الفصل الخمسون:

Start from the beginning
                                    

......
مرت ساعة، لم يفعل هو فيها أي شيء، فقد ظل جالسًا على سريره، وتاركًا الدفتر بجانبه، يطالعه من حينٍ لآخر بفتور ثم يعاود النظر للأمام.
دلفت جويرية عليه ممسكة بفنجانان من القهوة الساخنة، ثم وضعت احداهما على حاملة الأدراج، وتقدمت نحوه بالأخرى بخطى ثابتة وجيزة.
ابتسمت له، بادلها. مدت يدها بالقهوة، أخذها.. وعم الصمت من جديد.
ظلت واقفة أمامه ترنوه بنظراتٍ دافئة، كنظرة أمٍ تنظر لرضيعها. سألته بهدوء:
-مفتحتش تقرأ ليه؟
أمسك بالفنجان في يد، وبالأخرى مد يده والتقط الدفتر، ثم مد يده لها به قائلاً بجدية:
-اقرأيلي.
ضيقت عيناها بحيرة، وسألته:
-أقرألك؟ طب ما تـ..
-بس أنا عاوزك إنتي تقرأيلي!
أخذت الدفتر من يده حين قاطعها، ثم جلست إلى جانبه، وأردفت وهي تنظر له:
-يعني مش هتضايق لو أنا عرفت حاجة عن ماضـ..!
قاطعها بحدة:
-أنا قولتلك إن اللي حصل الصبح من غيو قصدي و..
-هشششش خلاص اهدى.
صمت، وأشاح بوجهه وهو يزفر بشدة. فنظر هي للدفتر وقررت أن تقرأ أخيرًا..
أخذت نفسًا عميقًا وبدأت بهدوء:
-أكتب لكِ يا أختي العزيزة، أكتب لكِ بعد أن رحلتِ عني..
مُذ بدأت حياتي وأنا أعاني الفقر أنا وأختي، كانت أكبر مشاكلنا ألا نجد قوت يومنا. ولكن بعد مرور أعوام أدركت أنني أخطأت كثيرًا حين ظننت أن هذه مشكلة كبيرة، بل هي في غاية الصغر مقارنةً بما مررت أنا وأختي به فيما بعد..
صمتت جويرية قليلاً، ثم نظرت له لتراه منتبهًا لها مصغيًا قبل أن تتابع:
-بدأ الأمر حين تزوجت أختي من شابٍ غني، حدث الأمر بسرعة شديدة، حتى أنني لم أفهم كيف تم الأمر. ثم بدأ كل شيءٍ يتبدل فمن الفقر إلى الغنى والرفاهية، ومن الا مأوى إلى القصور!
تعرفت في تلك الفترة على أخو اللعين زوجها، لكنه وللحق كان مختلفًا تمامًا ليس مثل أخويه، كان يحمل في قلبه الطيبة والرحمة. وبدأت أتعلق به.. لا بل بدأت أحبه بالفعل، ولم يمضِ أكثر من شهرين حتى أصبحنا مترابطين، يحب أحدنا الآخر، ثم تواعدنا بالزواج..
كنت مصدومة في بداية الأمر، فكيف لنوران تلك الفقيرة التي نشأت نشأة دون المستوى تتزوج من ذاك الغني رحيل. ومع كل يومٍ كان يؤكد علي الأمر كنت أزداد سعادة وفرحًا..
لم أكن أدري أن من هم مثلي أنا وأختي لا يستحقون السعادة أبدًا..
صمتت جويرية، ونظرت له، فوجدته شاخصًا لأبصاره شاردًا. وكادت تظن أنه ليس معها إلا أنه أردف بخفوت:
-كملي
أخذت نفسًا عميقًا، وتابعت بروية:
-كلما كنت أرى أختي بعد الزواج أراها مهمومة حزينة. كنت أستعحب الأمر وأستمر بسؤالها عما يؤرقها لكنها لم تعطني الجواب الشافي، لم تخبرني يومًا عن سبب الألم الذي يكسوها.. لم تخبرني سومًا عن سبب الحزن الذي غلفها.. لم تعد أختي التي أعرفها، صارت شبحًا لامرأة تأبى البوح بما تكنه بداخلها. أحيانًا كنت أرى في عينيها أنها تريد اخباري، لكنها كانت تتراجع في اللحظة الأخيرة.
آآآه يا أختاه، لو فقط كنتِ أخبرتني بالأمر، لو فقط كنتِ.

............

١٠/٣/١٩٨٣
الساعة الخامسة صباحًا
تابعت تلك المرأة الكتابة في هذا الدفتر الوردي، وعيناها تذرفان الدموع بغزارة..
"لو كنت أعلم ما تتحملينه لما تركتِ، ما كنت لأتركهم لينهشوا لحمكِ ككلاب الأحياء القذرة.
أتعلمين كيف اكتشفت؟ لقد عينت مراقبًا لكِ في بيتكِ ومراقبًا في بيت أخيه معتز لأن ذلك اللعين كان يأخذكِ هناك كثيرًا.. ثم علمت ما يفعله بكِ. فهو لم يكتفِ بإهانتك، وتعذيبكِ بل كان يستعملكِ كسلعة لضمان الحصول على ما يريد من أخيه. أنا لم أصدق أن هناك شخصًا كريهًا إلى ذاك الحد! هذا الديوث الذي جعلكِ وسيلة لا أكثر ولا أقل.
حين وصلني اتصالٌ من الذي يراقبكِ أسرعت بالقدوم، لكن للأسف كنت قد تأخرت كثيرًا لأنني لم أكن متواجدة في نفس المدينة. وحين ذهبت أخبرني ما فعلوه بها لأنه ظل يراقبهم إلى أن انهو دفنكِ حبيبتي. كنت في منزله حين عاد، وكنت أنوي أن أواجهه وأقتله بيدي، إلا أنني توقفت فجأة وقررت أنه لا يجب لجلال أن يموت ببساطة هكذا، لا يجب أن يتعذب أولاً.. يجب أن يموت ألف مرة، لا مرةً واحدة، لذا تصرفت وكأن شيئًا لم يكن، بالرغم من صعوبة الأمر. لكن كله يهون من أجل أن أنتقم لكِ إنتقامًا يليق بما فعله ذاك المدنس بكِ. ثقي فيَ حتى ولو لم تعودي موجودة.. أنا هنا، أنا هنا لأعيد لكِ حقكِ.. وليس لغرضٍ آخر.
أختي، حبيبتي، فلتهنأي أنتِ في قبركِ واتركي أختكِ تريهم ما معنى العذاب. أقسم لكِ أنني سأجعلهم يندمون جميعًا. أقسم أنني سأشن حربًا ضدهم حتى لا يعودوا يدركون من العدو ومن الصديق. وقد أدركت ما عليَ فعله جيدًا.
لن أكتب حرفًا جديدًا إلا حينما آخذ حقكِ كاملاً، وداعًا"
ثم وفي أسفل الورقة دونت تاريخ اليوم "١٠/٣/١٩٨٣"
تركت بعدها القلم من يدها، وبدأت تمسح دموعها بقوة وكأنها تقطع جلدها، ثم وقفت وأمسكت ذاك الدفتر، وسارت به إلى أن وصلت إلى السرير.
بدأت ترفع المرتبة بقوة، ثم وضعت الدفتر بالأسفل
........

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقWhere stories live. Discover now