سلسلة الأزهار و الزمن .. ج3...

By ShaimaaGonna

222K 8.7K 172

سنا البيلسان في دجى الأوركيدا....بقلم المبدعة منى لطيفي جميع الحقوق محفوظة للكاتبة ....... الجزء الثالث من س... More

اجزاء السلسلة
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد و عشرون
الفصل الثاني و العشرون
الفصل الثالث و العشرون
الفصل الرابع و العشرون
الفصل الخامس و العشرون
الفصل السادس و العشرون
الفصل السابع و العشرون
الفصل الثامن و العشرون
الفصل التاسع و العشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد و الثلاثون
الفصل الثاني و الثلاثون
الفصل الثالت و الثلاثون
الفصل الرابع و الثلاثون
الفصل الخامس و الثلاثون
الفصل السادس و الثلاثون
الفصل السابع و الثلاثون
الفصل الثامن و الثلاثون
*الفصل الأخير*
*الخاتمة*
إعلان الجزء الجديد

الفصل الرابع

5.3K 216 4
By ShaimaaGonna

نسخة معدلة ....

*الفصل الرابع*

{ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل .....الحسن البصري }

بخطوات خافتة تكاد تلمس بهما الأرض تلج بيتها داعية الله أن تجد صديقتها قد غابت في بحر الأحلام ولم يخب دعائها، فقد غرقت الشقة في سكون الليل وظلمته لذا تلمست بيلسان طريقها بخفوت إلى السرير دون أن تغير ثيابها شاكرة ربها على قضاءها لصلاة العشاء في وقته في بيت نضال.

استلقت على ظهرها دون أن ترفع الغطاء، فحرارة الأفكار أضرمت نار الخوف والريبة في أحشائها وامتدت أصابعها إلى الطرحة تفك عقدتها لتزيله علَ الهواء يجد طريقا إلى صدرها وثبتت أنظارها على السقف تفكر وتفكر كل صوت يسبق الآخر بسؤاله (ماذا سأفعل؟ ماذا سأقول لجنات؟ كيف ستكون الحياة بعد اليوم؟ كيف ستعاملني أوركيدا؟ كيف ستعاملنا عائلتنا؟ و جنات يالهي! ...ماذا إن علمت عن والدي؟ هل ستأخذني بذنبه؟ هل ستكرهني لما وصلت إليه بسبب ذلك الرجل الذي لا يربطني به سوى الدم؟)....التفتت إليها فلم يظهر منها شيء بسبب العتمة، فعاد فكرها للتحدث لكن بحزن ( آه يا جنات كنت ستفقدين أعز ما لديك، عفتك! هل نسيت ما علمه لنا إبراهيم؟ هل نسيت وصاياه لنا دائما؟ هل نسيت الحديث الشريف الذي كان يلقيه على مسامعنا كلما وجدنا نتحدث ونثرثر " قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ )) [ البخاري، الترمذي، أحمد،... كان من الممكن أن يختار أي حديث آخر من أجل الغيبة لكنه في كل مرة يخبرنا عن نفس الحديث، كان يدس رسالة العفة والشرف في أذنينا دون أن يخجلنا ). عادت تنظر أمامها والنوم أقسم على أن لا يزورها الليلة، ليكمل على بؤس حالها قطرات تسقط من صنبور اهترأ من بطش الأيادي على مر الزمن، ليصدر صوتا كأنين عجوز تحتضر ....."آآه"! ،تنهدت من جديد تخرج أنفاسا حارة كحرارة جوفها قبل أن تجفل من نبرة جنات الناعسة

_ما كل هذه التنهدات بيلسان؟

تنفست بعمق على إثر المفاجأة، فأمسكت صدرها جزعا وجنات تتحرك لتشعل المصباح جوارها ثم التفتت تتأمل حالة صديقتها بينما تستدرك

_لم أكن نائمة، انتظرت مجيئك واستغربت حين استلقيت دون تغيير ملابسك، فتوقعت بأنك متعبة للغاية، لذا حافظت على صمتي كي أدعك تنامين لكنك لم تفعلي وأنت تتلفتين كل لحظة وتتنهدين، ما بك بيلسان؟ و لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟

بللت شفتيها تشعر بعطش شديد لتتذكر أنها لم تأكل أو تشرب منذ الصباح في المخبز حتى حين جهزت عشاء نضال فضلت الانتظار حتى يأكل، فتوضب ما تبقى وتحضره معها كما تفعل جنات

_هييييه! بيلسان أنت تقلقينني.

أدارت جسدها على شقها المقابل لجنات وتأملتها لبرهة ثم أخبرتها بخفوت واجم

_جنات؟ هل أنت عذراء؟

كان دورها لتجفل وتشهق ببهوت من سؤالها الذي لم تتوقعه ليحل الصمت من جديد حولهما سوى من قطرات الماء تتوالى هاربة من سجنها دون انقطاع.

وجه جنات الأسمر جامد يعلوه الشحوب والبؤبؤ بلون الذهب يتسع ويظلم، ليظهر كالبدر وسط بحر أبيض محمر تعبا، يظللهما حاجبين سوداوين يمتدان حتى بعد حد العينين كأنهما يعلنان عن حراستهما الشامخة، شفتها السفلى بارزة عن العلوية بشكل ملفت تحت أنف بارز قليلا وسط وجنتين ممتلئتين بتناسق مع وجهها الدائري، رفعت كفها لتعيد إحدى خصلاتها السوداء التي تجعدت من اهمالها له في أيام مرضها إلى الخلف بينما عينيها الجامدتان تتبعان دمعة يتيمة تتدحرج على وجنة بيلسان تتلمس مسارها عبر بشرة صاحبتها التي تنافس الأموات شحوبا لتعود إلى مقلتيها حين نطقت بشجن

_رحم الله ابراهيم يا جنات، تعلمين أنني لا أحلف إلا بالله وهذا ما علمه لنا، فاصدقيني القول بالله عليك وأريحي قلبي.

ذكرها لإبراهيم كسر آخر حاجز بنته في أيامها الأخيرة لتخفي عن صديقتها لا! بل أختها بل نفسها، حقيقة إحساسٍ أضعفها رغما عنها أو أضعف عزيمتها بسب كل مِحنها لترى في نضال مهربا أو متنفسا يعوضها عن حنانٍ فقدته منذ فقدت شقيقها مع شعورٍ آخر يعوض حبه وعطفه.

تحدثت بنبرة بكاء حارقة وهي تمسك جانبي الشرشف بقبضتيها

_أنا عذراء يا بيلسان، عذراء! لكن أعترف بأنني ضعفت، ضعفت وكدت أستسلم لولا .....لولا!

قاطعتها بيلسان تقول بنفس مرارتها دون أن تذرف دمعة أخرى

_لولا أنه لم يتمادى معك.

جحظت عيني جنات ترمقها بريبة مندهشة تلهث من فرط نحيبها لتكمل بيلسان عن صديقتها التي تحفظها جيدا

_لم تكترثي يوما لرجل ولا للمال، لم تستسلمي يوما لكلمات ديدو عن الأغنياء والثراء ...لم تكوني يوما منفلته ولا لعوبة أو حتى طماعة.

تسمرت جنات كما تجمدت الدموع على وجنتيها بينما بيلسان تتابع حديثها كأنها تلفظ كلمات تحوم في صدرها تحرقه منذ مدة ولم تتجرأ على مواجهتها

_لماذا هو جنات؟ لماذا نضال القناص بالذات؟

تأملتها قليلا قبل أن تنفجر باكية من جديد ترتمي عليها، فقالت بيلسان بجمود شارد وهي تمسد على شعرها

_أنت أحببته جنات ...أحببت نضال القناص، ابن خالي يا جنات!

****

أخذ نفسا عميقا من أريج زهور الياسمين التي تصطف بشكل مبهج في أوعية الزرع المزينة للسور المحيط بالسطح وشرد فكره كما تاهت أنظاره نحو أضواء المدينة بينما شبح ابتسامة يتعلق بثغره حين زارت أفكاره بعطرها المستوحى من الياسمين لينسى ما كدر صفو مزاجه

_يا سلام على البسمة الرائقة.

استدار سامي إلى صديقه الضاحك ساخرا، يتأرجح على الكرسي المعلق، فخطا إليه ينفض كفه بكفه الآخر ثم جلس جواره يتأمل السطح المصمم على شكل حديقة مبهجة، خصوصا في الليل حين تكتمل زينته بالأضواء الخافتة الملونة المنتشرة بين أرجاءه.

حلّ الصمت عليهما يسبحان بأفكارهما كأن الصمت يساعدهما أكثر على تصفية ذهنهما، خالد وسامي شابين جمعتهما ظروفهما المتشابهة التي أوصلتهما إلى الشراء في تلك البناية الأنيقة التي تجمع بين الرقي والمنطقية في القيمة المادية ولكونهما السبّاقين إليها نشأت بينهما صداقة كللت بالتفاهم والثقة.

أجفلهما صوت رسالة على هاتف سامي أهملها بضجر، فعقب خالد بمزاح

_إعلام بالوصول!

هز رأسه بوجوم صامت، فاستطرد خالد مغيرا الموضوع

_كيف حال التدريس معك؟

أفلتت دقة من عقالها رغما عنه وقد اختصر له هواه الثانوية في وجه واحد أضحى كثير الزيارات لأفكاره مؤخرا لكنه كالعادة وبجدية ينفض عنه أفكاره المحرمة ويرسلها بعيدا إلى زاوية مهملة، مانعا عنها الجموح الذي سيعيث بأحشائه فسادا

_كالعادة، الأمور تمر بروتينية وكل شيء بخير الحمد لله، ماذا عنك؟

ابتسم مريحا جسده إلى الخلف

_تمام، نفس الروتين، لم أسألك عن والدتك، كيف هي؟

غطى الوجوم وجهه وهو يرد عليه

_لا أعلم ما بها يا صديقي؟ كأن الدواء لا يأتي بنتيجة.

أدار خالد رأسه إلى سامي، يسأله بقلق

_هل استشرت طبيبها؟

أومأ بإيجاب

_يقول بأن الأمر نفسي.

ثم استدار إلى خالد يستطرد بلوعة

_لا أعلم ماذا بها؟ أحدثها طويلا محاولا سبر أغوارها لكنها دائما تطمئنني وتتحجج بكبر سنها.

ثم رفع رأسه إلى السماء متنهدا، يكمل

_لقد تعبت، أشعر بثقل على صدري لا ينزاح ولا أعلم ماذا أفعل؟

تغضنت ملامح خالد حامدا ربه على مشاكله الهينة أمام مشاكل صديقه، ينظر إليه بإشفاق وتراوده فكرة عمن قد يكون سبب شقائهم لكنه طبعا لا يستطيع قول شيء، فما هو سوى إحساس لا دليل عليه.

***

*صباحا*

(بيت أسد )

_السلام عليكم.... صباح الخير على أم الخير كله.

ادعت العبوس بشكل مضحك، ترد عليه بينما تضع إبريق الشاي على المائدة المربعة في الشرفة المطلة على الشارع بينما تتملص من بين يديه

_ابتعد عني يا ولد واحترمني قليلا أنا والدتك.

ابتعد عنها يبتسم بمرح واتخذ كرسيه المعتاد مجلسا له كما جلست قبالته محافظة على جمود وجهها تصب الشاي لنفسها بغيظ مزعوم ثم بدأت الأكل دون أن تدس بعض اللقيمات في فمه كما تفعل عادة، فمد يده وصب لنفسه هو الآخر حين علم بأنه لن يحظى بتدليلها اليومي واكتفى به دون أن يمس الأطباق المتراصة أمامه.

رمته بنظرات حانقة، تهتف بنزق

_كل شيئا، فموعد عملك قريب وستركض هنا وهناك طوال اليوم دون أكل صحي.

اتسعت بسمته المرحة حين أخذت قطعة خبز لتغمسها بالعسل ثم دستها في فمه بغلظة مفتعلة، تكمل هتافها

_لم ترث منه سوى عناده ...رحمه الله.

بلع ما في فمه يرد عليها بفكاهة بينما يسبل لها أهدابه البنية ببراءة مزعومة

_فقط؟ وماذا عن مقلتاي العسليتين؟ ألم تخبريني مرارا بأن ما أوقعك في حب والدي هو لون العسل الصافي في عينيه؟

كتمت ابتسامة فرضت نفسها عليها، تجيبه بتأنيب مضحك

_تأدب يا ولد! الحق علي لأنني أخبرك بكل شيء.

قام عن مكانه ليجلس بجانبها يضمها من كتفيها ومقبلا رأسها يخاطبها بحب

_حفظك الله لي يا أعز ما أملك.

ضحكت أخيرا تقبل كتف أسد كما تعودت الفعل، فأضاف بحنو

_أمي، أنا لم أتعمد إغضابك، أنت تعلمين بأنني لا أستطيع الإقدام على تلك الخطوة حاليا لكن أرجوك اسمعيني وافهميني.

نظرت إليه بتمعن بينما هو يكمل مفسرا

_أنا لست مستعدا لزواج الآن، عملي في أوجه، أتورط بعمليات سرية، ولا أستطيع ربط فتاة بي وأنا لا أجد وقتا حتى لك أمي، من فضلك امنحيني بعضا من الوقت حتى أرتب حياتي وأصل إلى هدفي بعدها سأطلب منك بنفسي البحث عن عروس لي.

ابتسمت برضا تعود لتقبيله ثم سألته بريبة

_هل هذا يعني أنك لست مشغولا بإحداهن؟

لمع العسل ببريق خاطف لبرهة قبل أن يرد بتصميم

_لا يشغل بالي سوى عملي، أما قلبي فلا يشغله سواك يا صفصف.

ضربته على كتفه بكفها تهتف بحنق

_صفصف هذه لا أحبها.

قبل رأسها ضاحكا وقال قبل أن يقوم من مكانه

_أحلى صفية في الوجود.

ثم انصرف إلى عمله تشيعه والدته بدعوات الحفظ والتيسير.

****

صباح الخير يا نرمين، كيف حالك؟

سلمت عليها مقبلة وجنتيها قبل أن ترمي حقيبة يدها على أريكة مهترئة ككل شيء في تلك الشقة ثم قالت بعد أن لاحظت شحوب بشرة بيلسان أكثر من العادة والزرقة تحت عينيها الذابلتين، تتساءل بريبة بينما تشير إلى وجهها

_ظننت بأن جنات المريضة لذا جئت لزيارتها.

قاطعهما صوت جنات خارجة من غرفة النوم الوحيدة هناك، تجيب بتعب

_كيف حالك نرمين؟...لماذا أتعبت نفسك بالزيارة باكرا؟ ...أنا متأكدة من أنك تشاجرت وديدو ليدعك تخرجين في هذا الوقت.

زفرت نرمين بينما تسلم عليها لتجلسا على الأريكة اليتيمة وبيلسان تجهز فطورا في المطبخ الضيق جدا والمفتوح على المساحة الصغيرة التي تحوي تلفازا قديما وأريكة يتيمة أمامها طاولة صغيرة مستطيلة الشكل

_لقد مللت من ديدو ومن تلك الفيلا بمن فيها وأمقت اليوم الذي تعرفت فيه عليه.

ربتت جنات على كتف نرمين بإشفاق، تسألها بحيرة

_لماذا لا تتركينهم وتنفذين بجلدك؟

زمت شفتيها بضيق ثم ردت بحزن مشوب بغل

_كيف يا جنات؟ أنتما تعلمان بأن من يدخل عالمهم لا يستطيع الخروج منه إلا إلى المقبرة أو السجن.

تدخلت بيلسان بينما تضع براد الشاي وطبقين صبت فيهما زيت زيتون ومربى على الطاولة.

_لا تيأسي من روح الله يا نرمين ولا تقبلي بأن يهزمك الشيطان، باب التوبة مفتوح دائما ولا تنسي قول سيدنا يوسف {ربي السجن أحب إلى} يعني السجن أهون من الزنى والفحش، السجن تنقضي أيامه أما الجحيم في الآخرة فلا يطاق.

دمعت عينا نرمين كعادتها كلما سمعت عن الله والحق، يعذبها ضميرها الذي ما يزال يقظا رغم كل ما واجهته وضحت به وهذا ما يجعل بيلسان وجنات يتقبلن صداقتها وإن كانت من جماعة ديدو، مدركتين قصتها المكررة بين الكثير غيرها من الفتيات، الفقر والجهل حين يتصف بهما الجمال تكون العاقبة استغلالٌ فانحراف.

تجهمت بيلسان واقتربت من نرمين، تمسح دموعها تخاطبها بمواساة

_إذا قررت يوما تركهم أخبريني، فأنا على معرفة بمن يستطيع مساعدتك.

هزت رأسها بحزن، فقامت بيلسان من مكانها تودعهما

_أستأذنكما لقد تأخرت.

سألتها جنات ترمقها بغموض لم تفهمه نرمين

_ستتأخرين ككل يوم، أم ستعودين باكرا؟

رمت نرمين بنظرة خاطفة قبل أن تجيبها

_سأكمل عملي لدى السيدة حليمة ثم أقضي أشغالا ما وسأحاول العودة باكرا.

خرجت بيلسان من البناية لتلمح سيارة أنيقة سوداء، يتكئ عليها رجل ينتظرها، فسعت نحوه بتردد تسأله بتوتر حين وصلت أمامه

_هل السيد نضال من أرسلك؟

انتفض الرجل من مكانه يفتح باب السيارة الخلفي يهتف باحترام

_بلى يا آنسة، تفضلي!

استقلت السيارة بوجل تفكر بأن حياتها ستنقلب رأسها على عقب، لكن على غرار صديقتها التي بعد أن تجاوزت صدمتها حين أخبرتها بأنها وجدت أهل والدتها ونضال يكون منهم تحمست وسعدت كثيرا ليس لأنها ورثت مالا كثيرا بل لكون حبيبها يقرب لصديقتها، سعادة لم تستطع بيلسان الإحساس بها وكل ما تشعر به الخوف والترقب.

****

_صباح الخير سيدي!

تبسم المدير بوجهها الصارم الذي لا يليق لا بملامح ولا ببشرة وجهها التي تحمر دون سبب

_صباح الخير لبنى ...كيف حالك؟

فتحت باب مكتبه ليدخل بينما تجيبه برسمية واحترافية

_الحمد لله سيدي ....قهوتك جاهزة مع أنني أنصحك بعدم شربها على الريق.

جلس على المقعد خلف مكتبه الكبير، يجيبها بمرح

_تلك الجملة تلقيها ابنتي على مسامعي كل صباح توقظني فيه بمكالمتها الهاتفية.

ثم اتسعت ابتسامته بدفء مع ذكر ابنته، يكمل بحنان لمعت به مقلتيه

_مع أنني لا أحب الأكل إلا بعد شرب القهوة لكنني تجاوزت عادتي من أجل حبيبة قلبي ورد.

اختفت ابتسامته حين لاحظ تأملها والدموع تتحجر على ضفاف مقلتيها خلف عوينتيها الطبية الشفافة قبل أن تنتفض على إثر رنين هاتف المكتب، لتستعيد جمودها وتخطو إليه تجيب برسمية

_مكتب معالي وزير الداخلية نعم؟.....انتظر لو سمحت.

مازال يرمقها بحيرة حين التفتت إليه تخبره

_استقبال الوزارة يقول بأنها مكالمة من المركز الرئيسي، العميد ليث الجندي.

هز رأسه يقول بينما يسحب هاتفه الشخصي من جيب سترته

_أخبريه بأنني سأحدثه من هاتفي، أدرته على الصامت ونسيته، يمكنك الانصراف لبنى وسأطلبك بعد أن أنهي اتصالي كي أطلع على مواعيدي.

فعلت ما أمرِت به وانسحبت في نفس الوقت الذي رد فيه ليث بمرح معتاد بينهما

_معالي الوزير بدأ فعلا بتجاهلنا.

أنّبه بحنق عكس بسمة وجهه الرائقة

_لا أعلم إلى ماذا تُلمح بالضبط؟ لكنني لن أبرر لك، أخبرني! لماذا تزعجني في أول يوم لي بعملي كوزير؟

صدحت ضحكته عبر موجات الأثير قبل أن يجيبه بمرح

_مدير الأمن مصطفى الشهدي يتخلى عن العمل الميداني ويكتفي بالمكتب الفاخر ومجموعة من الموظفين تحت إمرته، لن أصدق حتى أرى بنفسي.

ضحك مصطفى بنفس المزاج المنعش بينما يجيبه

_لا تصدق يا ولد! هي أيام أدلل فيها نفسي قليلا ثم تجدونني فوق رؤوسكم، هيا! أخبرني أين وصلتم؟

استعاد ليث الحزم في حديثه وهو يخبره

_جميعهم في قاعة العمليات، فاتصلت بك كي تحضر معنا لكن سنكتفي بهاتفينا، يمكنك سماع كل شيء.

رد عليه بنفس حزمه

_لا ليث، تعلم بأن المكتب جديد ولم أؤمنه كفاية، لذا أبلغني بكل التطورات حين نلتقي مساء إن شاء الله.

أغلق الهاتف بعد أن سمع التحية ثم التفت إلى هاتف مكتبه ليطلب مساعدته.

***

_يا إيمان ما تفعلينه اسمه جنون، دعيني أبلغ شقيقك على الأقل.

_لا!

نطقتها إيمان بجزع وهي تضم ابنتها الصغيرة إلى صدرها وسط ردهة الاستقبال بالمستشفى، كي تؤمن لها شيئا من أمانها المفقود على يد أقرب شخص إليها ....والدها.

_أتوسل إليك سلوى، لا أريد لأخي أن يعلم... لقد هددني بأنه سيقتله، أمين ما تبقى لي من عائلتي، سأصبر على كل شيء من أجل أخي.

زفرت سلوى بشدة تتأمل الزرقة المحيطة بعينها اليسرى، الكدمة الوحيدة الظاهرة من بين أخريات تحت ملابسها واشتد غضبها منها قبل أن يكون من زوجها الوحش، لتقول بغيظ

_أقسم يا إيمان إن سمحتِ لي بمساعدتك، سأحميك وألقنه درسا لن ينساه حتى يتعلم كيف يحترم النساء.

أطلقت العنان لدموعها ذلا، تقول بلوعة أليمة

_لا تصعبيها علي سلوى، طلبتك كي ترافقني إلى المستشفى، لا أريد لأحد أن يعلم حتى هو! لا أريده أن يعلم عنك وأمين دعيه خارج الموضوع، لا أريده أن يعلم، لا هو ولا أحد أخر في الحي! ....أرجوك افهميني!

بكت صغيرتها ريفان تواسي والدتها البائسة، فهي الوحيدة الشاهدة على معاناتها مع زوج ما كانت اختارته عن طيب خاطر إلا غصبا من والدها السكير، هذا ما كانته، صفقة لضمان الكحول وليته استفاد منها فقد راح ضحية حادث بعد زواجها بسنة ليتركها لمعاناة وعذاب لا ينتهي. أخذت سلوى نفسا عميقا تهدئ به غضبها وقالت بينما تسحب الصغيرة ريفان برفق إلى صدرها

_أنت حرة إيمان، أنت أكبر مني، يعني أنضج مني وبيدك قرار نفسك، هيا لنغادر!

حركت رجليها ببطء تكتم آهة ألم قبل أن تنظر إلى سلوى المراقبة لمعاناتها بغل واشفاق تحذرها

_أتمنى أن لا تندمي يا إيمان.

****

*قاعة العمليات ، المركز الرئيسي*

هلّ عليهم العميد ليث حين اكتمل أفراد الفرقة المختارة للعملية الخاصة الجديدة المكونة من متابع العملية الضابط الممتاز ضرغام والمكلفين الضابط ممتاز صوان والضابط أسد.

تحدث ليث يشملهم بنظراته الحازمة

_السلام عليكم.

ردوا عليه التحية، فتابع بفضول

_هناك فرد غائب.

جلس ليث بينما أسد يجيبه بحيرة

_نوفل سيلحق بنا إن شاء الله بعد ثلاثة أيام كي يلتئم جرحه جيدا.

أومأ ضرغام سلبا، يصحح له قصد ليث

_لم يقصد نوفل يا أسد بل ....

قطع حديثه حين دخل عليهم شاب من عمر أسد لكن أضخم منه، بل أقرب إلى صوان في هيئة جسده وحتى شبه في ملامح الوجه حيث أنهما لا يتصفان بوسامة بارزة لكن جذابة بشكل غامض، فملامحهما عادية بشعر قصير كقصة الجنود وشكل وجه دائري، عينين بنيتين مائلتين للسواد وحاجبين خفيفين مع أنف متوسط غير بارز إلا أن صوان ملامحه تميل إلى الصرامة أكثر من،،،،، "زيد" وإن كانت النظرة بعينيهما الحادة متشابهة، يرتدي سروالا بتصميم شبيه بسراويل الجيش مع كنزة سوداء بكمين وقلنسوة.

قام ليث بفرح صادق يستقبله ضاما إياه بخفة يتلقى منه نفس الود والاحترام قبل أن يبعده قليلا، يخاطبه بمزاح بينما يشمل هيئته بنظرة مرحة

_ما شاء الله، يبدو أن جو الجنوب ناسب صحتك. كيف نمَيت كل هذه العضلات؟ ما أذكره عنك النحافة وصفرة البشرة.

ضحك زيد يرد عليه بمرح سُر له ليث، سعيدا بتبدل نظرة النقمة والبؤس وفقدان الثقة في عينيه

_أنا متفاجئ مثلك، يبدو أن كل ما كنت أحتاجه، التمارين الصارمة والأكل المناسب لأتضخم على هذا النحو.

علت ضحكة ليث الرائقة والتفت إلى الباقي يعرفهم إليه

_أقدم لكم الضابط زيد، كان من المفترض به التخرج مع دفعتك أنت ونوفل يا أسد لكن الظروف أخرته سنة، خيرا إن شاء الله، فبسبب تأخر تسجيله اضطررنا لإرساله إلى مدينة أخرى وها هو عاد إلينا مستعدا وجاهزا، محملا بتجربة ليست بهينة.

تقدم زيد وسلم على ضرغام ثم أسد الذي يقبع جواره ليستدير إلى الجامد مكانه، يرمقه بتأمل مريب، فبسط كفه إليه يهز له رأسه مبتسما برسمية، أجفل صوان من شعور لا يعلم كنهه يأخذه إلى ماض سحيق ثم نظر إلى كفه الممتدة، فاستلمها بخاصته لتزداد ريبة زيد يستشعر غرابة نظراته ما إن لمس كفه هو الآخر وللحظة لم يشاءا انقطاع تلك اللمسة التي أعادت عليهما ذكرى مفقودة يستشعرها باطنهما دون عقليهما لكن الموقف فرض سلطته لينتهي اللقاء ويتخذ زيد الكرسي بجانب صوان مقعدا للجلوس.

عاد ليث الى مقعده يستفسر منهم بجدية

_إذن ما هي الخطة؟

***

_لا تقوليها يا بيلسان.

أطرقت بيلسان بعينيها حرجا من السيدة حليمة بينما هي تتابع بقلق استبد بها، فلا ترغب حقا بفقدان عاملة مخلصة وبارعة في نفس الوقت

_ لماذا يا ابنتي؟ هل هناك ما يزعجك هنا؟

ربتت على ذراعها ترد بحزن وهما واقفتان قرب حاجز عبارة عن فترينا زجاجية لعرض الحلوى وأنواع من المخبوزات

_لا سيدتي، كنت محظوظة بالعمل تحت امرتك، ولم أرى منك سوى المعاملة الحسنة لكن أنا لم أعد بحاجة للعمل، لذا أعلمك بعد أن أكملت بضاعة اليوم والغد أيضا وسأعود من أجل كعكة الزفاف التي التزمنا بها.

زفرت بخفوت، تجيبها بحزن

_شكرا لك، على الأقل بقيت على العهد إلى أن تنهي التزاماتك، غيرك لم يكن ليكترث وقد ينسحب دون حتى إعلامي، سأتدبر أمري بزميلاتك إلى أن أوظف أخرى مع أنني لا أظن بأنني سأجد مثلك.

ابتسمت بيلسان برقة، فسحبتها السيدة حليمة وأجلستها على أريكة الانتظار، ثم جلست جوارها تطمئن عليها

_هل ستتزوجين؟ إن كان الحال كذلك، أنصحك بعدم ترك عملك من أجل رجل، فأغلبهم ليسوا أهلا لثقة.

ردت بيلسان تومئ سلبا

_لا سيدتي ليس من أجل الزواج.

قطبت حليمة بحيرة، فتابعت بيلسان بتردد

_ل....لقد وجدت عائلة والدتي التي تركت لي ولشقيقتي أموالا.

اندهشت حليمة، تتساءل باستغراب

_لديك شقيقة؟ لم أرها من قبل، أشعر كأنني لا أعرفك حقا يا بيلسان.

ضمت شفتيها بتوتر قبل أن تجيبها محرجة

_إنها قصة طويلة سيدتي، شقيقتي نشأت وتسكن ببلد أجنبي وستعود اليوم بالتحديد لتستلم حصتها أيضا.

علت الحيرة وجه حليمة، ما تزال تستفسر لتفهم فهي تخشى على الفتاة بصدق وتود الاطمئنان عليها

_كيف لم تعلمي عن أهل والدتك قبلا؟ وكيف افترقت عن أختك؟ اشرحي بيلسان، أنا لا أفهم شيئا.

حررت نفسا حارا من صدرها الضائق، غير راغبة في التحدث عن شيء خصوصا ما يتعلق بموضوع والدتها لكنها قالت مجبرة

_والدتي قُتلت على يد خاطفي الذي رباني، فلم أعلم شيئا عن أهلها إلى أن كبرت ولا عن شقيقتي التي نشأت بكنف وا......

تلكأت ثم أكملت

_الرجل الذي أنجبنا.

بلعت السيدة حليمة ريقها تسترجع ومضات من ماض لا تحب حتى ذكره، لكن الفضول غلب على سخطها وكرهها تستفسر منها

_بيلسان؟ ما اسم عائلة والدتك؟

ردت عليها بريبة من ملامحها المتغيرة

_القناص.

شهقت حليمة مدهوشة تحدق بها كأن بها مس، فسألتها بقلق من حالتها

_سيدة حليمة ما بك؟ هل تعرفينهم؟

لمعت عيناها بدموع حبيسة ولدتها مشاعر شتى بين سخط وحقد وغضب لكن حين نظرت إلى بيلسان لم يغمرها سوى الحزن والاشفاق بينما تسألها بذهول

_أنت ابنة فادية القناص؟

***

تضرب الأرض بقوة كأنها ستشقها رغم ارتدائها لحذاء رياضي إلا أنها لفتت انتباه من حولها بحضورها الغاضب دون ذكر هيئتها الأجنبية بطلتها، جينز أزرق شاحب ذي شقوق على ركبتيها وكنزة سوداء، عليهما سترة مفتوحة بنفس طول ولون الكنزة وشعر استطال عما كان عليه قبل سنوات إلى منتصف عنقها أما زينة وجهها فقد خفّت قليلا خصوصا الكحل حول العينين وإن ظل أحمر الشفاه فاقعا

تلفتت حولها تبحث عن الوجه المتعجرف الوسيم العائد لابن خالها وقد أرسل لها صورة سابقا على هاتفها لتلمحه يشير لها باسما ببرودة

يعلم بأن هذه تختلف كل الاختلاف عن توءمها البسيطة والطيبة لذا وجب عليه الحذر.

وقفت أمامه تفرد قامتها بينما ترمقه بتحد أن يفكر ولو لحظة بأن قصر قامتها عنه نقطة لصالحه، فتحولت ابتسامته الباردة إلى أخرى مرحة بينما يبسط يده إليها ليصافحها، فتضاعف من تسليته حين شدت على كفه بقوة، تأمره دون مقدمات وبشكل حازم

_خذني إلى شقيقتي.

***

_إذن، هل انتهينا؟

حرك الجميع رؤوسهم موافقين، فاستطرد ليث ناظرا نحو ضرغام

_بلغ نوفل بكل التطورات كي يبدأ مباشرة ما إن يلتحق بعمله.

ثم التفت إلى أسد، يكمل بجدية

_جهز نفسك يا أسد لأن الفتاة لابد على أرض الوطن الآن، يعني قد تطلبك للعمل في أي وقت.

أومأ يسأله بامتعاض يخفيه

_لماذا أعلمتموها سيدي؟

رد عليه ليث بتفهم لما يعنيه

_كانت على اتصال بالمدير طوال السنوات الماضية وحتى إن لم يعجبنا الأمر هي من ساعدتنا بمعلومات كثيرة، لذا يا أسد ستلازمها كظلها، فهي معتوهة ترمي بنفسها في الجحيم ولا تكترث.

علق ضرغام بتهكم

_ابنة أبيها، لكن حمدا لله في الاتجاه المعاكس.

انتقل إليهم حس الفكاهة، فاستطرد بجدية

_صوان فكر جيدا فيما ستفعله، فأنت من سيتعامل مع الهدف مباشرة.

تحرك بمكانه ينفض عنه ذلك الإحساس الذي يستولى على أعصابه كلما بقي مع زيد مدة أطول

_لا تقلق ضرغام، استغرقني التدريب والتخطيط سنوات من عمري لأواجهه وأتعامل معه بصبر وأنت خير من يعلم حين يكون الجاني عدوك في نفس الوقت

ضم شفتيه يهز كتفيه مشيرا بأنه محق، فتدخل ليث يحذره

_لكن لا تنس بأن الحقد أحيانا يعمي الإنسان فيضله عن طريقه الصحيح.

رفع زاوية فمه ساخرا بينما مقلتيه تلمعان بـإصرار مخيف، يقول بهدوء خطير

_لا تخف علي، فلقد ظل ذلك الحقد أطول من اللازم يغلي على نار هادئة، سنوات وسنوات تعديت فيهم مرحلة الغضب والعمى والآن كل ما أشعر به الهدوء ونشوة الفرح لقرب تحقيق العدالة.

لقد كان هدوءه فعلا مخيفا ليكمل على هيئته الخطيرة، فتدخل زيد يستفسر منه بريبة

_هل بينك وبينه ثأر شخصي؟

لا يعلم حقا لماذا سعد بسؤاله، فهو عادة منغلق ووحيد لا يثق بأحد، ولولا متطلبات العمل الذي أجبره على الاحتكاك بزملائه ليتأكد من مدى رجولتهم ووفائهم لما سمح لهم بالخوض بحربه التي شاء القدر بأن تصبح حرب الوطن ضد الأعداء.

نظر رأسا في عينيه ليشعر بألفة دفينة ودفء لأول مرة منذ زمن بعيد، لا يعلم حتى متى! يسري عبر عروقه وأخبره بحزم لا يقبل الجدال

_بلى، ثأر لن تكون نهايته سوى الموت.

****

انتهى الفصل الرابع

Continue Reading

You'll Also Like

1.2M 97.2K 77
‏لَا السَّيفُ يَفعَلُ بِي مَا أَنتِ فَاعِلَةٌ وَلَا لِقَاءُ عَدُوِّيَ مِثلَ لُقيَاكِ لَو بَاتَ سَهمٌ مِنَ الأَعدَاءِ فِي كَبِدِي مَا نَالَ مِنَّيَ م...
91.8K 2.9K 24
أُغمض عيني... أغوص بالأعماق... أهرب من واقعي... هنا أشعر بالسلام.. بالطمأنينة.. بعيدًا عن البشر.. هنا أجد راحتي.. أبحث عن ذاتي.. أحتاج ليد العون، فأج...
358K 12.3K 43
_ خلعت الدبلة وخاتم الزواج كي تنظف الأطباق , أنهم لا يعنوا أي شيء لها ولكنها تخشي أن تغضبه ولا تريد إعطاءه فرصة كي يؤلمها مرة أخري, لكنها نسيتهم بالم...
7.1K 123 10
بخطواتٍ عاشقة سارت على رمال قلبه، ونسيت أن الرمال تمحي الأثر✨❤️