظم البشر في هذا الوقت المتأخر من الليل ..

انتبه على حسن الذي وضع بعض الشطائر أمامه والشاي الساخن كما حاله وحال عمر ليردف الأخير موضحا " هيا كُل يا فجر "

رد فجر دون رفع نظراته عن الشارع " لا أشتهي "

تنهد حسن آسفا على حال صديقه فقال برفق " ومن يشتهي يا فجر .. لكنك تحتاج الطعام لأن أمك تحتاجك .. هيا "

 

أمه .. كلمة سحرية جعلته يبتعد عن استناده على النافذة بجلسته يمد يده ليأكل بصمت ورماديتاه تغيمان بألم ممزوج بخوف من فكرة أن يفقد ذلك السحر المسمى بأمه ..

 

كيف يتحمل الإنسان فقد الأم !!

لم يدرك أنه همسها بصوت سمعه صديقاه ليتوقفا عن الأكل ناظرين له بشفقة فنفض عمر الصمت قائلا بقوة نبراته " ما هذا الذي الغباء تتفوه به .. أمك بألف خير الحمد لله وتحت الملاحظة حتى تستعد للعملية وستخرج منها بأفضل حال يا فجر .. ما هذا التشاؤم "

ابتسم فجر بمرارة يقول بغصة " أنت تعرف كم تكلف تلك العملية ! "

قال حسن بتقرير " نعلم ولا يهم .. سلطان سـ .. "

قاطعه فجر وهو يرفع نظرات لاح فيهما ألم عجزه ممزوجة بطلب التفهم اليائس " قلت مسبقا أنا لن أمد يدي لأحد لأجل علاج أمي .. لن أستطيع بعد كل هذا "

 

ساد الصمت المكان تماما لا يقطعه إلا صوت عدد رواد المطعم القلائل وأصوات الرياح العالية بالخارج

قال عمر بعد أن تمالك غضبه الداخلي تجاه صديقه محاولا تفهم حالته " أحد ! .. حسنا يا سيد كرامة ونحن قلنا ونكرر الآن بأنك لست مخيرا كالسابق .. ليس بعد الآن " ثم نظر له بعينيه البنيتين المشتعلتين بنيران الحنق مردفا بالقول المباشر " ودعني أخبر مرة جديدة .. إن لم تتنازل قليلا لاغيا كرامتك اللعينة .. فستموت أمك بسببك "

امتقع وجه فجر الذي لم يسعفه الرد ليقول حسن همسا بصرامة " عمر ! .. الألفاظ سعد "

أدار عمر وجهه يرفع الشاي ليشربه كاتما كلماته الغاضبة التي لم يستطع إلا أن يخرجها كالعادة حتى لو كانت كالشظايا المجنونة .. تبا إنه عصبي المزاج دائما لا يتحمل أفعال صديقه التي تصيبه بالجنون من تلك الأفعال العنيدة رغم الظروف التي حاصرته ..

 

ظل فجر صامتا بوجه مشتد الخطوط للحظات طالت وحسن يوزع نظراته بينهما بتوتر لا يجد ما يقوله لتهدئة الوضع الذي لا يتحمل أية عصبية ..

لينهض فجر بعدها دون كلمات يمد يده لجيبه مخرجا ثمن ما طلبوه يُلقيه على الطاولة وتحرك مغادرا .. نظر عمر للمال بنظرات يائسة ليتكلم حسن " سلطان من سيتكلم معه .. هو من يقدر على التعامل مع الأمر باسلوبه .. وأنت أرجوك ابتلع لسانك السليط ومزاجك الناري وحاول الترفق بحالته فهو على صفيح ساخن وأمه بين الحياة والموت " ثم نهض يلحق بفجر تاركا عمر يتأفف وهو يهز ساقه بتسارع ثم نهض لاحقا بهما ينوي تهدئة الوضع وعذر فجر .. سيحاول ضبط نفسه لأجله !

 
......................

اليوم التالي ..

 

كانت ليل تنتهي من تصفيف شعرها وتركته حرا يصل لمنتصف ظهرها ثم تحركت تحمل حقيبتها وهاتفها وتخرج من الغرفة بعد اعتزال طال ..

ها هي تُصر على التشبث بالأمل الوليد .. ستكون كما عنقاء تُبعث من تحت رماد ألمها الذي أحرقها ..

ابتسمت لذلك الوصف الذي مر بخاطرها .. وهمست لنفسها بقوة قاتلة ترددها " وهذه المرة للتحليق بعيدا .. للتحليق فقط رغم كل الظروف ! "

 

خرجت من الغرفة تفتح هاتفها تتفحص قدوم رسالة ما لتتفاجئ أنها من مارينا !

عقدت حاجبيها بدهشة بالغة فمنذ زمن كانت علاقتها بمارينا جافة متباعدة ..

تعترف بأنها هي من كانت تنأى عنها بعدم راحة لتواجدها الغير مريح مؤخرا .. خاصة مع اتفاق مياسة معها للابتعاد  ..

 

قرأت ليل الرسالة وقد كانت تسألها عن حالها وتعبر عن قلقها عليها منذ معرفتها بخبر الطلاق وتحتاج للإتصال بها لتأتي للإطمئنان عليها ..

 

مارينا منذ المراهقة كانت صديقتها بحكم صداقة والديهما .. ورافقتها في العديد من المراحل حتى تزوجت – ليل – وفترت العلاقة شيئا فشيئا من جهة ليل حتى اختفت مارينا تماما من حياتها منذ عامين تقريبا فلمَ تسأل عنها الآن !

 

نزلت بخطوات متعجلة لمقابلة مياسة بعد أن أصرت الأخيرة على خروجها وقضاء يوم ممتع أنثوي على حد وصفها !

تحركت أصابعها تكتب رسالة مقتضبة لمارينا تخبرها أنها بخير وتستطيع القدوم متى شاءت ثم أغلقت الهاتف تخرج حيث سيارتها لتركبها متوجهة للباب الخارجي للفيلا لتتفاجئ بحرس هناك يمنعها بالقول الهادئ أنها ممنوعة من الخروج بأمر من السيد نادر !

 

اتسعت عينا ليل بصدمة قبل أن تلمعا برفض وهي تخرج من السيارة تهتف بصرامة " افتح هذا الباب وإلا لا تلومن إلا نفسك "

زم الحارس شفتيه بضيق لكنه قال باحترام " من فضلك سيدتي لا داعي لإثارة مشكلة .. هذا أمر من السيد نادر لا أملك إلا تنفيذه .. فعودي لغرفتك من فضلك "

كانت تتنفس بغضب أخذ يستفحل بداخلها لتقترب باندفاع من البوابة تنوي فتحها بنفسها بتمرد لتمسك بها يد الحارس ببعض القوة وقد بدأ هو الآخر يشعر بالغضب يقول بأدب حمل تحذيرا قامعا تمردها " لن تخرجي سيدتي .. لا تجبريني أرجوكِ "

 

رمقت يده الممسكة بذراعها وشعرت بالقهر يهاجمها فتخفت لمعة الأمل بهزيمة حتى كادت أن تبكي غضبا .. نفضت يده عنها ثم بإذعان ذليل تحركت لداخل الفيلا تجر أذيال خيبتها رافضة أن تثير مشكلة تؤدي لجرح كرامتها أكثر فهي لا تستبعد أن يحملها الحارس على كتفه كشوال بطاطا دون تردد ..

دخلت الفيلا برأس منكس تحيط بوجهها خصلاتها السوداء بصورة حية نابضة بالخيبة والاحباط ..

قابلت أمها التي كانت تسير من أمامها تتلاعب بالهاتف وعلى وجهها المحمر علامات الغضب والغيظ .. لتصرخ ما أن رأت ليل وهي تلوح بالهاتف بيدها تزيد من قتل الأمل في قلبها " بسببك .. كله بسببك أيتها الغبية .. لم يتوقف الهاتف عن الرنين والكل يتهافت لمعرفة آخر أخبار ابنتي المصون بعد أن تطلقت للمرة الثالثة وألقى بها أمير الفارسي بعد أن ملها أخيرا كما تراهنوا جميعا "

 

هزت رأسها الذي لا زال منكسا بعذاب .. وكأنهم يرفضون تركها إلا وقد قتلوا فيها كل قوة قد تقتات عليها للنهوض يوما .. وكأنهم أقسموا على أن تُدرك بكل الطرق بأنها مهما اعتقدت نفسها قد تحررت وستحلق بعيدا في السماء بأن سمائها تلك مهما رسمتها بعيدة فلن تتجاوز سقف السجن الذي يحبسونها بداخله فعليا ..

ستظل كعصفور ضعيف مقيد بالأغلال .. فلا عنقاء تُولد في هذا البيت !

 

رفعت وجهها حينها وبقهرها صرخت ملوحة بيديها " ارحموني .. ارحموني " اقتربت من أمها وهي تشير بيدها لنفسها تهتف بكبرياء كسير " أنا من تركته .. أنا من مللته .. أنا من أقرف من الاقتراب منه .. أنا هي التي تقرف منكم جميعا "

" اخرسي " صرختها هوليا مخرجة كل طاقتها السلبية بعد أيام من الكبت وقد تركوها جميعا لتواجه الخزي وحدها أمام مجتمعها ثم أردفت أمام نظرات ليل الغاضبة " ألف من تتمنى هذا الذي تتشدقين بقرفك منه .. ما أنتِ إلا غبية ترسمين أحلاما لا وجود لها .. فكل الرجال خائنون "

ابتسمت ليل ابتسامة بغيضة جارحة هامسة بفحيح شامت دون تردد " بل أنتِ .. أنتِ فقط من تفضلين العيش بلا كبرياء وأنا قسما لن أكون مثلك بعد اليوم "

 

اتسعت عينا هوليا صدمةً دفعتها لتهب رافعة يدها وبكل غلها تصفع ابنتها وقد جرحت كلتاهما الأخرى بعدم رحمة ..

رفعت ليل يدها لوجنتها المصفوعة بجمود تبادل أمها الثائرة النظرات قبل أن تبتسم بمرارة هامسة لها وقد تدحرجت منها دمعة لم تبالي بكشفها وقد أُهينت للرمق الأخير " لا بأس .. فلم يتبقى غيرك لفعلها .. وها قد فعلتها مثلهم "

ثم تحركت تصعد لغرفتها مجددا ترسل رسالة لمياسة بأنها لن تخرج وجلست على سريرها .. وبكت كثيرا حتى سقطت في نوم أقرب لإغماءة هروب !

 
.......................

" اذهبا لبيتكما أرجوكما حتى تستعدا لعملكما لقد تأخرتما جدا " قالها فجر بصبر نافذ لصديقيه فأجابه حسن بهدوء " لا بأس عمر سيذهب .. وأنا سأبقى "

عقد فجر حاجبيه يسأله " ولمَ تبقى أنت "

ابتسم حسن يجيبه تلقائيا " أنا أعمل في شركة أخي ولي واسطة الحمد لله "

عوج عمر شفته العلوية يصطنع الامتعاض ومدى الظلم الواقع على طبقة الكادحين الذين لا اخوان لهم .. فنجح في جعل فجر يبتسم ابتسامة صغيرة تناقضت مع إرهاق وجهه وحزن عينيه .. نهض بعدها قائلا " هيا يا عمر .. لن نتغيب كلانا أرجوك وعليك بإخبار السيد شكري مدير القسم لغيابي اليوم .. هو سيتفهم " أومأ عمر دون كلام وتحرك الثلاثة معا وفجر يتساءل " وأنا سأنزل للحسابات .. أتعجب أنهم لم يسألوني حتى الآن فيها بمنتهى الكرم الغير متوقع !! "

 

وفي الحسابات كان فجر يستمع للموظفة وهي تخبره بهدوء مبتسمة " لقد تم دفع الحساب بالأمس مقدما سيدي ما أن وصلت المريضة بالفعل "

نظر لها فجر بعدم فهم قبل أن يلتفت ببطء لحسن الذي بادله النظرات والأول يقول بجمود " لقد دفع أخوك .. كان علي توقع ذلك ! "

 
.........................

لثم فجر يد أمه التي ابتسمت له ابتسامة ضعف شاحبة لم يقلل من ذرة حنان العالم كله فيها .. انحنى مقبلا رأسها مرارا شاعرا بغصة تكاد تشق حلقه وهو يرى حنوها عليه يشم رائحتها هامسا بتحشرج " لا حرمني الله من رائحة الجنة فيكِ .. شفاكِ الله يا أم فجر .. لمَ يا أمي لم تخبريني أن علاجك قد نفذ .. لمَ فعلتِ ذلك بي "

لم ترد أمه للحظات حتى رفع وجهه عنها فربتت على وجنته هامسة بوهن يتناقض مع البأس الذي تبثه إياه " اسمعني يا فجر .. لا تحمل ما لا تستطع حمله .. كله نصيب وأعمار بيد الله وحده يا ولدي فلا تجزع "

ابتلع ريقه بصعوبة لكنه قال بعزم " ونعم بالله .. لكن لا تقلقي ولا تقولي هذا .. أفديكِ بروحي .. العملية سنفعلها في وقتها المحدد "

عقدت أمه حاجبيها تسأله بنفس ضعفها " من أين لك ؟ "

نشبت يده بيدها بقوة التعلق هامسا " لا تحملي هما أمي وارتاحي فقط وأريحي قلبك حتى وقت العملية "

 

لم تتمكن من مجادلته وقد كانت أكثر تعبا من أن تفعل فدخلت الممرضة عليهما تطلب بحزم لطيف " يكفي حديث من فضلك .. هي تحتاج للراحة أكثر "

أومأ راضخا بقلة حيلة ثم انحنى يلثم يدها مرات فربتت على وجنته من جديد تتحكم في قلقها عليه من العذاب الذي يلون صفحته .. بينما هو خرج ينوي التوجه لبيته والعودة سريعا وعقله يدور في فلك أفكار لا حصر لها .. أهمها سؤال ألقته أمه .. من أين له ؟ ..

 
.........................

خرج من الحمام يجفف نفسه سريعا مبدلا ملابسه لأخرى نظيفة ثم تحرك للمطبخ مُخرجا رغيف خبز وعلبة الجبن من الثلاجة يصنع لنفسه شطيرة يسد بها جوعه ..

 

دخل فجر غرفته بعدها يفتح خزانته سريعا مُخرجا المال الذي يضعه هناك يصرف منه طوال الشهر .. حسبه بسرعة عابسا مفكرا بأنه لا يكفي لحساب المشفى الذي دفعه سلطان .. بحث حوله مدققا قبل أن ينهض ساحبا حقيبة حاسوبه ينظر له للحظات قبل أن يتنهد هامسا " لا بأس .. سأشتري غيره لاحقا "

ومن أين لك بمال غيره وأنت تمر بما تمر به ؟ .. خاطرة مرت به فنفضها .. فهو منذ سنوات توقف عن النظر للمستقبل .. فقط اعتاد على النظر لليوم وما يحمله له .. واليوم تحديدا يحمل له الكثير الذي يجعله يتناسى مجبرا مستقبله تماما ..

 

غادر دون تردد متوجها لمكان ليبيع به الحاسوب وهو يفكر .. لقد استطاع تدبير مال المشفى .. فهل سيستطيع تدبير مال العملية برقمها الكبير ..

فأجاب لنفسه بأمل " نعم أستطيع "

ولكن للقدر دائما كلمته الأخيرة والأعلى ..

 
...................

" إذن ذهبت للدعوة أخيرا .. لمَ لم تخبريني بوقتها "

استمعت مياسة لصوت أمها في الهاتف فردت بهدوء وهي تتحرك بنشاط تُخرج ملابسها لتستعد للخروج مجيبة " لقد أخبرتك بأني سأذهب لكني انشغلت بعد ذلك بإخبارك التفاصيل .. آسفة "

صمتت عالية لوهلة ثم سألت بنبرة بدت عفوية " وكيف كان الأمر "

ردت مياسة وهي تبدأ بتصفيف شعرها الأشقر المتماوج كذيل فرس " كان وقتا لطيفا .. وتعرفت على والدته وأخته الصغرى .. محبوبتان للغاية "

 

سألت أمها باستفاضة " وكيف كان .. بيته ! "

عقدت مياسة حاجبيها باستفهام متعجب من معنى السؤال لترد بتفكير " كان .. حسنا لا أعرف لم أركز فيه .. كان نظيفا جدا ومرتبا بعناية هذا ما انتبهت له ! "

ضحكت أمها تقول " مياسة المرتبة والنظيفة جدا ! .. " ثم وضحت تشرح " قصدت أني أعلم أنه شعبي الأصل .. فـ كيف وجدتِ الأماكن تلك ! "

 

ابتسمت مياسة قائلة بسرعة " لا يا عالية .. ألم أخبرك ! .. ليس في الحي الشعبي بل في شقته الخاصة بحي آخر تماما "

" آه .. فهمت .. لا بأس " قالتها عالية بلا تعبير واضح فقالت مياسة وهي تنتهي مما تفعل " سأغلق الآن .. سأذهب لليل فلم أرها منذ أيام .. وتعاني مع والدها وقد حبسها قسرا .. أتمنى لو أنبش وجهه بأظافري هذا البائس "

تنهدت أمها حزينة قائلة " اعتني بنفسك هناك .. فلا أضمن هذا البيت بمن فيه "

أجابتها مياسة بكلمات تتميز ببسالتها فردت أمها بكلمات مقتضبة هادئة تودعها وأغلقت الخط مياسة ثم مشت تحمل متعلقاتها مغادرة الشقة ..

وآخر ما فكرت فيه لوهلة .. بأن أمها تبدو غريبة ناحية كل ما يتعلق بسلطان الجوهري !

أو هكذا تستشعر هي !

 
.........................

" تفضل .. شكرا لك ما فعلته " قالها فجر وهو يمد يده بالمبلغ الذي دفعه سلطان للمشفى بعد أن جاهد لجمعه .. فنظر الأخير للمال في يد فجر للحظات بضيق داخلي .. لكنه ببساطة ودون كلمة مد يده يأخذ المبلغ دون تعليق حتى لا يثير حفيظته خاصة بالموضوع الذي يحتاج التكلم فيه بشأنه

ومن يدرك فجر مثله .. رغم العشرة الطويلة وقوة العلاقة والجيرة التي هي مكسب لكل إنسان .. لكن عندما يتعلق الأمر بمال يحتاجه فإنه أبدا لا يمد يده لأحد ولو سيبدل ليله نهارا لكسب المال بنفسه وتعبه ..

لا زال هو – سلطان – يذكر والد فجر .. السيد منير الرجل الطيب عزيز النفس .. لا عجب أن يُربي فجر على العزة والكرامة ..

لكن ظروف فجر الصعبة جعلت الأمر يزداد عنده أكثر بشكل مبالغ فيه .. هو يتفهمه جدا ويعذره .. لكن حان الوقت ليتنحى عنها قليلا للأسف ..

 

عند هذه الفكرة ابتسم سلطان لفجر وقد كانا يجلسان معا في كافتيريا المشفى فتكلم قائلا كمقدمة " لقد طمئنني الطبيب بأن العملية نسبة شفائها عالية والحمد لله هذه الأمراض أصبح الشفاء منها نسبته مرتفعة "

أومأ فجر دون كلام وهو يتلاعب بفنجان قهوة أمامه منتظرا القادم لا محال ليصمت سلطان هنيهة مرتبا كلماته قبل أن يبادر مباشرة " المبلغ الذي تحتاجه جاهز .. سأدينك إياه .. وترده لي طبعا .. لكن بعد الإطمئنان على الست أم فجر و بالطريقة التي تفضلها "

سحب فجر نفسا طويلا زفره ببطء ثم ابتسم ممتنا رغم كل شيء لكنه قال " شكرا لك سلطان .. حقا أقدر لك وقوفك بجواري دائما .. ولكن .. "

صمت للحظة فسأل سلطان " ولكن ماذا .. أكمل "

هز فجر رأسه يكمل موضحا باقتضاب " لا أستطيع أخذ المال منك .. شكرا لك "

لم تتغير تعبيرات سلطان الهادئة وقد كان على علم مسبق باعتراض فجر فقال " ولماذا ترفض أخذ المال مني تحديدا ؟ "

أسرع فجر موضحا " ليس منك تحديدا .. أنا أرفض أخذ المال من أي شخص "

أسند سلطان مرفقيه على الطاولة بينهما قائلا بنفس الهدوء " لا بأس .. ولكن كيف ستدبر الأمر إذن ؟ "

رد فجر بلهجة مختصرة " سأتصرف "

عقد سلطان حاجبيه صامتا برهة قبل أن تلمع خضراواه قائلا بحزم ونبرته لا تتخلى عن هدوئها " اعذرني ولكني بحكم عشرتنا أريد أن أعرف كيف ستتصرف في أمر طارئ كهذا لا يحتمل تأجيلا .. فالتصرف في ظروفك له طريقان لا ثالث لهما "

نظر له فجر مستفسرا ليسترسل سلطان " إما أن تستدين ولا أرى فيه عيبا .. وإما أن تمد يدك لحرام "

اتسعت عينا فجر فيدافع فورا بصلابة " أنا لم أقترف حراما يوما ولن أفعل أبدا الآن "

حرك سلطان رأسه إيماءً بموافقة وقال برجاحة " أعلم بأنك لم تقترف حراما يوما يا فجر .. ولكن أحيانا يواجه الإنسان التيار بعناد سابحا ضده فلا يجد نفسه إلا وقد سُحب دون شعور لطريق آخر تماما لا خروج منه .. "

زم فجر شفتيه يسأله بتشدد " ماذا تقصد يا سلطان "

اقترب سلطان منه بوجهه عبر الطاولة مجيبا برزانة " أقصد بأني أريد أن أعرف ما هو الطريق الثالث الذي ستتخذه بما أني أعرفك لا ترتكب حراما .. أخبرني فأنا أجهله "

أسبل فجر أهدابه وهالة من العجز تحاوطه بقوة حتى كاد أن يختنق فيها ليقول سلطان له بنفس الهدوء والبساطة " الإنسان في كل لحظة مُعرض لأن يواجه وضع لا يستسيغه يا فجر .. ولا يجد منه مخرجا إلا بأبغض الطرق على قلبه .. لكن عليك أن تستسلم قليلا يا فجر متقبلا قدرك .. انحني للرياح قبل أن تقتلعك .. لقد وضعت بين خيارين أحلاهما علقم لكنك ستختار لا مفر " ثم ربت على مرفقه مردفا ببعض الرفق " لا أعتقد أن هناك داعٍ لإخبارك بأننا إخوة لا حرج بيننا يا فجر أليس كذلك .. أنت عندي بمكانة حسن "

لم يرد فجر فواصل سلطان بغير استسلام " لو كنت مكانك .. لأخذت المال يشهد الله حتى لو لم تتقبله نفسي .. لكننا رجال أمهاتنا أغلى من النفس "

رفع فجر نظراته له للحظات قبل أن يقول بتصلب بصوت استشعر سلطان بذكائه مدى الجرح فيه " تعلم بأن المبلغ أكبر من أن أستطيع رده يوما بمثل تلك السهولة .. "

ابتسم سلطان له بدعم يجيبه " قدم المشيئة وتوكل على الله واحسن الظن به أولا قبل أن تظن يا فجر .. حينها سنتكلم في الأمر وسنجد أكثر من طريقة لتسديد المبلغ .. لا تقلق "

 

صمت فجر مفكرا قبل أن يقول بإصرار يائس ناظرا لسلطان " سأقدم أولا طلب لمدير الشركة لسلفة .. وبعدها سأرى "

تنهد سلطان داخليا عارفا برفض الشركة مقدما لمثل هذا المبلغ وفجر مجرد موظف بسيط .. لكنه ظل متمسكا بابتسامته يومأ له بصبر ..

قبل أن يقاطعهما عمر وحسن يدخلان بالغداء الذي أرسلته أم عمر اليوم ..

 
..........................

ترجلت مارينا من سيارتها في مرآب فيلا المنصوري ثم بخطوات أنيقة تحركت تستقبلها الخادمة مبتسمة بترحاب فسألتها الأولى بترفع " ليل موجودة ؟ "

أومأت لها الخادمة ببشاشة تجيبها بأنها في جناحها فقالت مارينا " أخبريها أني هنا من فضلك "

تحركت الخادمة توصلها لغرفة الضيوف ثم سألتها " ماذا تشربين "

ردت مارينا بهدوء " لا شكرا .. فقط أريد مقابلة ليل "

 

دخلت هوليا غرفة الضيوف منتبهة لوجود مارينا التي نهضت قائلة بأسف " هوليا هانم .. كيف حالك "

تنهدت هوليا بغضب مكتوم من كل هذا الحزن الذي تعيشه .. ثم تقدمت تسلم عليها تجيبها بهدوء وتتبادلان معا بعض الكلمات الحزينة من هوليا والمواسية بزيف من مارينا بينما داخلها تتردد صدى ضحكات الشماتة والفرح ..

قبل أن تعود الخادمة مجددا تخبرها أن ليل بإنتظارها

 
........................

( وصلت إذن )

قرأت ليل الرسالة التي أرسلتها مياسة وقد أخبرتها مسبقا أن مارينا قادمة للزيارة .. فأجابتها برسالة ( وصلت .. هل ستأتين حقا )

ليأتيها الرد ( أنا في الطريق فعلا )

نهضت ليل من مكانها على كرسي في الشرفة بعد أن قرأت الرسالة مع دخول مارينا التي سارعت بالابتسام بتعاطف هامسة " آه عزيزتي .. اشتقت إليكِ "

أجبرت ليل نفسها على التبسم في وجهها وهي تستقبل أحضانها بسكون ثم دعتها للجلوس ..

قالت مارينا ما أن استقرت بجلستها واضعة ساقا فوق الآخر " كنت أريد القدوم إليك منذ وقت وصولي .. حقا لم أتمنى أن آتي لزيارتك أول مرة بعد عودتي في هكذا ظرف .. كيف حالك طمئنيني "

أومأت ليل مجيبة " الحمد لله .. شكرا ماري "

استنكرت مارينا  برقة " شكرا على ماذا يا لي لي .. نحن صديقتان رغم تباعدنا بعد زواجك وسفري "

صمتت للحظة قبل أن تمد يدها لبطنها مداعبة تسأل بلطافة " وكيف حال الجنين .. علمت أيضا بحملك "

عقدت ليل حاجبيها بتعجب تسألها " من أين علمتِ ؟ "

ارتبكت مارينا لوهلة داخليا لكنها ردت متمالكة نفسها دون أن تفقد ابتسامتها الودودة غامزة " تعلمين هذه الأخبار لا تبقى سرا يا بنت "

لم ترد ليل واكتفت بالاستماع إليها وقد بدت فاقدة قدرة الكلام والثرثرة التافهة ..

 

" إذن ماذا تنوين بحياتك ؟ .. ألا تنوين العودة له "

ناظرتها ليل ببعض البرود تجيب " عودة ماذا .. إنه طلاق ثالث لا عودة بعده "

" آه فهمت .. أعرف طبعا " همستها تومأ لها ثم ابتسمت تعاود الأسئلة " وماذا تخططين لمستقبلك بعد الطلاق "

هزت ليل كتفيها قائلة بفتور " سأسافر "

عقدت مارينا حاجبيها تكرر بعينين لامعتين أملا " تسافرين .. للأبد ؟ "

ردت ليل بنعم فابتهجت مارينا وإن لم تُظهر هذا على وجهها الفاتن راسمة التعاطف والمواساة بدلا عنه ..

" وكيف حال أمير .. ألا تتواصلا ؟ " سألت مجددا وهي تجد ليل صامتة لا تتجاوب إلا على قدر السؤال فردت ليل " لا .. لا نتواصل " ثم رفعت نظراتها لمارينا قائلة بقوة رغم هدوء نبراتها ووجهها الجامد " نحن تطلقنا يا مارينا .. لا علاقة لي به فلا تسأليني عنه من فضلك "

ابتسمت لها مارينا ابتسامة مدروسة قبل أن تقول لها ناظرة لبطنها المسطحة نظرة بمعنى واضح " أرى أن تواصلكما لن ينقطع يا ليل حتى بعد الطلاق والرابط ما بداخلك منه "

 

اشتعلت عينا ليل رفضا وتمردا لما تتفوه به فزاد الفرح في قلب مارينا التي أكملت بشفقة زائفة " دائما كان هو حظك يا لي لي .. أمير هو قدرك .. انظري للنهاية .. عندما حملتِ كان طفلك منه هو "

تكورت يدا ليل على ركبتيها وضغطت شفتيها ناظرة للفراغ ومارينا تتلاعب بها بخبث الكلمات التي تزيد من نيران ليل التي عادت واشتعلت بعد ما تلقته من حبس اجباري في البيت وضرب أمها ..

 

لكن وقبل أن تستفيض مارينا مُلقية بالحطب أكثر .. أوقفها الباب الذي فُتح بهدوء دون إذن ودخلت منه فرس جامح لم يجد بعد مروضا لها .. والتي رفعت حاجبها المرسوم بكبرياء هامسة بابتسامة باردة رسمية " مارينا .. يالهذه المفاجأة ! "

لم ترد مارينا فورا وهي تسافر بنظراتها على قد مياسة تشملها كلها .. ثم نهضت واقفة ترفع رأسها ناظرة لمياسة نظرة شعت كرها قرأتها مياسة بسهولة فابتسمت باستهزاء قائلة " هل كنتِ ذاهبة ! "

لملمت مارينا أشيائها ثم تحركت برشاقة ترد بخفة " أجل .. لقد اطمئننت على ليل .. " ثم نظرت لليل مكملة بحلاوة " والجنين "

انعقدا حاجبا مياسة ببعض التوجس وانعدام الراحة ومارينا تكمل لليل بمودة وهي تقبل وجنتيها " سأزورك مجددا يا لي لي .. وداعا حبيبتي .. إن احتجت لشيء تواصلي معي فورا "

ردت عليها ليل بكلمات غير مفهومة ومارينا تحركت مغادرة .. فنظرت مياسة لليل التي عادت للشرفة ترفع عينيها بنظرات فارغة للسماء المظلمة .. ويدها تعتصر بطنها !
 


...........................

 

في نهاية اليوم كان سلطان يخرج من غرفته ما أن بدل ملابسه بعد يوم طويل مرهق قضاه بين العمل والمشفى وزيارة قصيرة لابنته وقد أهملها جدا هذه الفترة بكثرة أعماله ..

خرج لأمه للعشاء وقد تغيب حسن هذه الليلة أيضا قاضيا وقته مع فجر كعمر .. جلس على الطاولة مستمتعا بثرثرة أمه مع سارة وتذمراتها التي لا تنتهي والتي تقابلها سارة مبتسمة ملبية بطاعة وهدوء كما حال طباعها البلسمية دائما التي تنجح في امتصاص كل الغضب من حولها ..

سارة هي زهرة هذا البيت وطفلته الأثيرة ..

 

فيمد يده يقرص وجنتها يداعبها بحنو رغم علمه بأنها لا تمتعض من تذمرات أمها الكثيرة مدركة حبها الكبير لها ..

 

بعد أن انتهيا من الطعام وجلسا يشربان الشاي قال سلطان لأمه " سأنهض الآن .. علي إنهاء مراجعة بعض الأوراق التي تخص عملي في أوربا .. فمياسة تعلمين في الوطن هي الأخرى ونحتاج للمتابعة باستمرار من هنا "

ابتسمت أمه على ذكر مياسة فأمسكت بمرفقه وهو يترك كوب الشاي الذي أنهاه توقف نهوضه فنظر لها بتساؤل قائلا " هل تحتاجين لشئ يا أم سلطان "

قالت له مبتسمة " لا حرمني الله منك يا سلطان الرجال .. كنت فقط أريد الاطمئنان على حالك "

ارتفع حاجباه وهو يبتسم ابتسامة صغيرة وقال بمشاكسة نادرة " نحن بالفعل تكلمنا كثيرا عن حالي يا حاجة .. فعلى أي حال تحديدا تريدين الاطمئنان "

مطت أمه شفتيها بتذمر لتقول بعدها بتهرب لا تتقنه طباعها الطيبة " لا شئ معين .. أخبرني صحيح كيف حال مياسة "

رد سلطان عليها متحكما بابتسامته " إنها بخير الحمد لله .. تسلم عليكِ كثيرا "

قالت أمه مسرعة بلهفة فضحت مقصدها " سلمها الله من كل شر .. والله هذه البنت دخلت قلبي عندما قابلتها وتربعت فيه .. لقد فاجئتني حقا بلباقتها وبساطتها .. ما شاء الله عليها .. كما إنها كالقمر في تمامه "

لم يرد سلطان مترقبا لباقي كلامها والذي سرعان ما أتى وأمه بنية صافية تسأل " هي ليست مرتبطة أليس كذلك ؟ "

كتم سلطان زفرة حملت بعض الضيق والملل الذي لم يتحكم فيه وأمه أصبح كل همها مؤخرا تزويجه خاصة بعد خطبة دنيا طليقته لكنه رد بهدوء " لا ليست مرتبطة "

ابتهجت أكثر وهي تردد " محظوظ من سيكون من نصيبها والله .. ما شاء الله ما شاء الله "

 

حسنا ماذا من المفترض أن يقول الرجال في هكذا موقف !

أجابها بوقار " فعلا يا أمي .. مياسة شخصية مميزة محظوظ نصيبها "

لمعت عيناها بتمني وهي تثرثر " هل تعلم .. عندما رأيت صورتها توقعت أنها منفتحة نظرا لحياتها في أوربا .. لكن عندما رأيتها كانت محتشمة الملابس والتصرفات .. تفهم في العادات والتقاليد جيدا وليس من الصعب التعامل معها وتغييرها للأفضل .. رغم أنها أحيانا تتكلم بالانجليزية لكن يبدو أنه عفويا دون قصد واصطناع مائع "

صمت سلطان للحظات مطرقا ثم رفع وجهه لأمه مبتسما باصطناع " إلى ماذا تنوين الوصول يا أمي "

لوحت أمه بيدها مدعية اللا مبالاة وهي تجيبه " أقصد أنها فرس لا يصعب ترويضها " ثم أكملت همسا وصله " ليس كتلك الدنيا سامحها الله أينما ذهبت "

قال سلطان حينها ببعض التجهم الذي هذبه في حضرة أمه " دعينا من دنيا يا أمي من فضلك .. أما بخصوص مياسة التي من السهل ترويضها فهي شريكتي وصديقة لي .. ليس أكثر "

ارتبكت أمه من رده الصريح لكنها قالت بعدها بقوة تواجهه " ولمَ ليس أكثر إن شاء الله ! .. يا ولدي أنت تحتاج للزواج هذا الوضع لا يجوز ولا يعجبني "

أغمض عينيه للحظة متحكما في نفسه ثم أجاب " يا أمي أنا لا بأس عندي بالزواج .. فلست معقدا حتى أكره الزواج من تجربة خرجت منها خاسرا .. لكني لا أفكر به الآن اتركيني لاختار بنفسي من أشعر بها تُكملني ليس فرسا أروضها ! "

زفرت أمه تقول بعصبية وقد طفح كيلها " لا يا سلطان أنا لن أسير ورائك أكثر من ذلك .. أخبرني هل هناك ما يعيب الفتاة .. لقد ظننت أنها مميزة وقد كانت الأنثى الوحيدة التي تكون مقربة منك بصداقة لم تقم بها يوما "

نهض سلطان واقفا يريد إنهاء النقاش " أنتِ قلتها للتو .. صداقة يا أمي .. ولا لا يوجد ما يعيبها بل يتمناها الكثيرون .. لكنها صديقة لا أكثر .. ولا تشبه الزوجة التي يحتاجها رجل مثلي " ثم أردف وهو ينوي التحرك " أرجوكِ يا أمي لا تفتحي هذا الأمر مجددا ولا تلحي فيه .. تصبحين على خير "

ثم تحرك مبتعدا يعود لغرفته تاركا أمه تتنهد بيأس وهي تهمس بما يشبه الولولة وتتحسر " يا إلهي .. لقد تعقد الولد حتما رغم انكاره .. لقد تعقد ولن يتزوج "

 

تدخلت سارة التي كانت قد انتهت من تنظيف وترتيب المطبخ وجلست قائلة باستياء تشرب من كوب عصير " يا أمي أي تعقيد .. يقول لك لا يمانع الزواج مجددا لكنها فقط مجرد صديقة له "

عبست أمها بغير رضا فابتسمت سارة تمتص إحباطها تهمس لها مربتة على كتفها باسترضاء " كل له آوان ووقت يا أمي .. كما أني أتفق معه و لا أرى مياسة مناسبة لرجل مثله "

عقدت أمها حاجبيها ناظرة لها بعدم فهم تقول " غريب .. لقد كنتما على وفاق وتتبادلان أطراف الحديث في وقت تواجدها .. لقد توقعت أنكِ استلطفتها "

هزت سارة كتفها تجيبها بنضج يسبق عمرها " لم أقل أنها ليست جيدة قلت ليست مناسبة .. هل تعلمين يا أمي عندما كانا معا في الشرفة بدفع منك وأمرتني أنتِ أن أتحجج بالمشروبات وأرى بماذا يثرثران "

نظرت أمها لها بترقب فقالت سارة تردف امتعاضا ملوحة بيدها " بحق الله .. كانا يتناقشان عن سعر العملة الصعبة .. وآخر صفقة لهما وأرباحها ! " ثم ركزت على أمها تقول بدعم لأخيها الأكبر الذي هو أقرب لأب " بالله عليكِ أي زوجة تلك التي سيتزوجها ليعود لها في نهاية يومه ليتناقشا في أمور العمل بعد كل سنوات عمله !!! "

 

صمتت قليلا مفكرة ثم استرسلت لأمها المنصتة " لا أعلم .. لكني أرى أن زواج سلطان السابق خرج منه مدركا أنه يحتاج لفتاة بسيطة كما بساطة طباعه .. ناعمة بنعومة النسيم الذي يداعب روحه المتعبة لكن تمتاز بقوتها الخاصة التي تستطيع هي ترويضه كمن تروض طفل صغير دون ازعاجه .. على عكس دنيا تماما " ثم نظرت لأمها تكمل وأمها تتابع بتركيز " وعكس مياسة أيضا .. فرغم قصر مقابلتنا لها لكن شخصيتها قوية جدا هذا واضح .. عيناها تلمعان باستعداد تام وتحفز لكل ما هو آتٍ ! .. كما وصفتها بنفسك هي فرس .. لكن ليس من الصعب ترويضها كما تتخيلين .. هي كانت عندنا كضيفة بالطبع ستكون خفيفة وبسيطة .. لكن ركزي جيدا فيها .. إنها شخصية مستقلة عاملة تعتمد على نفسها وأروبية تقيم هناك !! .. " ثم لوت شفتيها مكملة باستنكار " هل ستترك كل هذا وتتزوج وتسكن بيتها لتخدم زوجا بعقلية سلطان !! "

 

ما أن أنهت كلماتها وختمتها بعباراتها الجلفية الغير مقصودة حتى اندفعت أمها تضربها على ذراعها فتأوهت وأمها تصيح " سأقص لكِ لسانك هذا يا سارة والله سأقصه فقد استطال جدا " ثم عبست تقول بقرف " ما شاء الله يا ذات العشرين عاما .. وتحللين وتفكرين أيضا ! "

ضحكت سارة برقة تدلك موضع الضربة ونهضت تقبل خد أمها وقد نجحت في إزالة إحباطها وقالت " تربيتك يا أم سلطان الرجال .. فقط فكري جيدا دون اندفاعك الأمومي الفائض هذا خاصة اتجاه سلطان .. وأنا سأذهب لأعد لنا بعض التسالي ونجلس معا نشاهد مسلسل الحاج متولي فاليوم سيتزوج من الرابعة "

 

أومأت أمها لها مبتسمة تدعو لها قبل أن تتنهد بقلة حيلة تنهض لغرفة المعيشة هامسة باستنكار أمومي متحيز تمصمص شفتيها " لا تترك كل هذا وتسكن البيت وتخدم زوجها ! .. وما به البيت والزوج ! .. وهل تطول هي أن تتزوج رجل مثل ولدي .. عجائب .. بنات آخر زمن ! "

 

وفي الداخل كانت سارة تشرد هي الأخرى بشخصية مياسة المميزة التي أعجبتها جدا بقوتها وعنفوانها الواضح ثم همست ضاحكة " خسارة .. لا أعلم هل كما قالت أمي محظوظ من سيكون من نصيبها أم كان الله في عونه على ما سيراه "

 
..........................

 

" يا بني آآآآآآآدم .. ستصيبني بجلطة أقسم بالله .. أنا أكره العناااااااااد " صاح بها عمر بغضب متفجر لفجر أمامه وقد كان ثلاثتهم أمام المشفى ليتدخل حسن محاولا تهدئة الوضع " اهدأ يا عمر .. فجر يعلم مصلحته " ثم وجه نظراته لفجر مكملا برجاء " أليس كذلك يا فجر "

لم يرد فجر عليهما ولكن قال لعمر الذي يكاد يتقافز كحبة ذرة على النار " اعطني سيجارة "

أطبق عمر شفتيه كاتما غيظه ومد يده له بسيجارة بعد أن أشعلها له وأخذ فجر ينفث دخانها يرمقه بعيني قاتمتين تحكيان عن ألف قصة عجز .. قبل أن يتكلم بحزم هادئ بقرار لا رجعة فيه " سأستدين المال من سلطان .. ولكن أولا سأقدم طلب السلفة " هم عمر بالاعتراض لكن نظرة فجر الساكنة .. الساكنة جدا أكثر مما ينبغي جعلته يبتلع كلماته مدركا بأن فجر سيأخذ المال من سلطان ..

لقد استسلم فجر ..
 


........................

كان أمير غارقا في نومه الغير مريح بعد أيام طويلة من عمل لا يتوقف أغرق نفسه فيه ورحلات سفر من محافظة لأخرى أمتصت كل طاقاته للنهاية ..

قلق في نومه على صوت ما لم يتنبه له أثناء غفوته لكنه توضح بعد ذلك أنه جرس الباب الداخلي ..

 

عقد أمير حاجبيه وهو يتذمر بنعاس شاتما بأنه لم يأمر الحرس بعدم استقبال أحد خاصة والبيت فارغ إلا منه بعد أن صرف الخدم ..

تأفف ناهضا أمام إلحاح الزائر الغير مرغوب ونهض يرتدي سترة ثقيلة ونزل بخطوات متثاقلة يفتح الباب مستقبلا آخر من توقع رؤيته الآن ..

 

بعينين متسعتين ببعض الذهول نظر أمير لمارينا الواقفة أمام بيته بابتسامة هادئة جميلة وعيناها تتفجران بعواصف الشوق المهووس دون كلمات .. لقد قررت أن تأتي دون تأجيل أكثر أو انتظار لوقت مناسب .. فمع أمير الفارسي لا يوجد ما هو مناسب وغير مناسب ..

قطع أمير الصمت الثقيل قائلا بتصلب " مارينا ! .. ماذا تفعلين هنا "

قالت له دون فقد ابتسامتها الفاتنة ككل ما فيها " ألن تدعوني للدخول أولا "

طالعها بنظرات تفحصتها وقد ارتدت فستانا يظهر ساقيها العاريين إلا من جوارب شفافة طويلة وفوق الفستان سترة صوفية ثقيلة تناسب الجو وتتناقض مع قصر الفستان ! .. كان بدأ يشعر ببعض الملل وهو يستوعب قدومها لبيته يكاد يتأفف ويطردها ولم يكن ليتحرج من فعلها .. إلا أنه وبدافع الفضول ورغبة منه في بعض المرح في أيام متشابهة خلت من كل بهجة .. تنحى عن الباب يدخل فتلحق به

 

ألقت مارينا نظراتها المتمهلة على الفيلا الأنيقة وهمست بنعومة " الفيلا لا تتغير أبدا ! "

التفت لها دون أن يحمل نفسه عناء الرد لتكمل وهي تقترب منه خطوات " آخر مرة رأيتها كانت قبل حوالي سنتين .. ولا زالت على نفس حالها جميلة و .. مهيبة " قالت الكلمات الأخيرة ترمقه بنظرات فضحت شوقها له لكن شيئا لم يتغير فيه للحظات حتى ابتسم ببطء سلب أنفاسها و تكلم بتأني خبيث " سنتان ! .. آه تقصدين بعد أن طردتك أليس كذلك ؟ "

اهتزت حدقتاها وامتقع وجهها من تلك الذكرى وسرعان ما تشوه جمالها المبهر بسواد نفسها لتهمس بابتسامة عصبية " لا زلت تذكر جرحك لي يا أمير "

رمقها طويلا ثم استدار جالسا على أقرب كرسي يرفع ساقا على الآخر سائلا بهدوء ملوكي " ماذا تريدين مارينا .. لماذا ظهرت الآن ! "

اقتربت منه واقفة أمامه تنزل له بنظراتها هامسة " الاطمئنان عليك في ظروفك "

عقد حاجبيه يُعيد " ظروفي ! "

" طلاقك " همستها بنبرة فاحت منها رائحة الفرح والشماتة ليرفع لها نظرات متقدة أخرستها وهو يجيبها بعنف خفيض " لا دخل لكِ بما أعيشه في حياتي أنا و زوجتي ماري .. ولا أفضل مناقشة خصوصياتي معك بالمناسبة "

انحنت تجلس القرفصاء أمامه برشاقة مبتسمة تقول " لم آتي إلا للمواساة أمير .. بالإضافة لشيء هام عليك التنبه له بعد ذلك "

صمتت تستقر بعينيها على عينيه الهمجيتين بمشاعرهما مردفة بتلذذ " لم تعد زوجتك أمير "

انتفض .. هذا ما حدث وجعلها تسقط للوراء رافعة وجهها له برهبة و .. إعجاب

وهو تحرك مبتعدا يوليها ظهره هاتفا " لآخر مرة .. لا دخل لكِ بحياتي .. واخرجي من هنا "

 

نهضت بسرعة وهي تجد أنها بمنتهى الغباء تستفزه .. ولكن ما بيدها حيلة وهو لا زال متمسكا بليل معتبرا إياها زوجته وكأنه شيئا لم يكن ..

همست له وهي تقف بجواره " حسنا أهدأ أنا أعتذر .. "

قاطعها وهو يستدير لها " لا يهمني اعتذارك .. اذهبي من هنا "

لم ترضخ وهي تهمس له مجددا " أمير من فضلك .. لم آتي إلا للإطمئنان عليك .. لمَ تصر على جرحي "

زفر بصوت عال نافذ الصبر حتى قال " حسنا .. وماذا بعد "

 

جلف وقاسي ومتعجرف .. وهي تعشقه بكل هذا !

هي معتوهة .. مجنونة .. لا يهم سوى إنها تحبه منذ مراهقتها بكل ما فيه .. تحبه لدرجة جعلتها تسلم له كل حصونها واحدا تلو الآخر وقد سقطت في فخه دون مقدمات ..

لقد اختارت أمير الفارسي وقد كان اختيارها الوحيد في حياتها .. فكيف تتركه دون الفوز بأي طريقة !

 

اقتربت منه وهي تتجرأ رافعة ذراعيها حول عنقه تهمس له والشوق يكاد يذبحها لقربه " أريد إخبارك بأني هنا بجوارك إن احتجتني بأي شئ "

لم يبعدها عنه ولم يرفع يديه وإنما رد متهكما بقسوة " لطالما كنتِ بالجوار يا ماري ولم أحتاجك .. فلمَ سأفعل الآن "

أغلقت فمها وهي تجده لا يتوانى عن قتل كل خطوة تقتربها فيعيدها للوراء عشرة لكنها قالت بعناد عاشقة يائسة " لم تفعل من قبل متعللا بأن ليل صديقتي .. لكن الآن لم تعد كذلك .. "

هبط بوجهه لها فرفعت له نفسها دون شعور منها لكنه أحبطها قاصدا أذنها التي همس بجوارها بتحذير " لا تنطقي باسم ليل ماري بيننا "

التفتت له هامسة بقهر معذب " كانت دائما ليل بيننا يا أمير "

ابتسم بسخرية وهو يرفع يديه يبعدها عنه أخيرا قائلا " خطأ .. لم تكوني أنتِ موجودة لتكون بيننا أصلا يا ماري !! "

صرخت حينها بصوت عالي وقد طفح كيلها من شظايا أحرفه التي يصوبها بهدف يربحه " لقد أحببتك من قبلها .. لقد كنت لك من قبلها .. أنت الوحيد من اخترته "

لم يهتز فيه شئ وهو يحرك كتفيه مستمرا في بروده مجيبا ببساطة " لكني اخترتها هي !! "

" اخرس " هتفتها دون شعور وهي تشعر بعذاب ووجع لا قبل لها على السيطرة عليه فتفقد السيطرة على نفسها

تجمد وجهه وبرقت عيناه بشراسة وهو يقول بفحيح مرعب " اخرجي من هنا .. حالا "

كانت أمامه تلهث وشعرها الأحمر ثائرا من حولها بصورة همجية فقالت باستماتة " أمير أرجوك .. لقد تطلقتما .. لم تعد هناك ليل في حياتك لقد انتهت وستبتعد وتسافر عنك .. توقف عن جرحي .. أرجووووووك أنا أحبك ولا أحب غيرك من زمن "

ابتسم باستهزاء وقال " هل هذه معلوماتك التي حصلتِ عليها منها أثناء زيارتك لها ! "

ارتبكت للحظة ولم ترد مدركة أنه يخبرها ببساطة  بعلمه كل شئ عن ليل لحد الآن .. لكنه اقترب منها واقفا أمامها رافعا حاجبه مردفا " أم ربما علمتِ من .. نادر !! "

رفعت له وجها مجفلا مكررة " نادر "

أومأ لها ببطء هامسا كمن يبوح بسر " ألم أخبرك بأني أعرف بعلاقتك بنادر .. ألا تعتقدين أنكِ غبية كفاية لتظني أني لن أعرف بينما نادر هو والد زوجتي " قالها ضاغطا على كلمة زوجتي وكأنه يدخلها برأسها ثم ابتعد ملوحا بذراعيه " لكني لا أكترث .. سواء كنتِ كاذبة بحبك أم صادقة .. أنا لا يهمني " التفت لها بعدها يستطرد " لا أعلم لمَ نعيد ذلك الحوار وقد قلته لكِ قبل سنتين هنا .. في نفس المكان وقد أتيتِ تعيدي تذكيري بحبك التافه مستغلة غياب ليل حينها ! لكني سأعيدها لكِ " اقترب منها مجددا مردفا بقسوة " أنا لا أكترث بكِ .. كنتِ علاقة عرفتها في فترة ما وانتهت كما حال الكثيرات .. أنا لم أحبك يوما .. ولم أخترك يوما .. لقد اخترت ليل  "

لهثت بعنف مؤلم ثم صرخت وقد بدأت دموعها تهطل غضبا وحقدا " لكنك تخونها مرارا "

نظر لها للحظة صمت لكنه أجابها بفجور " لا دخل لكِ .. وحتى وأنا أخونها لن أفعلها معك أنتِ .. وقد كنتِ صديقة لها يوما ما "

ابتسمت بسخرية وهي تقول " كم أنت مراعي ! .. لكنك فعلتها معي تركتني وتزوجتها وهي صديقتي "

نظر لها نظرة شملتها قبل أن يهمس لها " كنتِ تعلمين ولم أخدعك يوما .. كانت علاقة عابرة وانتهت وأنتِ تصرين على التشبث بي كمراهقة سخيفة .. لقد تركتك قبل معرفتي بليل .. ليست مشكلتي اصرارك "

 

كانت غاضبة بقوة منه ومما يفعله بها مهما مرت السنون فهتفت بوجع " لقد كنت أول من دخل حياتي .. لقد سلمتك كل شئ .. نفسي وروحي وجسدي بعد سنوات من حبي الكبير لك "

رد عليها ببساطة " هذه مشكلتك إذن .. تثقين بشاب معروف عنه عبثه .. بل واعترف لك وقد كنتِ عذراء بريئة .. لم أقترب أو التفت لكِ يوما .. أنتِ من عرضتِ نفسك ماري .. دور الضحية لا يليق بكِ .. فأنتِ لا تتعاملين مع غر ! "

 

نهجت بجنون ونظراتها تحولت للكره الذي بالطبع لم يكن موجه إلا لليل وهو يكمل " حاولي التعامل وكأني لم أمر بحياتك يوما .. والاكتفاء بنادر .. والذي إن علم بما تفعلينه سيغضب كثيرا "

اتسعت عيناها وهي تصرخ بعنف رافض " هل تهددني .. هل تظنني أكترث بنادر "

رفع حاجبه يسأل باستفزاز " ألا تكترثين ! "

لم ترد عليه فابتسم هو بخبث فهتفت " توقف عن الابتسام .. تبا لك "

هجم عليها يمسكها من ذراعها بقوة كادت تخلعه من مكانه وهو يهتف وقد انتهى صبره " لقد استنفزتِ وقتك معي .. وقللت احترامك .. اغربي عن وجهي قبل أن يحملوكِ للخارج طردا "

نظراتها استقرت عليه بقهر معذب تبحث عن إيلامه فقالت وهي تحاول تحرير ذراعها " أتمنى أن يأتي اليوم الذي تذوق فيه عذاب فراقها حقا فتدرك ما تكبدته بسببك .. وهي مع غيرك تتنعم بأحضانـ.. آآآآآآه " قاطعت كلماتها الصفعة التي هوت على وجهها بقوة ترنحت لها لترفع له نظرات مذهولة تصرخ بذهول " هل تضربني .. هل تضربني أناااااا "

اندفع إليها يطبق كفه على فكها هامسا باهتياج " وأدفنك حية دون أن يرف لي جفن .. إياكِ ثم إياكِ والاقتراب من ليل أو ذكرها .. لا تجعليني أقوم بأذيتك "

حررت نفسها بقسوة ثم ابتعدت تتنفس بعشوائية وقد كانت لوحة من امرأة جرحها الحب والنبذ مرارا

بشعر همجي ووجه مصفوع ملطخ بكحلها الذي أذابه فائض دموعها .. فرفعت يديها ومسحت وجهها المبلل ثم ابتسمت ..

وهمست له بهدوء الوعيد " أنت لحد الآن لا تُدرك كيف لامرأة مجروحة أن تكون قاسية بلا رحمة يا أمير .. "

هتف بها بصوت يرعد " اغربي عن وجهي بتفاهاتك "

أومأت له بغير رد .. ثم وبهدوء تحركت تستدير عنه .. وقد قررت أن تتعامل كامرأة مجروحة .. !

 
...............................

في الصباح ..

 

بإصرار من مياسة بمكالمات لم تنتهِ منذ أول الصباح نزلت من جناحها متوجهة للمطبخ وهي تشعر بالجوع الشديد راضخة لأوامر مياسة الصارمة .. دخلت تستقبلها منى بابتسامة سعيدة وهي تقبل عليها تحتضنها بعفوية معتادة بينهما وتسألها " صباح الخير ليل .. أخيرا نزلتِ .. هل أحضر لكِ إفطارك الآن "

أومأت لها ليل بصمت وهي تجلس على الكرسي فتدخلت أم منى وهي تربت على كتفها بحنان قائلة بأمومة " عليكِ الاهتمام بنفسك وغذائك جيدا فأنتِ الآن مسؤولة عن روح أخرى تحملينها .. الست مياسة لن تقبل أن نتركك على هواكِ هكذا "

تشنجت ليل في رد فعل تلقائي ولم ترد لتتحرك أم منى تحضر لها الطعام .. فظلت هي تردد بداخلها كلمات الدعم والتشجيع التي تمطرها بها مياسة دائما وتعدها بقرب السفر والتحرر للأبد .. هانت يا ليل فقط الصبر .. إياك وإفلات أملك مهما خفت ..

 

 

لكن أملها سرعان ما فر مفزوعا قبل أن تتمسك به جيدا تزامنا مع صوته الذي انبعث من ورائها وهو يقول ببرود " ما الذي أنزلك من جناحك "

تجمدت للحظات ثم نهضت تستدير له حيث يقف يطالعها بنظرات كره اعتادت عليها وأجابت " أتناول إفطاري "

ابتسم ابتسامة منفرة وهو يقترب منها قائلا بشر " تأكلين السم حتى .. تناوليه في جناحك .. أثناء وجودي في البيت لا أريد أن ألمح طيفك حتى "

لم ترد عليه فصرخ " هل فهمتِ يا غبية "

تكورت شفتيها ولمعت عيناها بشراسة ثم هتفت بتمرد " أنا لست غبية "

اتسعت عيناه ليرفع يده ضاغطا على معصمها يصيح " هل ترفعين صوتك علي أيتها الغبية "

شعرت بالانكسار مجددا وهو يهينها أمام الخدم لتقول بكرامة اهترئت على يديهم " اتركني .. كلها أيام وسأسافر للخارج مع مياسة وتتخلص مني نهائيا "

ابتسم باستهزاء وهو يقول بتشدق " هل هذا ما أوصلك له خيالك الجامح .. ألم أقل لكِ أنكِ غبية "

حررت يدها بعنف ولوحت بيدها هاتفة بجرأة " قلت لك لست غبية .. ونعم سأسافر ولن يمنعني أحد وإلا سأقيم الفضائح على شرف حدث الطلاق العظيم "

صُدم من جرأتها أمامه التي عمل هو بنفسه لسنوات على كسرها فيها ليرفع يده ينوي كسرها مرة أخرى يصفعها بعنف صرخت منه وجعا .. ثم أمسكها من شعرها يشده فتحاول منى التدخل بذعر لفك يده عنها لينظر لها نظرة أرعدتها وسمرتها مكانها فحول نظراته لليل المتألمة يقول بخفوت خطير " سأربيكِ من جديد .. هل اعتقدتِ أنه بطلاقك الثالث ستلوين ذراعي يا عديمة العقل .. أنا سأجعلك ترين بنفسك أي نعيم أخرجتِ نفسك منه .. ولم يعد هناك من تتحامين به "

رفعت وجهها وهتفت بوجع " لم أتحامى يوما بأحد منك .. لم يكن لي يوما سندا ونعيما تتشدق به يا نادر يا منصوري .. أتمنى لكم جميعا أن تستمتعوا بخيباتكم بعد أن نجحت في الطلاق الثالث وضاع منكم النسيب المثالي "

" اخرسي .. اخرسييييييييييي " صرخها وهي يصفعها مرة بعد أخرى بطيش حتى خارت قواها تسقط أرضا لتتدخل أم منى حينها هاتفة بذعر " أرجوك يا بك توقف إنها .. إنها حامل .. حاااااامل "

وكأنها وجدت حمايتها أخيرا في أحدهم .. ليتوقف نادر فورا مدركا أنها تحمل بداخلها طفل أمير الفارسي ليهمس لها وهو ينهت " أتمنى أن تستمتعي بخيبتك أنتِ .. فأنتِ تحملين طفلا من صلبه سيربطك به للأبد " ثم تحرك ليغادر بمزاج عكر تقابله زوجته التي نزلت للتو من جناحها تتمطى بإرهاق فينظر لها بقرف خارجا صافعا الباب غير مبالي بندائها متوجها لشركته ..

 

بينما هوليا دخلت المطبخ لتطلب قهوتها فتتفاجئ بالوضع الكارثي هناك لتهمس بيأس في نفسها " آآآه ليس مجددا "

ثم سارت حيث ابنتها تسأل " ماذا فعلتِ مجددا يا ليل "

لتصرخ ليل ما أن لمستها أمها " اتركيني .. ابتعدي عنيييييييي "

لتنتفض أمها ثم هتفت بعصبية نزقة " لقد فقدتِ عقلك تماما .. أنا هي المخطئة لمساعدتك " ثم ابتعدت بعصبية تسب وتلعن مغادرة المطبخ تاركة ابنتها يعطف عليها الخدم بحنان لا تمتلكه هي ..

 
..........................

كانت واقفة في الشرفة ترتدي ملابس النوم بعد شاعرة بصداع يضرب رأسها وهالات سوداء تحيط عينيها المتقرحتين وملامحها يعتريها الشحوب .. لم تنم طوال الليل كانت كمجنونة تتحرك بغير هوادة تشد في شعرها تارة وتصرخ أخرى .. ولا يستقبلها في شقتها سوى صداها هي .. لا مجيب ولا أحد يواسيها ..

لكنها لم تعتد المواساة من أحد .. ستواسي نفسها بنفسها .. ومواساتها لن تكون إلا بقتل كبرياء أمير .. وتدمير كل من سرق منها فرحتها ورغبتها في شئ ما ..

لن تصمت بعد الآن .. كل من دعس لها على طرف فلن ترحمه .. لن ترحم أحدا ..

لا أحد يستحق السعادة في هذا العالم ..

 

لهثت أنفاسها المتحشرجة وهي تستدير تاركة الشرفة تدخل لحمامها نافضة عنها ليلة الأمس بكل ألمها .. فهي لن تكون مارينا إن تراجعت يوما أو أظهرت كسرة خاطرها ..

وبعد دقائق طالت خرجت متسلحة بثقتها بنفسها وجمالها رغم اهتزازها كثيرا ليلة الأمس حد التحطيم ..

 

مدت يدها للهاتف وبهدوء كتبت رسالة مقتضبة آمرة حيث أبيها ( أحتاج للمال )

وصلتها رسالة منه يستنكر كمية المال التي تطلبها وتسرفها في اللا شيء .. لكنها لم تكترث وهي تتحرك متوجهة لعملها تواجه الجميع مهما كانت انهزاماتها ..

فهو سيرسل المال .. لا سبيل آخر ليفعل غير ذلك ..

 
...........................

بعد أن مر نصف الوقت تقريبا في العمل كان فجر قد توجه حيث مكتب ( السيد ناصر ) يراقبه وهو يقرأ طلبه بعد تصميم من فجر أن يقابله بنفسه .. مدركا أنه لو أعطى السكرتيرة طلبه فسيرفض دون النظر فيه مرتين ..

راقب بتوتر الدهشة التي علت وجه المدعو ناصر قبل أن يرفعه له قائلا بصوت حمل سخرية " سلفة ! بهذا المبلغ بينما أنت مجرد موظف في أحد الأقسام "

ارتبك فجر لبرهة قبل أن يرد متحليا بهدوء لا يشعر به داخليا " أنا أحتاج للمبلغ .. ويمكن خصم مرتبي كاملا كل شهر لا أحتاجه "

ظل المدير المسئول ينظر لفجر للحظات بصمت قبل أن يمد يده ببساطة موقعا بالرفض وهو يقول ببرود " طلبك مرفوض اذهب لمكتبك "

انتفض فجر واقفا يهتف باعتراض " لماذا .. أنا أعمل في الشركة منذ سنوات بل ومنذ كنت مجرد متدربا فيها قبل التعيين رسميا "

قال المدير بنفس البرود الذي حمل عنجهية " ما تلك الثقة وكأنك مدير لأحد الأقسام بل وربما اعتقدت نفسك أحد المساهمين وأنا لا علم لدي !! "

تنفس فجر بسرعة وهو يشعر بالغضب ليردف الذي أمامه وهو يُلقي الورقة له " تفضل على مكتبك يا بني لست متفرغا لك هيا "

 

ضرب فجر على المكتب يهتف بعروق منتفخة " أنا لا أشحذ منك "

نهض الرجل يقول بعجرفة " هل أنت مجنون .. أخرج من هنا حالا وعد لمكتبك قبل أن آتي لك بالأمن ليطردونك تماما لتعلم أنك بالفعل تشحذ ليس إلا "

وكأن كل مشاكل الكون سقطت فوق رأسه فجأة تصيبه بضربات عجزه العنيفة فيقترب منه بإندفاع أعمى وقد فقد كل تحليه بالصبر ممسكا بتلابيبه صارخا بغل مقهور " من تعتقد نفسك .. ألأنك ترتدي حلة ماركة وربطة عنق أصبحت مهما .. تبا لك ولمركزك ولأمثالك من تعتقد نفسك "

اتسعت عينا الرجل الخمسيني بهلع ليهتف وهو يحاول فك يدي فجر عنه " الأمن .. أين الأمن "

 

فُتح الباب تدخل منه السكرتيرة التي ما أن رأت المشهد أمامها حتى تسمرت للحظات وهي مصدومة من هيئة فجر المعروف عنه خلقه وهدوئه ودماثته وقد قرر التخلي عنهم اليوم على ما يبدو أمام السيد ناصر أكثر المدراء عجرفة وغرورا !!

 

خرجت من صدمتها وهي تستدعي الأمن وتتدخل تجذب فجر هاتفة " اتركه يا أستاذ فجر .. ستتسبب لنفسك بمشكلة .. اتركه "

لكن فجر كمن أقسم على ألا يتركه إلا وقد أخرج كل ما بقلبه من حقد على كل العالم مغيبا عن المشاكل التي بالفعل يسقط نفسه بها !

وصل أفراد الأمن أخيرا يسحبون فجر بعنف عنه هاتفين به والسيد ناصر يتنفس ويسعل مختنقا وهو يتمتم بالشتائم والوعيد لفجر بنفس اللحظة التي كان عمر دخل هو الآخر يندفع لفجر محاولا تخليصه من أفراد الأمن بحمائية ..

 

صرخ ناصر من بين شهقاته بوجه أحمر ممتقع وهو يجد تجمع الموظفين في فضيحة مخزية لمكانته " اتصلوا بالشرطة .. ليأتوا ويأخذوا هذا الهمجي من هنا فورا "

صرخ فجر حينها بغير اكتراث وقد طفح كيل صبره وفاض " أعلى ما بخيلك اركبه وأرني ما تستطيع فعله "

 

" ما الذي يحدث هناااااا "

جملة خرجت بصوت جهوري له سلطته التي شعت بها نبرته فأسكتت حالة الجنون التي اشتعلت بالغرفة والتفتوا جميعا لهيئة نادر المنصوري المتجهمة وهو يدخل معاينا ما يحدث بنظرة قبل أن يردف بنبرة صلبة " كلٌ إلى عمله حالا "

انصرف المعظم بتردد وهم يلقون نظرات فضولية مختلسة بينما ناصر يهتف " لا .. هذا الولد الصعلوك يتم طرده فورا من العمل وسأطلب له الشرطة ولن يمر الأمر على خير أبدا "

نظر نادر لفجر الغاضب المكبل بأيدي الأمن وعمر بجواره متحفزا للقادم واستمر الصمت للحظات قبل أن يقول نادر بسلطته " اتركوه "

تركوه فعلا مترددين ليكمل نادر موجها حديثه لفجر " عد لمكتبك حتى يتم استدعائك للتحقيق بما حدث هنا "

هتف ناصر بغيظ " أي تحقيق .. أنا سأستدعي له الشـ.. "

قاطعه نادر بنظرة ثم قال " التزم الهدوء يا ناصر من فضلك "

كتم ناصر كلماته بغل ليلوح نادر بعدها لفجر ومن معه بيده دون كلمة فانصرفوا جميعا تاركين ناصر يرغي ويزبد وهو يرى نادر يسأله ببرود " ماذا حدث بالضبط ليتم قلب المكتب وكأنه حارة شعبية بها عراك شوارع من هذا الولد "

 
..........................

اندفع فجر داخلا مكتبه يلحق به عمر والأول يهتف وهو يلملم أشيائه من مكتبه " سأذهب من هنا .. لن أبقى بهذا المكان دقيقة واحدة وسأقدم استقالتي .. كانت غلطتي أني بقيت هنا مجرد موظف بائس دون تقدير لما أملكه من امكانيات .. تبا لهم تبا لظروفي .. تبا لكل شئ "

 

كان عمر صامتا وهو ينهت من فرط انفعاله المكتوم وهو يتمنى لو يكون حسن موجودا الآن فهو يمكنه التصرف وامتصاص جنون فجر بطبيعة شخصيته البسيطة السلسة .. أما هو - عمر - .. إنه مجرم في العصبية والجنون سبحانه من أنزل عليه الصبر في تلك الغرفة البائسة ولم يلكم المدعو ناصر في وجهه مسقطا له صف أسنانه هذا إن اكتفى بصف واحد !!

 

مرت لحظات ترك بها فجر ينفث فيها عن غضبه بالكلمات ثم اقترب قائلا " اهدئ قليلا .. سيتم حل الأمر و .. "

" أنا لن أبقى هنا " قاطعه فجر وهو يصرخ به ليرد عمر بصرخة أكبر عليه " وأين ستذهب بالله عليك .. هل تجد الأعمال تُغرق البلد .. ألف شاب يحتاجون مثل وظيفتك شاكرين .. ألف ماذا بل قل مليون وأكثر من العاطلين في الظروف الزفت هذه .. استهدي بالله يا فجر أنت لست في حالتك السليمة "

ظل فجر ينظر له للحظات لاهثا عيناه تغيمان بألم مُشكِلة سحبا من رماد روح تحترق بداخله قبل أن يهمس بصوت مشتد " لقد عاملني كمتسول .. بل وصفني فعلا بالشحاذ !! "

زم عمر شفتيه مانعا سيلا من الشتائم يريد الخروج على لسانه وفجر يردف " كنت أشحذ السلفة ورغم هذا ببساطة تم رفضها .. لادرك بأني سأعود صاغرا وأمد يدي لسلطان وأستدين منه "

عقد عمر حاجبيه يشعر بشئ ينغز قلبه على صديقه وفجر أكمل بصوت أشد همسا خرج بخزي فتحشرجت النبرة بذل من يمد يده وهو المعتز بنفسه " وكلمة أستدين هذه ما هي إلا غطاء لفعل استجداء فعلي .. فنحن نعلم جيدا أني لن أستطيع رد المبلغ لسلطان "

ثم ابتسم بسخرية قائلا " إلا لو عاملني سلطان معاملة خاصة بحكم العشرة الطويلة وقرر أخذ المبلغ على دفعات وأعطيه مرتبي كاملا كل شهر .. وهو ما لن يقبل به سلطان أبدا .. لن يأخذ مرتبي كاملا !! "

 

نكس رأسه بعدها بذل وهو يستند بيديه على المكتب قائلا بتعب " أنا متعب .. والله متعب .. متعب جدا وأشعر باليأس وقلة الحيلة .. شاب مثلي بطول الباب وعرضه ولا أجد ما أفعله لأمي وأنا وحيدها .. أي ذل هذا الذي وُضِعت فيه !! " انتهت آخر الكلمات بدمعة فرت غادرة به فاضحة إياه أمام صديقه ليستدير فجر عنه متصنعا ضحكة وقال ماسحا إياها بعنف " حسنا لقد انتهى الأمر بشكل أكثر درامية مما تخيلت !! "

 

تقبضت يدا عمر حتى نفرت عروق ساعديه ثم اقترب منه وجلس بجواره على المكتب بصمت طال حتى قطعه قائلا " لا أعرف كيف التصرف في هكذا مواقف .. الحقيقة كل ما يمر بخاطري الآن رغبة شديدة في لكمك حتى يتورم وجهك يا **** "

ضحك فجر ضحكة مريرة وهو يقول " لا عليك .. أعلم أنك بائس وكان الله في عون زوجتك المستقبلية في هذا التقشف العاطفي "

ابتسم عمر ابتسامة رسم بها الخبث ليسحب بها صديقه خارج دائرة مشاعره وهو يضرب كتفه قائلا له بمكر " بعيدا عن الزوجة المحظوظة من ستكون .. لكن في الجانب العاطفي أريدك مطمئنا على أخيك .. فهو مشتعل بالعاطفة "

ضحك فجر مجددا ضحكة طالت وارتفعت فرت بها دمعة أخرى لم يكترث بها هذه المرة .. حتى قاطعهما دخول مارينا والتي لم يعلم كلاهما أنها على الباب تستمع لمعظم الحوار بفضول أنثوي بعد ما عرفته من الموظفين مما حدث في مكتب السيد ناصر وتدخل المنصوري بنفسه !

 

" تضحك إذن أصبحت بخير " قالتها وهي لا زالت متشبثة بالابتسامة كما فعلت طوال اليوم بتصميم وكأن الأمس لم يكن وقد محته من الذاكرة .. فهي تدربت منذ الصغر على محو أبشع الذكريات والأحداث التي مرت عليها وانتهكتها مرارا لتتعامل بعدها كأن شيئا لم يكن ..

تجهم وجه فجر يستدير لها دون رد جالسا على كرسي مكتبه بهدوء محاولا التفكير بالقادم وسط دوامة المشاكل التي حدثت اليوم منتظرا قرار الرفد النهائي عما قريب ..

اقتربت مارينا منه قائلة مباشرة رافعة حاجبا مغرورا " كم تحتاج ؟ "

ارتفع وجه فجر لها بعنف محذر فلم تكترث به وهي توضح بثقة زائدة منفرة وكأنها تعوض ما حدث معها بالأمس القريب من انكسار وذل " قل الرقم .. لا يغرنك كوني أعمل هنا مجرد موظفة .. أخبرتك أنها وظيفة ترفيهية بالنسبة لي حتى أصل بعدها لمكانة أكبر في الشركة أستحقها عن جدارة .. و .. "

" اخرسي " صرخها فجر وهو يهب واقفا حتى أرهبها فعلا فعادت خطوة للوراء متسعة العينين وهو يكمل لها بنبرة مشتدة " إياكِ .. وتجاوز الحدود معي وإلا قسما بالله سأنسى كونك أنثى "

ذُهلت معقودة اللسان خاصة بمتابعة عمر دون تدخل منه لتتقبض وهي تشعر بالمهانة التي لن تقبلها من أمثاله الذين تراهم أقل من مستواها " كيف تجرؤ .. هذه نهاية من يُقدم على مساعدة أمثالك من أبناء الحارات "

وكأن ما فعله بناصر لم يكفي ليتقدم منها ممسكا بمعصمها ضاغطا عليه هاتفا فيها " أمثالي أيتها المتصنعة السخيفة .. كلمة أخرى وسترين أبناء الحارات ماذا سيفعلون معك ومع أمثالك أنتِ "

شهقت تصرخ بجنون " اخرس "

همس من بين أسنانه بصقيع " فقط لأنك أنثى سأتغاضى .. هكذا علموني في الحارة "

ثم وبهدوء عاد لكرسيه وعمر يبتسم مراقبا لتشتعل غضبا وهي تهتف بجنون بفجر " أيها الحقير من تعتقد نفسك .. من تعتقد نفسك .. أنا مارينا الجيار أيها المتسول الجائع "

انتفضت فجأة على قلم رصاص ألقاه فجر في الهواء ليمر من جوارها تماما ضاربا الحائط ورائها اتبعه بالقول الصارم رغم خفوت نبرته " صدقيني لا أحبذ التخلي عن تحضري أبدا معك فاذهبي من أمام وجهي "

صمتت لاهثة متسعة العينين ليردف بصوت مفزع " اذهبي "

لتومأ ببطء متوعد وهي تعدل من شكلها بعصبية هامسة له بوعيد لو علم بمدى قسوته لصُدم " لقد تم وضع خط تحت اسمك عندي يا فجر .. ستندم قريبا فاحذر فخ موشك على ابتلاعك "

ثم استدارت مغادرة متوجهة للحمام .. وهناك كانت تحبس نفسها في إحدى الغرف الصغيرة تجذب شعرها في عصبية ودموعها تهطل شاعرة بفظاعة ما تعيشه وقد أهينت للمرة الثانية وهذه المرة من تافه كهذا .. لتنهض خارجة تغسل وجهها وهي تلهث وتلهث وتلهث ..

الجميع حقراء .. الجميع يستحقون الأفظع ..

 

وفكرة ..

منذ ليلة الأمس تلمع برأسها بجنون .. جنون جلب ابتسامة شيطانية منفرة لوجهها والفكرة الآن تختمر وتتبلور وتشكلها بمزاج .. ابتسامة أخذت تتسع حتى تحولت لقهقهات أرعبت إحدى الموظفات التي كانت بجوارها تراقبها بتوجس ..

ومارينا مستمتعة .. وقريبا جدا ستشعر بنشوة الفوز .. الفوز عليهم ..

أمير .. ليل .. وفجر .. والجميع !!

تعد نفسها بذلك قريبا لتواسي به روحها بعد أن يحل الخراب على من يستحق

الجميع يستحقون الخراب كما خربت كل حياتها منذ سنين وسنين .. الجميع يستحقون القهر .. يستحقون الانتهاك !

 
............................

" السيد نادر موجود " سألتها مارينا بهدوء بوجه خمدت ثورة الجنون على محياه فتطلعت بها السكرتيرة بنظرة ممتعضة وهي ترد ببرود " أجل .. دقيقة سأخبره "

فجلست مارينا تنتظر الإذن الذي أعطتها له بعد لحظات ..

 

دخلت مارينا ليستقبلها نادر جالسا وراء مكتبه بهدوء قائلا مباشرة دون رفع وجهه " خير مارينا .. هل تحتاجين لشئ "

" كيف حالك " سألتها ليرفع وجهه يعبس سائلا بخشونة " هل أتيت تسألينني عن حالي ! "

جلست على الكرسي أمام المكتب تبتسم بهدوء قائلة " أجل أردت الاطمئنان بعدما حدث في مكتب السيد ناصر قبل قليل "

لوح بيده قائلا ممتعضا " ناصر كما هو ناصر .. يبدو أثار حفيظة شاب ممن يدعون الكرامة رغم وضاعة أصلهم .. أعطيت أمر بالإكتفاء فقط بالخصم من مرتبه طالما أنها أول مشكلة له في العمل .. كما أنه موظف ملتزم "

ثم نظر لها بتركيز مردفا " إنه في نفس قسمك "

أومأت له ترد موضحة " إنه زميلي في المكتب مع ثالث صديقه "

مط شفتيه بغير اكتراث وهو يقول " إذن بدأتِ من الصفر من شابين مثلهما ! "

هزت كتفيها تومأ له برضا عن منصبها فلم يكترث لتصمت للحظات .. نظر لها قائلا " إن لم يكن هناك ما عندك فاذهبي لعملك ماري "

عقدت حاجبيها تسأل بتعجب " هل أنت بخير .. تبدو غاضبا "

لم يرد وانشغل عنها بحاسوبه لتومأ بتفهم قائلة " إنها ليل .. مجددا "

تأفف يهز رأسه شاعرا بالإحباط واليأس ثم قال " لم أقابلها منذ الطلاق رسميا .. اليوم قابلتها وكانت جريئة وتتمرد بل وتتشدق بسفر قريب وكذلك تهددني ! "

رفعت حاجبها وهي تقترب خطوة مما تريد فسألت هامسة " وماذا ستفعل ؟ "

أطبق فكيه على شتائم ولعنات يريد صبها على ابنته ثم قال وهو ينهض متحركا بعصبية " لا أعرف .. لا أعرف .. ولكن تلك الحقيرة تحتاج لكسر رأسها .. إنها تتحداني وعلي إيجاد حل في أقرب وقت .. كل شئ ينهار ولن أسمح بذلك ! "

ابتسمت واقتربت خطوات من مرادها وازتها بخطوات منه لتقف خلفه قائلة بهمس ناعم نعومة الأفاعي " ومن يعطيك ذلك الحل ! "

عقد حاجبيه وهو ينهت من فرط انفعاله المكتوم واستدار يسأل بحذر " كيف ؟ .. "

ابتسمت ابتسامة ظفر زينتها بالكثير من الحب والدعم الموجه له لتقترب منه واضعة يدها على ذراعه من فوق قميصه مكملة الهمسات " حل عودة أمير وليل .. عندي .. سأخبرك "

 

وأخبرته بالكثير !

الكثير جدا الذي جعله يغضب بشدة وينفر !!

 

ولكن رغم الغضب الذاهل من اقتراحها الجنوني .. لمعت عيناه وهو يرى آخر فرصة عودة أمير لليل تلوح له بالأفق .. تغويه بالاقتراب وضمان مصالحه .. !

تغويه أن يدخل لها من ثغرات دائما هي مفتوحة ..

 

ناسيا أو متناسيا بدافع شيطاني ..

بأن لا ثغرات في الدين وويل لمن يستهين به !

 

 

انتهى الفصل
قراءة ممتعة .. متنسوش الفوت 🥳💖

Continue Reading

You'll Also Like

16.3K 721 24
ممثلة مشهورة في مواجهة الموت كل فنية والآخرى لسببٌ مجهول، ومن قاتل مجهول.. فمَ اقترفته؟ وما الذي جنته؟ وذات مرة ينقذها سائق سيارة متدين، وتدعي الم...
1.9K 253 18
ليس كل كذبه بيضاء وليس كل حقيقه سعيده
my son | Tk By 🚬🎀

Mystery / Thriller

9.6K 898 16
-هوَ ابني لَكن... " احببتُكَ رغم خطأ ذَلك ! " ________ تايكوك. #تعود جميع الحقوق لي' 4/10/2023. ∆ الكتاب مُعدل△
1.3K 147 20
كان يعيش طول حياتة بدون احتكاك مع الجنس الاخر ليقرر ان يعمل ما يحب ليقع فى حب فتاة اقل ما يقال عنها انها شاب فى صورة فتاة فماذا يفعل معها و كيف يتغلب...