الفصل الرابع

1.9K 52 12
                                    

الفصل الرابع
مال فم حمزة بإبتسامة قاسية تحمل من السخرية ما أربك نظرات رفعت.. ترك هاتفه جانبًا ومد يده يمسك برزمة الأموال قائلًا وهو يحركهم بإستهانة (كام دول يا أبو سعد..؟)
أعتدل رفعت متحفزًا، ملامحه جادة قاسية وهو يخبره (عدهم يا واد أخوي)
رماهم حمزة فوق الطاولة من جديد وهو يقول هازئًا بينما يشير لحذائه الفخم (دول ميجبوش جزمة من الي بجيبهم يا أبو سعد.. خليهم جيب بيهم سجاير لسعد)
تميز رفعت غيظًا من رده وسخريته التي أعدها وقاحة لا يمكن السكوت عليها.. حك رفعت ذقنه وهو يمشطه بنظرة مشتعلة..
وقال من بين أسنانه بنفاذ صبر (كتر خيرك يا واد أخوي خلاص أديهم لزمايلك وأصحابك الي جبتهم، وأبجا أحاسبك أنا حساب تاني يجبلك جزمك )
أجابه حمزه وهو ينشغل بهاتفه والنقر فوقه مستهينًا بالمتبجح أمامه (دول جايين محبة، ورد جمايل.. لو عليا فأنا جاي أغير جو وأرضي جدي مش محتاج)
هز رفعت رأسه قائلًا بنظرات قاتمة (كبرت يا حمزة)
قال بفخر (من يومي كبير يا أبو سعد، أبويا رباني أبجا كبير)
واجهه رفعت بحنق وغيظ من مجابهته له بقوة وغرور (جيت ليه من تاني يا واد ورد..؟ )
ليأتي صوت الجد عامر صاخبًا يتزامن مع طرقات عصاه المعترضة (واد عبدالحكيم يا رفعت)
تسلطت نظرات حمزة على عمه الذي انكمش مرتبكًا لا يتوقع مجيء والده ولا يريد ثورته تلك الفترة.. ليتابع الجد وهو يخطو ناحيتهما بينما حمزة يفرد جسده ببرود وهو يتابع بصمت مستمتعًا بإرتباك من حوله وأسئلتهم وخوفهم منذ عاد (حمزة يجي وجت ما يحب بكيفه، البيت بيته والمال ماله)
تدخل حمزة قائلًا بحزن مفتعل (والله جولت لعمي ياجدي مش عايز حساب شغلي، ماله هو مالي وأنا تحت أمره)
هتف الجد بعدما فهم ما قاله حمزة ووعاه جيدًا (حمزة بيشتغل فملكه يا رفعت مش شغال عندك)
توتر رفعت ونظراته تزجر حمزة المستمتع ببرود، برر (كان جصدي يخليها معاه يمكن يحتاج حاجه للمزرعة)
قال الجد بحسم يرمي قنبلته (حمزة معموله حساب مفتوح يسحب منه وجت ما يحب)
حملق رفعت مندهشًا متفاجئًا مما قيل، ليعاتب والده (مجولتش يعني يا حاج.؟)
جلس عامر بجانب حمزة قائلًا بقوة (وأجولك ليه..؟ هاخد إذنك..؟ هو مالي ولا مالك..؟)
برر رفعت ونظراته تركض لحمزة تكاد تمزقه (مجصدش المال مالك والأمر أمرك)
قاطعه الجد بإشارة حادة من كفه (يلا غور خلصنا)
انسحب رفعت مستاءً من معاملة والده وإنقلابه المفاجيء واتخاذه جانب حمزة ونصرته عليه، يكاد يطحن ضروسه من شدة الضغط.
جلس عامر صامتًا متهالكًا بالتفكير، لايجد كلمات يسد بها رمق خذلانه من ولده، رعونة أفعاله التي تجلب السخط والإستياء كأن ما حدث لا يكفيه ليصمت. ارتفعت نظراته المهتزة لملامح حمزة الذي بدا يلومه بنظراته منتظرًا رأيه فيما قال عمه، يؤكد له أن عودته باتت مستحيلة.. لعن عامر ولده داخله فكيف سيعرض على حمزة ما انتواه وقرره ويعمل لأجله بأي قلب سيوافق حمزة على زيجته من ابنة عمة..؟ ليته صمت قليلًا ولم يسبق الجميع بإفشاء أمر نيته السوداء وتفكيره الخبيث من عودة ابن أخيه..
تنهد عامر بقلة حيلة قبل أن ترتفع نظراته لحمزة يبحث عن كلماتٍ ومهرب.
*******
عاد حمزة شائطًا، دخل المنزل وأغلق بعنف غير منتبه لنداء سكينة ولا ركضها خلفه لتجاري خطواته، تلك التي دفعها فضولها لتبقى وتسترق السمع منتبهة، لتعرف ماذا أصاب هذا الصموت وأي وجهٍ أسود عاد به من منزل جده؟
هتف حمزة بصوت عالي مختنق بالمشاعر، وخواطر مطحونة بعدما هاتف والدته وقصّ عليها حديث عمه(جولتلك مرجعش صممتي)
حاولت ورد تهدأته لكنها لم تفلح فغضبه من كلمات عمه فاق حد صبره وتحمله، ما بينهما بحرًا من وجع لايتبخر ولن تبتلعه الأرض
(بيجولي أنا خد فلوس..؟ أنا ناجص فلوسه همشي من هنا ومتجوليليش إرجع تاني)
قالت ورد تحاول امتصاص غضبه وتهدأته، ( اصبر ليك حاجه عندهم هتاخدها وخلاص يا حمزة)
صرخ بغضب لم يستطع كبحه ولا التحكم في شدته (تاني كلام مش مفهوم والغاز)
تهدج صوتها بالبكاء وهي تقول بتلعثم، مشتتة ضائعة لاتملك مواساته ولا احتضانه ولملمت حزنه(يا حبيبي متخليش كلامه يأثر فيك ويزعلك )
صمتت مستغفرة تشحذ أنفاسها قبل أن تبدأ البكاء والغمغة غير المفهومة له
أخذ نفسًا عميقًا يستجمع به شتاته، يجلي صدره ويدفع عن أفكار مخلفات الغضب والحقد حتى لا ُتعمى بصيرته ثم هتف باعتذار(أنا آسف حجك عليا متزعليش)
واصلت البكاء وكل ما يوجعها كان حزنه وغضبه،إنفلاته وهي لا تملك حق ضمه إلى صدرها ليكرر بحنو وحزن عميق(أنا أسف يا أمي والله، متزعليش ومتعيطيش إنتِ عارفة مش هتحمل دا)
لم تعر كلماته انتباهًا، سكبت كل مشاعرها في بكاء حاد.. وصله فمزقه قطعًا متناثرة متنافرة
لتهدأ بعد قليل مدركة ما سينتابه بفعلتها، وما ستجنيه هي من عضبه عليها (خلاص يا حمزة خلاص إجفل دلوجت)
لم تُعطه الفرصة ليتحدث أكثر، ليبرر أنهت الإتصال وتركته متخبطًا يدور في الحجرة مزمجرًا يدفع بقدمه كل ما يقابله، يود لو ذهب لعمه وحطم فكه وعاد لها يضمها معتذرًا عن سخافته،كيف فعلها.؟
كيف هانت عليه وغضب بهذا الشكل الذي جعلها تبكي متوسلة هدوئه.؟ أي شيطان تلبسه ليفعل فعلته التي فعل ويُلحِق بقلبها الحزن، ألا يكفيه ما عمرته السنون داخلها من أحزان وتلك المباني من ألم المشيدة على أنقاض الماضي الأسود.. هي ملجأه وركنه الشديد الأمن، قطعة من روحه كيف قسى.؟
جاءه صوتها اللائم المملؤ بالبؤس والغضب، وقد خرجت عن صمتها مُعلنةً تضامنها مع ورد وردعه عما يفعل(مزعل ورد ليه.؟ وبتزعج فيها كدا ليه يا دكتور البهايم إنت.؟)
انتبه لها، ذهب للنافذة التي تقف خلفها وتأملها لدقائق تائهًا قبل أن يُجيبها بغلظة (إنتِ مالك.؟ بتتسنطي ليه.؟)
هزت رأسها وهي تتأفف بضيق ثم تعود لتثبت نظراتها عليه قائلة (عمتك بتجولك تعالى اتعشى مع عمار)
صرّح بحنق شديد (مش طايج أخوكِ الحيوان دِه دلوجت ولا عايز أكل معاه)
حركت فمها بحركة متأسفة تتصنعها لتقول (لا غلطان يادكتور ظلمت الحيوانات.. الحيوانات عندها احساس دِه لااا)
كرمش وجهه ضائقًا يشغله أمر والدته الآن لا حاجة له بتراهات (سكينة امشي دلوجت مش ناجصك)
أطاعت متأسفة على حاله مشفقة عليه، وعلى ورد (ماشي.. بس مش خالي الي يعمل فيك كِده يا حمزة ولا تتهزلك شعره من كلامه وتزعل ورد.. متجيش على الي بتحبهم علشان ناس مبتحبهمش.. الزعل يبجا من الناس الي تستحج وبينا وبينهم عشم ويفرجوا لينا)
وقف متصلبًا مكانه مبهوتًا من كلماته وصدقها، تأثرها وعقلانية كلماتها ليسخر منها (ماشاء الله بتفهمي يا سكينة)
ابتسمت مستفزة له تقول بمزح، مدركة ما يعانيه وميزاجيته السوداء(هراعي حالتك النفسية ومش هرد، بس كلّم ورد ومتزعلهاش تاني كفاية جلبها مش ناجص)
ابتعدت عن النافذة وتركته واقفًا مكانه يستوعب تلك المجنونة متقلبة المزاج، لتعود من جديد قائلة مُذكرةً له بتشديد (هجول لراضية إنك نمت ومردتش عليَّ، لو متضايج متجيش هيسدوا نفسك أكتر والله دول عالم عِفشه صدجني)
جلس حمزة مكانه يتبع أثرها الغارب بنظراته التي يغشاها هم عظيم، قبل أن يمسح وجهه و يعاود الاتصال بوالدته فلا أنفاس تخرج من صدره وهي بتلك الحالة ولا حياة تطيب بحزنها ودموعها.. ولا عيش له إن أغضبها...
(بعد مرور ساعة...)
إرتاح قليلًا حينما صالحها واعتذر، وإن بقيّ شيئا من آسف وحزن عالقًا بنفسه بعدما تهور واندفع، بئس العم وشياطينه! ..
خرج من منزله ككل مساء ليلمحها تحت المطر تستقبله بحب، كأن المطر هو بطاقة تعريف للفتاتين ، هكذا حدث نفسه وهو يتقدم ناحيتها وقد انقطع التيار الكهربائي ككل مساء.
وقفت مودة تحت المطر تستقبله بفرحة داعية، ليأتيها صوته من خلفها منبهًا بإهتمام ونبرة تقطر حنانًا تغذي حبها له الذي يكبر داخلها يومًا بعد يوم (هتتعبي)
استدارت مرتبكة، مبتسمة برقةً كما تعودت.. همست بينما تنكمش وتحيط جسدها (مش مهم يا دكتور المهم أعمل الحاجه الي بحبها وأبجا مبسوطة)
تغلبت ابتسامته على عبوسه وجموده، قال بينما يخطو ناحيتها يشاركها عبثها ويفرد كفيه للمطر يؤكد قولها (صح المهم نعمل الي بنحبه)
توترت من إقترابه ومشاركته لها والحديث الذي يجتره معها، ابتسامته المهلكة قليلة الظهور وكأنما أخرجها الآن ليسلب منها قلبها أكثر ويفتنها أكثر (حلوة الكتب الي جبتهالك.؟)
تراجعت خطوتين تقف أسفل البيت قائلة بسعادة (جدًا.. تخيل أصحابي عايزين ياخدوها مني)
حذرها وهو يعود مثلها ليجاورها (أوعي يا مودة الكتب دي غالية جوي عندي)
ابتسمت هامسة وهي تتطلع لحبات المطر أمامها (متجلجش غالية عندي برضو)
سألها بإهتمام وهو يخرج هاتفه من جيبه ينقر فوقه (تحبي أجبلك غيرهم..؟)
نظرت إليه تعلن موافقتها بلهفة، لا تشبع من تأمله (أكيد أحب.. بس مش عايزه اتعبك يا دكتور)
بادلها ابتسامتها بأخرى وهو يخبرها بيأس متذكرًا عودته القريبة وإصراره ألا يعود مجددًا لتلك البلدة (لو رجعت تاني هجبهملك ولو مرجعتش سامحيني)
انقبضت ملامحها الهادئة بألم وعبوس لملم ابتسامتها لتسأله بتلعثم (إنت خلاص مش هترجع تاني.؟)
أجابها وهو يتبادل النظر معها والهاتف (اتمنى والله يا مودة)
أعلنت نظراتها خذلانًا وملامحها حدادًا لتهمس بخجل (ربنا يوفجك يا دكتور وييسر أمورك)
شرت قليلًا مفكرة، ليتها مثل سكينة قوية لا تخشى المواجهة والإفصاح عما تشعر.. ليتها ما تصمت وتحدثه كثيرًا جدًا تخبره أن عليه العودة مجددًا، فبين الوجوه البغيضة وجهًا يشرق برؤيته وبين القلوب قلبًا ينبض بحبه، يجدد العهد حتى يستجيب الله.
وبين المنطوق غير المقصود حروف مطموسة بالشوق، وبين الكلمات المقصودة آهاتِ لوعة محبوسة صارخة.
استأذن مغادرًا منشغلًا بهاتفه عنها، لتجذب نظراته تلك الشقية المشاكسة تقف أمام حائط منزلهم في الظلام تضع المصباح الكهربائي أرضًا وتتوجه ناحية الحائط تصنع أشكالًا من خيالها، وتروي القصص والحكايات بأصوات مختلفة.
أعاد الهاتف لجيب بنطاله متأملًا لها، يستمع لقصصها وضحكاتها الرائقة
(عندك نقص طفولة باين.؟)
رمقته بنظرة مستخفة وعادت لما تفعل، ليتابع السير لمنزله داعيًا (ربنا يكملك بعجلك ياسكينة والله)
تركت ما تفعل متأففة، منزعجة بشدة من اقتحامه عزلتها وسخريته.. هتفت بغلظة (إنت لو مجرتش شكلي مترتحش..؟ خليتلك إنت العجل كله يا كئيب)توقف عن السير، تقهقر ليصل إليها وقف يسألها (جولتي إيه.؟)
تركت ما تفعله وتقدمت تقف قباله متجاهلة، مهتمة فقط بمعرفة إجابة سؤالها (المهم صالحت ورد.؟)
مط شفتيه مندهشًا من اهتمامها ليقول بصدقٍ(أكيد طبعًا)
ضيقت عينيها لما حول رقبته وقد انتبهت له، سألته مجددًا وهي تقترب (سماعات بلوتوث دي.؟)
تحركت نظراته للسماعات الكبيرة وهو يجيبها (أيوة) أقتربت أكثر تحاول نزعها ونيلها، ليبتعد عنها متفاجئًا (إيه.؟)
(هشوف بتسمع إيه.؟)
أحنى رأسه قليلًا ممتثلًا لطلبها، قبل أن يمد كفه ويخلعها مقدمًا لها السماعة بطيب خاطر
ابتسمت متلهفة، وهي تضعها على أذنها وتستمع بإنسجام
(ليه بشوف الكل شكلك...
توقفت نظراتها فوق سعد الذي تقدم منهما يحمحم ينقل نظراته بينها وبين حمزة بغل
لتهمس بينما تراقب خطواته وتقدمه (والله ياسعد بجيت بشوف الكل شبهك فعلا.. حمير)
أدار حمزة رأسه لموضع هروب نظراتها فابتسم لمقصدها المتزامن مع كلمات الأغنية..
(مساء الخير)ألقاها سعد بسخطٍ لترد سكينة بتهور ونفور علق بنظراتها ورسمته مطة شفاهها المتأففة (مساء الزفت)
توحشت نظرات سعد الذي شعر بالحرج أمام حمزة الذي ابتسم ليغيظه..
تجاهلت سكينة وجوده وتناولت هاتف حمزة من بين أنامله بغتتةً وقد أخرجه من جيبه مرةً أخرى، لم يملك حق الرفض ولا نهرها على طريقتها.
(هات يا حمزاوي أشوف)جف حلقه وحملق فيها مندهشًا من تدليلها له أمام سعد الذي زجرها بنظرة نارية مشتعلة.. وهو يقول من بين أسنانه (همي يابت عالبيت ناديلي عمار بلا جلة حيا)
ضحكت سكينة ضحكة قصيرة وهي تستدير ملوحة بينما تطالع حمزة (حمزاوي متمشيش هنادي عمار وأرجعلك نتكلم) ختمت قولها بإخراجها لسانها لسعد الذي لُعن بشياطينه، واحتقنت عيناه بالغضب مما جعله يدفع حمزة ويمر أمامه مُتبعًا لها في سيرها للداخل.
شيعهما حمزة بصمت وتحامل لا يريد إثارة سعد أكثر من ذلك حتى لا ينقلب الأمر ضده وتُعاقب هي.
رجع لمنزله وجلس أمامه منتظرًا عودة سكينه وهاتفه،عادت بعد دقائق، ناولته هاتفه وسماعاته (مال سعد بيكِ يا سكينة.؟)
لوت فمها ساخرة من سؤاله (هشك فذكائك كدا يا دكتور)
لوحت وهي تبتعد عنه قائلة (رايحه بيت جدي مع راضية سلام)
أوقفتها نبرته الحادة القاسمة التي تحمل بين حروفها تهديدًا لينًا رزينًا يشبهه (أنا مش وسيلة تضايجي بيها سعد يا سكينة، مش لإن سعد يفرج معايا لا بس بلاش أنا.. ياريت متتكررش)
أدارت رأسها ترمقه بنظرة غامضة وابتسامة حبيسة مقلتيها، لتؤكد بشقاوة ومشاكسة مُزجت بمكرها (ماشي يا حمزاوي مش هتتكرر) نظراتها كانت ترسل له تأكيدًا أنها ما نطقتها غيظًا وما اتخذته وسيلة كما يظن، أخرجت وقتها ما شعرت به وعُلّق بطرف لسانها
هي نفسها لا تعرف كيف تهورت وتصدر التدليل كلماتها.
بقيَّ هو على غموضه، يحبس مشاعره بين جدران الصمت والثبات، لا يمكن التنبؤ برد فعله كما العادة، ابتلعها الظلام قبل أن يحدثها أو تتلقى ردًا منه.
***********
في مساء اليوم التالي
بينما تتجول سكينة في المنزل بحثًا عن ابنة خالها، وقفت متصلبة أمام حجرة زوجة خالها حينما وصلها صوتها البغيض وشتائمها التي تمطرت اسم حمزة، دفعها فضولها لأن تصبر وتستمع، لما يقال ربما تحصل على معلومة مفيدة يمكنها استغلالها فيما بعد
شهقت متفاجئة من الحوار الدائر بين شياطين هذا المنزل، محملقة فيما حولها تكتم فمها بباطن كفها غير مصدقة ما تسمعه ولا تستوعبه، ولا المكيدة التي تُدبر لابن خالها وعميها ..
انسحت من أمام الحجرة راكضة متمنية لو أنها لم تأت الساعة وتسمع ما يُحاك من خلف ظهورهم من خالها وزوجته وابنه،
تتابعت دموعها في ألم وحسرة متخيلة أحدث السيناريو والمؤامرة فيزاد بكائها وتعلو شهقاتها بإنفعال.. خرجت متجهةً لمنزلهم مقررة المكوث فيه وحدها بعدما أخذ عمار مودة وأمه لزيارة خطيبته وتركوها هي، عمار لا يحب وجودها معه وهي لا يروقها الذهاب.
وعدتهم أن تبقى بمنزل جدها حتى يعودوا لكنها لا تقدر بعد ما سمعته..
لماذا يريدون الخلاص منه وعمها.؟ أي قلوب يحملونها هؤلاء.؟
وقفت أمام المنزل تحاول فتحه لكنها لم تفلح مما جذب البكاء من جديد لحنجرتها المحترقة بالصرخات الحبيسة، فجلست على عتباته تنتحب بحرقة قلب.
رفعت رأسها تنظر إليه وقد جلبه صوت شهقاتها العالي وضربها للباب الحديدي الذي لا يُفتح، انحنى يسألها بفزع مما يرى(سكينة مالك فيكِ حاجه.؟ ومروحتيش ليه معاهم.؟ عمار موافجش تروحي معاه..؟ ) خاف أن يصدق قوله وأن يكون عمار تركها رافضًا، خشيَّ عليها من هذا النبذ وذلك الألم وكسر الخاطر .. فكرر أسئلته بحنو وعينيه ترسل لها دفئًا عجيبًا أحاطها فصمتت مشدوهة تطالعه بإنجذاب.. لتصرخ بوجهه فجأة وقد استعادت وعيها (إنت مالك جاي ليه.؟ سيبني فحالي)
إرتبك من صراخها عليه، إعتدل موضحًا بعبوس احتل ملامحه (سمعتك بتبكي فجيت اطمن عليكي)
وقفت صامدة، ترسل له النظرات الكارهة الحاقدة والكره لتردعه عن حنانه ولطفه معها حتى لا ينهشها ضميرها مما ستفعل وتقول(امشي ملكش صالح بيا، لو شافك معايا عمار هيعمل مصيبة هو مش عايزك ولا طايجك وبيحذرنا نجعد معاك أصلا لإنك مش زينا ولا مننا.. متجبليش المشاكل.. فامشي من هنا وأرجع لحياتك وأبعد عننا مش ناجصينك، سافر يلا)
جن جنونها حين خبأ انفعاله وطمس مشاعره خلف وجهٍ صلب جامد وهو يهتف بنبرة جافة رزينة (متشكر يا سكينة للتوضيح حاضر همشي ومش هرجع تاني إنتِ معاكي حج)
قال كلماته وأقترب منها يطلب (هاتي الأول المفتاح أفتحلك الباب علشان تدخلي الجو برد ومش هينفع تجعدي لوحدك في الشارع)
أعطته له بصمت وذهول، ترمش بعينيها التي تلاحقه وتفتش في ملامحه عن توابع ما تفوهت به.. عن قسوة تريح ضميرها.؟ أو جفاء يوقف أنين قلبها.، لكنها عادت خائبة محملة بذنبٍ جديد ينحر قلبها، كان ماهرًا في إخفاءه وصبره فصرخت لتصل كلماتها إليه ربما يغادر في أسرع وقت (بتكلم جد إحنا كارهينك امشي)
فتح الباب وناولها المفتاح قائلًا بملامح مغلقة لا يعير صراخها انتباهًا، فقد حزنًا عميق الأثر طفا فوق نظراته الدافئة ودنسها(ادخلي واجفلي وراكي لو احتجتي حاجه ناديلي تصبحي على خير)
دخلت المنزل وركضت لحجرتها، فتحتها وارتمت فرق فراشها كلمات خالها تطن بأذنها تحرمها الراحة، تصرخ داخل عقلها فيزداد بكائها. ماذا إن نفذ خالها خطته.؟ وتخلص من حمزة وأعمامها..؟ لم تشعر إلا ومودة قد عادت ورفعت الدثار فوق جسدها متأملة تسألها بلطف وحنان زائد (نايمه كدا ليه يا سكينة ومعيطه ليه.؟ ) قالتها وأناملها تلملم بقايا دموع متجمدة على خدها..
اختبأت سكينة خلف الدثار، لتواسيها مودة بطيب قلب (زعلانه علشان مروحتيش.؟ حجك عليا أنا) قالتها وهي تضمها و تربت على ظهرها.. انكمشت سكينة متذكرة ماحدث.؟ لو غادر حمزة سيتحطم قلب مودة أيضًا تلك التي لا تريد سواه.؟ وتعيش على حلم بعيد المنال منها.
عادت للبكاء المكتوم حتى سحبها النوم لعالمه...
في الظهيرة أثناء تناولهما الغداء عادت والدتها باكية، حزينة تُعلن مغادرته الآن بحزن تفشى في وجوههم،عداه عمار أصدر تنهيدة مرتاحة قبضت قلب مودة وأزعجت سكينة التي انتفضت قائلة بإرتباك (هتأخر معايا درس)
شيعتها نظرات الأم الغائمة ومودة المشفقة التي لا تدري ما أصابها منذ أمس،وعمار الحانق منها على الدوام.
ارتدت سكينة ملابسها في عجالة مقررة اللحاق به والإعتذار منه، لن تدعه يذهب وفي قلبه مثقال ذرة من حزن وبغض،هي لا تستحق سخطه ولا حزن ورد.
ركضت بأقصى سرعة ممكنة ربما تلحق به، وتستطيع أن تنال رضاه ومغفرته على فعلتها.. لقد هُيأت الظروف والسبل لتصل بسرعة تعجبت منها.. كل شيء حولها كأنه كان مسخرًا يتذلل لها لتصل لهذا الصموت وتُلقي بإعتذارها، الكون حولها مختلفًا كأنه فصلًا جديدًا في رواية هي بطلتها الوحيدة.
حينما وصلت رفعت الهاتف لأذنها تحاول الإتصال به بعدما سرقت رقمه من هاتف عمار في غفلة منه..
جاءها صوته دافئًا هادئًا رغم توشحه بالحزن
_الووو
*حمزة انت فين فالمحطة.؟دفعتها تجاهه بلهفة
_سكينة..؟ همسها بذهول
*أنا فجنا بدور عليك ومش لجياك إنت فين.؟
_إيه جابك وبتدوري عليا ليه..؟قالها بحدة
فقالت متوسلة *مش وجته إنت فين.؟
_أنا فشركة اتصالات الي فشارع المحطة يا سكينة.
*أغلقت الاتصال وركضت ناحية المكان، فتحته ودخلت تفتش عنه بنظراتها حتى وجدته جالسا ينتظر أن يحين دوره.. تبادلا النظرات العاتبة قبل أن تجاوره هامسة براحة وهي تلتقط أنفاسها(الحمدلله لحجتك)
نظر للفراغ أمامه بشرود متسائلا (عايزة مني إيه... ؟)
قالت بقوة ونظراتها تمر عليه ببطء(أنا جاية أعتذرلك يا حمزة.. آسفة مكانش قصدي)
تنهد قائلًا ببرود واستهانة (عادي إنتِ جولتي الحجيجة)
توسلته بخجل وسحب من الدموع تكونت بعينيها (مش حجيجة، كلنا بنحبك والله)
وقف متجهًا للشباك الخاص بموظف الشركة وهو يقول (تمام برضو متفرجش.. شوفي حالك يا سكينة ومتشغليش بالك)
انسحبت بعدما غادر، وقفت في انتظاره بالخارج لا رغبة لها سوى رضاه ومغفرته بعد كلماتها الجارحة.. خرج ليجدها واقفة بإنتظاره فسألها بلمحة من غضب (جاعده ليه.؟)
قالت بصدق وهي تمنعه العبور (مش همشي غير لما تجبل اعتذاري وترضى يا حمزة)
تأفف منزعجًا من إلحاحها فهاجمها بضيق (مش عايز غير تمشي من هنا ومشوفش وشك تاني)
رفعت إليه نظرات مهتزة مرتبكة، قبل أن تفيض دموعها ويتمخض ألمها شهقات بكاء جعلته يتوقف مندهشًا يطالعها بإستياء وذهول، لثاني مرة يراها بتلك الحالة وهذا الضعف.. إلتقط أنفاسه وسألها بصبر(عايزة إيه.. ؟)
رفعت نظراتها إليه تخبره وهي تمسح دموعها (أنا غلطت ، وكلامي كان دبش عارفة بس مش هجبل إنك تمشي وإنت زعلان محبش أأذي حد ياحمزة..)
رمقها يتبين الصدق، لتربكه بتلك العاطفة وذلك الجانب الذي يراه منها فقال منهيًا الحوار (تمام وأنا خلاص مش زعلان)
تطلعت حولها قبل أن ترقد نظراتها فوق وجهه هامسة (كداب يا دكتور)
فرك جبهته ضائقًا زافرًا بقنوط قبل أن يواجهها (طيب وبعدين)
أمسكت بحزام حقيبتها مؤكدة وهي تزرع نظراتها بوجهه(هفضل هنا معاك ولو اضطريت أمشي معاك عادي)
هتف ناعتًا(إنت مجنونه)
قالت بصبر وتحامل ورزانه لم يعهدها منها (اه لو المسمى هيريحك)
اندفع مبتعدًا عنها مقررًا تركها لكنها تبعته تهمس خلفه (سامحني يا حمزة أنا غلطانة واستاهل والله بس ممكن تجف وتشربني عصير جصب علشان ريجي نشف وتعبت من الجري وراك والإعتذارات الكتير)
ابتسم رغمًا عنه، استدار بعد أن لانت ملامحه يخبرها بفظاظة متعمدة (تشربيه وتمشي)
ابتسمت هي الأخرى قائلة وقد شعرت بأمل يغزو عتمة يأسها(هشوف)
تناولا كوبي العصير وهما يسيران في الشارع الطويل وقفت أمام أحد المولات تطالع الملابس بينما تسأله (إيه رأيك.. ؟)
تفحص ما تقصده بنظراته قبل أن يخبرها (مش حلو لونه مش هيناسبك)
حدجته بنظرة طويلة قبل أن تعود للملابس الرجولية قائلة (التيشرت دا هيبجا حلو عليك بيشبه لون عينيك)
أشاح عنها مُحرجًا لتخبره وهي تبتعد فيتبعها (مش هتغديني كمان دا أنا سبت الغدا علشانك )
صاح بها مغتاظًا (امشي ياسكينة)
قالت بإقرار وهي تشير ناحية أحدشظ المطاعم (غديني ياحمزة وأوعدك همشي علطول بعدها)
نظر للمطعم بإحباط قبل أن يرضخ لها ويسحبها ناحيته ملبيًا.. تناقشا قليلًا وتشاكسا أكثر، ملأت رأسه بالأسئلة والثرثرة حتى انتهت فأشار لها (يلا)
تطلع لساعته ليخبرها بقلق (لازم امشي علشان الطريج يلا سلام)
رماها بسلام عابر مقتضب قبل أن يتركها تشيعه بنظراتها الحزينة المفتقده وتستدير مقررة العودة.. دقائق سارتها على قدميها مفكرة وسط المارة لتجده يقبض على كتفها قائلا من بين لهاثه (الوجت اتأخر يا سكينة مش هسيبك ترجعي لوحدك بعد ما جيتي علشاني)
اتسعت ابتسامتها غير مصدقة لتهتف غامزة بجرأة (أجدع حمزة دا ولا إيه.؟ )
أشار لها بكفه يائسًا (امشي جدامي الله يهديكِ)
قالت وهي تسير بجانبه (أنا لغيت حصة بسببك انهردا)
قال بغلظة (هو أنا جولتلك تعالي)
سألته بقلق (فين عربيتك.؟)
قال وهو يمزق الحشد وهي خلفه (عند الميكانيكي جنب الموجف هنركب ونروحلها)
اشتدت الزحمة حولهما، وتكاثر الناس في انتظار سيارة تقلهم، أحاطتهما النظرات بفضول وإعجاب ليمد حمزة كفه لها في حماية مُعلنة، ترددت قليلا ثبتت نظراتها فوق كفه قبل أن تبتسم وتناوله كفها فيغمره بين أنامله الباردة.. انتفض قلبها بهلاك من تلك اللمسة العابرة منه، حادت نظراتها إليه ربما تلمح تأثرًا يشبه ما حدث لها لكن نظراتها عادت محملة بالخيبة.. أغناها ذلك القرب وتلك اللمسة عن ثرثرة، لاذت بالصمت والشرود في تلك الحالة التي أورثتها لها لمسته والأعاجيب التي صنعتها داخل قلبها الذي يرقص الآن طربًا منتشيًا بشعور غريب لا تفهمه وعاطفة تتفجر بين جنباتها لا تعرف له سببًا.
صعدا السيارة، جلست بجانبه ملتصقة به بعدما تكدثت الناس داخلها لكونها آخر سيارة ستوصلهم للموقف الخاص ببلدها.
تطلعت من النافذة زاهدة تكتفي بأفكارها، بينما هو مازال يقبض على كفها غير متخلي كأنها حبيبة يتلذذ معها بتلك الحماية.
وصلا لسيارته ،لحين العودة وأخذها ليسافر بها، استقلاها في صمت، أراحت رأسها للنافذة وأغمضت عينيها مغيبة لا تدري أنها غفت إلا حينما لفحتها أنفاسه الدافئة ووصلها همسه الحاني (سكينة)
فرقت بين جفنيها هامسةً (حمزاوي)
عاد لمقعده مرتبكًا، يخبرها بإشفاق امتزج بلطفه (وصلنا استعدي)
غمغمت بإستياء وملامح فقدت بريقها وأمانها(عمار أكيد في البيت)
طمأنها بحماية (متخافيش من حاجه أنا معاكي)
أوضحت وهي تعتدل في جلستها (مش جصدي الي وصلك هو بس هيزعجلي أنا علشان اتأخرت)
قال وهو يتابع القيادة (لو عايزه هكسرلك دماغه)
ابتسمت شاكرة بإمتنان حقيقي لتلك المعاملة (لا شكرًا يا حمزاوي)
تجاهل كلماتها عن عمد وسألها ليهرب مما يحدث (مجولتليش مروحتيش ليه معاهم امبارح.؟)
لوت فمها تخبره بتهكم وسخرية فظة (أروح لمين.؟ دا أنا بتغاظ والله.. وهي بتكلمني خطيبته عن مميزات عمار وحنان عمار وطيبة عمار وجابلها إيه وعملها إيه.؟ جال يعني مش عايشه معاه وعرفاه..؟)
ابتسم على كلماتها ليسألها مجددًا بإهتمام (دي وعرفتها كنتِ بتبكي ليه طيب.؟)
تهربت منه بمشاكسة (إيه الفضول دا ؟ مش هريحك برضو يا دكتور الله يهديك...)
ابتسم قائلًا (ماشي بس متبكيش تاني مش لايج عليكي البكا )
رمته بنظرة طويلة مستكشفة قبل أن تخبره بخبث (هحاول ربنا يكفينا شر البهايم)
حين وصلا للمنزل استقبلهما عمار متسائلًا بنظرة سوداء (جايين مع بعض.؟)
أجابه حمزة بثات(أيوة)
حدقت فيه سكينة بفزع ليستطرد حمزة (كنت فجنا وجابلتها في الموجف هي و صحباتها جبتها معايا لإن الوجت اتأخر)
شكره عمار بإقتضاب رغم الضيق الذي افترش ملامحه، ليقول وهو يصرفها بإشارة (لما أشوف أخرة الدروس دي إيه.؟بس إنت رجعت ليه ) كانت نظرات والدته اللائمة بالمرصاد تزجر وتعنف، ليحمحم معدلًا (أصل أمي جالتلي مشيت)
اوضح حمزة بهدوء (العربية لجيت فيها مشكلة مش هينفع أسافر بيها سفر طويل غير لما تتصلح بكره بإذن الله أصلحها وأمشي)
هز عمار رأسه بتفهم بينما سكينة نظراتها تكاد تحرقه من غبائه
انسحب حمزة مستأذنًا، حاولت عمته إبقائه مخافة أن تكون كلمات عمار أثرت فيه، لكنه تعلل بتعب وإرهاق أصابه وحاجه للنوم.. قبل أن يخطو ناحية منزله القريب أوقفته بصخبها من خلفه (حمزة شكرًا)
ابتسم بإرتباك وهو يستدير متوجهًا لها ، لتمد كفها بطبق كيك قائلة (عمتك بعتتهولك جالتلي الحجك علشان تاكلها قبل ما تنام)
نظر للطبق قائلا(مفيش داعي مش هاكل ارجعي بيه تاني)
تناولت قطعة كيك وقربتها من فمها مشاكسة (يا بني دوج دا أنا أشرفت على عميلها بنفسي والله)
قضم منها سريعًا لترحمه وتكف عن إلحاحها، ومطاردته لكنها تابعت بهزة حاجب وإصرار وهي تتبع خطواته وتلحق به كلما تقهقر (كمل)
سألها حانقًا منها ناقمًا على أفعالها ومشاكستها التي لا تنتهي(هو بالعافية.؟ بعدين دي مش وجفة ولا وضعنا في الشارع كدا كويس.! لو حد شافنا كدا هيجول إيه..؟ حبيّبه..؟ الله يهديكِ) ختم قوله بتأفف ضجِر
أبعدت كفها عنه، أعادت القطعة للطبق وهي تقول بصدق وابتسامة مبتورة تزين قولها الهاديء بينما تتأمله (ما أنا بدأت أحبك فعلا يا حمزة)
لايدري الغصة التي أصابته كانت بسبب كلماتها ولا دسها الكيك بفمه عنوة، سعل بشدة فابتعد عنها مُحبذًا الهرب شاكرًا ما حدث بعد ما نطقت به من كلمات..
استأذن مغادرًا ليرتشف الماء بينما عادت هي بطبقها للمنزل منشغلة الخاطر بما حدث طوال اليوم

ملاذ قلبي سكن Where stories live. Discover now