سلسلة الأزهار و الزمن .. ج3...

By ShaimaaGonna

222K 8.6K 172

سنا البيلسان في دجى الأوركيدا....بقلم المبدعة منى لطيفي جميع الحقوق محفوظة للكاتبة ....... الجزء الثالث من س... More

اجزاء السلسلة
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد و عشرون
الفصل الثاني و العشرون
الفصل الثالث و العشرون
الفصل الرابع و العشرون
الفصل الخامس و العشرون
الفصل السادس و العشرون
الفصل السابع و العشرون
الفصل الثامن و العشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد و الثلاثون
الفصل الثاني و الثلاثون
الفصل الثالت و الثلاثون
الفصل الرابع و الثلاثون
الفصل الخامس و الثلاثون
الفصل السادس و الثلاثون
الفصل السابع و الثلاثون
الفصل الثامن و الثلاثون
*الفصل الأخير*
*الخاتمة*
إعلان الجزء الجديد

الفصل التاسع و العشرون

3.8K 198 0
By ShaimaaGonna

نسخة معدلة ...

*الفصل التاسع والعشرون*

{ المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن..... الحسن البصري }

*ثانوية الحسن البصري*

كانت تبتسم بسرور حقيقي كأنها تطير في سماء متحررة من كل هموم أزعجت صفاء ذهنها، استخلص ذلك من اللونين الوحيدين الذين تستعملهما (الأبيض و الأزرق ) إنها تنشد السماء وتحب الصفاء، جفل من تطلعه بما ترسمه على ربتة من يد أمين، يهمس له ببسمة ظافرة:

-أنظر وركز!

استدار الى مجموعة من الأولاد غلب عليهم حس الفضول أخيرا، فاتجهوا إليهم:

-أستاذ وائل، ماذا تفعلون؟

ابتسم بمرح يجيب الذي سأل:

-كما ترى، نرسم ببخاخات الطلاء، نعبر عن أنفسنا وفي نفس الوقت نزين هذه الجدران التي بهت طلاءها.

هزوا رؤوسهم، يتأملون ما قاموا به لحد الآن، فتابع وائل بحذر:

-أنا متكفل بإحضار بخاخات الصباغة والجميع مدعوون حتى إن لم يكن يعلم كيف! ليس مهما، فليعبر عن نفسه بأي طريقة أرادها.

وعاد إلى ما كان يقوم به كما فعلت أمل التي عادت إلى الرسم بعد أن استيقظت من عالم أحلامٍ شعرت فيه بالتحرر النفسي لتكتشف أنها ترسم السماء بلونها الأزرق الصافي.

راقبت الأولاد منهم الفتيان والفتيات بطرف عينيها، تتمنى أن يتجرؤوا ويفعلوا مثلها، تريدهم أن يشعروا بما شعرت به من انفصال عن الواقع وكل ما يتعلق به من مفروضات ومكروهات ثم ابتسمت ترمي وائل بنظرات ظفر حين تقدم أحدهم، يسأل:

-هل تسمحون لي بالتجربة؟

هز أمين رأسه باسما يدعوه:

-طبعا تفضل!

لم يطل الأمر حتي تبعه الثاني والثالث ...، فهمس أمين لوائل بأمل:

:يبدو أننا سنبدأ بالمخطط قريبا.

******

*بيت أمين*

-أين زوجك يا ابنتي؟

ردت خنساء و هي تفرد شعرها الأسود المجعد الطويل تتنهد براحة بينما تدلك فروة رأسها، فهي لا تزيل الوشاح أمام أمين خجلا منه:

-في الثانوية أمي، لديه عمل ما مع الأستاذ وائل.

صمتت والدتها تتابع مسلسلا، فتذكرت خنساء اتفاقها مع زوجها بخصوصها استدركت تناديها:

-أمي؟

لم تجبها وقد راح تركيزها مع التلفاز، فكررت خنساء بإصرار:

-أمي ما كان مستوى تعليمك؟

التفتت إليها كأنها أجفلت، فتابعت خنساء بفضول:

-أعلم بأنك درست، لكن لم يسبق أن سألتك أو أخبرتني عن مستواك الدراسي.

ردت بعد تفكير تجيب بوجوم:

-أنهيت الثانوية ....لكن...

أمسكت خنساء بكفها، تحثها:

-لكن ماذا أمي؟

ردت بنفس الوجوم:

-أبي لم يسمح لي بمتابعة دراستي وزوجني لأول رجل تقدم لي كي يرتاح من عبئي حتى أنه رضي به سكيرا، فنحن كنا فقراء وبالكاد كان يؤمن لنا اللقمة.

رقت نظرة خنساء مشفقة على حال والدتها، فلم يسبق أن سألتها عن ماضيها أو أي أمر عن حياتها، تملكها الحماس تستدرجها لحوار يجمعهما:

-وماذا كانت اهتماماتك أمي؟ علمي أو أدبي؟

ابتسمت بشوق تحن إلى الذكرى:

-لا أعلم، لكن أساتذة اللغة كانوا يشيدون بتعبيري في كتابة المواضيع الإنشائية وكانوا يستمتعون بقراءتها وكنت الوحيدة التي تأخذ علامة كاملة عنها.

قالت خنساء بإعجاب:

-حقا أمي؟ يا سلام، أنت أدبية، فلماذا لا تساعديني في اللغة؟ أنا فاشلة فيها، فأنا عكسك أحب الأرقام.

قلبت شفتها السفلى، حسرة تجيبها:

-لقد نسيت كل شيء ..يا ابنتي، كان ذلك زمنا غابرا.

أومأت نفيا، تقول بنفس حماسها الذي أشعلته تلك النظرة العابرة في عينيها، نظرة كلها حياة.

-لا يا أمي، الإنسان لا ينسى ما تعلمه في الصغر ألا يقولون التعليم في الصغر كالنقش على الحجر؟ لنجرب أمي، لن نخسر شيئا!

قامت بسرعة ووالدتها تنظر إليها بدهشة تلوح على ملامحها أمارات شرارة الحماس، تشتعل جذوتها بكيانها.

ناولتها الكتاب، تخبرها باسمة:

-هذا مقال عن البيئة، المطلوب منا التعمق في محاوره، لدي كل المعلومات، جمعتها من الإنترنت لكنني فاشلة في التعبير.

أمسكت الكتاب برهبة ويد مرتعشة، تقول بعدم ثقة:

-لا أعدك بشيء لكن سأحاول قراءته وفهمه.

-خذي كل وقتك.

قالتها خنساء بسرور، فلم تشعر بالوقت وهي تراقبها تتعمق وتغرق بالقراءة وقد نسيت أمر التلفاز، فأدركت أنها خطت مع والدتها أول خطوة على الطريق الصحيح ويجب عليها المتابعة لتنقذ والدتها من يأس نخر في أعصابها وأضاع سنين من حياتها فقدت فيهم الرغبة في العيش، ففرت إلى عالم الخيال كي تتحمل ولا تنهي حياتها بيدها.

*****

*العيادة*

فتح باب غرفة الطبيبة، قام تامر حين لمحها خارجة، يبتسم لابتسامتها المستحية، فأشار لها للجلوس:

-تفضلي! كيف تشعرين؟

أومأت تجيبه:

-الحمد لله، أفضل! تلك الدكتورة إنسانة جيدة وماهرة أيضا.

عاد إلى مكانه مسرورا يدعو الله الرأفة به، فلا يعلم كيف سيحافظ على الفتاة كما يجهل القادم وغير بعيد عنهما انتفضت مكانها حين هتف بغيظ:

-إنه دورك ضعي عنك تلك المصاصة!

رمقته بعبوس حانق، تشد على مصاصتها بينما ترد عليه.

-أنت أحضرتها، طلبت منك سكاكر وآتيتني بمصاصات.

زفر يجيبها بسخط:

-لم أجد في نكهة الفراولة سوى المصاصات ولو كنت أعلم لما أحضرتها.

سألت بحيرة:

-تعلم بماذا؟

راقبها بغل يفكر بماذا يخبرها؟ أنها عادت لتخطف أنفاسه بينما ترسله سنوات في الزمن إلى تلك الفتاة الشقية، التي تسلقت الشجرة كي تعيد الكرة للصغار والتي سقطت بين يديه للمرة الثانية.

هتف بغل:

-قومي! لن تنتظرك الطبيبة اليوم بأكمله.

قامت بحدة كهتافه لكنها فعلت ما جعله يضحك على حين غفلة حتى اجتمعت حوله الأنظار المرتابة بامتعاض، أخرجت له لسانها بشكل سريع طفولي وهربت دون أن يلمحها أحد.

همس تامر بمرح بعد أن جلس مكانه قربه:

-كيف تطلق زوجتك وهي تسعدك هكذا؟

تمالك ضحكته يهز رأسه بيأس منها ومن نفسه أيضا.

*****

*المستشفى*

أقفلت الباب على شقيقتها بعد أن ضمتها بقوة ثم تركتها مع والديها ليتحدثوا، ثم وجهت شكرها لمحمد بامتنان حقيقي:

-أشكرك سيدي لن ننسى لك معروفك.

هز رأسه باحترام يجيبها:

-إنه واجبي سيدتي.

تدخل نضال الذي لحق به الى المشفى:

-يمكنك الانصراف لترتاح محمد وعالج رأسك قبل ذلك، شكرا لك، ستجد مكافأة حولت إلى حسابك.

-لا!

رفض باندفاع غريب، فقطبا بخفة مستغربين ليقول بحرج:

-من فضلك نضال، ما قمت به واجبي، لا أريد مقابلا له، من فضلك.

هز كتفيه، يقول باستسلام:

-كما تريد يا صديقي، وشكراً لك من جديد.

استأذن مغادرا بعد أن رمى بنظرة أخيرة باب الغرفة حيث تقبع خاطفة قلبه.

-شكرا لك وللعائلة لم يتركونا للحظة واحدة، أنا بالفعل ممتنة لكم.

ابتسم نضال يقول بشوق للماضي الجميل، يلاحظ نضوجها رغم عدم تغير ملامح وجهها:

-يسعدني جدا رؤيتك لبنى، أتمنى أن لا تبتعدي مجددا ولا داعي للشكر فنحن عائلة مهما حدث بين أفرادها.

همت بالرد لكنها صمتت تلتفت كما فعل نضال على إثر جلبة، ليلمحا الوزير حوله حراسه وحين بلغ قربهما سألها بقلق:

-كيف حال والدتك لبنى؟

امتلكها الحياء والسرور لاهتمامه:

-الحمد لله سيدي، لماذا أتعبت نفسك؟

تلونت نبرته بالعتاب بينما يجيبها:

-الحمد لله على سلامة والدتك.

ثم نظر إلى نضال يدعي عدم المعرفة، فقدمتهما إلى بعضهما أما في الغرفة، فما تزال السيدة حليمة تضم ابنتها بقوة، تشم رائحة شعرها وتقبله بينما تبكي بحرقة، تهمس بألم:

-سامحيني حبيبة قلبي، فلذة كبدي، آآه يا قلب أمك.

شدت على حضنها هي الأخرى تجيبها بحب وكلمات محمد ترن في أذنها:

-ماما حبيبتي، أنا أحبك جداً ولن أتركك أبدا، أنت أسأت فهمي ماما.

أبعدتها تتأمل ملامح وجهها تلمسه بأصابعها بينما هي تستطرد موضحة أمام نظرات والدها المراقب للمشهد بأحاسيس مهتاجة لا تبدو على وجهه:

-لم أكن أنوي تركك ماما، أنا فقط أردت التقرب من بابا وأخي لأتعرف على باقي العائلة وأنت معي، بجانبي لا أستطيع الابتعاد عنك أبدا، فأنت ماما ولا أتخيل حياتي من دونك و لبنى.

تدحرجت الدموع على وجنتي السيدة حليمة، تفكر بألم كيف استطاعت أن تغفل عن طيبة ابنتها وحنانها، أعمى الكره والحقد بصرها وبصيرتها، فحرمت نفسها من التمتع بقلوب نقية، صافية، كانت ستغرقها بحنان ينسيها كل آلامها.

تدخل سبب سعادتها يوما قبل أن ينقلب الى تعاسة مدمرة:

-سمرا؟ دعي ماما ترتاح، فهي مريضة.

أمسكت جانبي رأسها وقبلت وجنتيها بقوة، فلم تلاحظ توترها الذي لا يثيره سواه هو الذي باغتته سمرا حين ارتمت في حضنه تتمرغ بين ثنايا صدره، تهمس له بشوق وسعادة:

-أنا أحبك بابا جدا.

استسلم لفيض مشاعرها ومشاعره وطوقها أقرب الى صدره، يجيبها بصدق:

-أنا أيضاً يا ابنتي أحبك.

تفاجأت حليمة تنظر إلى عينيه، فوجدته في انتظارها يعلم بأنها ستتفاجأ، فلم يسبق له أن عبر عن حبه صراحةً حتى لها أو للبنى وابتسم كما كان يفعل يوماً بعيداً لكن قريبا جداً لهما، يردف دون أن يحيد بمقلتيه عنها:

-أحبك يا ساحرتي الصغيرة.

ضحكت سمرا مسرورة باللقب، لا تعلم بأنه كان لقب والدتها في يوم من الأيام، لكن تلك الساحرة الغابرة رمته بنظرة مليئة بالحزن والعتاب واللوم أتبعته برفع وجهها بكبرياء أعلمه بأنها لن ترضخ بسهولة، فالجرح كان غائرا ومؤلما.

أبعد ابنته بروية يقول بلطف:

-هيا لأقلك إلى البيت أنت ولبنى، تغيران ثيابكما وبعدها أدعوكما إلى مطعم، سندع والدتك لتنام، فالطبيبة أوصتها بالنوم والراحة.

أنهى حديثه ينظر إليها ثم ودعاها وخرجا حيث لمحا الوزير يحدث ابنته المحمرة خجلا، فتحرك تجاههما:

-سيدي هذا..

صمتت قليلا كأنها نسيت كلمة والدي وبلعت ريقها، تكمل:

-والدي ...فؤاد القناص.

أنا تصورت المشهد كالتالي:

بسط العميد كفه ليصافحه يدعي اللهفة وهو يقول بمكر: تشرفت بمعرفة من أنجب أذكي وأفضل فتيات البلد.

رد فؤاد مستهجنا :

الشرف من نصيبي معالي الوزير.

لاحظت لبني شرارة عدائية تحوم في الاجواء والوزير قد راقته اللعبة يضيف:

لقد أظلم المكتب اليوم بغيابها ولم أعلم كيف أتصرف.

ثم تجاهل فؤاد وحمل نفسه علي النظر إلي لبني نظرة تدل علي إعجابه بها يستطرد بطريقة أدهشت لبني ذاتها:

لبني لا تتأخري علي المكتب فهو في فوضي بدونك.

تبلدت ملامح فؤاد بجمود وسمرا تتابع الموقف بجهل:

الحمد لله علي سلامة الوالدة، عن إذنكم.

رحل بصخب حراسة كما جاء، فتحدث فؤاد يستفسر ببرود يغلف به نارا بصدره:

-أشعر أن اهتمام الوزير مبالغ فيه، تري ما سببه؟

أجفلت للحظة لكنها لم تجبه وبداخلها تقول: هل عدت أخيرا لتمارس علينا الأبوة؟

تدخلت سمرا موجهة الحديث لشقيقتها:

هيا لبني سنذهب للبيت كي نغير ثيابنا بعدها، بابا سيدعونا لناكل...

قاطعتها بعبوس قبل أن تنسحب:

-لا ....أنا سأبقى مع والدتي!

راقب انسحابها بجمود عاد ليتملكه كليا قبل أن يشعر بلمسة حنونة على جانب وجهه تحدثه صاحبتها بحنان:

-هي تحتاج إليك بابا، أكثر مما تتصور.

ابتسم بحنو يربت على رأسها، فضحكت بفرح وصهيب يهرول نحوها فانقضت عليه وحملها قليلا عن الأرض يدور بها بسرور.

-الحمد لله على عودتك.

بهت فؤاد من المشهد، فلم يكن يعلم بأن العلاقة بينهما بتلك الألفة والحب كما لم يعلم بأنه يبتسم ببلاهة إلا حينما تفاجأ بهمس نضال الساكن منذ مدة مكانه يراقب بتفكير عميق:

-ما أحلاه من منظر أليس كذلك؟

التفت إليه فؤاد، فتابع بقصد ذو معنى:

-الحياة لا تمنح فرصا كثيرة يا عمي وهذا ليس قولي بل قول الحكيم توأمي لأنني في الحقيقة مثلك، معدوم الحكمة!

رفع حاجبه امتعاضا، فانسحب نضال باسما بسخرية بينما صهيب يسأل سمرا بحماس:

-هيا اخبريني بالتفاصيل، المملة!

-لن تصدق.

ضحك صهيب فقال والدهما:

-في الطريق....هيا!

تقدموا وصهيب يضم كتفي سمرا يخبرها بمرح أضحكهما معا ووالدها يبتسم بهدوء بينما لبنى تراقب من بعيد بعينين دامعتين كطفلة تاهت عن والديها وتخشى المجهول:

-تصوري حين نخبر مروة وخنساء، تلك العصبية ستنعتك بالبلهاء وخنساء ستكتفي بالضحك علينا، طبعا، فأنا لن أسكت!

*****

*ليلا*

ما رأيك بني ؟

نظر إليها بعتاب، يهمس لها وهما في غرفة الضيوف الأنيقة ينتظرون أهل الفتاة، بقلب ينقبض أكثر مما هو كئيب من الأساس:

-أمي، قد يدخل أي أحد في أي وقت.

ابتسمت، تكمل همسها.

-أخبرني فقط، أليسوا أناسا بالمستوى الرفيع؟

رد بخفوت:

-تعلمين أنني لا أهتم بالمادة، المهم الأخلاق والدين.

هزت رأسها تهمس بفرح وهي ترتب طرحتها البيضاء:

-لكنك ضابط تبارك الله ولك شأنك، يجب أن تناسب عائلة بمستوى رفيع.

ضم شفتيه وخياله يتأرجح مع الريح بصحبة خصلات سوداء، ثم تقتحمه نظرة وجوم خاوية تشعره بالذنب لكن لماذا يشعر بالذنب؟ لم تجمعهما علاقة ولم يعدها بشيء بل كان واضحا مع نفسه ومعها، هما مختلفين كل الاختلاف ويستحيل عليه تقبل إنسانة لا تؤمن حتى بوجود الله.

دخل عليهم رجل ستيني صافح أسد وحيا والدته ثم جلس، تبادلوا بعض الأحاديث المجاملة ثم دخلت عليهم سيدة خمسينية، بضيافة وضعتها على المائدة وسلمت على صفية ثم حيت أسد وانضمت إليهم بالحديث في أمور شتى حتى دخلت عليهم فتاة متحجبة، تحمل صينية الشاي بحياء وضعتها على المائدة وجلست بجانب أمها بعد أن ضمتها صفية تهتف بإعجاب:

-تبارك الرحمن، ست البنات يا حسنها!

لم يلق إليها ولا نظرة فضول واحدة، ينشغل بالحديث مع والدها الذي قال:

-مرحبا بكما ويشرفنا حضوركما، نحن نعرف السيدة صفية من قريب حين انتقلتما الى حينا والحق يقال لم نرى منها سوى ما يشرف حتى أنت بني سمعتك طيبة.

ردت صفية بفخر لمعت به مقلتيها.

-الضابط أسد وحيدي وأدعو الله رؤية ذريته قبل الممات.

-أطال الله في عمرك أمي.

عقب معاتبا، فأردفت مبتسمة:

لم اسمع عنكم وعن كريمتكم سوى الأخبار الطيبة، لذا قدمنا إليكم ليتعرف إليها ابني ان شاء الله وادعوا الله أن يتم القبول بينهما.

رد عليها الوالد بمودة:

-مرحبا بكما، نعطيهما فرصة للتفاهم وليقدم الله ما فيه من خير.

أرشدهما والدها إلى الشرفة المفتوحة كي يتعرفا إلى بعضهما حيث نظر إليها أخيراً، ليجد المظهر موافق لمطالبه، فتاة متحجبة، مستحية، دون زينة تذكر على وجهها لكن قلبه ما يزال فارغا كأن التي أمامه لا تمت له بصلة ولا تعنيه بشيء.

ضغط على نفسه وقال بعد أن تنحنح:

-السلام عليكم.

رفعت أنظارها إليه ترد التحية ثم قال:

-سأخبرك عن نفسي، بعدها أمنحك فرصة لتفعلي المثل.

هزت رأسها فاسترسل بنبرة عادية:

-أنا اسمي أسد ضابط شرطة قسم مكافحة المخدرات، مدخولي تحسن الحمد لله وما زال سيتحسن مع الترقيات، أملك شقة في إحدى البنايات التي بأول الحي وما أتمناه فتاة تعينني على ديني وتحترمني وأمي وتهتم بالبيت بغيابي.

استفسرت منه بحيرة:

-لا يسمح لي بالعمل؟

فكر قليلا ثم قال:

-مع أنني لا أحبذ عمل زوجتي، فأنا أظل في العمل أوقاتا طويلة، فمن سيتولى مسؤولية المنزل؟ لكن سنرى على حسب نوع العمل.

يبدو أنها لم تستسغ الجواب لأنها أومأت بشفتين مضمومتين ثم قالت:

-اسمي منال، واحد وعشرون سنة طالبة بالسنة الثالثة كلية العلوم، أتمنى في شريك المستقبلي أن يكون ذو عقلية متفتحة تواكب تطور العصر.

قال بفضول

-كيف؟

ردت مفسرة:

-أن لا يكون غيورا بتزمت يعني ارتدي هذا ولا ترتدي ذاك، كلمي هذه ولا تكلمي تلك وأن لا يعقد الأمور بكثرة، هذا حرام و ذاك حلال.

قطب يتساءل باهتمام وقد شغلت باله عن ضجره، بينما يتفقد ملبسها باستغراب:

-لكنك متحجبة حسب الشروط.

تكلمت تعبر عن نفسها بوضوح، فهي تخشى أن تقع بمثل والدها فيكبل حريتها كما يفعل الأخير لذا يجب عليها أن تكون معه واضحة منذ البداية كما نصحنها صديقاتها:

-والدي يجبرني على ارتداءه لذا حين أتزوج لن يتحكم بي لأنه سيكون لدي زوج مسؤول، طبعا لن أزيل الحجاب بأكمله لكن سأغير طريقته لأنه لا يناسب العصر والموضة، صديقاتي دوما يستهزئن بي.

ضاقت مقلتاه بتركيز يحثها بهدوء:

-وماذا أيضاً؟

نظرت إليه بنفس الطريقة، يبدو أنها تدرس أثار ما تبحث عنه على ملامحه، فيتعمد الهدوء لا يمنحها شيئا:

-من المهم أن تكون الشقة لنا لحالنا.

لم يرغب بكبح مشاعره ورسم الدهشة على وجهه، يعبر عنها بهدوء:

-لكن أنا لا أستطيع ترك والدتي تسكن لوحدها، إنها والدتي.

قلبت الأفكار في عقلها ثم قالت باستسلام حانق كأنه وافق على هراءها السابق:

-لا بأس لكن من فضلك، أطلب منها عدم إخبار أحد من عائلتي حين نجتمع، أنها كانت خادمة.

وقف بحدة كأنه لدغ يقول بحزم:

-أنا آسف يا آنسة، رزقك الله بمن هو أفضل مني، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

توجه إلى الصالون بخطوات غاضبة وهتف بجفاء حاول لجمه ما استطاع:

-أمي لنغادر!

انتفضوا جميعا واقفين ووالدته تسأله بقلق:

-ما بك يا بني؟

كان ينوي التحجج باستدعاء من العمل، لكن تصرف الفتاة التي لحقت به تدعي البكاء منعه عن ذلك ووالدها يسأل بجبين مقطب:

-ماذا حدث؟ منال لماذا تبكين؟

رفع أسد كفه يقول بحزم وقد تكونت لديه فكرة واضحة عن الفتاة:

-من يخجل من أحد والداي اللذان أنجباني وقدما الغالي والنفيس من صحتهما وعمرهما من أجل أن أصبح ذا شأن، لا يستحق مني نظرة ثانية يا سيدي.

-ماذا حدث يا أسد؟

نطقتها صفية بصدمة، فرد عليها مفصحا حتى يغادرا بسرعة فأنفاسه ضاقت ويخشى التفوه بما يندم عليه لاحقا:

-الآنسة قالت تريد العمل قلت لابأس إن كان لا يؤثر على رعايتها للبيت ثم قالت تريد شقة لوحدها، فأقنعتها بأنك وحيدتي كما أنا وحيدك ولن أفارقك مهما حدث لكن ما لن أسمح به هو أن يقلل أحدا من شأنك، أنا فخور بك كل يوم ودائما لكن الآنسة هنا لديها رأي آخر تطلب منك عدم البوح بعملك السابق كخادمة في البيوت أمام أفراد عائلتها الكريمة.

تجمدت ملامحها، فسحب يدها وغادرا تاركين تماثيل قابعين أماكنهم على وضعية الدهشة.

أوقفته في الشارع، تقول بحزن:

-أنا آس....

لمس فمها براحة كفه، يخبرها برقة ورجاء:

-على ماذا تعتذرين؟ عن عملك بكد كي تربيني على الكرامة وكي لا نبسط أيدينا للتسول، تعتذرين عن ماذا بالضبط؟ عن اتخاذك مكان الأب دون أن تقصري في مقامك كأم فأغرقتني في بحر حنانك وتدليلك ثم أنفقت علي بسخاء الأب، لأكون ما أنا عليه اليوم، هل تعتذرين لكوني ما أنا عليه اليوم يا أمي؟

ضمته بقوة، تهمس بفخر وهي تبكي:

-لا يا حبيبي، بل أنا فخورة جدا بك وقلبي يدعو لك ليل نهار بالحفظ والتمكين.

ثم أبعدت نفسها تخاطبه بمرح وهي تمسح وجهها:

-لا تقلق، سأبحث لك عن أخرى وأخرى حتى نجد المناسبة، فليس كل الفتيات سواء.

هز رأسه بينما تتأبط ذراعه، يهمس بخفوت لم تسمعه وهما يمشيان نحو البناية حيث شقتهما:

-لا أعلم يا أمي، لا أعلم!

*****

*بيت أمين*

أنهيا العشاء وأمين يحكي لها عن مغامرتهم في الثانوية، يعجبه طريقة إصغائها له باهتمام حقيقي، كطفلة منبهرة بل تهتم بكل شيء يخصه بصدق.

أخذت كتبها من على طاولة غرفة الجلوس، فسقطت منه ورقة تناولتها من على الأرض و طالعتها، فهتفت بإعجاب:

-واااو! والدتي فعلا موهوبة.

ناولته الورقة تكمل وأمين يقرأ الموضوع بإعجاب هو الآخر:

-هي فعلا أدبية وتملك الموهبة.

تحدث أمين كمن وجد ضالته:

-أظن بأنني وجدت طريقة ستجعل الخالة تنسى التلفاز ومن اخترع التلفاز:

رمقته بتساؤل، فرد عليها بمرح:

-سأخبرك لكن بعد كأس الشاي من يديك.

تبسمت بخفر، فأدارت له ظهرها، ليعود لتأمل نصف شعرها الغجري المبعثر على ظهرها تحث الوشاح المغيظ ولمرة أخرى تثبت له قول وائل أنها أبدا ليست بشقيقته، فيسر خوفا عميقا، إن كان ألفها في ثلاثة أيام وسيألفها أكثر مع مرور الأيام.... ماذا حين يحين وقت الفراق؟

****

*بيت سمير*

قامت من على طاولة العشاء بنشاط وبدأت بجمع الأواني تحملهم الى المغسلة، فتناظر سمير وشاهي فيما بينهما بريبة ترجمتها الصغيرة قائلة بفرح:

-أمل حبيبتي سعيدة، هذا يعني...

لاعبت بأطراف أصابعها، تكمل جملتها ملحنَّة ووالديها يضحكان بمرح:

-أنني سأنام في أحضانها وتحكي لي قصة أحد الأنبياء،...هييييه ....هييييه!

ضحكت أمل فهي تشعر بالسعادة من صميم قلبها حقا، تلك التجربة في الثانوية وبجانبه مع حواره الشيق جعل عالمها يتغير ولو قليلا، إنه مختلف كما رأته في صغرها، وعت من أفكارها على حديث والدها ذو معنى:

-لمن ندين بالشرف يا ترى؟

قطبت بعبوس فلكزته شاهي بجانب بطنه تهتف بسخط مزعوم:

-لا تزعج صغيرتي حتى إن قررت التحدث ستختارني أنا وليس أنت أيها الأشيب.

ضم تقاسيم وجهه يهتف و قد راقت له اللعبة:

-بل أنا بابا خاصتها، فاخرجي منها يا شرسة!

تسمرت أمل والصغيرة يراقبانهما بذهول وشاهي تتخصر في مشهد مضحك بتلك البطن المنتفخة كالبالون:

-انا أيضا ماما خاصتها، فماذا ستفعل حيال ذلك؟ ثم أنا فتاة مثلها وسأفهمها.

تخصر هو الآخر بنفس طريقتها، فانفجرت الفتاتين ضحكا وحتى شاهي:

-فتاة؟ هل نظرت الى مرآة مؤخرا؟

-آآه!

أنت شاهي فتابع سمير يدعي الاستخفاف:

-إلعبي غيرها لن تفوزي هكذا.

-آآآه آآآه!

صرخت بألم فانتفضوا كلٌّ في مكانه وسمير يهتف بجزع:

-آسف حبيبتي، أنا كنت أمزح، أنت ما زلت وستظلين أحلى فتاة صغيرة.

أمسكت بذراعه مطبقة الفكين تقول بوجع:

-آآه يا سمير خذني إلى المستشفى، فأنا لو شككت للحظة أنك تتحدث بجدية، لقتلتك!

-شرسة!

هتف بنزق، فصرخت من جديد فأسندها متوجها بها إلى السيارة بعد أن ألقت عليها أمل العباءة والوشاح والتقطت حقيبة الولادة وقبضت على كف الصغيرة، لينطلق بهن وصيحات شاهي الأليمة تشق آذانهم و صدورهم، فارتمت دعاء في حضن أمل، التي تلقفتها تحضنها بقوة تتبادلان مدد الأمان والصبر فيما بينهما.

*****

*منزل القناص*

-تصبح على خير حبيبي.

قالتها بيلسان بحنان فضمها يهمس لها بحب قبل أن يفارقها:

-أحبك يا قطعة من قلبي.

أغلق باب غرفته وسارت نحو جناحها حيث وجدت جنات التي نظرت إليها فابتسمت بشقاوة، تسألها بمزاح وهي مستلقية على السرير تتصفح هاتفها:

-ما كل هذ الاحمرار؟ هل كنت برفقة نزار؟

نتشت مخدة صغيرة وألقتها باتجاهها ضاحكتين قبل أن تتمالك نفسها تستسفر منها بحيرة:

-هل رأيت أور؟ لم تكن على العشاء.

أومأت جنات نفيا، فقلبت بيلسان شفتيها تفكيرا في نفس اللحظة التي دق فيها الباب ففتحت الأخيرة، يقابلها جسد شقيقتها المرتجف.

اقتربت منها بجزع، تهتف:

-أور؟ ما بك ؟ لماذا ترجفين؟ هل أنت مريضة؟

هزت رأسها بلا معنى، تقول بتوتر والكآبة ظاهرة على محياها:

-هل يمكنني النوم بجانبك الليلة؟

اتسعت مقلتا بيلسان وجنات خلفها باندهاش، فقالت بحزن:

-لا بأس، أعلم بأنه طلب مزعج ومجنون.

همت بالمغادرة فأمسكت بيلسان بكتفيها، تجيبها بحنو:

-ليس طلبا غريبا ولا مجنونا، تعالي حبيبتي، فأنا وجنات ننام على سرير واحد منذ أن تشاركنا السكن ولطالما سندنا بعضنا.

رمقت جنات بارتباك، فقالت الأخيرة مبتسمة بتفهم:

-لقد تمتعت بحنانها لسنين طوال، ومن حقك أن تنالي نصيبك منها، على العموم أنا مجبرة على التعود، فهي ستتزوج قريبا ونزار لن يدع أحدا يقترب منها، أنا متأكدة... السلام عليكم تصبحان على خير.

دخلت الى الغرفة الثانية، فضمت بيلسان شقيقتها ورافقتها إلى غرفتها حيث استلقت بجانبها، لتتفاجأ بأن أور تبكي بحرقة وهي تحضنها.

طوقتها تسألها بخوف تمكن منها:

-حبيبتي ما بك؟ أخبريني.

همست ببكاء حارق:

-أرجوك لا تسألي، فقط ضميني بقوة ودعيني أبكي.

أطاعتها بقلب غير مطمئن، تفكر فيما يحزنها هكذا وعلى أي حال ضمتها بقوة تربت على رأسها بينما هي تبكي بحرقة كمن يعاني الفقد.

Continue Reading

You'll Also Like

91.8K 2.9K 24
أُغمض عيني... أغوص بالأعماق... أهرب من واقعي... هنا أشعر بالسلام.. بالطمأنينة.. بعيدًا عن البشر.. هنا أجد راحتي.. أبحث عن ذاتي.. أحتاج ليد العون، فأج...
5.5M 158K 105
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣
34.1K 1K 187
جميعنا عالقون بين اليابسة والبحر في ذاك الجزء الفاصل بينهما ذاك الشريط الرفيع بين سعادة مرجوة ..أو هلاك محتمل تلك الحافة التي تفصلنا بين ما نرتضيه...
432K 10.4K 33
أشواك ♥ورد *مميزة (1) سلسلة الأزهار و الزمن ** معدل ** وردة نبتت وسط حديقة غناء، أصابتها قطرة مسمومة فأحاطتها بشوك...تميزت بشوكها و سط الورود وكل م...