❤️الثالث عشر❤️

1.4K 46 9
                                    

اللهم❄ صل على❄ سيدنا  محمد وعلى❄ ال سيدنا  محمد❄ كما صليت على❄ سيدنا ابراهيم وعلى❄ ال سيدنا ابراهيم ❄وبارك على سيدنا ❄محمد وعلى❄ آل سيدنا محمد ❄كما  باركت ❄على سيدنا ابراهيم ❄وعلى سيدنا ابراهيم❄ في العالمين انك ❄حميد مجيد❄ صلوات ربي❄ وسلامه عليهم❄ اجمعين❄
❤️الثالث عشر❤️
هتف بها وهو يعود ممسكًا ذراعها يهزها بعنف قائلًا (كله مات مع الي مات.؟ أنا ماليش أخوال.. ولا حد)
نزعت ذراعها من قبضته بصعوبه وابتعدت قائلة (دي حجيجة مش هتجدر تهرب منها، وأنا تعبت وعايزه أهلي وناسي معنديش استعداد أدفع فاتورة غيري ولا أشيل هم حد غير نفسي)
حدجها حمزة بنظرة متقدة بالغضب والاستحقار ليقول من بين أسنانه ونظراته تنفذ لأعماقها (لو كان أبوكِ الي مات كان دِه هيبجا رأيك يا بت عمتي.؟)
رمشت تحاول استيعاب كلماته، تمررها على عقلها المضطرب بالأفكار والنزاعات، صمتت بخيبة لا تجد ما ترد به عليه.
ليصفعها بتوبيخه الحاد(إنتِ أنانية يا سكينة ومهمكيش غير نفسك ومصلحتك على حسابي أنا وأمي ووجعنا)
قالت متلعثمة لا تجد ماترد به ولا ترتب أفكارها(دا حجي.. إنت الي أناني وعايزنا نشيل معاك همك ووجعك وحزنك)
استنكر غير مصدق ما نعتته بها (أنا.؟ ليه هو الي اتجتل دِه يخصني لوحدي.؟ دِه أبوكي جاطع خواته علشانه وسابهم وإنتِ دلوجت جايه تجولي أهلي وأرجع..)
ازدرد ريقه وسألها بحسرة (بتحبيه وعيزاه للدرجة دي.؟إنك تختاريه هو بس.؟)
صمتت متفاجئة من سؤاله والخيبة المُعلنة صريحةً في نظراته، هزت رأسها بخجل، فطأطأ رأسه قائلًا لا يريد رؤيتها(امشي ياسكينة من جدامي مش عايز أعرفك ولا أشوفك تاني.. واعرفي إن أمي عندي أغلى الناس أبيع الدنيا كلها وأي حد مهما كانت معزته)
لم تفهم ماذا يقصد بقوله لكنها صمتت تسمعه بإهتمام وهو يردف (مش فاهمة إنتِ حاجه وشايفة الأمور بسيطة، حرمتيني أكون جنب أمي فموجف زي دِه وحرمتيها حج اختيار التوقيت وأنا مش هنسهالك ولا عمري هسامحك، ولا عايز أشوفك تاني )
تحركت تجر أذيال خيبتها ورأها، قلبها يتمزق من شدة الألم والحزن وعقلها يعمل في كل اتجاه دون توقف، جاءت مودة لتجدهم على حالتهما فتوجست خيفة وإرتبكت مما تقرأه فوق سطور ملامحهم المظلمة.
(في إيه.؟)
أجابها حمزة وهو يتجه حاملًا حقيبته (مفيش مضطر أسافر دلوجت ضروري) سألته مودة وهي تتأمل تجهم ملامحه غير المعتاد (في حاجه يا دكتور.؟)
أجابها وهو يفتح باب سيارته مُلقيًا على الواقفة نظرةً أخيرة(مفيش خير، شغل مستعجل) قالها واندفع لسيارته قادها وغادر تاركًا لها تحيطها تساؤلات مودة.
***********
رنت نظراتها لشال أسود مفرودًا فوق فراشها، ابتسمت وهي تمرر كفها فوق خيوطه المشغولة تتأملها بحنين، تداعب نسيجه بشغف فتلك كانت إخر هدية أهداها لها حبيبها قبل وفاته، وضعها فوق كتفيها وضمها هامسًا في أذنها بأرواع كلمات الغزل وأعذبها
أمسكت به ولملمته في قبضتيها ثم قربته من أنفها تتشممه، تسلب من خيوطه نفسًا برائحته بعثره يومًا فوقه مستهينًا لا يعرف أنها يومًا ما، أنفها ستتحسس الخيوط وترجوها أن تلملم أنفاسه وتدفعها لصدرها المثقل بالشوق. فردته واضعة له حول كتفيها وضمته متنهدة متذكرة تهويدات عشقه.
ابتسمت ولاتعرف هل هي تضم الشال أم الشال من يضمها.. هل تحتمي به من البرد؟ أم من رياح الشوق العاتية التي تجرفها بعيدًا فتتيه غير راغبة في عودة، تدخل مدينة الماضي وتجوب شوارع الذكريات، عادت لواقعها بعدما رن جرس الباب وخفت صوت التلفاز بالخارج.
خرجت مناديةً وهي تضم كتفيها بالشال وقاية من البرد (فينك يا منى.؟ ابراهيم جه ولا إيه.؟)حين طالعت القادمين، ضمت الشال لصدرها بقبضتيها مدركةً أنها ماكانت تحتمي من البرد بل تحتمي بذكرى حبيبها وتوأم روحها من تلك المواجهة اللعينة وهذا الحصار القاتل.
تسمرت مكانها مرتجفة، قبضتيها تزداد قوة فوق نسيج الشال حتى إبيضت مفاصلها  تحتمي به من أعاصير الوجع وبرد الخذلان ومطارق المفاجآة التي إنهالت فوق رأسها تحرمها حق الإدراك وتدارك الموقف.. اتسعت عيناها على أجسادهم، تلملمهم في نظرة تموجت ما بين الحنين والغضب والإستنكار المطلق..الآن فهمت سر مجيئه لها في غفوتها وربتته المؤازرة فوق كفها ونظراته التي ضمتها بحنو وأخفتها في حنايا قلبه، حبيبها يدعمها كما أعتاد، يخبرها بإحاطته لها، أنه معها رغم البعد وطول المسافات، الروح حاضرة بقربها.
حررت كفها اليسرى ومررتها فوق القبضة المضمومة موضع ربتته، تستعيد أثر لمساته فتُمنح القوة والحكمة.
ثبتت نظراتها عليهم بقوة لا ذلة ولا خذلان ردع ثباتها بل لها كل الحق، ولا حنين لمن طغى ودهس المودة والقرابة تحت أقدامه.. (مجولتيش إن هيجيلك حد هنا عندي)
لطمت منى خديها في عذاب، متداركة فداحة الموقف وعظم اللقاء وهوان الدم (والله ما جولتلهم يا خيتي ولا أعرف)
تقدم عزام خطوة دامع العينين في مذلة وانكسار، وقد أخضعه حنينه وسطى على ملامحه المنكهة (ازيك يا خيتي)
رفعت ورد رأسها بإباء ورفض، زجرتهم بكبريائها وقالت بنبرة قوية (أم حمزة يا أبو هشام)لاقرابة ولا وصل.. تلوثت دمائهم المشتركة بقذارة الشياطين.
تقدمت زوجته باكية، التهمت المسافة الفاصلة وكلها شوق لضمها وإحتوائها بين ذراعيها، فردت ورد كفها بوجهها تردعها في قوة وحزم (مكانك يا حزينة)
تراجعت السيدة بأسف وخذلان خبأت وجهها المحمر من أثر البكاء والنبذ بطرف حجابها وانتحبت..
ترنح عزام بتعب وكاد يسقط لولا ذراعي أخته منى اللتان سندتاه وشدت أزره هامسة بعتابٍ مر (ليه جيت يا واد أبوي)
قال عزام بحشرجة تعب، وأنفاسه تتردى داخل صدره بينما نظراته كجناحين فردهما حول جسد تلك الواقفة بثبات (مبجاش فالعمر حاجه يا خيتي... ولا جادر استنى تاني..)
ابتلعت ورد وجعها، قلّبت الرماد باحثة عن النيران التي كوتها طوال الأعوام الماضية وأشعلتها من جديد، تُذكّر قلبها وروحها.. استدارت قائلة بحزم امتزج بقوتها وصلابتها (امشي إنتِ وأخوكي يا منى)
وقف عزام مترنحًا يتوسلها بدموع حارقة (استني يا بت العم يا غالية)
توقفت مكانها في ثبات تغمض عينيها بقوة مستحضرة صورة حبيبها وولدها تسترجع الماضي بكل آلامه حتى لا تضعف.. تقدم قائلًا في انكسار وحسرة (مش جايلك فصلح، جايلك أجولك سامحيني اغفريلي الي مجدرتش عليه .. واد عمك مبجاش فعمره الي يخليه صابر ومستنى السنين تطيّب وجعك، معادش في وجت ياخيتي. سامحيني وريحي جلبي الي اتشج شج بفراجكم من حواليه)
كتمت ورد شهقاتها بأناملها المرتعشة تحاول السيطرة فانهيارها بات وشيكًا، يضعونها بين رحى الماضي والحاضر يفتحون جرحًا أُغلق على تقيحه، تريد الصراخ بقوة من شدة الألم لكنها ستبقى قوية تجابههم بصلابة موقفها
سلبوها أعز ما تملك ومنحوها وجعًا أبديًا.
تناول سكينًا من فوق الطاولة واندفع ناحيتها هاتفًا بكل ما امتلك من قوة وإصرار ربما تخمد نيرانه(خدي يا زينة البنات حجك وريحيني وريحي حالك)
صرخت به منفعلة ترمي بثباتها أرضًا، وقوتها تنهار (كِده هرتاح .؟ كِده الميت هيرجع.؟ كِده هبطل أشوف دم حكيم فأيدي)
تركت شالها ورفعت كفيها المفرودين لنظراتها تقلبهم وهي تهمس بهذيان (نفسي أرجع أشوف ايدي مش متحنية بدمه، نسيت من يوم فراجه شكلهم)
عادت تمسك بالشال تتشبث بأخر ما بقيّ لها منه(ابعد عني أخوك يتم ولدي وكسر جلبي)
اقتربت منى تهدأهما (وحدوا الله وكفاية فرجة ووجع)
صرخت بهما ورد وهي تتراجع  (جاي خايف على أخوك؟ الله فسماه يا عزام حتى لو شجيت صدوركم شج ونهشت جلوبكم بسناني ما هرتاح)
انهار عزام باكيًا بإرهاق وتعب، بينما اندفعت منى تضمها مهدئة (اهدي يا خيتي.. الي يريحك اعمليه)
قالت بعنف وهي تدفعها (سيبوني لحالي وسيبوا ولدي)
حاولت منى التوضيح وهي تتقدم منها  (رفعت عايز جتايل ياورد ومش هيسيب ضناكي فحاله، لازم توافجي عالصلح علشانه هو مش علشانا وبالشروط الي عيزاها.. )
قالت ورد صارخة فيهم(ولدي مش هيصتلح ولا عايزكم تاني ما يمكن بكره تجتلوه زي أبوه)
هتف الرجل في ذلة وانكسار يبدد خوفًا يذكرها بما أصبحوا عليه نتيجة شرور رفعت(حمزة ولدنا ياورد ومعدش فينا الي يجتل إنتِ عارفة مين الي وز حسان وخلاه يعملها ومسبهاش غير لما خربت وخلّص علينا )
رمقته بجفاء وقسوة، لتردف منى(رفعت مستني حسان يطلع ومش هيهمل ولدك فحاله بعدها، اجطعي عليه طريق الشر)
توقفت متسمرة مكانها نظراتها تهتز فوق جسد عزام مفكرة في كلماته، تربطها بكلمات رفعت.. ليتابع عزام وهو يضع كفه فوق صدره وأنفاسه تضيق داخل صدره
(ولدك رفض الصلح يا ورد ورفع علينا السلاح ورفعت أيده.. متستبعديش ولدك تجيله أي رصاصة يموت فيها علشان رفعت يجول أننا الي عملناها فكري زين)
قالها الرجل وبدأ في سلب الهواء سلبًا وشهقاته العنيفة تزداد مما جعل زوجته تترك مكانها وبكائها، وتتجه ناحيته بفزع تشاركها إياه منى.. (مالك يا عزام)
قال بتلعثم ومقلتيه تدوران في محجريهما (كنها جربت يا بت أبوي)
رفع كفه يشير لورد الواقفة تتمسك بحافة الآريكة تستمد منها القوة، دارت بها الأرض ولفت، رأت نفسها صبية تركض بين الحقول تمد ذراعها باكية خلف عزام.. ومرة محمولة فوق كتفيه، تشكلت الصور أمامها وطاردتها بعدما خرجت من قبو الذكريات الأسود.. فوجدت نفسها تخطو ناحيته ببطء أمسكت بكفه المرتجف فأغمض عينيه متشبثًا بها بما إمتلك من قوة
فتحهما بعدما سرت الراحة في أوردته وهمس لها (وافجي عايز اتدفن جنب الحبايب، وافجي علشان ريحتهم وحشتني وريحة أرضنا وبيوتنا..)
أخفضت ورد بصرها متهربة وجسدها يتهاوى بجانبه في تعب بعدما استنذفتها تلك المواجهة.
فعاد يتوسلها (عايز أموت فبيت الغاليين يا ورد أبوس إيدك وراسك، أو اجتليني دلوجت هنا وريحيني )
أراحت ورد جبهتها فوق حافة الكرسي تنازع مثله، لا تملك حق الموافقة أو الرفض تائهة في صحراء الشتات والحيرة وكلما تراءت لها الحقيقة ركضت إليها فخابت وخاب مسعاها فلا حقيقة في أرض الخداع.
*******'
في قنا بمنزل راضية
انزوت بحجرتها منتظرة الحكم عليها من ورد، تلك التي من المؤكد أخبرها ابنها بما حدث وكلماتها له.. ارتفع رنين هاتفها فخطت ناحيته بتثاقل، نظرت لشاشته أولًا قبل أن تُجيب
(أيوة يا آية.؟)
أجابتها الأخرى بنبرة رائقة وحماس يناقض حالة سكينة (إزيك يا بت فينك.؟)
قالت سكينة ونظراتها تترامى في الفضاء الواسع من النافذة المفتوحة أمامها غير مهتمة بصقيع الجو وبرودته التي تلفح جسدها (موجودة اهو)
سألتها الأخرى بقلق (هشام بيسأل عليكي إنتِ كويسة.؟ حمزة جال حاجه.؟)
زفرت سكينة بحزن، متذكرة إياه ومغادرته، عدم إخباره مودة بما حدث وإكتفائه وحده ووالدته بالمعرفة، كأن خيبتهم فيها أعظم وأقوي من أن يقتسموها مع الغير، فلتلهب صدورهم وحدهم بخذلانهم فيها كما ترغب هي.. أغمضت عينيها متاوهةً بخفوت ولسانها يعجز عن تفسير ما تعانيه (مجلش حاجه مشي من غير ما يجول لحد)
تعجبت آية مستنكرة قولها والحزن العالق بكلماتها (وإنتِ زعلانه إنه مجالش.؟)
تنهدت سكينة فما كان ينقصها آية الآن وهي بكل هذا الحزن (لا عادي بس تعبانة شوية)
تألق صوت آية وازدانت نبرتها بالفرح وهي تسألها ببهجة خاصة (سمعت بيجولوا ممكن يحصل جواز بدل يا سكينة، إنتِ تتجوزي هشام وأنا أتجوز حمزة)
تنبهت سكينة لكلماتها عاد لها وعيها كاملًا وهي تسألها بإرتباك (بجد.؟)
أخبرتها آية (سمعتهم بيجولوا كِده)
ازدردت سكينة ريقها وسألتها بترقب مميت وأفكارها تركض تجاهه هو (وإنتِ هتوافجي يا آيه.؟)
ضحكت آية ضحكة قصيرة وأجابتها بحماس (وموافجش ليه.؟ حمزة ميعبوش حاجه خالص بالعكس..)ثم أخفضت صوتها وهمست تخبرها سرًا (بصراحة لما حكتيلي عنه دخلت صفحته وشوفته ومتبعاه بجالي مدة.. زي الجمر يابت ياسكينة)
ضغطت سكينة شفتيها تكتم تأوهها الملتاع، جمر حارق سقط بأحشائها فتلوت بوجع لا تعرف كنهه ولا سببه... همست عل الأخرى تتراجع (كان متجوز و أرمل يا آية)
قالت آية في استعداد وأمنيتها تحلق في سماء أحلامها (عادي ميفرجش الواد جمر)
ضرب الصداع رأسها بقوة فأمسكت بجبهتها في ألم وصمت، قالت آية بحالمية (احكيلي عنه يابت يا سكينة أهو أعرف الي هتجوزه دِه)
زعقت بها سكينة مُستنفذة الصبر، حزنها يتكاثر وهمتها تتهاوى.. الألم يضربها دون رحمة ولا طاقة لها بأماني تلك العابثة (خلاص يا آية أنا تعبانة ومش عايزه أتكلم دلوجت بجد سلام) أغلقت الاتصال ورمت الهاتف، لاتعرف تحزن لأجل مَن.؟ أختها التي تنسج أحلامها يومًا بعد يوم وتحيك ثوب السعادة منتظرة أن ترتديه قريبًا، أم ما فعلته بورد والذي لا تعرف عواقبه ولا مردوده على علاقتهما، هل ستتفهم ماحدث وتعذرها أم ستنفيها من قلبها وحياتها كما فعلت بأقرب الأقربين لها..
تذكرت همس ورد لها (بت جلبي) فرمت جسدها فوق الفِراش تتلوى متحسرة، تنتظر أمر إزالتها من قلب ورد، وتنحّيها من قلوبهم، لتدخل قلوبًا جديدة.. فهل إتخذت القرار الصائب أم الخاطئ...؟
*************
عاد للمنزل مثقلًا بهمومه،بعدما قضى اليوم بالخارج، أذاب تنهيدات وجعه في أصوات الصخب، شارك أبواق السيارات أنينه المكتوم
جاب الطرقات وعبر الشوارع، ألقى بأفكاره فوق أرصفة الحزن يركلها بقدمه مره وتعلو رأسه مرة حتى استقر بسيارته منهكًا متعبًا
  لفظته الأماكن وطردته الشوار بعدما أغلقت مصابيحها، لا يعرف له وجهة وهو الذي لا يملك إلا ذراعي أمه وجهة وقلبها قِبلة وصدرها ملجأ.. أين يذهب الآن وحده بهمومه ومتاعبه.؟ بعدما أخبرته بمجيء عزام إليها والذي يعرفه جيدًا ولم يبح به لها، محتفظًا بذلك السر داخله
كما أخبرته بألا يعود ويبقى حتى ينظروا ماذا سيفعلون.. لمعرفتها أن خبرًا كهذا قد يجعله يأتي خوفًا عليها.
عاد للمنزل مرغمًا، صف سيارته ودخل، جلس فوق الآريكة يحاول الإتصال بوالدته فيصفعه هروبها منه وانزوائها وحيدة، أبدل ملابسه دخل المطبخ
بحث في محتويات البراد عله يجد شيئًا يأكله ويسد به جوعه الذي بدأ يشكوه ويصرخ بين أحشائه المحترقة.. وضع القليل من الزاد  وجلس ليتناوله، جابت نظراته المنطفئة المطبخ فتوهجت بالذكرى،ابتسم لعذوبة الليلة وما تركته داخله من أثر لا يمحى ولايزول، تذكر همسها له حينما تصالحا (وحشتني ياحمزاوي) ترك الطعام بعدما عافته نفسه وزهده، لكنه بقييّ مكانه جالسًا يعيد على مسامعه كلماتها ، يجلد ذاته بخديعتها ويرتشف سم مكرها ليرتدع هذا القلب الذي يدق بعنف لها مستوحشًا فراقها.
الصغيرة تسربت من بين أنامله، ستغادر دون رجعة وسيحتفظ هو بما حمله لها من حب داخله...سيعود دون أن تعرف  أن بقلبه نبضة خرجت عن مسارها تهفو لها وتترنم باسمها. رن هاتفه باسم والدته فأجاب بلهفة وروحه تتوق لأن يُغمر بدفئها وحنانها.
(أيوه يا أمي عامله إيه.؟)
قالت بصوت ضعيف واهن
(كويسه يا حبيبي بخير متجلجش عليا)
سألها بقلق تسرب إليه من صوتها (مال صوتك)
شحذت قوتها وأجابته (مفيش كويسة متجلجش ياحبيبي...؟ )
قال متحسرًا بوجع قبض قلبه، يحمل خزي العالم في أحرفه(أنا آسف إني مكنتش معاكي)
قالت مهونةً عليه بلطفها (متجلجش،بس عايز الحج يا حمزة كويس إنك مكنتش موجود يا حبيبي) سألها بعتاب(ليه يا أمي.؟)
أخذت نفسًا عميق ثم أجابته بهدوء خالطه غصة بكاء سيطرت عليها رأفةً به (أحسن ليا وليك يا حبيبي..)
شعرت بحاجه لأن تُلقي بوجعها فوق كتفيه، أن تفرغ شحنات حزنها وتستقوي به ففاضت عيناها وتركت لبكائها العنان، نهض يجول في المكان يكاد يجن من رغبته في ضمها وتهدأتها.. ليته يستطيع أن ينزع الوجع من قلبها ويُلقي به، أن يداوي ألمها
همس بتوسل حار (بالله عليكِ يا أمي اهدي.. جوليلي عايزه إيه.؟ وإيه يرضيكِ)
مسحت دموعها مستعيدة قوتها وصلابتها ثم قالت بحزم خالطه بعض اللين وهو يستمع لها بصمت واحترامًا لحزنها وبوحها العزيز(هما ولاد عمي صحيح يا حمزة بس أخواتي اتربيت وسطهم شوفت الحب منهم كلهم أكتر من منى أختهم، كل الي يشوفنا كان يفكرني أنا أختهم مش منى، خدني عمي بنت خمس سنين خوف عليا من أمي وعمايلها، كانوا أحن عليا من الزمن والأيام عمري ما حسيت إننا ولاد عم.. حتى حسان رغم جسوته وجبروته كان بيعزني..،لو دم أبوك فيد حد فهو عمك يا حمزة الشيطان الي عكر حياتنا وملا دماغ حسان وخلاه يعمل عملته
وافج ياحمزة اجصر شره عنك وأذاه وسيبه هيموت بكيده يا ولدي وخالك عزام.. قالتها بنبرة مبحوحة متأسفة ثم أكملت
(فالعناية وخلاص بيموت وافج علشان يتدفن وسط حبايبه، لو مفيش صلح رفعت هيمنعهم يدخلوا يدفنوه ) 
استسلم لها قائلًا (حاضر يا أمي الي يرضيكِ هعمله، مش تفريط مني فدم أبوك ياحمزة أبدًا والله يا حبيبي بس بحافظ عليك، إنت وصية الميت للحي ياحمزة)
ثم وصته بحزن عميق وقلبها يرتجف من زعرها عليه ووحدته (خلي بالك من نفسك، استخير ربنا واستفتي قلبك ياحمزة وإن أفتوك، وإرجعلي بخير وسلامة)
كلماتها كانت بلسمًا وشفاءًا لما في صدره، وضعت حدًا لنزاعًا لم ينفض.
أنهى الاتصال ولملم الطعام ثم ذهب فتوضأ وصلى و جلس يذكر الله ويدعو حتى نام مكانه.
*************
في القاهرة، جلست منى بجانب ورد تربت علي كتفها في مؤازرة تؤيد قرارها(خير ما فعلتي يا خيتي)
هزت ورد رأسها عاجزة عن الكلام، محتفظة لنفسها بالكلمات والحزن، ليهتف إبراهيم الابن الأكبر لمنى في ثورة(ليه الصُلح مع الناس دي .؟)
عضت منى شفتيها وهي تحذره بنظراتها وتردعه بإشاراتها لكنه واصل في غضب (خالتي وحمزة مش عايزين هو إجباري)
لامته منى بحنق من اندفاعه وعنفوان مراهقته (دول خوالك ياحزين..؟)
لوّح ابراهيم في غضب مستنكرًا قولها (خوال مين يا أما إنتِ تعرفي غير حمزة وخالتي ورد.؟ حد جالك وسندك وشال همك غيرهم بعد ما مات أبويا.؟)
رمقته ورد بنظرة ممتنة حانية في صمت ومراقبة، ليتابع إبراهيم سخطه (أنا معرفش غير حمزة هو الي رباني)
تساقطت دموع ورد ونظراتها تغمر الصغير المحب بدفء ومودة.
نهضت منى متجهة ناحيته، إقتربت ولكزته في كتفه موبخة (اسكت يا واكل أمك، الصلح مصلحته لحمزة أكتر و حماية ليه)
سخر الصغير في غلظة وهو يرميها بنظرة متحدية تحمل عنفوان سنه (حماية لمين.؟ بس يلمسوه هما ويشوفوا)
خرج صوت ورد من بين ركام الحزن تؤكد لتهدئ الصغير (صح يا هيما كلام أمك دِه لمصلحة الغالي)
تأثر الصغير بما تعانيه ورد وإندفع دامع العين ناحيتها، ضمها قائلًا (متزعليش يا خالتلي ولو عيزاني أسافر لحمزة أكون معاه موافق)
ربتت ورد فوق ذراعيها اللتان تضمانها هامسةً (لا يا حبيبي حمزة هيخلص ويجي بخير)
شاركتهما منى الدموع والحزن قائلة (خلاص يا هيما سيب خالتك ترتاح شوية دلوجت)
إبتعد عنها هامسًا في محبة (محتاجه حاجه يا خالتي.؟)
قالت ورد وهي تنهض متجهةً للحجرة المجاورة (لا يا حبيبي ربنا يحميك)
غادر إبراهيم صافعًا الباب خلفه بقوة ،حزينًا متأثرًا بما يحدث، لتنسحب ورد بعدها للحجرة تاركةً منى تتأسف على حالها.
***'' ''
في الصباح
استيقظ على رنين هاتفه، انتفض في فزع حين لمح اسم المتصل والوقت الباكر (أيوة يا إبراهيم ورد بخير.؟)
أجابه إبراهيم بصوته الخشن (أيوة متجلجش ياكبير) تنهد حمزة بإرتياح وهو يمسح وجهه نافضًا آثار نومه ثم سأله (عايز إيه؟ فساعة زي دي.؟)
أخبره إبراهيم بحدة (لو عايزيني أجي واجمعلك الشلة حبايبي والله نخليها ضلمه)
ضحك حمزة ساخرًا منه (لا يا راجل فاكرها خناقة ابتدائي)
قال إبراهيم بنفس الجدية (اسمع بس يا كبير)
قال حمزة في حزم وشدة (أنا أصلا مش منبه عليك تقطع علاقتك بيهم الفشلة دول)
استنكر إبراهيم في غيظ (فشلة.؟ طب دا امبارح موجبين معاك وعاملنلك ريفيو للمطعم بتاعك)
نهض حمزة من رقدته قائلًا (لا ياحبيبي أنا مش ناجص ريفيوهات الفشلة أصحابك)
صفق إبراهيم فخورًا به (آمال ياغالي ما إنت صفحتك عاملة نص مليون الله يسهلك ياباشا الصعيد)
ابتسم حمزة قائلًا وهو يتجه للمطبخ (هتجر عليّ كمان الله يهديك)
سمع حمزة صوت طرق الباب فأنهى المكالمة قائلا (اقفل وهكلمك بعدين الباب بيخبط) هلل صوت إبراهيم (الله المزة ولا إيه.؟) ضحك حمزة قائلًا في سخرية لاذعة (المزة طارت ياحبيبي يلا سلام)
أنهى حمزة الاتصال تاركًا القهوة التي كان يصنعها واتجه ليستقبل زائريه..
فتح باب المنزل ليجد جده وعمته ينتظرون إذنه بالدخول، رحب بهما واستقبلهما بحفاوة
(اتفضل يا جدي اتفضلي يا عمتي)
دخلا في صمت مهيب تاركين لنظراتهما حرية التعبير والاستفاضة بالمشاعر، مرر الجد نظراته فوق جدران المنزل كأنه يرمي عليهم السلام ويعانقهم في شوق، ابتسم بدموع متذكرًا فقيده فتوهجت نظراته بالعزم .
لحق بهما حمزة على الفور ليشير إليه جده (اجفل الباب يا حمزة وتعالى)
عاد حمزة وأغلق الباب ثم دخل وجاورهما في جلستهما منتظرًا أن يطلقا صراح الكلمات التي تضج بها نظراتهما.
كان أول من تحدث هو الجد الذي قال بلين (ازيك يا ولدي عامل إيه.؟)
ابتسم حمزة قائلًا متذكرًا انشراح صدره الذي لمسه منذ استيقاظه وراحة نفسه (بخير يا جدي فأحسن حال)
ربتت راضية بحنانها الخاص فوق كتفه ونظراتها تلمع بالفخر كعادتها (يارب دايمًا حبيب عمتك)
ضم حمزة كفها ورفعه ثم أعاده إليها حاملًا مودته لها بعدما همست شفتيه فوق تجعيداته بقبلة دافئة ممتنة للحب الذي تغمره به على الدوام.
قال الجد وحنانه يتدفق عبر نظراته الذابلة والتي بلغها الوهن والحزن وعاث فيها الفساد بعد ليلة طويلة من السهاد والتفكير (شوف يا ولدي إنت رفضت الصلح حجك دِه أبوك، بس أنا كمان ولدي وليا حج فيك وفيه)
صمت حمزة في وقار منتظرًا أن ينتهي جده الذي تابع بحزن فرد سطوته فوق ملامحه (أمك كلمتني وأدي عمتك احنا رايدين الصلح لجل خاطرك إنت ومصلحتك جولك الأخير إيه ياولدي.؟ )
قال حمزة بثبات مستريحًا بعدما استقر الأمر في قلبه وبلغت نفسه مبلغ الهدوء والاطمئنان (الي تشوفوه يا جدي  )
أدمعت عينا راضية وهي تطالعه بنظراتها الحانية قائلة (ربنا يرضى عنك يا حبيبي)
نهض حمزة قائلًا (أعملكم إيه تشربوه ولا أجهزلكم فطور أنا مفطرتش)
قال جده (لا يا ولدي احنا ماشيين)
رفض حمزة (خليك معايا يا جدي هعمل شاي ونأكلوا مع بعض أنا مأكلتش من امبارح)
كفكفت راضية دموعها وقالت بسعادة تُذيب بها حزنه (خلاص أجوم أنا أعمل الفطور والشاي)
نهضت فأمسك حمزة كتفها وأجلسها قائلًا (لا اجعدي يا عمتي سبيني أنا أعمله وأجعد وسطكم وناكل مع بعض)
عادت دموعها تسترسل متطلعة إليه بحنين(ماشي يا حبيبي)
دخل المطبخ بحماس، وتبعته هي للداخل، لامها بنظراته لكنها قالت بسعادة (هساعدك طيب)
اقترب وقبّل رأسها قائلًا (ماشي يا راضية إنتِ تؤمري) قالت راضية وهي تساعده في صنع الشاي (ميأمرش عليك ظالم يا حبيبي)
بعد مدة جلسوا حول صينية الطعام أرضًا، يتبادلون الحديث والضحكات الرائقة..
استرسلت دموع راضية فوق خدها فعاتبها حمزة في إشفاق(إنتِ زعلانه تبكي فرحانه تبكي يا راضية)
ضحك جده قائلًا وهو يرتشف الشاي (تموت في الحِزن الواكله أمها)
عاتبه حمزة بنظراته وهو يخبره مشاكسًا (كِده عايزنا نتجتل كلنا يا جدي)
أمتعض الجد متذكرًا زوجته، تجعدت ملامحه بسخط وهو يخبره (وعلى إيه مش ناجصة نكد)
وقفت سكينة أمام الباب تتطلع لجلستهم الرائقة، تستمع لمشاكسته جده وقد تبدل حاله ولاح الرضى فوق ملامحه، مبتسمًا لايحمل للدنيا همًا وكأنه ألقى بأعبائه وعاد خفيفًا يرفل في الإطمئنان والراحة، قليلًا ما رأته هكذا..؟ ليتها مثله لكنها تحمل أوزارها وأوزار الجميع فوق عاتقها.. مسحت دمعة من جفنيها المنزعجين من ثقلها ثم طرقت الباب
دارت الرؤس إليها في استطلاع واستفسار، أخفضت نظراتها وقالت بتوتر (عيزاكي يا أما)
أشار لها جدها (تعالي يا ملكومة كولي معانا واجفه ليه عالباب)
أعاد حمزة نظراته للطعام متجاهلًا لها، قلبه يضرب بعنف وعقله يستحضر كل أواجعه وخذلانه منها أمامه في ساحة النزاع فإما أن يقتله وينتصر أو سيظل يطارده ، قالت بإضطراب وداخلها يتمنى لو رفع نظراته إليها وتوهجت شمسه فوق ملامحها لتتدفأ من برودة الوحدة، لطالما كانتا عيناه جسرها الذي تعبر منه إلى واحة نفسه ، بوابتها إلى عالمه الذي يغلق أبوابه في وجهها الآن بعدما هُدم الجسر (لا مش عايزه.. يلا يا أما عيزاكي)
عادت راضية للصينية تصب الشاي قائلة (ادخلي يا بت في إيه.؟)
أخفض حمزة نظراته متنهدًا لا يريد أن تلتقي بنظراته فترى الرفض والتحذير فيهما فيتسبب الأمر بحرجٍ له أو لها، أول ما أحبه منها كانت نظراتها إليه،وآخر ما سيُجلد به منها النظرات.. فهمت هي الأمر وأصرت بعناد (تعالي يا أما وابجي ارجعي تاني)
نهضت راضية ممسكةً بشالها مستأذنة والدها (بعد إذنك يا بوي)
(إذنك معاكي يا بتي، شوفيها مالها الشعنونة دي) ابتسم حمزة لكلمة جده، جاء لأجلها قاطعًا أميال لكنه القدر منعه الحياة من جديد، خشيت ورد أن يفوت الأوان وها قد فات. خرجت راضية وتركتهما ليهتف الجد (مش ناوي لما نخلصوا من الموضوع دِه تكمل نص دينك)
قال حمزة متهربًا منه بضحكة (كملته يا جدي ولا في نصاص تاني.؟ )
عاتبه جده (ورد متستحجش منك تتعبها كِده ولا ولدي يستاهل منك تعمل فروحك كِده)
تنهد حمزة قائلًا (عملت إيه بس يا جدي دِه نصيب)
ترك الجد كوب الشاي بعدما فرغ ونظر إليه قائلًا وهو يمط شفتيه (بص هو الجواز عِفش ونكد ويا سلام لو هتجيب خلفة زي عمك رفعت تسد النفس، بيبجا هاين عليك ترمي نفسك فالترعة)
قهقة حمزة مندهشًا من كلمات جده وسخريته، ليردف عامر ممصمًصا بشفتيه (خدلك واحدة حلوة كِده وبت ناس) قاطعه حمزة هامسًا (هي جدتي مش بت ناس برضو.؟) همس الجد (لاه بت كلاب) قالها وقهقه منتشيًا يشاركه حمزة قهقهاته وهو يسأله (بتوطي صوتك ليه.؟)
نظر الجد حوله وأوضح (الحيطان ليها ودان يا حزين، ناجص أنا نكد وحِزن جاتها الهم والغم)
سعِد حمزة كثيرًا ببقاء جده معه في المنزل، والحديث معه وترتيب الأمور، هان حزنه وصغر أمامه، حمد الله على انشراح الصدر ومعيته.. وتوضيحه للطريق الذي سيسير عليه.
****
اجتمعوا في منزل حمزة للاتفاق ومناقشة الأمر،
رفض حمزة بشكلٍ قاطع المصاهرة المتبادلة والنسب، لا يطيق ذلك ولا يرغب وهم خوفًا من رفضه وتراجعه ارسلوا الموافقة على أن يتم البت في أمر زواج سكينة بهشام...   لم يتحامل عليه جده وتركه لرغبته على أن يتناقشوا في أمر سكينة والوصول لحل يرضي الجميع، كان يعلم موافقتها ورغبتها لكنه تخابث لأجل حمايتها من براثن والدتها وأخيها، تصنع الآسف والحزن لأجلها وكيف سيضعها في هذا المأزق الخادع والشراك الذي نصبوه سويًا.. كان ممثلًا بارعًا أقنعهم
هتف الجد يسأل ابنته بأسف(موافجة عالنسب يا بتي.؟)
قالت مستسلمة وهي تتطلع لحمزة بابتسامة كأنها نالت رضاها يوم سَلِمَ هو من مكائد وشر أخيها(مفيش جول بعد جولكم يابوي)
ازدرد حمزة ريقه وهتف بقوة يتصنع الآسف  (ليكي الحرية ياعمتي إنتِ وسكينة، تفكروا وتردوا عليّ)
قالت بعتاب (خلاص يا حمزة)
أصرّ بخبث رغم معرفته بموافقة الأخرى (شاوريها وخدي رأيها وشوفيها عايزه إيه وإيه يرضيها يا عمتي)
امتثلت راضية لإرادته قائلة (حاضر يا حبيبي)
اقتحم رفعت جلستهم صارخًا بغضب ومن خلفه ولده(وافجتوا عالصلح وهتمرمغوا راسنا فالطين)
انتفضت راضية بهلع بينما ظل حمزة ثابتًا بارد الملامح، أخرسه والده الذي نهض محذرًا (اخرس يا واد)
اندفع رفعت ناحية حمزة قيده من ملابسه في غضب وهو يهتف من بين أسنانه (طاطيت يا واد أخوي وهتلبسنا طرح)
أبعد حمزة كفي عمه بعنفه قائلًا (هما الي طاطوا وجوا لغاية عندي يبوسوا جزمتي علشان أوافج)
سخر منه رفعت في فظاظة (ووافجت يا حيلة أمك)
أمسكه حمزة بعنف من فكه وهو يهمس بغضب شديد أمام نظرات الأخر المندهشة من فعلته (بشروطي أنا وكيفي أنا)
لطمت راضية خديها في جزع وخوف وهي تراهما يشتبكان، تقدم سعد مدافعًا عن والده، يصرخ بوجه حمزة (اتجننت يا حمزة)
حدج حمزة سعد بنظرة محتقرة مستهينًا به قبل أن يعود بنظراته لعمه الذي اتقدت عيناه بالشر ودفع حمزة في صدره ليردعه،  لم يتحرك جسد حمزة رغم قوة الدفعة بل ظل ثابتًا يطالع عمه بتحدي.
اقترب الجد وفصل بينهما قائلًا (سيب يا حمزة عيب دِه عمك)
هتف حمزة في تحفز شديد ونظراته تحاوط عمه الذي يمسد موضع كف حمزة على فكه (عمي يا يجعد بأدبه يا يمشي)
عدّل رفعت من جلبابه وأعاد عباءته لمستقرها فوق كتفه قائلًا (كان لازم أعرف إن واد أمه مش هياخد حج أبوه ولازم يموت مع أخواله)
هنا صرخ الجد وهو يندفع تجاه رفعت مخرجًا سلاحة يوجه فوهته برأس رفعت محذرًا (اعملها وساعتها هجتلك أنا بيدي)
شهقت راضية متفاجئة من احتداد النزاع ووصوله لهذا الحد، تداركت الموقف واقتربت تحاول تهدأتهم (وحدوا الله مش كِده)
التفت رفعت ناحية حمزة الذي تحداه بنظراته، وطالعه باستعلاءٍ وتشفي.
سحب سعد والده قائلًا وهو يرمق حمزة (سيبه يا بوي بكره يجتلوه زي أبوه ونخلص)
رمقهم رفعت بنظرة مظلمة قبل أن يخرج من المنزل متوعدًا لهم.
التقطت راضية أنفاسها وجلست وأضعة كفيها فوق رأسها مستنزفة القوى..
بينما جلس الأب متكدرًا حانقًا من ابنه ناقمًا عليه وعلي شره الذي يمتد ولا ينتهي.
ظل حمزة واقفًا يتبع أثر الغارب مُفكرًا حتى اهتدى للحل.
********
طرقت سكينة الباب قبل أن تردف للحجرة متوترة، تنتظر مصيرها وحكمهم النهائي، ارتجفت حين سقطت نظراتها فوق ملامح والدتها المتغضنة بألم، تشتت أفكارها وتبعثرت لا تقبض على فكرة واحدة تعينها، حاولت ترتيب أفكارها وشحذ قوتها وصفّ اسلحتها استعدادًا لتلك المواجهة، لتتفاجئ بوالدتها تدعوها بحنو بالغ (تعالي يا سكينة) تقدمت مندهشة كل قوتها تبخرت وحل محلها الذهول الغير منطوق، جلست بقرب والدتها فوق الفراش متلهفة متخبطة في مشاعر عديدة مبهمة
قالت والدتها (حمزة شيعني ليكِ يا بتي أسألك وأخد رأيك)
بهتت ملامحها وأصفر وجهها، سألتها ببلاهة لا تصدق قولها (تاخدوا رأيي.؟)
أردفت والدتها بقلة حيلة ونظراتها ترجوها الموافقة (عرفتي بالصلح والشروط أكيد والي منها جوازك من هشام واد عمك لسلامة النية وعدم الغدر، بس حمزة رفض وجال الرأي رأيك ووصاني اسألك إيه يرضيكِ ويريحك وهو هيعمله)
اتسعت عيناها فوق ملامح والدتها التي استدعت اللحظة كل بؤس العالم ويأسه، نظراتها تطارد ملامح سكينة بإشفاق وتوسل جعل الأخرى تشرد فيه هو الذي بدّل الأمر وبدلًا من أن تقف خلف قفص الإتهام ذليلة تقف الآن موقف القوة يتوسلونها الموافقة.
تجمعت الدموع بعينيها غير مصدقة، كتمانه الشديد وحمايته لها بعد كل ما فعلته، خوفًا أن تمسها الحقيقة لو قالها بسوء، بل جعل الجميع ينظرون لرأيها وينتظرونه كهبة السماء.
تساقطت دموعها تباعًا مما أثار خوف راضية فتركت الدثار وتحركت تضمها بحنان قائلة (متخافيش يا سكينة، لو مش عايزه خلاص يا بتي.. الي يريحك)
زادت شهقاتها وانفجر البكاء حادًا قويًا يمزق كليهما سويًا.
أدلت سكينة بقرارها النهائي وهي تبتعد عن حضن والدتها قائلة بينما تمسح دموعها (ماليش جول بعد جولكم يا أما) توسلتها راضية وهي تضم وجه سكينة بكفيها المرتعشين (سامحيني يا بتي)
كلما رأت تلك النظرة من والدتها تقطعت أحشائها وتمزقت، لولا تحذيره لها لشكرته فها هي بعيون الجميع بطلة مضحية وفتاة مطيعة لا متهمة متمردة خرجت عن السرب وافتعلت المصائب.
*******
في القاهرة نهضت ورد من غفوتها مفزوعة منتفضة الجسد بهلع أحكم قبضتيه فوق قلبها، غمغمت (تتقطع يدك يا رفعت، ربنا يجبهالك بعيد عن ولدي)
زحفت حتى وصلت للكومود الموضوع جانبًا  غير قادرة على النهوض بعد ما رأته، جسدها كله يرتعشق وأفكارها كخرقة بالية تمزقها الظنون، وتحرقها الهواجس. أمسكت بالهاتف وبحثت عن اسمه حتى وجدته، داست زر الاتصال وترقبت رده
(أيوه يا حبيبتي)
تنهد بإرتياح حينا غمرت نبرته مسامعها، قالت محاولةً السيطرة على نفسها وإستعادة بعضًا من هدوئها (عامل إيه يا جلب أمك بخير.؟ )
ابتسم بحنو قائلًا (زي الفل متجلجيش)
سألته ورد بحسرة ملأت جوفها (سكينة وافجت يا حمزة.؟)
سخر قائلًا بإستهانه وما عاد الأمر يعنيه (موافجة من زمان يا ورد)
همست ورد ودموعها تنساب بألم (كلمها إنت يا حمزة وشوفها إيه يرضيها ومتشيلش فجلبك منها.؟)
أوضح قائلًا (حصل يا أمي أنا برضو مش هاجي عليها علشان مصلحتي ولو كانت جالت لا مكنتش هعمل حاجه بس دي رغبتها)
هونت عليه والدته ونبرتها تختنق بغصة بكاء لأجله (متزعلش يا حمزة خير يا حبيبي)
قال بمرح مصطنع ونبرة إحترقت ألف مرة بانهزامه وخيبته وحزنه قبل أن تخرج لمسامعها راقصة عادية (مفيش زعل ولا حاجه دِه حجها الواد شكله كويس ورايدها ربنا يسعدهم..)
قالت منتحبة بيأس وخذلان حرق جوفها (ويسعدك يا حبيبي دايمًا)
أردفت ورد بعدما عادت لها قوتها (اسمع الي هجولك عليه ونفذه يا حمزة زين يا ولدي)
انتبه لها حمزة في طاعة (جولي يا أمي، أأمريني)
********
في منزلها كانت جالسة مكانها تقلب صفحات كتابها بشرود، تفكر فيما آلت إليه الأمور بين عشيةً وضحاها، رنين هاتفها أخرجها مما هي فيه، قرأت اسم المتصل فتأففت بإنزعاج قبل أن تجيبها (أيوة يا آية.؟)
صبت الأخرى غيظها وغضبها فوق رأس سكينة (واد عمتك رفضني، ليه فاكر نفسه مين.؟)
قضمت سكينة شفتيها السفلى بغيظ مكتوم، من صراخ آية وغضبها غير المبرر ثم قالت بنبرة حافظت على هدوئها (عادي، شاغلة بالك ليه.؟ دا أحسن لك بدل ما تتجوزي واحد متعرفهوش)
ثارت الأخرى (هو مين علشان يرفضني أنا، مش كفاية كنت هاخده على عيبة)
فركت سكينة بين حاجبيها تستدعي الصبر والثبات، لكنها هتفت بها من بين أسنانها (اهو رحمك من عيوبه)
زمجرت آية صارخة لا تستسيغ ماحدث (هتجنن لو طولته المغرور دِه كنت جتلته أنا)
ابتسمت سكينة منتشية بحالة الأخرى، مستحسنة قرار حمزة الذي وافق هواها ولا تعرف السبب،أردفت آية تخرجها من شرودها (محدش فاز غيرك إنتِ وهشام)
ابتسمت سكينة برضا، ما كانت تصدق أن تصل الأمور لهذا الحد وأن يوافق حمزة ووتذلل العقبات في طريقهما، حتى أن احدًا لم يلومها بل الجميع جاءوا يطلبوا ردها ويرجون موافقتها، انتظروا قرارها كغيث.
فتحول غيظها وحنقها منه لامتنان عظيم، الفضل كان له وحده حين أخفى عنهم أمرها ولم يفصح.. تحمّل وحده كلماتها وأفعالها وصبر، ليقلب جميع الموازين لصالحها هي وبدلًا أن تصبح متهمة في عيون الجميع خائنة أصبحت بطلة الكل ينظر لها بإمتنان وتقدير.
استعادت جزءً من روحها قائلة (قري يا فجرية علشان نجصاكي)
قالت آية متراجعة (الله يسلهكم.. ويعدي بكرة على خير)
دعت سكينة بتضرع (آمين) قبل أن تنهي الاتصال وتعاود لمذاكرتها.
**********
في اليوم التالي
اجتمعت القرية بأكملها لرؤية الحدث والتقاط الصور والفيديوهات، هتف حمزة بترحاب شديد وهو يستقبل أحدهم (زين باشا أهلًا وسهلا نورتنا)
دارت نظرات الأخر في المكان قبل أن يربت على كتف حمزة مستحسنًا الأمر (خير ما فعلت يا حمزة كدِه أفضل)
أشار له حمزة بتقدير ممتنًا لمجيئه ومؤازرته له (اتفضل يا حضرة الضابط نورتنا)
من خلف زين كانت قوة كبيرة تتوزع في أركان المكان وتحيطه.
حضر رفعت وولده مرغمين، مجبورين على تلك الجلسة خوفًا أن ينتسب إليهما أي فعل مشين أو يبقيا تحت مجهر الإتهام إن حدث مكروه.. أخفى عليهما حمزة الشروط وحافظ أن لا تصل إليهما حتى ينتهي الأمر
اجتمعوا أول الأمر لمناقشة الشروط والذي قالها حمزة بقوة وهو يقف أمامهم بهيبة مرتديًا ملابس أبيه، يطالع الجميع بنظرات قوية حادة فارضًا شروطة ورغباته على الجميع.
طلب ألا يعود حسان للقرية مجددًا مهما حدث، وأن يتم عقد قران سكينة على ابن عمها شرطًا أن تكون الدية المقدمة  المقدرة بنصف ثروتهم التي تحت أيادي عمه وولده مهرًا لابنة عمته سكينة.
طغت الهمهمات على الصمت، واتسعت الأعين بذهول مندهشين من مفاجأة حمزة للجميع بهذا الطلب الذي لم يتناقشوا فيه من الأساس ولم يخبرهم به حمزة.
تبادل الجميع النظرات والغيظ، غمغم سعد بعدما تفاجئ بضياع سكينة (سيبني أجتله يا بوي)
ثبت رفعت كفه فوق ذراع سعد محذرًا (اسكت خلينا نشوف أخره متوديناش فحديت)
نظرات سعد النارية اتجهت لحمزة الواقف بثبات الذي التقطها وبادله إياها بأخرى ساخرة، أما الجد فكان فخورًا بتلك المفاجئة مستحسنًا الأمر الذي سيجعل حفيدته تاجًا فوق رؤسهم وسيحافظون عليها جيدًا.
نهض هشام متحديًا حمزة بنظراته، وأخبره بإبتسامة لملمها سريعًا بعدما رأها حمزة (موافجين يا دكتور بتكم تتاجل بالدهب)
لاح الرفض في وجوه الجميع لكنهم وافقوا مرغمين..
تم الاتفاق على كل شيء وقدم هشام كفنه لحمزة الذي قبله، وتم دفع الدية المقدمة والتي تعادل نصف ثروتهم من أراضٍ وأطيان .
جاء المأذون ليتم الأمر، هتف هشام مطالبًا (عايز حمزة يبجا شاهد)
حدقت الأعين باستياء متمنين أن تنتهي تلك الليلة على خير.. شاعرين أن هناك حديثًا سري وتحدي تتناقله النظرات بين الخصمين.
#انتهى

،

ملاذ قلبي سكن حيث تعيش القصص. اكتشف الآن